الصفحات

الاثنين، ٣٠ أيلول ٢٠١٣

(كيف يمكن إزالة الأسلحة الكيميائية في سورية؟)

صحيفة الفيغارو 30 أيلول 2013 بقلم جان جاك ميفيل Jean-Jacques Mevel

     تعهد نظام بشار الأسد بتقديم جرد لمواقع أسلحته الكيميائية والتوقف عن انتاجها وفتحها أمام "ممثلين عن روسيا وبقية دول الأمم المتحدة". تتوزع الترسانة الكيميائية السورية في أربعين موقعاً تقريباً، وربما قام النظام بتوزيعها في مناطق إضافية الصيف الماضي مع احتمال توجيه الضربات الغربية. إنها شبكة من المخابر ومعامل التصنيع والمستودعات ومخازن الذخيرة والأسلحة الموجودة لدى الوحدات العسكرية. بالنسبة لبلد في حالة حرب، تزداد صعوبة الجرد مع احتمال جاهزية بعض الأسلحة الكيميائية للمعركة (مدافع، راجمات، مدافع هاون...).
     تتحدث التقديرات في أغلب الأحيان عن وجود ألف طن من الأسلحة الكيميائية. ولكن يبقى تحديد فيما إذا كانت عبارة عن مكونات جامدة غير ناشطة كيميائياً ومن السهل تدميرها، أم أنها عناصر كيميائية غير مستقرة وجاهزة للاستخدام. تتضمن الترسانة السورية غاز الخردل والساران وغاز الأعصاب VX. هناك عامل مجهول آخر هو نسبة العناصر الكيميائية التي تمت "عسكرتها"، أي تمت تعبئتها في الذخيرة. قال الخبير الألماني بنزع الأسلحة رالف تراب Ralf Trapp: "في الحالة الأولى، ليست هناك مشكلة مع الصواريخ أو الصواعق أو المتفجرات. ولكن في الحالة الثانية، يمكن أن تكون العملية قاتلة في كل مرحلة من مراحل معالجتها. يتطلب ذلك المزيد من الحرص والحماية، وبالتالي المزيد من الوقت".
     ينص اتفاق جون كيري مع سيرغي لافروف على تدمير الترسانة الكيميائية قبل 30 حزيران 2014. ومن المفترض أن ينتهي المفتشون الدوليون من تفتيش جميع المواقع التي أعلنت عنها دمشق اعتباراً من 30 تشرين الثاني القادم، بالإضافة إلى تعطيل وحدات الإنتاج. يبدو هذا الجدول الزمني طموحاً، ولكن بعض الخبراء يعتبرونه ممكناً إذا رافقته الإرادة والوسائل. تحدث بشار الأسد شخصياً عن "عام واحد أو أكثر بقليل". ستتم تحديد وتيرة العمل وطريقته عبر قرار في مجلس الأمن وخارطة الطريق المنتظرة من منظمة منع الأسلحة الكيميائية. قال الخبير في مسائل الأمن الدولي دافيد شاتر David Chuter: "حتى في أوقات السلم، من الممكن أن تستغرق إزالة الأسلحة الكيميائية عدة سنوات. من الصعب تصور مهمة أكثر صعوبة من سورية".
     إن الأمر العاجل سياسياً منذ هجوم 21 آب هو جعل هذه الأسلحة غير قابلة للاستخدام، أو وضعها تحت رقابة دولية صارمة. قال الباحث البلجيكي  المتخصص في مسائل نزع الأسلحة جان باسكال زاندرز Jean-Pascal Zanders: "يجب جمع العناصر الكيميائية في عدد محدود من المواقع، ثم إتلافها بشكل يسمح بنقلها أو حتى تصديرها على شكل مخفف". لقد استغرق تدمير حوالي عشرين طناً من غاز الخردل في ليبيا حوالي ثلاث سنوات تحت رقابة منظمة منع الأسلحة الكيميائية.
     يبقى معرفة فيما إذا كانت منظمة منع الأسلحة الكيميائية تملك الوسائل اللازمة للتحرك بالسرعة المطلوبة في مثل هذه الحالة. تفتخر هذه المنظمة بأنها دمرت 80 % من مخزون الأسلحة الكيميائية التي أعلنت عنها الدول الأعضاء الموقعة على الاتفاقية، ولكنها لا تملك إلا 150 مفتشاً، وأغلبهم يعمل في مهمات أخرى. إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من مسألة عدد المفتشين، إن بنود قرار مجلس الأمن هي التي ستستمح للمفتشين بالعمل  بحرية أم لا. يطرح المفتشون مشاكل أكثر عملية: من سيضمن حمايتهم وحرية حركتهم في بلد بحالة حرب؟ هل سيحصلون على تفويض بفتح جميع الأبواب؟ وماذا عن الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون؟
     قال الخبير دافيد شاتر: "إن منظمة منع الأسلحة الكيميائية تعمل في أوقات السلام، وهي مكلفة بتنفيذ التعهدات الوطنية الطوعية. فيما يتعلق بسورية، فإن الوضع مختلف تماماً. إذا نجحت المنظمة في مهمتها، فإن السبب سيكون سياسياً محضاً: لا مصلحة لأحد في واشنطن وموسكو وباريس وحتى في دمشق بأن تفشل هذه المهمة  بشكل واضح. إن إزالة الترسانة الكيميائية السورية ليست إلا جزءاً من الرهان، إنها وسيلة تهدف إلى تهدئة أزمة إقليمية ودولية أكثر اتساعاً". باختصار، إن منظمة منع الأسلحة الكيميائية مجبرة على النجاح.
     ما زال الرهان الروسي كبيراً في سورية، وذلك بعد المناورة الناجحة لإيقاف الضربات الغربية المبرمجة. إن التفكيك الناجح للترسانة الكيميائية السورية سيكون إكمالاً لسعي بوتين الهادف إلى أن يُظهر للعالم كيف تقوم الدول الغربية بإفساد مجلس الأمن وتحويله إلى مجرد أداة لإعطاء الشرعية إلى استخدام القوة كما حصل في العراق عام 1991 وصربيا عام 1999 وليبيا عام 2011. كانت روسيا أول دولة تقترح إرسال رجالها "لحماية المنشآت" عندما تبدأ منظمة منع الأسلحة الكيميائية عملها. تملك روسيا قاعدة مثالية في سورية لحماية الترسانة الكيميائية السورية هي القاعدة العسكرية في طرطوس. إذا كان سيرغي لافروف يريد إقناع الدول الغربية بجديته، من الممكن أن تتحول طرطوس إلى قاعدة عمل (أو حتى ملجأ) للمفتشين الدوليين.
     ما زالت هناك ورقة أخرى بيد الكريملين، حتى ولو كان يتجنب التباهي بها. يعرف الروس الترسانة الكيميائية السورية جيداً لسبب بسيط هو أن الاتحاد السوفييتي هو الذي قام برعاية نموها، ولاسيما خلال العقد الأخير من الحرب الباردة. إلى أية درجة؟ أجاب الخبير رالف تراب قائلاً: "تقديم المساعدة التقنية والمادية، ولكن من غير المحتمل إرسال شحنات مباشرة". على أي حال، استمرت العلاقات الشخصية فترة طويلة. بعد عشر سنوات من سقوط الاتحاد السوفييتي، أثارت قضية الجنرال أناتولي كونتسيفيتش Anatoly Kountsevitch فضيحة في موسكو. كان هذا الجنرال رئيس نزع الأسلحة في روسيا أثناء رئاسة بوريس يلتسين، وتورط بشكل مباشر في بيع مئات الكيلوغرامات من العناصر الأولية لغاز VX إلى النظام السوري. كما توفي هذا الجنرال عام 2002 في ظروف غامضة بعد عودته من... دمشق.

     يبدو أن إزالة الأسلحة الكيميائية السورية ستكون أكثر العمليات كلفة بعد عمليات إزالة الأسلحة الكيميائية في روسيا والولايات المتحدة. تؤكد اتفاقية عام 1997 على أن كلفة إزالة هذه الأسلحة تقع على عاتق الدولة الموقعة على الاتفاقية، ولكن يبدو أنه من الصعب تحميل كلفتها على نظام في حالة حرب. لقد قام بشار الأسد بتقديم فاتورته بالدولارات الأمريكية عندما قال في الأسبوع الماضي إلى محطة فوكس نيوز الأمريكية: "لا بد من مليار دولار تقريباً". لا شك أنه رقم سياسي، وتقدير لحجم "التضحية" التي وافق عليها النظام السوري، ومزاودة ربما سيعقبها مطالب أخرى مثل إنهاء الدعم الغربي للتمرد. ولكن هذا الرقم ليس بعيداً عن الصواب. قال رالف تراب: "يجب على الدول العظمى أن تدفع حصتها، ولاسيما في البداية من أجل البدء بالعملية". ما زال من الصعب تقدير الفاتورة العراقية التي تحملتها الأمم المتحدة في ذلك الوقت. بالنسبة لتفكيك الترسانة الليبية الأقل حجماً بكثير، فقد كلفت عشرات الملايين من الدولارات، وقامت عدة منظمات دولية بتحمل هذه النفقات بالإضافة إلى المساعدات التقنية التي قدمتها الدول إلى ليبيا بشكل مباشر.

(سورية: الترسانة الكيميائية التي يسيطر عليها الأسد تقع في مناطق خارجة عن المعارك)

الموقع الإلكتروني لصحيفة الفيغارو 28 أيلول 2013 بقلم جورج مالبرونو Georges Malbruont

     أكد مسؤول عسكري فرنسي رفيع المستوى إلى صحيفة الفيغارو أن الأسلحة الكيميائية السورية التي يجب تدميرها بموجب قرار الأمم المتحدة الصادر يوم الجمعة 27 أيلول، قد تم تجميعها في ثلاثة مواقع تقع في مناطق خارجة عن المعارك بين المتمردين والجيش النظامي الذي ما زال يسيطر على هذه المواقع. يقع أحد هذه المواقع في منطقة دمشق، والأخر بالقرب من طرطوس، والأخير بالقرب من حمص.
     اعتبرت بعض المصادر في الأسبوع الماضي أن المواقع الكيميائية السورية تتواجد في مناطق متنازع حولها، الأمر الذي يجعل تفتيشها صعباً جداً، وبالتالي يمكن أن تستمر عمليات التفتيش عدة سنوات. ولكن المسؤول العسكري الفرنسي المشار إليه أعلاه يعتبر أن نظام الأسد يحافظ على السيطرة على هذه المواقع الكيميائية، بالإضافة إلى نقل بعض المستودعات عندما يكون هناك خطر بتعرضها لهجمات المتمردين.
     أشار المصدر نفسه أيضاً إلى أن النظام السوري سلّم الأمم المتحدة أماكن وجود 80 % من مواقعه الكيميائية حتى الآن، وقال: "لقد تحققنا منها بالمقارنة مع لوائحنا. إنهم يحترمون كلامهم في الوقت الحالي". قامت دمشق بتاريخ 19 أيلول بتسليم منظمة منع الأسلحة الكيميائية قائمة بالمواقع التي يجب تفتيشها خلال شهر كحد أقصى. سيصل الفريق الأول من المفتشين إلى دمشق في بداية الأسبوع القادم.
     نقلت الواشنطن بوست في عددها الصادر يوم الخميس 26 أيلول عن تقرير أمريكي ـ روسي سري أن تدمير الترسانة النووية السورية ربما يتم بأسرع مما هو متوقع، نظراً لأن الجزء الأكبر منها غير قابل للاستخدام. قام بعض خبراء التسليح بتقديم هذا التقرير إلى البيت الأبيض، وأشاروا في تقريرهم إلى أنه من الممكن تدمير الترسانة السورية خلال تسعة أشهر، وأنه لا توجد أخطار كبيرة بإخفائها أو سرقتها من قبل المجموعات الإرهابية بسبب طريقة تخزينها: هناك 300 طن من غاز الخردل، والبقية هي عناصر كيميائية سائلة مخزنة على شكل ثنائي، أي على شكل عنصرين كيميائيين يدعيان: "Précurseurs"، ويتم خلطهما قبل الاستخدام.


