الصفحات

الجمعة، ٣١ كانون الثاني ٢٠١٤

(أدونيس: نحن العرب لم ننفصل عن التراث الاستبدادي)

صحيفة اللوموند 31 كانون الثاني 2014 ـ مقابلة مع الشاعر السوري أدونيس ـ أجرت المقابلة كاترين سيمون Catherine Simon

     يُعتبر أدونيس أحد أهم الشعراء العرب المعاصرين، وهو يقيم في فرنسا منذ حوالي ثلاثين عاماً. يتحدر أدونيس من عائلة شيعية، ولكنه مقتنع بالعلمانية، وترجم أعمال بودلير وإيف بونفوي، وينشر اليوم على غير العادة كتاباً يضم مجموعة من المقالات السياسية بعنوان: (الربيع العربي. الدين والثورة). أجرى الملحق الثقافي لصحيفة اللوموند مقابلة مع أدونيس الذي تطرق فيها إلى  الأحداث الأخيرة الغنية والمتناقضة في العالم العربي.

سؤال: من المقالات التي يضمها كتابكم، هناك "الرسالة المفتوحة" التي قمتم بتوجيهها إلى رئيس الدولة السورية بشار الأسد في شهر حزيران 2011، وقلتم أنه رئيس "منتخب"، وذلك من أجل دعوته إلى "فتح حوار". هل تؤيدون اليوم استقالته؟ ولكنكم لم تُدينوا إطلاقاً أعمال العنف التي يرتكبها الجيش السوري، سواء فيما يتعلق بالقصف والتعذيب (وحتى تعذيب الأطفال) أو استخدام الأسلحة الكيميائية؟ ألا يمثل هذا الصمت غموضاً؟
أدونيس: إذا كان هناك غموض، فإنه ليس من قبلي. فيما يتعلق بكرهي للعنف أو حتى للتعذيب، إنه أمر معروف، وكذلك الأمر فيما بتعلق بإدانة الحزب الواحد. كتبت كثيراً حول الجانب الاستبدادي للنظام السوري ولحزب البعث. أنا لا أدافع عن النظام، وإلا لما كنت هنا في باريس! كتبت أنه تم انتخاب بشار الأسد، لأن هذا صحيح: قام مجلس الشعب السوري باختياره، وتم فرضه بهذه الطريقة. في اللحظة التي كتبت فيها هذه "الرسالة المفتوحة"، كان هو الوحيد الذي ما زال قادراً على تجنب تصعيد العنف وتدمير البلد. لم يتم الإصغاء إلى نصيحتي.
فيما يتعلق بالأسلحة الكيميائية؟ أنا ضدها بالتأكيد، وهذا أمر طبيعي. إذا لم أكتب أي شيء حول هذا الموضوع، فإن السبب بسيط: لم يتم التوصل بشكل مؤكد حتى الآن إلى معرفة الجهة التي استخدمتها ـ كانت صحيفة اللوموند قد توصلت بعد التحقيق إلى مسؤولية النظام، بشكل يتطابق مع مصادر أخرى موثوق بها ـ . هل تم تقديم تقرير دقيق وموضوعي ويوفر البراهين على مسؤولية هذا الطرف أو ذاك أمام أية مؤسسة تتمتع بالشرعية؟ هل هو الجيش السوري أم المتمردون؟ أو المتمردون المزعومون؟ من الذي بدأ باستخدامها؟ إن الطرفين قادران على ارتكاب مثل هذه الفظاعات.
سؤال: ولكن هل يمكن أن نضع عنف الدولة، مثل عنف دكتاتورية عائلة الأسد، وعنف المعارضين على قدم المساواة؟
أدونيس: العنف هو نفسه بغض النظر عن الجهة التي تمارسته. إن خطاب المعارضة السورية الموجودة في الخارج مبني على العنف، وهي مدعومة من قبل قوى خارجية مثل الولايات المتحدة والسعودية وقطر وحتى فرنسا. هناك تناسي للمعارضة السورية في الداخل، في دمشق، التي تدين العنف والتدخل الخارجي. أنا أدعم هؤلاء المعارضين في الداخل، وهم الديموقراطيون الحقيقيون. شخصياً، أنا أعتبر أن العنف هو شيء مضاد للإنسان. أنا أقف إلى جانب غاندي وليس إلى جانب العصابات المسلحة.
سؤال: تبنت تونس مؤخراً دستوراً جديداً ينص على حرية الاعتقاد والإيمان، وحدد لنفسه هدفاً هو المساواة بين الرجل والمرأة. ما هو تعليقكم على ذلك؟
أدونيس: فيما يُدعى بـ "الثورات العربية"، ينقصها شيء أساسي هو: القطيعة مع الإسلام المؤسساتي. قامت تونس بخطوة هامة جداً. ولكنني أعتبر من المؤسف أن التسوية التي تجعل من الإسلام دين "الدولة" ما زالت في الدستور الجديد. سيخلق ذلك غموضاً. أكرر أن تونس قامت بخطوة، بالمقارنة مع ما يحصل في أماكن أخرى. يجب الانتظار للحكم على ذلك. ما دامت القطيعة لم تحصل بين الدين والدولة، لن يكون هناك مجتمع عربي حر.