(الهدف هو دمشق)

مجلة النوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية 26 أيلول 2013 بقلم فانسان جوفير Vincent Jauvert

     يوم السبت 31 آب، كان كبار المسؤولين الفرنسيين المدنيين والعسكريين مقتنعين بأن رئيس الجمهورية سيبدأ القصف العقابي ضد سورية مساء يوم الأحد 1 أيلول. الأمر الأكثر غرابة هو أن فرانسوا هولاند شخصياً كان يعتقد ذلك أيضاً. سيستمر هذا الاستخفاف غير المعقول حتى بعد ظهر يوم السبت 31 آب. خلال هذه الفترة التي استمرت حوالي عشر ساعات، تحرك جهاز الدولة من أجل تنفيذ هذه الضربات الفرنسية ـ الأمريكية، و"تسويقها" لدى الرأي العام، وإدارة النتائج الدبلوماسية.
     بدأ هذا اليوم المجنون الساعة الثالثة صباحاً من يوم السبت 31 آب، عندما تلقى الضابط المناوب المكلف باتصالات رئيس الجمهورية اتصالاً من نظيره الأمريكي الذي أبلغه بأن باراك أوباما سيتصل بفرانسوا هولاند على الخط المباشر والمؤمن الذي يصل بين قصر الإليزيه والبيت الأبيض. متى؟ مساء اليوم نفسه الساعة السادسة والربع مساء بتوقيت باريس. بدأ سوء التفاهم بين طرفي الأطلسي. إنه لُبس مثير للضحك إذا لم يكن المقصود هو الحرب.
     بسبب اختلاف التوقيت الزمني، اكتشف بول جان أورتيز Paul Jean-Ortiz، المستشار الدبلوماسي لفرانسوا هولاند، رسالة البيت الأبيض عند وصوله إلى مكتبه في الإليزيه الساعة الثامنة صباحاً. قام فوراً بإبلاغ فرانسوا هولاند الذي قرر استدعاء المجلس المصغر للاجتماع بعد انتهاء المكالمة مع باراك أوباما. من المفترض أن يحضر هذا الاجتماع وزراء الدفاع والداخلية والخارجية بالإضافة إلى رئيس الأركان ورؤساء أجهزة الاستخبارات الفرنسية. سيُصدر رئيس الدولة بعد هذا المجلس العسكري أمراً رسمياً ببدء الضربات الفرنسية على سورية. على الأقل، هذا ما كان يعتقده فرانسوا هولاند وجميع الشخصيات التي تمت دعوتها.
     إذاً، طلب قصر الإليزيه صباح يوم السبت 31 آب من الجيش الاستعداد لتنفيذ هذا الأمر الذي يفترض أنه كان وشيكاً. قال مسؤول فرنسي رفيع المستوى: "كانت الخطة أن يكون القصف خلال الليل ابتداءاً من الساعة الثالثة صباحاً في الوقت الذي ينام فيه الناس بعمق. كان الهدف تدمير بطاريات الصواريخ ومراكز القيادة للجيش الرابع الكيميائي". كان يجب تنفيذ الضربات عبر العديد من طائرات رافال التي تحلق فوق المياه الدولية للبحر المتوسط. قال مسؤول آخر: "لم نكن نريد إطلاق الصواريخ انطلاقاً من الأجواء التركية. كنا نخشى أن يتذرع الأسد بالدفاع المشروع وقصف جاره، الأمر الذي يهدد بتدخل الحلف الأطلسي". هناك مشكلة: يبلغ المدى الأقصى للصواريخ بعيدة المدى Scalp التي يفترض استخدامها في هذه العملية 250 كم، لن يستطيع القصف الفرنسي الوصول إلا إلى الأهداف الواقعة في غرب سورية، ومن ضمنها دمشق. سيتكفل الأمريكيون بالبقية. ولكن وزارة الدفاع أكدت قائلة: "نحن لا نعتمد عليهم في ضرباتنا وتموين طائراتنا في الجو. هناك شيء واحد لا نُسيطر عليه هو: الجدول الزمني. إن أوباما هو الذي سيعطي إشارة البدء".
     لكي يُبرهن قصر الإليزيه للرأي العام الفرنسي أن فرانسوا هولاند لا يتصرف تحت سيطرة الولايات المتحدة على شاكلة طوني بلير أثناء الحرب في العراق، قرر قصر الإليزيه أيضاً يوم السبت 31 آب "نزع صفة السرية" عن بعض البراهين الفرنسية حول الهجوم الكيميائي. قال أحد المسؤولين الفرنسيين: "أطلقنا على هذه الوثيقة اسم: الحصيلة الوطنية الشاملة للمعلومات التي تم نزع صفة السرية عنها. ووضعنا العلم الفرنسي على كل صفحة". واستعداداً للضربات المرتقبة في المساء، قامت وزارة الدفاع بتسريب هذه الوثيقة إلى صحيفة جورنال دوديمنش (Journal du Dimanche) التي ستصدر صباح اليوم التالي.
     تم إعداد الخطة الإعلامية للعملية خلال اجتماع الساعة الثانية والنصف ظهراً يوم السبت 31 آب في مكتب بول جان أورتيز بحضور مدراء مكاتب الوزرات الرئيسية المعنية، قال أحد المسؤولين الرسميين: "ناقشنا الصور التي سيتم إعطاؤها إلى محطات التلفزيون، وصور تصاعد قوة العملية التي كانت جاهزة، وصور الضربات الأولى التي سنزودها بها سريعاً. ناقشنا أيضاً اللحظة التي سيتم بها إبلاغ بعض الشخصيات الأجنبية. بدا واضحاً أن فرانسوا هولاند سيبلغ أنجيلا ميركل شخصياً بعد انتهاء  المكالمة مع باراك أوباما". من أين جاءت هذه القناعة الأكيدة بأن باراك أوباما سيعطي أمر البدء يوم السبت 31 آب؟ قال مسؤول فرنسي: "كانت جميع الأمور تقودنا إلى الاعتقاد بأن نقطة الصفر اقتربت جداً". لقد ظهر منذ أسبوع أن العمل العسكري الفرنسي ـ الأمريكي أصبح حتمياً.
     بدأ كل شيء يوم الأحد 25 آب، أي بعد أربعة أيام من الهجوم الكيميائي ضد السكان المدنيين، عندما ناقش باراك أوباما وفرانسوا هولاند عدة أشكال من "العقاب"، ومن ضمنها الأشكال العسكرية. قال مصدر في وزارة الدفاع الفرنسية: "منذ صباح اليوم التالي، بدأ قادة الأركان في البلدين العمل على خطة ضربات مشتركة". بالتأكيد،  كان من الممكن أن يفشل كل شيء خلال الأيام التالية: لقد صوت البرلمان البريطاني ضد المشاركة البريطانية في هذه الضربات، ثم أخفق الفرنسيون وحلفاؤهم في حملتهم الدبلوماسية الهادفة لإضفاء بعض الشرعية الدولية للعمل العسكري ضد سورية. كانوا يأملون بالحصول على أغلبية الأصوات في مجلس الأمن، وإجبار بكين وموسكو على استخدام حق النقض. حسب معلوماتنا، لم تنجح باريس ولندن وواشنطن بالحصول على أصوات كافية بين أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين على الرغم من جهود لوران فابيوس. ولهذا السبب، تم التخلي عن فكرة اللجوء إلى الأمم المتحدة.
     ولكن الأمريكيين كانوا ما زالوا مصممين حتى نهاية الأسبوع. قامت مستشارة بارك أوباما للشؤون الأمنية سوزان رايس بإخبار بول جان أورتيز يوم الخميس 29 آب أن رئيسها "قريب جداً من اتخاذ القرار"، وذلك على الرغم من التراجع البريطاني والفشل في الأمم المتحدة. في اليوم التالي 30 آب، جاءت عدة مؤشرات من واشنطن جعلت الفرنسيين يعتقدون بأن الضربات الأمريكية وشيكة. أكد أحد المسؤولين الرسميين قائلاً: "تحادث جون كيري يوم الجمعة 30 آب مع لوران فابيوس عدة مرات، وقال له أن باراك أوباما طلب منه تهيئة الرأي العام للضربات". وقال مسؤول آخر: "وفي اليوم نفسه، نشر البيت الأبيض براهينه حول المجزرة الكيميائية". وفي اليوم نفسه أيضاً، تناقش فرانسوا هولاند مطولاً مع باراك أوباما الذي قال أنه لم يتخذ قراره النهائي حتى الآن، ولكن ذلك لن يتأخر، وأضاف أن الضربات يمكن أن تحصل قريباً قبل أو بعد قمة العشرين، وأنهى الرئيس الأمريكي حديثه قائلاً: "لنتحادث غداً أو بعد غد".
     على الرغم من الإعلان عن مكالمة هاتفية جديدة مع البيض الأبيض، كان مستشارو فرانسوا هولاند مقتنعين يوم السبت 31 آب أن الرئيس الأمريكي اتخذ قراره ليلاً، وسيبدأ العملية مساء اليوم نفسه أو مساء اليوم التالي على أبعد تقدير (فرضية غير محتملة نظراً لأنه غادر إلى أوروبا اليوم التالي). لم يتصور أحد في قصر الإليزيه أن بارك أوباما سيوافق على الطلب الذي تقدم به 186 عضو في البرلمان الأمريكي بالتصويت على الضربات في الكونغرس، أو حتى أن يكون المسؤولون الرئيسيون في مجلس النواب والكونغرس الأمريكي على علم بهذا القرار قبل عدة ساعات من إبلاغ فرانسوا هولاند.
     قال باراك أوباما إلى فرانسوا هولاند الساعة السادسة والربع من مساء يوم السبت 31 آب: "قررت المضي إلى الأمام، ولكنني سأطلب أولاً موافقة الكونغرس". انذهل فرانسوا هولاند، وحاول إقناع الرئيس الأمريكي بالعودة عن قراره دون جدوى. وهكذا، عاد الرئيس إلى رجاله الذين استدعاهم إلى المكتب الأخضر للمشاركة في المجلس المصغر، وأمر العسكريين بإعادة طائرات رافال، وتحدث عن تواريخ أخرى للقصف. كان هناك اعتقاد عام بأنه لم يبق إلا تاريخ واحد هو 15 أيلول، أي ما بين تصويت البرلمانيين الأمريكيين وافتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة، واتفق الجميع على أن "العملية ستكون صعبة جداً أو حتى مستحيلة بعد هذا التاريخ". انغلقت هذه النافذة الأخيرة في الأسبوع التالي بعد المناورة الدبلوماسية الذكية لفلاديمير بوتين.