توجد بعض الاختلافات على مستوى التدرج بين الإسلام والمسيحية واليهودية، وليس على مستوى طبيعتها: إن النظرة إلى الإنسان والزمن هي نفسها لدى الأديان التوحيدية. هذا أمر عنيف، إنه عالم مغلق. إن مبدأ هذه الديانات التوحيدية هو أنه يجب العودة إلى الماضي من أجل الذهاب إلى المستقبل. وهذا يتناقض مع الحياة. ولكن المسيحيين واليهود قاموا بثورتهم الداخلية. نحن المسلمين، ليس فقط لم نقم بهذه الثورة، بل منعوا علينا التفكير بالقيام بها! لهذا السبب، أؤكد على ضرورة فصل الدين عن الدولة. لن يُولد الفرد الحر بدون ذلك.
سؤال: يبدو أن مصر تغرق في الفوضى والانكفاء بخلاف تونس التي عرفت كيف تحافظ على أولوية مبدأ الحوار السياسي؟
أدونيس: أشعر بالأسف لحصول كل هذا العنف، وسيكون هناك المزيد من العنف: إنها دوامة. ولكنني أعتبر أن الأمر الأكثر أهمية في مصر هو أن التيار الشعبي القوي والمضاد للدين استطاع التعبير عن رأيه علناً وبشكل واسع. لقد طالب الشارع بفصل الدين عن الدولة للمرة الأولى في تاريخ هذا البلد. بالتأكيد، كان من الأفضل بالنسبة لي عدم تدخل الجيش بذلك. ولكن يجب محاولة التقاط النقاط المضيئة، وإحداها هي المظاهرات ضد الظلامية. إن الحديث عن الديموقراطية بدون الاحتجاج على ما هو معاد في أعماقه للديموقراطية، هو ثرثرة! إن المشكلة الكبرى في المجتمعات العربية هي الثقافة، وليست السياسة: ما زالت فكرة الديموقراطية بحد ذاتها غريبة عن تراثنا الثقافي. هذا هو ما حاولت تفسيره في شهر نيسان 2011 في كلمتي للإشادة بمحمد بوعزيزي: ما زال التغيير في الدول العربية سياسياً وسطحياً وشكلياً منذ استقلالها. إن الذي يعتقد بتعدد الزوجات، وينظر إلى الآخر غير المسلم نظرة إقصاء ورفض، هل يمكن أن يكون ثائراً يكافح من أجل الديموقراطية والثقافة الديموقراطية؟ ما زال هذا السؤال مطروحاً بعد ثلاث سنوات من بداية "الربيع العربي".
سؤال: في كتابكم، تعتبرون نفسكم في مقدمة الذين يكافحون ضد الظلامية. ولكنكم قمتم أيضاً عام 1979، بعد إسقاط شاه إيران ووصول رجال الدين إلى السلطة بالإشادة بـ "ثورة وبسقوط الطغاة"، ووعدتم بـ "الغناء في قم لنار الريح العاصفة"؟
أدونيس: إن أي نظام هو أفضل من إمبراطور: أنا كنت ضد شاه إيران. إن الأمر الذي أذهلني عام 1979 هو رؤية شعب بأكمله وهو ينهض بدون عنف، مثل الشعر الحي. كان أمراً مذهلاً. ضمن هذا المعنى، قلت نعم لهذه الثورة. ولكن ضمن هذا المعنى فقط: كتبت في ذلك الوقت أيضاً مقالات لإدانة فكرة الدولة المبنية على الدين. إن الذين ينتقدونني يتناسون ذلك عمداً.
سؤال: دعا أحد الأصوليين الجزائريين قبل عدة أسابيع إلى حرق كتبكم. كيف كانت ردة فعلكم؟
أدونيس: (ضاحكاً) إذا كان يحرص على الدفاع عن القرآن والإسلام، يجب عليه أن يبدأ بتعلم  اللغة العربية! بادر بعض المثقفين الجزائريين بنشر نداء من أجل إدانة هذه التصرفات. للأسف، يجهل الكثير من العرب لغتهم. بالتأكيد، إنها مشكلة أخرى أكثر خطورة من هذه التصرفات العشوائية لسلفي صغير. بعد ربع قرن، سيتكلم أغلب الشباب العرب اللغة الانكليزية بشكل أفضل من اللغة العربية. ما العمل؟ اللغة هي كائن حي، ولا يمكن إجباره على شيء ولا إرغامه على البقاء أو الموت.
سؤال: يحتل لبنان مكانة متميزة بين الدول العزيزة على قلبكم؟
أدونيس: لبنان هو رمز الحرية العربية وإمكانية تحقيقها. إنه بلد منفتح، ويوجد فيه معنى الإنسان والإبداع. إنه ليس مقيداً بسلاسل الماضي، وليس منغلقاً داخل حدوده. إنه أكثر من بلد، لبنان هو مشروع. إنه فتحة نور. إنه يعطينا المثل والأمل مثل تونس.


(عودة إيرفيه دوشاريت من إيران)

صحيفة الفيغارو 31 كانون الثاني 2014

     قام وزير الخارجية الفرنسية السابق إيرفيه دوشاريت بزيارة إيران خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، واجتمع خلالها مع علي أكبر ولايتي، المستشار الدبلوماسي للمرشد الأعلى علي خامنئي، ومع وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف. أكد إيرفيه دوشاريت أن "الجو كان بناءاً جداً". في الشهر الماضي، اضطر وزير البيئة الفرنسي السابق جان لوي بورلو إلى إلغاء زيارته إلى طهران تلبية لطلب وزارة الخارجية الفرنسية بعدم الإسراع نحو بلد ما زال الغرب يتفاوض معه حول الخلاف النووي.


(تزايد المؤشرات حول عزلة إسرائيل)

صحيفة اللوموند 31 كانون الثاني 2014 بقلم مراسلها في إسرائيل لوران زوكيني Laurent Zecchini

     يُقارن مسؤولو الأحزاب اليسارية الإسرائيلية رئيس الوزراء بقبطان سفينة تيتانيك ستيفان سميث الذي كان يتجاهل رسائل التحذير حول وجود جبال الثلج، وما زال بنيامين نتنياهو يصم أذنيه عن تحذيرات أولئك الذين يتنبؤون بكارثة دبلوماسية على إسرائيل تحت شكل الفشل النهائي للحل القائم على أساس دولتين، بالإضافة إلى تزايد عزلتها الدبلوماسية في العالم. ربما أظهرت ألمانيا التي تمثل أقرب الحلفاء الأوروبيين للدولة اليهودية المثال أمام الاتحاد الأوروبي. قررت برلين أن الشركات الإسرائيلية للتقنيات المتطورة الموجودة في مستعمرات الضفة الغربية والقدس الشرقية لن يستطيعوا مستقبلاً الاستفادة من التمويل الألماني, ومن المفترض إضافة هذا البند المتعلق بالأراضي إلى بعض اتفاقات التعاون الثنائية.
     يأتي هذا التشدد ضمن سياق الاتفاق الذي وقعته إسرائيل مجبرة مع الاتحاد الأوروبي، هذا الاتفاق الذي ينص على آلية مشابهة بالنسبة للبرامج العلمية الأوروبية (أفق 2020). كانت هولندة من أوائل الدول التي انخرطت بما يمكن تشبيهه بحملة مقاطعة. انضمت عدة صناديق تمويل أوروبية إلى هذه الحملة، بالإضافة إلى بعض الجامعات الأمريكية التي ترفض التعاون مع الجامعات الإسرائيلية الواقعة داخل المستوطنات. يدين نتنياهو "نفاق" الأوروبيين، ولكن ربما يجب عليه الإصغاء إلى غضب الأوروبيين المتزايد. بالتأكيد، تستطيع إسرائيل التخفيف من أهمية هذا التهديد المحدود جدا، واختيار الإصغاء إلى وزير اقتصادها القومي المتدين نفتالي بينيت الذي يعتبر أنه "من الأفضل التعرض إلى مقاطعة أوروبية بدلاً من إقامة دولة فلسطينية".
     انتهى عام 2013 بدون أن يتحقق أي من المخاطر التي تهدد إسرائيل: لم تحصل الحرب بخصوص الملف النووي العسكري في إيران، ولم ينجح الجهاديون السوريون في تصدير نزاعهم مع نظام دمشق إلى إسرائيل، وامتنع حزب الله عن الرد على الرغم من العديد من الضربات العسكرية الإسرائيلية ضد مصالحه، وما زالت الضفة الغربية هادئة، ولم يعاني قطاع غزة من تداعيات حرب عام 2012 ضد حماس. ولكن جميع هذه الاحتمالات ما زالت مستمرة في عام 2014، وبدأ العد التنازلي للمفاوضات مع الفلسطينيين ودخل في مرحلته النهائية: أي في نهاية شهر نيسان بعد نهاية الأشهر التسع المخصصة لهذه المفاوضات. أشار مدير معهد الدراسات الأمنية في تل أبيب أموس يادلين Amos Yadlin إلى أنه إذا لوحظ أن الفشل أصبح أمراً واقعاً، فلن هناك أمام الفلسطينيين إلا خيار "الانتفاضة المسلحة أو الانتفاضة الدبلوماسية"، وذلك في إشارة إلى الهروب إلى الأمام نحو المحكمة الجنائية الدولية.
     تبرر إسرائيل تشددها باسم الحفاظ على أمنها. يعتبر قادة الجيش الإسرائيلي أن الهدوء السائد على حدودها مع الأردن ومصر، لا يجب أن يدفع الدولة اليهودية على التهاون: إن الحروب بين الإسلاميين في العراق وسورية يمكن أن تنتشر، ويرفض الجيش الإسرائيلي التنازل عن السيطرة العسكرية على وادي الأردن إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية. يترافق هذا التشدد مع قلق خفي يتقاطع مع القلق الذي تشعر به السعودية ودول الخليج، وهذا القلق مرتبط بالإرادة الأمريكية بالانخراط أقل ما يمكن في نزاعات الشرق الأوسط من الآن فصاعداً، الأمر الذي يُغذي تدهور الصورة  الأمريكية في المنطقة.
     أكد باراك أوباما أن التعاون الإسرائيلي ـ الأمريكي في المجال الأمني أصبح "أكثر قوة من أي وقت مضى"، كما أغمض وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عينيه عن استئناف الاستيطان. ولكن على الرغم من كل ذلك، يتعزز الشعور السائد في إسرائيل بأنه يجب على الدولة اليهودية الاعتماد على نفسها فقط. يترافق تزايد حدة هذه العقدة النفسية التاريخية المتمثلة بـ "القلعة المحاصرة" بالإرادة بإنهاء العزلة المتزايدة. تظهر هذه الإرادة عبر بوادر التقارب مع الدول العربية التي لديها عدو مشترك مع إسرائيل هو إيران. قام وزير الطاقة الإسرائيلي سيلفان شالوم بزيارة أبو ظبي للمشاركة في مؤتمر حول الطاقات المتجددة، وكان شمعون بيريز قد قام بزيارة سرية إلى أبو ظبي بمناسبة المؤتمر حول الأمن.