(الغرب يبحث عن إستراتيجية في الشرق الأوسط)

صحيفة الفيغارو 26 أيلول 2013 بقلم المدير العام للمعهد الفرنسي للعلاقات الإستراتيجية (IFRI) تييري دو مونبريال Thierry de Montbrial

     لا يعود تاريخ الأخطاء الغربية في الشرق الأوسط إلى التفكك البطيء للنظام العلوي. لقد فقدنا نقاط العلام الأساسية في هذه المنطقة مع سقوط الإمبراطورية السوفييتية. كانت فترة التخلص من الاستعمار مضطربة، ولكن النزاعات الإقليمية في هذه الفترة بقيت تحت السيطرة لأنها كانت تدور في ظل المواجهة بين الغرب والشرق التي كانت تحدد معالم الخصومات الإيديولوجية.
     عندما كانت فرنسا تقدمية في سنوات السبعينيات، كنا حينها معجبين بصدام حسين أو حافظ الأسد وحزب البعث بصيغتيه المختلفتين قليلاً. كان يفترض أن يكون هذا الحزب ديموقراطياً وإشتراكياً وعلمانياً، وبالتالي عصرياً! إن إحدى تناقضات الحرب الباردة خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية في الثمانينيات، كانت الاتفاق الضمني بين الشرق والغرب لتطبيق مبدأ التوازن: حالما يميل ميزان القوى لصالح أحد الطرفين، تتحرك القوى العظمى لإعادة التوازن. وهكذا انتهت هذه الحرب بالتعادل.
     تخلت الدول الأنغلوساكسونية (جورج بوش الأب بتحريض من مارغريت تاتشر، ثم جورج بوش الابن) عن مبدأ التوازن عامي 1990 ـ 1991 بعد غزو الكويت من قبل صدام حسين، وفي عام 2003 عندما دمرت نظام الدكتاتور العراقي، ثم أسقطته. من جهة أخرى، كان الخبراء الأمريكيون يؤكدون دوماً منذ سقوط شاه إيران أن نظام رجال الدين على وشك السقوط. ولكن بدلاً من سقوطه، تم تعزيزه وتدمير التوازن الدقيق بين الشيعة والسنة في المنطقة لصالح الشيعة، وتم تحريض المتطرفين لدى جميع الأطراف. قام المحافظون الجدد الأمريكيون ببناء إستراتيجيتهم على قناعة مفادها أن إسقاط الطالبان والنظام البعثي في العراق، سيسفح المجال واسعاً وبشكل فوري أمام الديموقراطية في "الشرق الأوسط الكبير".
     ساهمت هذه الأخطاء بقوة في رفض الغرب وعودة روسيا السوفييتية. ولكنها عودة نسبية، لأن إمكانيات روسيا اليوم أضعف بكثير بالمقارنة مع الدول الغربية التي لم تتردد في تبذير إمكانيات هائلة مع سياسات سيئة. تشعر الدول الغربية بالحيرة مع الربيع العربي، وبدأت بالاضطراب. تم التخلي بسرعة عن الأنظمة المتسلطة للتعويض عن دعمها لها لفترة طويلة، مع احتمال زعزعة ثقة القادة المحافظين الذين ما زالوا موجودين. تم إسقاط العقيد القذافي، دون أي تردد في الذهاب إلى ما هو أبعد من قرارات مجلس الأمن. كانت هناك قناعة بأن الأسد سيسقط بدوره سريعاً، وأنه سيكون ممكناً تشكيل حكومة حقيقية بديلة. تم اعتبار أنه يكفي الوقوف ضده للانضمام إلى جانب "الأخيار"، بإلإضافة إلى أن بعض الدول "الصديقة" التقدمية مثل السعودية وقطر كانت تدفع بكل قوتها من أجل إضعاف المعسكر الشيعي. حصل كل ذلك بالتأكيد على خلفية الهاجس من الملف النووي الإيراني. شعرت فرنسا بالإغراء تجاه ميول المحافظين الأمريكيين الجدد منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، وظهرت أحياناً أكثر ملكية من الملك، ولم تسمع أصوات الأقليات في المنطقة التي كانت تحثنا على عدم السقوط في الأوهام الإيديولوجية. تُعتبر الأقليات من ضمن أكبر الخاسرين.
     حان الوقت لاستعادة معنى السياسة الخارجية. إن السياسة الخارجية لا تُبنى على الإيديولوجيا وعلى المشاعر الطيبة التي تتصف بطبيعتها أنها زائلة، أو على النظرة الثنائية للصراع بين الخير والشر. تفترض السياسة الخارجية فهماً عميقاً وموضوعياً لما يحصل على الأرض، وتحديداً دقيقاً للمصالح الوطنية لكل طرف، وتحديد الأهداف البعيدة الأجل والإستراتيجيات اللازمة لتحقيقها. ليست هناك سياسة خارجية بدون تمييز واضح بين الإستراتيجيا والتكتيك، وبدون جهود حثيثة وعنيدة على المدى الطويل. بهذا الشكل، حافظت السياسة الديغولية للجنرال ديغول على وجودها خلال بعض الوقت.
     كان العجز الإستراتيجي للدول الغربية واضحاً للعيان منذ بداية الربيع العربي بنهاية عام 2010. قمنا بإلقاء العديد من الخطابات الإيديولوجية والتكتيكية، ولكن، بعكس الروس، لم ينظر إلينا أحد كإستراتيجيين. إن الإضطراب الناجم عن استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية بتاريخ 21 آب (الذي أخفى الاضطراب حول مصر)، سيلعب دوراً مفيداً إذا خرجنا منه بالاعتراف بضرورة وجود نظرة إستراتيجية. من أجل الوصول لذلك، حان الوقت للتفكير على مستوى أكثر اتساعاً، وتحديد هدف يتمثل بإقامة قواعد مقبولة للرهان من قبل جميع الأطراف في المنطقة (وفي مقدمتها تركيا وإيران ومصر وإسرائيل) ومن قبل الأطراف الخارجية (لنقل الدول الأعضاء الدائمة العضوية في مجلس الأمن).
     يفترض كل ذلك التخلص بوضوح من أية نزعة لافتعال تغيير الأنظمة من الخارج، مع الاعتراف في الوقت نفسه أن مثل هذا التغيير ممكن إن لم يكن محتملاً في بعض الدول التي يجب إدارتها. من أجل أن يستعيد الشرق الأوسط الحد الأدنى من الاستقرار الذي تحتاجه شعوب هذه المنطقة لتجنب المزيد من الآلام والرعب، يجب الاعتراف لكل طرف بمكانته المشروعة في إطار متوازن للحقوق والواجبات المتبادلة. لا يجب العمل فقط باتجاه جنيف 2 حول سورية، بل نحو مؤتمر أكثر اتساعاً ويتطرق إلى النظام الإقليمي بمجمله. وبهذه الطريقة فقط يمكن التوصل إلى حلول كاملة لبعض المسائل الأساسية مثل النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني أو نزع الأسلحة النووية. من الطبيعي أنه ستكون هناك حاجة إلى الكثير من الوقت، ولكن على الأقل سيكون هناك توجه. من وجهة النظر هذه، يجب الترحيب بالتقارب الذي ترتسم ملامحه حالياً مع إيران في إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة.
     استمرت الحرب الباردة أربعين عاماً قبل الخروج منها. استطاعت الدول الغربية خلال هذه السنوات، بفضل الزعامة الأمريكية إلى حد كبير، البقاء صفاً واحداً متمسكين برؤية صائبة للواقع على الأرض، وبمصالحهم وأهدافهم وإستراتيجياتهم. يجب العثور اليوم على تصميم مماثل في الشرق الأوسط.


الأحد، ٢٩ أيلول ٢٠١٣

(سورية على جدول أعمال اجتماع ماسوني)

صحيفة الفيغارو 28 أيلول 2013 بقلم إيف تريار Yves Thréard


     اجتمع مسؤولو أكبر المجالس الماسونية في باريس يوم الخميس 26 أيلول برئاسة رولان دوما. شارك في هذا الاجتماع برلمانيون من الأحزاب اليسارية واليمينية، وكان موضوعه الانخراط الفرنسي في سورية. ظهرت أغلبية واسعة خلال الاجتماع ترفض أي عمل عسكري لجيشنا.

(سورية: قرار الأمم المتحدة يُكرس نجاح موسكو)

صحيفة اللوموند 28 أيلول 2013 بقلم مراسليها الخاصين في نيويورك ألكسندرا جينيست Alexandra Geneste وإيف ميشيل ريولز Yve-Michel Riols

     اتفقت الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن يوم الخميس 26 أيلول على مشروع قرار حول تدمير الترسانة الكيميائية السورية. تمت مناقشة نص القرار أمام جميع أعضاء مجلس الأمن، وسيتم تبنيه رسمياً يوم الجمعة 27 أيلول. ولكن قبل التصويت عليه، يجب على منظمة منع الأسلحة الكيميائية في لاهاي تحديد الأساليب التقنية لتفكيك وتدمير الأسلحة الكيميائية السورية، ومن المفترض أن تقوم بذلك يوم الجمعة 27 أيلول.
     إن نص القرار المقدم إلى مجلس الأمن أقل بكثير من النسخة الأولية التي تقدمت بها فرنسا بتاريخ 10 أيلول غداة الاتفاق الأمريكي ـ الروسي في جنيف حول تفكيك الأسلحة الكيميائية السورية. لم يتم وضع مشروع القرار الذي سيتم التصويت عليه يوم الجمعة تحت الفصل السابع، واكتفى بذكره داخل النص. بعبارة أوضح، إن أي تقصير في الإلتزامات من قبل دمشق سيكون بحاجة إلى قرار جديد في مجلس الأمن، وسيكون بإمكان روسيا استخدام حق الفيتو كما فعلت في المرات الثلاث السابقة حول سورية. فيما يتعلق بإحالة الذين خططوا لمجزرة 21 آب إلى المحاكمة، لقد تطرق النص إلى هذا الموضوع، ولكن بدون الإشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية.
     لقد وضع قرار الأمم المتحدة السلطة السورية من جديد في محور الإجراءات التفاوضية، ويُشير مقدماً إلى المساومات الطويلة والصعبة حول تفكيك ترسانتها الكيميائية، لم يرض هذا الأمر خصوم النظام بالتأكيد. كانت حيرة وفد الإئتلاف الوطني السوري في نيويورك واضحة، وذكّر الناطق الرسمي باسم الإئتلاف خالد صالح أن النقاش حول الأسلحة الكيميائية يجب ألا يخفي استمرار الحرب. كما ظهرت التحفظات نفسها أثناء اجتماع وزراء خارجية الجامعة العربية يوم الثلاثاء 24 أيلول على هامش اجتماع الجمعية العمومية، وأشار أحد المشاركين في هذا الاجتماع إلى أن قطر طلبت أن يتضمن قرار الأمم المتحدة ذكر إقامة منطقة حظر جوي فوق سورية، وإقامة ممرات إنسانية. كما طالبت السعودية الإشارة إلى وقف لإطلاق النار. ولكن لم يكن هناك أية فرصة للإشارة إلى كل هذه التحفظات في نص القرار، لأنه كما قال أحد الدبلوماسيين الأوروبيين: "إنهم يفترضون بأننا مستعدون للتدخل عسكرياً، ولكن هذا الأمر لم يعد على جدول الأعمال".