     إن السعودية حليف ممكن ولكنه غير محتمل، وذلك على الرغم من أن الدولتين تتشاركان في كرههما لنظام طهران وفي قلقهما المشترك من إعادة الدفء إلى العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية. ولكن الدعم الذي قدمته المملكة الوهابية إلى الجهاديين بجميع أشكالهم في سورية يمثل خطاً أحمراً بالنسبة للدولة اليهودية. على أي حال، إن الخطوات الإسرائيلية الصغيرة للتقرب من الدول العربية المعروفة باعتدالها سيكون مصيرها الفشل ما دامت حكومات هذه الدول غير قادرة على تبرير تقاربها مع "العدو الصهيوني" عبر حلحلة عملية السلام الإسرائيلية ـ الفلسطينية. إن نتنياهو في طريقه نحو قتل مثل هذا الاحتمال عبر مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل كـ "دولة للشعب اليهودي"، ورفض مناقشة حق العودة للاجئين الفلسطينيين ورفض تقسيم القدس، والتأكيد على أنه "من الضروري التأكد من أن الدولة الفلسطينية لن تصبح بديلاً لإيران".

الخميس، ٣٠ كانون الثاني ٢٠١٤

(سورية: حرب إعلامية على ضفاف بحيرة ليمان)

صحيفة اللوموند 30 كانون الثاني 2014 بقلم مراسلها الخاص في جنيف بنجامان بارت Benjamin Barthe

     يتكرر المشهد بعد ظهر كل يوم عندما يبدأ المؤتمر الصحفي للأخضر الإبراهيمي. بمجرد انتهاء وسيط المفاوضات حول سورية لكلامه في مقر الأمم المتحدة بجنيف، ترتفع غابة من الأيدي لتطلب الكلام. إن الكثيرين منهم هم صحفيون سوريون مؤيدون للأسد ومتلهفون لإسماع صوت دمشق أمام كاميرات العالم بأسره. تدور أسئلتهم دوماً حول "الإرهابيين"، وهي التسمية التي يُطلقها النظام على المتمردين، وحول الدول التي تمولهم مثل السعودية. تساءل الإبراهيمي بنبرة تتصنع السذاجة يوم الجمعة 24 كانون الثاني قائلاً: "ألا يوجد إلا الصحفيون السوريون في هذه القاعة؟"، عندما كان المؤتمر الصحفي يتحول إلى مسابقة لإظهار الحماس مع النظام.
     تكشف هذه اللعبة الصغيرة عن أشياء كثيرة حول الرهان الحقيقي لمؤتمر السلام حول سورية الذي يُراوح في مكانه منذ يوم الجمعة 24 كانون الثاني بعد افتتاحه في مونترو يوم الأربعاء 22 كانون الثاني. إذا كان الطرفان لا يعتقدان بإمكانية التوصل إلى اتفاق انتقالي خلال فترة قصيرة، وهو الهدف النظري للمفاوضات، فإنهما ينظران إلى هذه المواجهة باعتبارها فرصة لإحراز بعض النقاط على الساحة الإعلامية.