     في النهاية، إن قرار الأمم المتحدة يكرس النفوذ الروسي. إنه تحول مفاجىء وكبير في الوضع، بعد ان كانت روسيا على وشك تعرضها للتهميش في حال وقوع الضربات الغربية ضد بشار الأسد. من الآن فصاعداً، يقع على عاتق الروس إظهار أنهم يملكون السلطة والإرادة للتأثير على موقف النظام السوري.

(سورية: اتفاق الأمم المتحدة حول الأسلحة الكيميائية)

صحيفة الفيغارو 28 أيلول 2013 بقلم آلان بارليويه Alain Barluet

     هناك طريقتان على الأقل لقراءة القرار الذي يُفترض أن يصوت مجلس الأمن عليه حول تدمير الأسلحة الكيميائية السورية. قراءة إيجابية، رحبت فرنسا والولايات المتحدة بهذا النص باعتباره اختراقاً دبلوماسياً هاماً. كما يمثل هذا النص رسالة من قبل المجتمع الدولي حول عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل. تكرر باريس دوماً أن "الحزم أعطى ثماره" باعتبار أن نظام بشار الأسد كان ينفي وجود أسلحته الكيميائية قبل ثلاثة أسابيع.

     يمكن النظر بشكل آخر إلى هذا القرار الذي لم يتطرق إلى نهاية هذه الحرب التي أدت إلى مقتل حوالي مئة وعشرين ألف شخص بالإضافة إلى ملايين النازحين. قال أحد الدبلوماسيين الغربيين: "المشكلة ليست بالأسلحة الكيميائية"، وأشار إلى أن القرار يُعبر عن الهم المشترك بين الولايات المتحدة وروسيا لتجنب الضربات العسكرية الغربية.

(الجهاد يبتلع التمرد السوري)

صحيفة الليبراسيون 28 أيلول 2013 بقلم لوك ماتيو Luc Mathieu وجان بيير بيران Jean-Pierre Perrin

     هل ستتلخص الحرب في سورية قريباً بالمواجهة بين المجموعات الإسلامية الراديكالية ونظام بشار الأسد؟ بعد سنتين ونصف من بداية الثورة، أخذ الانحراف الإسلامي حجماً كبيراً لدرجة أن رئيس الإئتلاف الوطني السوري أحمد الجربا حذر يوم الجمعة 27 أيلول من هذا الانحراف، متهماً الجهاديين الأجانب أنهم "سرقوا الثورة".
     حصل التحول خلال شتاء عام 2012 في حمص التي كانت محاصرة منذ سبعة أشهر، وتقوم بالدفاع عنها كتائب الجيش السوري الحر التي لم تكن لديها أهداف إسلامية. ولكن القصف العنيف الذي دمر أحياء بأكملها مثل حي باب عمرو، وأعمال الترهيب المرعبة للشبيحة، وعجز المعارضة عن تقديم المساعدة للسكان، أدى إلى راديكالية بعض المجموعات، وازدادت هذه الراديكالية مع لا مبالاة الدول العربية والغربية خلال فترة الاحتضار الطويلة للمدينة. في تلك الفترة، ظهر بيان موقع باسم (أبو الحمصي) يدعو إلى قتل الطائفة العلوية في المدينة. وهكذا بدأت الأزمة السورية تتحول من ثورة إلى حرب أهلية.
     حققت الحركة الإسلامية تقدماً مستمراً منذ ذلك الوقت، وأخذت عدة أشكال. إنها موجودة أولاً إلى جانب الكتائب الأقل تدينا داخل الجيش السوري الحر الذي أسسه بعض الضباط المنشقين عن القوات النظامية. هناك أيضاً العديد من الكتائب المسلحة خارج الجيش السوري الحر، ولكنها تهدف إلى إسقاط نظام الأسد وإقامة جمهورية إسلامية متشددة. ثم انضم إليها آلاف المقاتلين العرب والغربيين، منمهم 130 فرنسي. أكد أحمد الجربا في أحد البيانات: "ظهرت ظاهرة التطرف بدعم وتخطيط من النظام الذي راهن على تحويل ثورة الحرية إلى حرب أهلية وطائفية". هذا صحيح، ولكنه نسي أن يقول بأن الجيش السوري الحر عاجز عن أي تفكير إستراتيجي، وفتح ذراعيه في البداية لجميع هذه المجموعات الراديكالية والجهادية الأفضل تسليحاً وتمرساً في الحرب والمستعدة للقتال حتى الموت. ولكن الجيش السوري الحر غيّر لهجته، وأصبح في حال عداء مع المجموعات الأكثر راديكالية.
     تتأكد الانحرافات المتطرفة للمتمردين يوماً بعد يوماً. أشارت صحيفة الحياة المقربة من السعودية يوم الجمعة 27 أيلول إلى أن قادة العديد من المجموعات المسلحة ورجال الدين في شمال سورية يدرسون احتمال توحيد صفوفهم ضمن إطار "جيش محمد" الذي يضم خمسين ألف رجل "من أبناء الطائفة السنية فقط". تأتي هذه المعلومات بعد عدة أيام من إعلان ثلاث عشرة مجموعة متمردة، بعضهم من الجيش السوري الحر، عن قطع علاقاتهم مع المعارضة السياسية في الخارج، وتشكيل تحالف جديد مع مجموعة مرتبطة بتنظيم القاعدة. من بين المجموعات التي وقعت على هذا البيان، نجد المجموعات الأكثر قوة في حلب مثل لواء التوحيد المرتبط بالجيش السوري الحر والسلفيين في أحرار الشام والجهاديين في جبهة النصرة. أكدت هذه المجموعات على أن القانون الإسلامي يجب أن يكون "المصدر الوحيد للتشريع"، وأعلنت عن قطع جميع علاقاتها مع الإئتلاف الوطني في الخارج. لقد ظهر هذا الرفض على الأرض منذ عدة أشهر من قبل أغلب المقاتلين وقادتهم، وأصبح رسمياً من الآن فصاعداً.
     لا شك أن هذه الإنقسامات تصب في مصلحة النظام، ولاسيما في الشمال الذي تجمدت الجبهات فيه منذ عدة أشهر باستثناء شمال اللاذقية. تُسيطر المعارضة على ثلاثة أرباع حلب التي ما زال المتمردون والجنود يتواجهون فيها حتى في المدينة القديمة. ولكن المتمردين خففوا من هجماتهم بسبب نقص الذخيرة، واحتاجوا إلى أكثر من ثلاثة أشهر للتقدم مئة متر في حي صلاح الدين الذي اجتاحته المعارك والقصف. لم ينجحوا أيضاً بإبعاد القناصين المتواجدين في بستان القصر الذي يمثل نقطة العبور الوحيدة بين المنطقة المتمردة والمنطقة التي يسيطر عليها النظام. يتعرض المدنيون للنيران دوماً عندما يعبرون حواجز التفتيش التي تحولت إلى خط فاصل.
     حقق المتمردون نجاحاً خارج حلب خلال شهر آب مع الاستيلاء على مطار المنغ. قامت كتيبتان، إحداهما تابعة للجيش السوري الحر والأخرى تتألف من المقاتلين الشيشان بشكل أساسي، بمحاصرة المطار عدة أشهر مع إطلاق هجمات منتظمة. ولكن موجة الهجمات الأكثر قوة شنها الجهاديون في الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام وجبهة النصرة المرتبطتان بتنظيم القاعدة ضد شمال اللاذقية في بداية آب. لقد سيطروا على عشرات القرى العلوية، وبدؤوا بالتقدم باتجاه القرداحة. ولكن النظام شن هجوماً مضاداً بعد أسبوعين، واستعاد هذه القرى بسرعة. إن الدليل على الانقسامات داخل التمرد هو أن كتائب الجيش السوري الحر لم تقاتل إلى جانب الجهاديين أثناء الهجوم المعاكس للقوات النظامية، قال أحد المقاتلين الناشطين في منطقة اللاذقية: "قالوا أنهم لا يريدون مساعدتنا لتجنب إرتكاب المجازر ضد العلويين".
     وصل التوتر بين الجهاديين ومقاتلي الجيش السوري الحر إلى ذروته بتاريخ 18 أيلول في إعزاز. تذرعت الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام بوجود طبيب ألماني يعمل في أحد المستشفيات الميدانية، واعتبرته جاسوساً، لمهاجمة كتيبة "عاصفة الشمال" التابعة للجيش السوري الحر. سيطر الجهاديون بسرعة على المدينة، واضطرت تركيا إلى إغلاق المركز الحدودي المجاور للمدينة. في النهاية، تم التوقيع على هدنة، ولكنها ما زالت هشة، ولا تمثل حلاً لمسألة من سيسيطر على إعزاز. كان يمكن أن يبقى هذا الحادث معزولاً، إلا أنه انتشر إلى مدن أخرى مثل الرقة ودير الزور. تتركز كتائب الجيش السوري الحر الأكثر "اعتدالاً" في الغوطة الشرقية، ولكن يجب عليهم الاعتماد هنا أيضاً على جبهة النصرة. أكد حذيفة إدريس، طبيب من حمص لجأ إلى لبنان، أنه "بعد الثورة، لا بد من ثورة ثانية لطرد المجموعات الجهادية في سورية". ولكن ألن يكون ذلك بعد فوات الأوان؟


(الوعاء المغلق)

افتتاحية صحيفة الليبراسيون 28 أيلول 2013 بقلم ألكسندرا شوارتزبرود Alexandra Schwartzbrod

     كان المجتمع الدولي قبل ثلاثة أسابيع معلقاً بتهديدات الضربات الغربية ضد سورية. من الممكن أن نرحب أو نأسف لذلك، ولكن أنظار العالم بأسره كانت مشدودة نحو المأساة السورية. ثم انتقلت الأحداث الراهنة إلى الحكومات، وهبط التوتر الدولي، ويركز الدبلوماسيون الجزء الأساسي من جهودهم على الترسانة الكيميائية، الأمر الذي أسعد بشار الأسد الذي أصبح المحاور الذي يجب الاعتماد عليه. إنه اختلاف صارخ مع ما يجري على الأرض: ما زال الوضع يتفاقم على الأرض سواء مع الأسلحة الكيميائية أو بدونها، وهذا ما تدل عليه عملية تفجير السيارة المفخخة يوم الجمعة 27 أيلول ومقتل حوالي ثلاثين شخصاً في منطقة دمشق.

     تتمثل المأساة الآن في أن حياة السوريين تجري في وعاء مغلق. لا يمكن لأي صحفي أجنبي دخول البلد إلا عن طريق النظام، وإلا سيتعرض لخطر الوقوع رهينة بأيدي إحدى المجموعات المافيوية أو الجهادية التي تتقاسم السيطرة على جزء من الأراضي مع التمرد الذي أصابه الوهن. من هنا تأتي أهمية التحقيق المصور الذي ننشره اليوم في هذا العدد. قامت الصحفية السورية اللاجئة في فرنسا هالة قضماني بارتداء الحجاب، واختلطت مع أولئك الذين يركبون الميكروباصات في مدينة الرقة، وشاركتهم حياتهم اليومية وخوفهم، بالإضافة إلى بعض لحظات المتعة التي انتزعتها من الرعب الدائم. إنها شهادة ثمينة لأنها تشير إلى الحقائق اليومية لنزاع مستمر منذ أكثر من سنتين  ونصف، وأدى إلى مقتل مئة وعشرين ألف شخص على الأقل.

(في سورية، إذهبوا وشاهدوا دون أن يراكم أحد)

صحيفة الليبراسيون 28 أيلول 2013 بقلم مراسلتها الخاصة في الرقة هالة قضماني

     إن الضربة العسكرية الغربية التي كانت وشيكة ضد سورية، أدت إلى تسريع رحيلي لإعداد هذا التحقيق المصور التي بدأ الإعداد له منذ بعض الوقت. نظراً لتزايد خطف الصحفيين الغربيين في المناطق الواقعة تحت سيطرة التمرد، كان يجب علي الذهاب ومشاهدة ما يحصل دون أن يراني أحد. إنني سورية، وهذه تغطية جيدة: لست بحاجة لمترجم أو مساعد أو شخص لإدخالي. قبل نزولي من سيارة الأجرة التركية التي أوصلتني إلى المركز الحدودي في قرقميش، وضعت حجاباً يغطي رأسي وعنقي. مررت عبر مركز تفتيش جوازات السفر، وعبرت الحدود مشياً على الأقدام مع مئات السوريين الذين يعبرون بالاتجاهين.
     كان أحد الأصدقاء الشباب الناشطين ينتظرني على الجانب السوري في جرابلس. كان يناديني: "خالتي". مشينا بعض الخطوات حتى ركبنا في الميكروباص مع حوالي عشرة ركاب آخرين. استغرق الطريق ثلاث ساعات للوصول إلى الرقة التي تنتشر حولها جميع أنواع الحكايات المرعبة وتجاوزات الجهاديين الذين يسيطرون على المدينة. الغريب في الأمر هو أنني لم أكن خائفة أمام الرجال الملثمين على الحاجز، إنه انطباع بأنني في فيلم سينمائي. على الرغم من ثقتي بالصديق الذي استقبلني، لم أكشف له عن اسم العائلة التي تستقبلني إلا في سيارة الأجرة التي أقلتنا من الكراج حتى منزل هذه العائلة.
     إن حفاوة أصدقائي المعجبين بزيارتي كانت مؤثرة. كان همهم الدائم الحفاظ على هويتي خلال الأسبوع الذي قضيته معهم. قاموا بإخفاء جواز سفري الفرنسي في بيتهم، واحتفظت في حقيبتي بجواز سفري السوري الذي انتهت صلاحيته منذ عام 1999. كان اسمي (أم زيد) بالنسبة لكل الأشخص الذين إلتقيت بهم، وكنت صديقة دمشقية تزور هذه العائلة. إن أكثر الأمور مشقة كانت العرق المتصبب تحت الحجاب أثناء المشي تحت الشمس مع درجة الحرارة التي تبلغ 35 درجة مئوية. أما الغارة الجوية اليومية وإطلاق القذائف مساء ورؤية الجهاديين أحياناً، فقد كانت أقل الأمور مشقة. لقد نسيت الحرب والأزمة وانتظارهم اليائس بفضل وجبات الطعام مع العائلة والحوارات الحادة مع الشباب والرجال والنساء، بالإضافة إلى غريزة الحياة وبشاشة أولئك الذين إلتقيتهم.


(هل مدينة الرقة المتمردة تحترق؟)