     من أجل هذه الغاية، استعانت المعارضة بالخدمات المهنية لبعض المستشارين البريطانيين في العلاقات العامة (Spin doctors) على نفقة وزارة الخارجية البريطانية. يُقيم هؤلاء المستشارون في فندق قريب من قصر الأمم، ويشاركون في بعض جلسات التفكير المخصصة لتحديد الرسائل اليومية الواجب إيصالها. أعربت الناطقة الرسمية رفيف جويجاتي عن قلقها من فكرة اعتبار هذا الدعم كتدخل خارجي في شؤون المعارضة، وقالت: "إنهم هنا فقط من أجل تقديم المشورة لنا". استعانت السلطات السورية سابقاً ببعض الخبراء الإعلاميين الأمريكيين، هل كررت هذه التجربة من أجل اجتماع جنيف؟ من المستحيل التحقق من ذلك. إن الأمر المؤكد هو أن دمشق أرسلت إلى ضفاف بحيرة ليمان حوالي أربعين صحفياً يقفون جميعهم إلى جانبها: إنهم بعض الموظفين في الأجهزة الرسمية مثل التلفزيون السوري Syria TV أو بعض وسائل الإعلام الخاصة الموالية لها مثل تلفزيون سما Sama TV أو صحيفة الوطن.
     بدأ هذا الوفد الثاني عمله فوراً عبر توزيع شريط فيديو DVD بعنوان مؤثر هو (الإرهاب ضد سورية) في قاعة الصحفيين في مونترو، وهو من انتاج الإذاعة والتلفزيون السوري. عندما قام وزير الخارجية وليد المعلم بإرباك الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي كان يطلب منه اختصار كلمته الطويلة، بدأ العديد من هؤلاء المراسلين الخاصين جداً بالتصفيق. قال أحد الصحفيين اللبنانيين: "لقد جاؤوا بأعداد كبيرة من أجل شغل المكان في المؤتمرات الصحفية. إنهم مراسلون مبتدؤون، ويقومون بنشر المعلومات الزائفة للنظام، ويراقبون بعضهم البعض. يجب التماس العذر لهم. إن سورية هي كوريا الشمالية".
     إن المواجهة بين الصحفيين من الجانبين متوترة جداً. نشبت عدة مشادات في قاعات قصر الأمم. كاد "الصحفيون" يتعاركون بالأيدي مع بعض أعضاء محطة الجزيرة القطرية في الساحة العشبية التي تتواجد فيها الكاميرات التلفزيونية، هذه المحطة التي تقود الهجوم ضد الأسد. ولكن النبرة كانت أكثر هدوءاً بكثير لدى الوفود، سواء لدى النظام الذي يواجه الجرائم الكبيرة المرتكبة من قبل القوات النظامية، أو لدى المعارضة التي تواجه الانتهاكات المرتكبة من قبل بعض الجهاديين في التمرد. إن المندوبين مجبرون على تحسين صورتهم، ويريدون أن يكونوا الناطقين الرسميين باسم المعاناة في سورية، مع التأكيد في الوقت نفسه على تصميمهم في متابعة رهان المفاوضات.
     قالت رفيف جويجاتي: "نحن سنبقى في جنيف لأن الأمر يتعلق بالشعب السوري. يتحدث النظام عن حماية عائلة ـ عائلة الأسد ـ ، ولكننا نتحدث عن حماية ملايين المواطنين". ولكن بثينة شعبان، المستشارة الإعلامية للرئيس السوري، ردت قائلة: "المشكلة ليست بشار، ولكن البلد. إن جميع السوريين يعانون".