صحيفة الليبراسيون 28 أيلول 2013  بقلم مراسلتها الخاصة في الرقة هالة قضماني

     كان رجال الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام على المدخل الشمالي لمدينة الرقة. كانوا أربعة رجال مسلحين يرتدون لثاماً ولا نرى إلا عيونهم. توقف الميكروباص، وطلب أحدهم الهويات الشخصية للركاب، أظهر الركاب الرجال هوياتهم، بينما بقيت النساء الأربعة دون حراك. يتجاهل الجهاديون النساء لدرجة أنهم لا يرونهم أو حتى لا يطلبون هوياتهم. يكفي ارتداء الحجاب على الرأس مثل جميع نساء المنطقة للإحساس بمتعة عدم الوجود هذه.
     من الأفضل ألا يكتشف رجال هذه المجموعة المرتبطة بتنظيم القاعدة وجودي كصحفية أجنبية، ولاسيما أن العالم بأسره تابع مسلسل الرعب لهذه المجموعة التي اختطفت رجل الدين اليسوعي باولو دالوغليو قبل ثلاثة أشهر في معقلهم بالرقة. لقد اختفى عدة مراسلين أوروبيين ومئات الناشطين السوريين في هذه المدينة. بدأت هذه المجموعة سيطرتها على المدينة في شهر أيار بإعدام ثلاثة أشخاص في الساحة العامة.
     استمر تفتيش الهويات أقل من ثلاث دقائق، ثم تابع الميكروباص طريقه باتجاه مركز المدينة المزدحمة قبل ساعة الغذاء. كانت الشوارع الرئيسية نظيفة نسبياً، وليس هناك إلا أشجار النخيل التي تلفت النظر في مدينة بدون طابع مميز وبيوت لم ينته بناءها. إنها تشبه غزة، ولكن بدون البحر، أو بعلبك بدون آثارها التاريخية. قالت (أم نبيل) النحيلة أثناء استقبالها لزوارها: "ترون جيداً أنها ليست مثل قندهار كما يقولون في التلفزيون". إنها ابنة إحدى العائلات الكبيرة في الرقة، وأم لثلاثة أطفال في سن المراهقة، ولا تتحمل رؤية تشويه صورة مدينتها عبر روايات "مبالغ بها جداً"، برأيها، حول سيطرة المجموعات المتطرفة وأعمال الترهيب التي تقوم بها. وأضافت: "إنهم لا يتدخلون بشؤوننا، والحياة طبيعية هنا. ما زالت ابنتي البالغة من العمر 16 عاماً تخرج كالمعتاد بدون حجاب، وأنا أخرج ببنطال جينز وقيمص". ما زالت أم نبيل تنظر بإيجابية إلى "تحرير" المدينة مثل الكثيرين من سكان الرقة المعارضين بشدة لنظام بشار الأسد منذ بداية الثورة في ربيع عام 2011.
     كان من الممكن أن تكون الرقة (200.000 نسمة) امتحاناً لنموذج سورية ما بعد الاسد. ولكن بعد مرور ستة أشهر على سقوطها بأيدي التمرد، تتركز فيها جميع الأخطار والتناقضات المتراكمة بسبب تفاقم الأزمة السورية. تواصل طائرات الجيش النظامي إلقاء قنابلها يومياً بشكل عشوائي على أحد أحياء المدينة، في الوقت الذي تتنافس فيه المجموعات المسلحة على السيطرة على المدينة وسكانها، ويزداد القلق منها أكثر فأكثر.
     كانت أم نبيل تتحدث بأسف وهي تدخن السيجارة بعد الأخرى عن تغيير نمط حياتها منذ إغلاق محكمة المدينة التي كانت تعمل فيها، وذلك بعد يوم واحد من "التحرير"، وقالت: "كنت أذهب إلى عملي الساعة الثامنة صباح كل يوم، ثم أعود الساعة الثالثة ظهراً. ثم ينتهي اليوم مع إعداد الطعام وترتيب المنزل. اليوم، لم تعد هناك ساعات محددة لأي شخص، ولا حتى بالنسبة لزوجي الموظف في الدولة، ولا لأطفالنا". إنها تشعر بالقلق على ابنيها نبيل (20 عاماً) وجميل (24 عاماً) اللذين اضطرا إلى قطع دراستهما: الأول في دمشق، وقد تعرض للاعتقال فيها لمدة شهر لأنه من مدينة الرقة، والثاني في حلب. لقد رفضا حمل السلاح أو الانخراط في السياسة بشكل يُعرضهم للمتطرفين في المدينة، ويسعيان إلى مغادرة البلد.
     تخرج العائلة للتجول في الرقة بعد غياب الشمس وانخفاض درجة الحرارة. هناك مقاهي الأنترنت والمحلات التجارية للألبسة النسائية بألوانها الفاقعة. شاهدنا أيضاً سيارة بيك آب وعليها الرشاش الروسي المعروف باسم "الدوشكا"، وكان هناك عدة رجال ملثمين بالأسود يراقبون بعض الرجال وهم يخرجون من أحد المحلات حاملين معهم صناديق كبيرة تحتوي بعض الأجهزة والشوفاجات. قالت أم نبيل: "مرحى لهم! إنهم يقومون بسرقة هذا الرجل الفاسد الذي هرب إلى اللاذقية بعد سقوط الرقة مباشرة" في إشارة إلى أحد كبار تجار المدينة المقربين من النظام، والذين جنوا ثروة كبيرة خلال السنوات الماضية عن طريق المحسوبيات والفساد.
     هرب آلاف رجال الأعمال والسلطة وموظفي الدولة خوفاً من أعمال الترهيب سواء كانوا من الطائفة العلوية أم غيرها، ولجؤوا مع عائلاتهم إلى المنطقة الساحلية بعد سقوط مدينة الرقة بأيدي المتمردين. أظهرت عملية الكوماندوس للرجال الملثمين في مركز المدينة رجال الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام كقضاة بنظر بعض السكان. قال أحد الناشطين في حركة الشباب الديموقراطيين المدنيين الناشطة جداً ضد "داعش"، التسمية الشائعة لدى السوريين لهذه الحركة الجهادية: "من المحتمل أنهم حصلوا على عمولتهم من التاجر لإفراغ بضاعته". بالنسبة لسكان الرقة، يتحدثون عنهم بقولهم "الدولة"، وهي تسمية تحمل غموضاً مثيراً للاهتمام للإشارة إلى أولئك الذي يفرضون نفسهم اليوم عن طريق الرعب بشكل أكبر مما كان يفعله رجال النظام سابقاً. أكد المهندس الشاب (عبود) الذي اعتقلته داعش لمدة يومين بعد مشاركته في مظاهرة ضخمة ضد الإسلاميين الراديكاليين في شهر تموز: "لا أستطيع التأكيد كما يقول الكثيرون هنا بأنهم حلفاء للنظام، ولكن تلاقي المصالح واضح جداً. إنهم يحاربون الحريات والديموقراطية والمجتمع المدني، ويستهدفون الناشطين العلمانيين بشكل أساسي".
     تحرك سكان الرقة بقوة ضد المتطرفين الذين يسعون إلى تطبيق تعاليم إماراتهم الإسلامية، ويُعبّر المعارضون هنا دوماً عن قناعتهم بأن هؤلاء الناس يعملون من أجل ومع نظام بشار الأسد، ويقولون: "نحن نرفض فرض نظام استبدادي بدلاً من نظام استبدادي آخر". وتتطرق المحادثات دوماً إلى "البراهين" على هذا التلاقي في المصالح: "لم تُطلق داعش رصاصة واحدة على القوات النظامية. ولم تتعرض مواقعهم إطلاقاً لقصف الطائرات والمدافع، على الرغم من أنهم يسيطرون على جميع مداخل المدينة".
     يُسيطر مقاتلو أحرار الشام عن تجارة الخبز في المدينة، وهي كتيبة سلفية مسلحة، ولكنها تظهر معتدلة في السياق الحالي. وصل هؤلاء المقاتلين من منطقة إدلب في الأيام الأولى بعد سقوط الرقة في شهر آذار، وهم يسيطرون على جميع الأموال التي كانت موجودة في المدينة. لقد هاجموا المصارف والإدارات العامة، وجمعوا مبلغاً قدره حوالي 17 مليار ليرة سورية (حوالي ستة مليارات يورو). كما قاموا بنهب المباني العامة ومخازن المواد الأساسية مثل السكر والطحين، بالإضافة إلى تفكيك المعامل والأجهزة الثقيلة وحتى النوافذ من أجل بيعها. بهذه الطريقة، استطاعوا شراء الأسلحة والنفوذ، وبالتالي السيطرة على قطاعات واسعة وحيوية بالنسبة للسكان. إنهم يحتكرون تجارة الطحين الذي ينقلونه ويوزعونه إلى الأفران، ويراقبون بيع الخبز، الأمر الذي سمح لهم بالحصول على شهادة حسن الإدارة. كما صادروا سيارات البلدية، وتحملوا عبء الخدمات العامة الأساسية مثل جمع القمامة وسيارات الإطفاء والإسعاف بشكل أرضى السكان، كما تقوم "شرطتهم الإسلامية" بتنظيم السير والاهتمام بالجرائم اليومية.
     لا تسقط القنابل على الرقة من السماء فقط، أو خلال اليوم فقط. تسقط القذائف أيضاً في المساء بمعدل قذيفتين أو ثلاثة وأحياناً أكثر. هناك أيضاً السرية 17 التابعة لجيش النظام، وتقع على مسافة خمسة كيلومترات شمال الرقة. ما زالت هذه السرية تحتل موقعاً محصناً، ولكنه محاصراً من قبل الكتائب المتمردة. هناك حوالي 200 جندي يتحصنون في هذا الجيب، ويحصلون على الذخيرة والطعام يومياً عبر الطائرات المروحية التي تقوم برمي بعض المظلات البيضاء. قال (نبيل) ساخراً: "يسقط نصف علب المرتديلا والخبز بين أيدي الرجال الذي يحاصرون الموقع، وهم سعيدون بالحصول على الطعام على نفقة بشار". إنها نقطة المواجهة الوحيدة بين المتمردين والنظام، وغالباً ما تكون دامية.
     أعربت العائلة عن سخطها واستغرابها بعد سماعها نبأ الاتفاق بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف حول الأسلحة الكيميائية، وقالت (نهى ـ 35 عاماً) الأخت الصغيرة لأم نبيل: "إن ما نريده هو العكس تماماً: تسليم بشار والحفاظ على الأسلحة الكيميائية!". ولكن أخبار هذا الاتفاق لم تعكر مزاج معلمة المدرسة التي حققت صباح هذا اليوم انتصاراً أكثر أهمية. كان يوم 15 أيلول يوم العودة إلى المدرسة، وجاء حوالي مئة تلميذ من أصل ألف تلميذ في المدرسة الابتدائية التي تعمل فيها. ولكن عشرات العلائلات كانت تنتظر هذا اليوم لتعرف فيما إذا كانت سترسل أطفالها للمدرسة، وقالت نهى مسرورة: "سيكون عددهم أكبر غداً. من أجل تشجيعنا، قام بعض التجار بتسليمنا صناديق مليئة بالطباشير والدفاتر والأقلام". إنها فتاة عزباء كبيرة في السن حسب الأعراف المحلية، وتكرس وقتها من أجل أطفال المدينة. بذل المعلمون جهودهم خلال الأسبوع الماضي لإعداد الصفوف في المدرسة التي كانت مغلقة منذ شهر آذار، وقالت نهى: "كان اللاجئون القادمون من دير الزور ما زالوا يشغلون بعض الصفوف، وتم نقلهم إلى مدرسة أخرى مع بقية النازحين. فيما يتعلق بالكتب المدرسية التي وعدت بها وزارة التربية، سوف تصل قريباً. قامت مجموعة من المعلمين بالتفاوض مع النظام من أجل الحصول عليها".
     تلقت نهى بياناً باسم "المعلمين الأحرار" يدعو إلى "احترام التقاليد الإسلامية، وفصل الذكور عن الإناث سواء بين التلاميذ أو المعلمين، والإلتزام باللباس الإسلامي". لا شك أن هذه الحملة قامت بها إحدى الكتائب الإسلامية. أكدت نهى قائلة: "لن يصغ إليهم أحد!"، ولاسيما أنها ستحصل على رواتبها المتأخرة عن الأشهر الأربعة الماضية مثل جميع زملائها. ذهب أحد زملائها إلى الجزء الحكومي من دير الزور مع وكالات من حوالي مئة معلم لقبض رواتبهم. كما قامت أم نبيل بتوكيل أحد زملائها الموظفين لقبض رواتبها المتأخرة. قام البعض بتحويل هذه المهمة إلى تجارة حقيقية عبر الحصول على نسبة مئوية من الرواتب، وقالت أم نبيل: "إنه أمر يستحق العناء، نظراً للأخطار التي يتحملونها على الطريق مع جميع حواجز التفتيش وقطاع الطرق".
     خلال نزهة على جسر المنصور، كانت هناك لافتتان تشيران إلى اسم الجسر، الأولى موقعة باسم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، والثانية باسم جبهة النصرة، وكلاهما مرتبطتان بتنظيم القاعدة. كان عدد المارة قليلاً على الكورنيش الذي تحول إلى شارعاً للسيارات وضجيجها. بعد عشرين دقيقة من المشي، توقفت أمامنا سيارة بيك آب عليها رشاش دوشكا. كان يوجد فيها خمسة رجال مسلحون وملتحون، نظروا إلينا بإمعان. قال لنا أكبرهم بالسن، في الأربعينيات، بأنه تلقى تحذيراً بأننا نلتقط صوراً لموقعهم. ابتسمت أم نبيل وأجابتهم بأننا كنا نلعب مع بعض الأطفال. اعتذر هذا الرجل عن أنه مجبر على تفتيش هويتها لكي يتجنب أي استطلاع للأهداف من أجل الطائرات. ألقى الرجال التحية بأدب عند رحيلهم، بعد أن أكدوا أنهم ينتمون إلى جبهة النصرة.
     قيل لنا فيما بعد ما هو سبب هذا الحذر من النساء الذين ربما تم استخدامهن كجواسيس للنظام من أجل وضع بعض المؤشرات لمساعدة طائرات النظام. هذه هي إحدى الشائعات المتعلقة بالشابة (إيمان ـ 19 عاماً) التي قُتلت قبل عدة أيام عند خروجها من أحد مقاهي الأنترنت برصاص شخصين ملثمين في سيارتهما. عاشت هذه الفتاة الجميلة عدة أشهر في الرقة، وكانت تُقدم نفسها على أنها ناشطة كردية، وأحياناً أخرى ناشطة إعلامية، أو حتى لاجئة فقدت عائلتها في حمص. كانت تتردد على مجموعات الشباب المعارضة سياسياً ومختلف الكتائب المحلية التابعة للجيش السوري الحر، وربما قدمت بعض خدماتها إلى عدد منها. لقد تعرضت العديد من المواقع التي زارتها إلى القصف بعد خروجها منها. تتركز الأحاديث على قصة إيمان، وأصبح اغتيالها في وسط الشارع موضوعاً لنقاشات حادة داخل العائلة. قال نبيل إلى والده المحامي: "مهما كانت الانتقادات الموجهة إليها، كان يجب محاكمتها أو الكشف علناً عن الاتهامات الموجهة إليها على الأقل". ولكن والده رد بعصبية بسبب "إعطاء هذه الفتاة الكثير من الأهمية، لأن الجميع يعرف أخلاقها الفاجرة، وذلك في الوقت الذي يموت فيه الأبرياء يومياً تحت القنابل". لا يمكن زعزعة تصميم أبو نبيل حول أولوية المعركة ضد النظام، وقال: "ليست هناك أية فرصة أمام الإسلاميين لفرض أنفسهم في الرقة. إن المجتمع بأكمله يرفضهم. كما أننا نذهب إلى الجامع أقل فأقل منذ وصولهم إلى هنا. يجب عدم ارتكاب الخطأ بتحديد العدو. إذا سقط النظام، سيتم القضاء عليهم خلال عدة أيام أو عدة أسابيع".


(وزارة الخارجية الفرنسية: إرسال السفراء المستعربين إلى أمريكا الجنوبية...)

موقع الأنترنت لصحيفة الفيغارو 27 أيلول 2013 بقلم جورج مالبرونو Georges Malbruont

     تم تعيين ثلاثة سفراء متخصصين بالعالم العربي في أمريكا اللاتينية وشمال أوروبا. إنها موجة من التعيينات التي تثير تساؤلات العديد من الدبلوماسيين في الوقت الذي يحتاج فيه بلدنا إلى الخبرة تجاه عالم عربي في حالة إعادة تركيب.
     كان آلان أزواو Alain Azouaou سفيراً في الإمارات العربية المتحدة، ثم تم تكليفه بالاهتمام بإيرلندة وتمثيل فرنسا فيها. إنه من المستعربين الذين يعرفون الخليج بشكل ممتاز، وكان سفيراً في قطر وقنصلاً عاماً في جدّة وشارك في إقامة القاعدة العسكرية الفرنسية في أبو ظبي. كما قام خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة بالإشراف على عقد تزويد الإمارات العربية المتحدة بثلاثة أقمار صناعية للمراقبة. باختصار، إنه يتحلى بالكفاءة. تم استبدال آلان أزواو بسفير آخر في الإمارات العربية المتحدة هو ميشيل ميراييه Michel miraillet الذي كان مديراً لإدارة الشؤون الخارجية في وزارة الدفاع، إنه ليس قريباً من الشرق الأوسط، ومعروف عنه انحيازه لإسرائيل.
     فيما يتعلق بالقنصل العام لفرنسا في القدس ـ أي ممثل باريس لدى الفلسطينيين ـ فريدريك ديزانيو Frédéric Desagneaux، فقد تم إرساله إلى فنزويلا لتمثيل فرنسا فيها. قال عنه أحد زملائه الذين استغربوا هذه التعيينات: "إنه من الخبراء الممتازين بالقضية الفلسطينية. لقد أدان مراراً في برقياته الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية".
     أخيراً، تم تعيين دوني بيتون Denis Pietton سفيراً لفرنسا في البرازيل في بداية فصل الصيف، بعد أن كان مديراً لمكتب لوران فابيوس. لقد سئم من بقية أعضاء مكتب وزير الخارجية الذين يتجاوزون صلاحياته. إنه أحد الخبراء المحنكين في وزارة الخارجية الفرنسية، ولكنه لم يبق أكثر من سنة واحدة لدى وزير الخارجية. كان دوني بيتون سفيراً لفرنسا في لبنان، وقنصلاً عاماً القدس، والرجل الثاني بالسفارة الفرنسية في واشنطن.
     إن الشخص الوحيد الذي نجا مما يمكن تسميته بملاحقة المعارضين هو كريستيان نخلة Christian Nachlé المكلف بالشرق الأوسط في مكتب لوران فابيوس. لقد تم تعييه سفيراً لفرنسا في الكويت بعد سنة على عمله مع الوزير. تم استبداله بالسيدة آن كلير لوجندر Anne-Claire Legendre وهي من المستعربين الذين عملوا مع مندوب فرنسا لدى الأمم المتحدة في نيويورك جيرار أرو Gérard Araud.