     على الرغم من التصريحات الجميلة، ما زال النظام يعارض إيصال الطعام إلى الأحياء المحاصرة في حمص. إن الشيء الوحيد الذي اتفق عليه الطرفان بعد أربعة أيام من المشادات الكلامية هو الاستمرار في الجلوس وجهاً لوجه حتى يوم الجمعة 31 كانون الثاني على الأقل، أي موعد نهاية الجولة الأولى من المفاوضات.

(سورية: صواريخ فرنسية ـ ألمانية بأيدي الجهاديين)

مجلة النوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية 30 كانون الثاني 2014


     أشار النائب الألماني جان فان أكين Jan van Aken إلى أنه توجد بعض نماذج الصاروخ الفرنسي ـ الألماني ميلان (Milan) بأيدي جهاديي جبهة النصرة. إن بعض الناشطين الأكراد في شمال سورية هم الذين اكتشفوا وجود هذه الصواريخ التي ربما أخذها الجهاديون من الجيش السوري: قامت بفرنسا بتسليم 4400 صاروخ من هذا الطراز إلى الرئيس السوري عام 1978.  طلب النائب الألماني إيقاف بيع هذه الصواريخ الخفيفة التي تم تصديرها إلى أكثر من أربعين بلداً، ويمكن نقلها بسهولة من يد إلى أخرى. تتم صناعة هذه الصواريخ حالياً من قبل شركة MBDA، وهي إحدى فروع شركة EADS-AIRBUS.

(عندما يفرح بشار الأسد)

مجلة اللوبوان الأسبوعية 23 كانون الثاني 2014 بقلم مراسلها الخاص في جنيف أرمين عريفي Armin Arefi

     إنه مشهد ذو مغزى عميق. في افتتاح مؤتمر السلام حول سورية في جنيف، تجرأ وليد المعلم على تحدي الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون شخصياً. سأل بان كي مون بأدب وزير الخارجية السوري المهيب فيما إذا كان سيُنهي كلمته الطويلة قريباً، فجاءه رد صاعق من قبل وحش الدبلوماسية السورية بشعره الأبيض الممشط بعناية قائلاً: "أنتم تعيشون في نيويورك، وأنا أعيش في سورية. من حقي إعطاء وجهة النظر السورية هنا. إذاً، سأتابع حديثي عشرين دقيقة إضافية". ابتهج الوفد السوري، وظهر الذهول على وجوه ممثلي تسع وعشرين دولة مشاركة. تعرض رئيس الأمم المتحدة للإهانة.
     مضت فترة طويلة منذ الوقت الذي كانت الحكومات الغربية ـ وفي مقدمتها فرنسا ـ تراهن فيه على أن سقوط الرئيس السوري أصبح وشيكاً. كانت دمشق تشبه في شهر حزيران 2012 القلعة المحاصرة والمعقل الأخير للقوات النظامية التي تقاوم هجمات المتمردين الديموقراطيين. كان لوران فابيوس يؤكد قائلاً: "لا يستحق بشار الأسد أن يكون موجوداً على الأرض"، وكان مقتنعاً بأن الرئيس السوري سيشهد مصيراً مشابهاً لمصير معمر القذافي. كان الكثيرون في ذلك الوقت يعتبرون أن زعيم دمشق المحاصر من قبل المتمردين، ليس له إلا مخرج واحد هو الهرب مع عائلته العلوية إلى اللاذقية بحماية حليفة الروسي الدائم، واللجوء إلى الشاطىء المتوسطي الذي تملك البحرية الروسية قاعدة عسكرية فيه (في طرطوس).
     على الرغم من ذلك، لم يجر أي شيء كما كان متوقعاً. فاجأ بشار الأسد الجميع، واستطاع قلب الوضع لصالحه عن طريق طلب مساعدة إيران. إن الأسد الذي ينتمي إلى الطائفة العلوية، أقرب إيديولوجياً إلى رجال الدين الإيرانيين من قربه إلى شعبه ذي الأغلبية السنية. كانت طهران قد بدأت بمساعدة دمشق وإرسال المستشارين العسكريين والأسلحة منذ بداية الثورة، ثم أسرعت في خريف عام 2012 بإرسال مقاتلي حزب الله اللبناني لمساعدة النظام السوري. بالنسبة للمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، لا يمكن أن يتصور إطلاقاً السماح بسقوط حجر الزاوية في سياسته الخارجية، أي المحور الشيعي طهران ـ بغداد ـ دمشق ـ بيروت، تحت الهيمنة السنية للسعودية التي تدعم المعارضة، وتمثل الخصم الأزلي للفرس.
     أصبحت المعارضة ضعيفة جداً اليوم أمام بشار. استطاع الجيش السوري الحر ـ الجناح المسلح للمعارضة المعتدلة تحقيق بعض الانتصارات العسكرية في البداية، الأمر الذي سمح له بتهديد النظام حتى أبواب دمشق، ولكنه لم يجد المساعدة إلا عبر السعودية وقطر اللتين يطغى عليهما التهديد الإيراني والخوف من رؤية الربيع العربي يصل إلى الخليج. لقد ألقت هاتان المملكتان النفطيتان بكل ثقلهما من أجل تمويل التمرد والسيطرة عليه. ولكن التمرد يحتاج إلى مساعدة الدول الغربية أيضاً، ولاسيما صواريخ أرض ـ جو. ولكن الدول الغربية ترتعد من فكرة وقوع هذه الأسلحة بأيدي الإسلاميين كما حصل في ليبيا، وبقيت واشنطن وباريس مكتوفتا اليدين.