     قال لي قبل عدة سنوات أحد السفراء المؤيدين لإسرائيل: "بالنسبة لأصدقائك في إدارة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وشعارهم القائل بأن منظمة التحرير الفلسطينية ستنتصر، لقد انتهى كل ذلك الآن". إنه من المنحازين قليلاً إلى المحافظين الجديد، ويشعر بالسعادة لإبعاد خصومه المستعربين... بدأت هذه الحركة مع برنار كوشنير عام 2007، وما زالت مستمرة. يبقى معرفة فيما إذا كانت هذه هي الطريقة الأفضل لبناء سياسة خارجية جيدة في الشرق الأوسط...

الجمعة، ٢٧ أيلول ٢٠١٣

(انضمام بعض المجموعات المتمردة السورية إلى الجهاديين)

صحيفة الفيغارو 27 أيلول 2013 بقلم جورج مالبرونو Georges Malbruont

     إنه خبر سيء للدول الغربية التي تدعم المعارضة المعتدلة ضد بشار الأسد. قررت حوالي 12 مجموعة متمردة تابعة أو مقربة من الجيش السوري الحر، الذي يُعتبر الوسيلة الأساسية لنفوذ الأوروبيين والأمريكيين على الأرض، قطع علاقتها مع الجيش السوري الحر وتشكيل تحالف مع جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة. تمثل هذه الانشقاقات تراجعاً جديداً لنفوذ المتمردين "المعتدلين" لمصلحة الراديكاليين الإسلاميين الذين يعارضون أية تسوية تفاوضية للنزاع.
     من بين هذه المجموعات، هناك بعض الكتائب القوية مثل كتيبة أحرار الشام السلفية ولواء التوحيد المقربين من الإخوان المسلمين ولواء الإسلام المرتبط بالسعودية. تتمركز هذه المجموعات الثلاث في شمال سورية، وتضم حوالي أربعين ألف رجل على الأقل من أصل مئة وخمسين ألف رجل داخل التمرد. أكدت ثلاث عشرة مجموعة في بيانها أن الإئتلاف الوطني السوري، الجناح السياسي للمعارضة المدعومة من الدول الغربية، "لا يمثلنا ونحن لا نعترف به"، ودعت هذه المجموعات إلى جعل الشريعة الإسلامية "المصدر الوحيد للقوانين التشريعية". تنوي هذه المجموعات تشكيل قوة إسلامية.
     أفرغ هذا الانشقاق التيار المعتدل في التمرد، ويمثل ضربة قوية إلى الجيش السوري الحر ورئيسه الجنرال سليم إدريس الذي ألغى إقامته في فرنسا وعاد مسرعاً إلى المناطق "المحررة" في شمال سورية. سيؤدي هذا الانشقاق إلى تعقيد مسألة تسليح المتمردين، هذا الخيار الذي أطلقه فرانسوا هولاند مؤخراً من جديد. ما العمل عندما يتحول جزء من هؤلاء المعتدلين، الذين لا يمثلون أصلاً إلا 15 ـ 20 % من المتمردين، إلى جانب الراديكاليين الإسلاميين؟ إن هذا التصلب هو نتيجة للتراجع الأمريكي عن القيام بضربات ضد سلطة الأسد، هذه الضربات التي كان الجزء المعتدل في التمرد ينتظرها بفارغ الصبر من أجل التقدم في مواجهة خصومهم الجهاديين. ولكن الكثير من المتمردين فقدوا الأمل منذ ذلك الوقت، وقرروا الانضمام إلى الفصائل الإسلامية التي تملك إمكانيات مالية وعسكرية أكبر.
     تُعلن هذه الانشقاقات أيضاً عن فشل الحكومة الانتقالية التي كان الإئتلاف الوطني السوري وبعض الدول الغربية التي تدعمه ـ مثل فرنسا ـ  يتمنون تشكيلها في شمال سورية، أي في المنطقة التي خسر النظام السيطرة على جزء كبير منها. قال أحد المراقبين في دمشق: "استمرت الدول الغربية بتصديق الجنرال إدريس عندما كان يقول لهم أنه يسيطر على 85 % من المتمردين، ولكنها انخدعت. كانت الدول الغربية قد طلبت من الجنرال إدريس أن يطلب من قادة المجالس الثورية المحلية إصدار بيان يؤكدون فيه أنهم يمتثلون لقيادته. قال القادة المحليون: موافقون، إذا حصلنا على المال والسلاح. ولكن ذلك لم يمنعهم  لاحقاً من رفض الأوامر الصادرة عن قادة الجيش السوري الحر خارج سورية". في ظل هذه الظروف، ربما لن تحترم الحركة الراديكالية السلفية والجهاديين أي وقف لإطلاق النار سيصدر عن مؤتمر دولي، وهي الحركة الأكثر قوة على الأرض. ولإضافة المزيد من الغموض، قام أكثر من مئة ضابط في الجيش السوري الحر بالتوقيع على نداء "لمقاطعة" أي مؤتمر حول سورية تشارك فيه إيران.

     الخبر الجيد الوحيد للمعارضة المعتدلة هو وجود العماد علي حبيب في باريس، الذي وزيراً للدفاع حتى صيف عام 2011، وغادر سورية منذ ثلاثة أسابيع. من الممكن أن يكون العماد علي حبيب هو الضابط العلوي القادر على القيام بدور في عملية انتقالية تفاوضية للسلطة مع الحفاظ على الجيش لضمان وحدة أراضي سورية.

(سورية: أنترنت وأكاذيب وفيديوهات)

مجلة النوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية 26 أيلول 2013 بقلم سارا دانييل Sara Daniel

     يتقدم متمرد سوري والسكين بيده نحو جثة في خندق موحل، ثم انقض بشراسة على الجثة لتقطيعها، وانتهى بانتزاع قطعة من أحشائها ينزف الدم منها، وقال أمام الكاميرا أنها قلب الضحية، ولكنها في الحقيقة كانت قطعة من كبده يحملها بين أسنانه، وصرخ بصوت عالي: "أقسم أمام الله أننا سنأكل قلوبكم وأكبادكم أنتم الكلاب جنود بشار". استطاع بعض الصحفيين العثور على هذا الرجل أبو صقر، واسمه الحقيقي خالد الحمد، الأمر الذي يؤكد صحة الفيديو الذي نشره المتعصبون للنظام على الأنترنت. ولكن على الرغم من إدانة ممثلي المعارضة لهذا العمل البشع، فإنه لم يتم إظهار الفيلم باعتباره استثناء بشعاً في بلد أصبح مجنوناً بسبب الحرب الأهلية المرعبة، واعتبره أصحاب الدعاية المضللة للنظام أنه برهان على الصورة الوحشية للجهاديين.
     قامت جميع مواقع الأنترنت للدعاية المضللة لمؤيدي الأسد بنشر هذا الفيديو على نطاق واسع، وتمثل هذه المواقع تجمعاً غريباً أكثر فأكثر. في الحقيقة، تعتمد دمشق على دعم الناشطين الروس المقربين من بوتين، والمجموعات المسيحية الخائفة فعلاً من عمليات الترهيب التي تتعرض لها الجاليات المسيحية في الشرق الأوسط، والمدافعين عن نظرية المؤامرة، وأنصار اليمين الأمريكي المتشدد الذي يحركه حقده لأوباما، وأصحاب النزعة المسالمة لدى اليسار الذي يشعر بالصدمة بعد الحروب في العراق وأفغانستان، ويرفضون جرّهم إلى نزاع جديد. سمحت هذه الصور للبعض بمقارنة سلوك هذا الوحش المتعصب رئيس إحدى المجموعات الصغيرة، مع سلوك نظام قام بمأسسة الرعب، وذلك على الرغم من سقوط مئة ألف ضحية في النزاع السوري واستخدام الغازات الكيميائية ضد الأطفال.
     ولكن مقابل هذا الفيلم الحقيقي فعلاً، كم هو عدد ممارسات التضليل والوثائق المزيفة أو الحقيقية التي تظهر في أوقات حاسمة؟ كما هو الحال بالنسبة للفيديو الذي بثه الموقع الإلكتروني لنيويورك تايمز عن إعدام بعض الجنود السوريين بدون محاكمة، وذلك عشية اليوم الذي كان يفترض أن يعلن فيه الكونغرس عن موقفه حول توجيه الضربات ضد سورية، وعلى الرغم من أن هذا الفيديو تم تصويره عام 2012. أو تلك الصور التي يعود تاريخها إلى عام 2011، ونرى فيها رمي جثث الجنود من أعلى أحد الجسور في قرى حماة. ولكن المتمردين قدموا البرهان على أنه لا يوجد جسر في هذا المكان. لقد تم بث جميع هذه الفيديوهات الحقيقية أو المفبركة، وهذه الشهادات الصحيحة أو الكاذبة حول وحشية المتمردين، على حسابات في الفيسبوك والتويتر لمجموعة من القراصنة الحكوميين باسم الجيش الإلكتروني السوري. يهدف هذا الجيش إلى تعزيز شكوك الرأي العام باعتباره شاهداً عاجزاً أمام المجزرة السورية، بشكل أدى إلى خلط سخطهم بشكوك متزايدة: أصبح الأنترنت من الآن فصاعداً مشبوهاً.
     كيف استطاعت وسائل الإعلام المؤيدة للأسد الانتصار في معركة المعلومات؟ متى أدرك النظام أن المعارضين السوريين والحجم الهائل من أفلام الفيديو ذات الدقة المتواضعة التي ينشرونها على اليوتوب، ستصبح أسوأ وسيلة لإدارة قضية المعارضين؟ في الحقيقة، يلجأ نظام دمشق منذ وقت طويل إلى خدمات المستشارين الإعلاميين (Spins doctors) الغربيين الذين نجحوا في الماضي بنشر تحقيق مصور عن السيدة السورية الأولى في مجلة فوغ الأمريكية بعنوان: "وردة في الصحراء"، وركز التحقيق على جمالها وذكائها. أشارت الوثائق التي سربتها الويكيليكس إلى أن شركة Brown Lloyd James للعلاقات العامة هي التي قامت بتنظيم هذه الحملة، واستمرت بتقديم نصائحها حتى شهر أيار 2011. هل قرر النظام عام 2011 بناء على نصائح هذه الشركة تحرير الأنترنت والتوقف عن مراقبة فيسبوك وتويتر، وذلك بعد أن قطع الأنترنت بشكل كامل؟ ثم وقع المتمردون في هذا الفخ.  وهكذا استطاعت شرطة الأنترنت السورية اكتشاف الناشطين واعتقالهم من خلال الوصول إلى عنوانهم الإلكتروني (IP) وأرقام التعريف  الخاصة بأجهزة حواسبهم. أصبح الأنترنت المفتوح أمام الجميع قناة لجميع المتطرفين الذين لا تخدم صورهم مصلحة الثورة، وقام أصدقاء النظام بالبقية.
     هناك في المقام الأول بعض المجموعات المسيحية الخائفة من صعود الإسلاموية في سورية. على سبيل المثال، أدانت وكالة أنباء الفاتيكان Fides المجزرة التي تعرض لها المسيحيون في حمص، ولكنها لم تحصل إلا في مخيلة القائمين على موقع الأنترنت السوري (الحقيقة)، وهو موقع للدعاية المضللة للنظام. هناك أيضاً الشخصية الغريبة للراهبة أنييس مريم دولاكروا Agnès-Mariam de la Croix، إنها راهبة فرنسية ـ لبنانية مرتبطة بالسلطة، وقامت بتنظيم رحلة زميلنا جيل جاكييه الذي قُتِل في حمص بتاريخ 11 كانون الثاني 2012. أشارت هذه الراهبة في إحدى خطبها الدينية الغريبة إلى أن الصحفية صوفيا عمارة Sofia Amara، التي كانت من أوائل الصحفيين الأجانب الذين دخلوا سراً إلى سورية، دخلت إلى جامع مزيف وخدعها متدينون مزيفون يتعاطون المخدرات. إنها تكرر دوماً في جميع وسائل الإعلام  التي ما زالت تستضيفها بأن أفلام الفيديو حول الهجمات الكيميائية هي أفلام مزيفة، وأن المتمردين الأصوليين يرتكبون المجازر على نطاق واسع ضد المدنيين، ويقومون بسلسلة من عمليات الاغتصاب، كما اتهمت بعض المنظمات المسيحية بالسعي عمداً إلى إخفاء هذا الترهيب.

     هذا هو أيضاً حال مؤسس شبكة فولتير تييري ميسان Thierrry Meyssan الذي لا يتوقف عن إدانة مؤامرات الغرب ووسائل إعلامه. قيل في أحد الأوقات أنه مات في ليبيا، عندما كان يدعم القذافي، وهو صاحب كتاب (الخديعة الكبرى) الذي يعزو عمليات التفجير بتاريخ 11 أيلول إلى الأجهزة السرية الأمريكية، وهو يعيش اليوم بين دمشق وبيروت. كما يقوم بالكتابة في الموقع الإلكتروني InfoSyrie الذي يمثل وسيلة الدعاية المضللة باللغة الفرنسية للنظام السوري، هذا الموقع الذي يفسح المجال أمام الناشطين في اليسار المتطرف واليمين المتطرف اللذين يجمعهما الرفض المشترك للإمبريالية الأمريكية. يقوم هذا الموقع غالباً بنشر كتابات الناشط البلجيكي ميشيل كولون Michel Colon المعروف بعدائه للولايات المتحدة وعدائه للسامية، ويكتب في مدونة Investig’Action. تقوم شركة Riwal برعاية موقع InfoSyrie، وهي شركة إعلانية يملكها أحد المقربين من إدارة حزب الجبهة الوطنية فريدريك شاتيون Frédéric Chatillon. تمثل محطة روسيا اليوم للأخبار وسيلة أخرى للدعاية المضللة لدى بشار الأسد، وهي ناطقة باللغات الإنكليزية والعربية والإسبانية من أجل محاربة الصورة السلبية لروسيا وللنظام السوري في الخارج. تتم استعادة أغلب تحليلات محطة روسيا اليوم من قبل الموقع الإلكتروني JihadWatch، الذي يملكه روبرت سبينسر Robert Spencer المعادي للإسلام، أو  من قبل موقع Stop the War للبرلماني البريطاني السابق جورج غالاوي من اليسار المتطرف،  وقد قام جورج غالاوي بدور في رفض مجلس العموم البريطاني للضربات ضد سورية. فيما يتعلق بالمذيع الأمريكي راش ليمبوغ Rush Limbaugh المقرب من حركة Tea Party، فإنه يتهم باراك أوباما صراحة بأنه ساعد المعارضة السورية في تنظيم الهجوم الكيميائي. إنهم مجموعة متنافرة استطاعت غزو وسائل الإعلام والأنترنت، وتزويد الغرب بذريعة للمساواة بين الطرفين في سورية، والسماح بغرق البلد في الفوضى والحرب الأهلية.

(قراصنة بشار)

مجلة النوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية 26 أيلول 2013 بقلم سارا دانييل Sara Daniel

     الجيش الإلكتروني السوري هو مجموعة من القراصنة المؤيدين للحكومة، وتساعدهم أجهزة الاستخبارات السورية. جاء أعضاؤه من المدرسة السورية للقرصنة (Syrian Hackers school)، وهي أكاديمية افتراضية للقرصنة على الفيسبوك. تتضمن أعمالها القيام بهجمات للإساءة إلى محتويات مواقع الأنترنت التي يتم اعتبارها عدوة، وتتحول هذه المواقع فجأة للإشادة بالنظام السوري. أو تقوم بزرع الفيروسات على مواقع الأنترنت وصفحات الفيسبوك التابعة لشخصيات المعارضة السورية. الأمر الذي زرع الشك داخل عقول متصفحي الأنترنت، وجعل المتعاطفين مع المعارضة يرتابون بكل ما يمكن العثور عليه في هذه المواقع.

     في نهاية عام 2011، أشاد بشار الأسد في إحدى كلماته بهذا الجيش الافتراضي، وهذا يمثل أول حالة تعترف فيها إحدى الحكومات بجيش إلكتروني. حقق الجيش الإلكتروني السوري مؤخراً تقدماً تقنياً هاماً: نجح في شهر آب الماضي في تعطيل الموقع الإلكتروني المخصص لتحذير الشعب السوري في حال إطلاق صواريخ سكود لمدة يومين. كما نجح في السيطرة  على المواقع الإلكترونية لنيويورك تايمز وواشنطن بوست وموقع تجنيد الجنود الأمريكيين. هناك ما هو أخطر من ذلك، استطاع السيطرة على حساب تويتر لوكالة الأسوشيتد برس، وأعلن فيه أن البيت الأبيض تعرض للقصف، وأن باراك أوباما أصيب بجروح جراء هذا القصف. أشار بعض الخبراء في أمن المعلوماتية إلى أنه يمكن تفسير هذا التقدم بالمساعدة الخارجية التي حصل عليها الجيش الإفتراضي من قبل روسيا وإيران. في بداية شهر أيلول، قام مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي بوضع الجيش الإلكتروني السوري على لائحة المنظمات الإفتراضية المطلوبة.

(لقاء قمة حول إيران)

صحيفة الفيغارو 27 أيلول 2013 بقلم مراسلتها الخاصة في نيويورك لور ماندفيل Laure Mandeville

     اختلط الأمل بالحذر في نيويورك يوم الخميس 26 أيلول، وذلك عندما اجتمع وزراء خارجية الدول العظمى الخمس مع وزير الخارجية الإيراني الذي أعلن يوم الأربعاء 25 أيلول أنه يريد التقدم بسرعة حول الملف النووي، وتحدث عن جدول زمني مدته "ثلاثة أشهر"، أو ستة أشهر كحد أقصى من أجل انتزاع اتفاق.
     أشار مصدر دبلوماسي غربي إلى أن السؤال الكبير هو معرفة "فيما إذا كان الإيرانيون يريدون التفاوض من أجل رفع العقوبات مقابل بعض التصريحات، أم أنهم جادون فعلاً في نواياهم بالانفتاح". أكد هذا المصدر أن التوصل إلى رسم ملامح تسوية أمر ممكن إذا سمحت الدول الغربية لإيران بتخصيب اليورانيوم إلى درجة قريبة من العتبة النووية من أجل تعزيز سيادة الإيرانيين، ولكي يشعر الإيرانيون بالأمان تجاه قدرتهم على تصعيد قدراتهم في حال تعرضهم لتهديد وجودي. بالمقابل، سيقبل الإيرانيون بتخفيض قدراتهم مع السماح بعودة المفتشين إلى المواقع بشفافية "لكي يتمكن المفتشون من تقديم ضمانة تتحلى بالمصداقية بأن إيران لا تصنع القنبلة النووية". وأضاف هذا المصدر: "من وجهة النظر هذه، سيكون دور المفتشين هاماً فعلاً. لأنها الوسيلة الوحيدة لإقناع  الدول العربية مثل السعودية بأن إيران لن تتجاوز العتبة النووية، وبالتالي تجنب انتشار أسلحة الدمار الشامل".
     هناك تساؤل فيما إذا كانت هذه المقاربة قادرة على إقناع الدول العربية وإسرائيل. ولكن يبدو أنها التسوية الوحيدة الممكنة في هذه المرحلة، قال المصدر المذكور أعلاه: "إن البديل الوحيد لذلك أسوأ بكثير: أي الاستمرار بالعقوبات والتحذيرات، وفي النهاية، ستتمكن إيران من الحصول على القنبلة لأنها تقترب منها. إن الدبلوماسية ليست فن الوصول إلى أفضل الحلول، بل فن تجنب أسوأها".


(الهجوم الدبلوماسي لروحاني يُقلق إسرائيل)


صحيفة الفيغارو 27 أيلول 2013 بقلم مراسلها في إسرائيل سيريل لوي Cyrille Louis

     يتابع القادة الإسرائيليون عاجزين الهجوم الدبلوماسي للرئيس الإيراني، ويخشون أكثر من أي وقت مضى أن يجدوا أنفسهم معزولين في جهودهم الهادفة إلى كبح الطموحات النووية لطهران. بالنسبة لبنيامين نتنياهو الذي سيلتقي مع الرئيس الأمريكي بتاريخ 30 أيلول، اعتبر أن الموقف التوافقي للرئيس الإيراني الجديد هو موقف "صلف ومنافق كلياً".
     أظهر الرئيس الإيراني يوم الخميس 26 أيلول أنه يعرف كيف يرد الضربات داعياً خصمه الإسرائيلي إلى التوقيع على معاهدة عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل. قام فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي بالإعداد لهذا الهجوم المعاكس مستفيداً من وساطته المثمرة في الأزمة السورية، الأمر الذي جعل إسرائيل مسؤولة عن انتشار الأسلحة غير التقليدية في الشرق الأوسط، وقال: "كانت الترسانة الكيميائية السورية رداً على الأسلحة النووية التي تملكها إسرائيل".
     أشارت التقديرات التي نشرتها مؤخراً مجلة Bulletin of the Atomic Scientist إلى أن الدولة العبرية تملك ثمانين رأساً نووياً منذ منتصف الستينيات، دون أن تعترف رسمياً بامتلاكها للسلاح النووي. هذه هي سياسة "الغموض المتعمد" التي توصل إليها الاتفاق السري بين ريتشارد نيكسون وغوالدا مايير عام 1969، والتي كانت تهدف في ذلك الوقت إلى حماية إسرائيل من انتشار الأسلحة التقليدية في الشرق الأوسط.

     بالتأكيد، لن تتم متابعة هذا الطلب الإيراني على الرغم من الدعم الروسي. قال السفير الإسرائيلي السابق في روسيا زفي ماجين Zvi Magen: "تكمن المشكلة في أن المساواة بين الترسانة الإسرائيلية والترسانة التي تسعى طهران إلى تطويرها، ستضعف قدرتنا على التفاوض في الوقت الذي يتردد فيه باراك أوباما في الملف السوري، وأعطت جرعة من الأوكسجين إلى خصمنا". وأكد وزير الاستخبارات الإسرائيلي يوفال ستينيتز Yuval Steinitz قائلاً: "سيمتلك الإيرانيون القدرة النووية بعد ستة أشهر، إذا لم يتم ردعهم عن مواصلة برنامجهم بتهديد عسكري حقيقي".