     قال الدبلوماسي الفرنسي السابق فرانسوا نيكولو  François Nicoullaud (سفير سابق في إيران): "لم تفعل فرنسا أي شيء جدي من أجل رحيل الأسد. بل على العكس، سمحت بإضعاف الفرع الديموقراطي للمعارضة". كانت العقوبة فورية: استعاد الجيش النظامي مدينة القصير، وتوجه نحو حلب، وذلك بعد تعزيز قواته مع وصول مئات المقاتلين الشيعة من حزب الله اللبناني في ربيع عام 2013.
     إن ضعف الغرب هو الانتقام الآخر للأسد. وقع هجوم كيميائي واسع النطاق بغاز الساران على الأحياء  المتمردة في الغوطة في ليلة 21 آب 2013، الأمر الذي أدى إلى مقتل المئات. اتجهت جميع الأنظار إلى النظام السوري باعتباره الطرف الوحيد الذي يملك ترسانة كيميائية. وهكذا تم انتهاك  الخط الأحمر الذي لوّح به باراك أوباما قبل عام من هذا الهجوم، وبدأت السفن الحربية الأمريكية بالتحرك في البحر المتوسط. قال أحد الدبلوماسيين  الغربيين: "وصل الرعب إلى داخل النظام إلى درجة أن بعض المسؤولين قالوا لنا أنهم مستعدون للانشقاق". لم يكن أوباما لوحده، وأكد فرانسوا هولاند بعد الهجوم الكيميائي أنه مصمم على "معاقبة" الرئيس السوري. ولكن أحد الدبلوماسيين الفرنسيين خفف من حدة هذا الكلام قائلاً: "لم يكن الأمر يتعلق بإسقاطه، بل القضاء على المواقع العسكرية الاستراتيجية من أجل تغيير موازين القوى على الأرض". كان الرئيس الفرنسي ينتظر مكالمة هاتفية من نظيره الأمريكي من أجل إرسال طائراته إلى جانب السفن الأمريكية، ولكن هذه المكالمة لن تأت أبداً. إن انتصار الأسد هو الاتفاق الأمريكي ـ الروسي حول الأسلحة الكيميائية في سورية، هذا الاتفاق الذي رفعه من جديد إلى مستوى الطرف المحاور مع المجتمع الدولي. وهكذا، تفرّغ تماماً لتطوير نظريته حول المؤامرة الإرهابية.
     هذا هو انتقامه الثالث: تراجع المتظاهرون السلميون في بداية عام 2011 شيئاً فشيئاً، وأفسحوا المجال أمام الجهاديين الذين استفادوا من خبرتهم في حرب العصابات في العراق أو أفغانستان، ويملكون إمكانيات مالية كبيرة. مع مرور الوقت، تخلى المجتمع الدولي عن الجيش السوري الحر الذي تخلى عنه مقاتلوه أيضاً، وانضم بعضهم إلى صفوف جبهة النصرة ـ الفرع الرسمي لتنظيم القاعدة في سورية. ثم تعرض هؤلاء الجهاديون أنفسهم للمنافسة من قبل مجموعة أخرى هي الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام ـ الفرع العراقي لتنظيم القاعدة، وهي تتألف بشكل أساسي من المقاتلين الأجانب الذين يريدون إقامة الخلافة الإسلامية في المنطقة حتى العراق. قامت هذه المجموعة بالعديد من عمليات خطف الصحفيين والمعارضين "التاريخيين"، وفرضوا الرعب على جميع الأراضي التي استولوا عليها مستفيدة من تعاطف النظام إلى حد ما. والسبب في ذلك هو أنها حليفه الأفضل. وهكذا، بدأت الفصائل الإسلامية المتمردة الأكثر اعتدالاً "ثورة ثانية" في بداية شهر كانون الثاني من أجل القضاء على الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام. استفاد بشار الأسد من ذلك لكي يتقدم على الأرض، ولاسيما في حلب.
     يبقى "الانتصار" الأخير للنظام. تراجعت الإدانات في باريس ولندن وبرلين ضد القمع الذي يمارسه النظام بشكل عشوائي، وأفسحت المجال أمام قلق آخر هو: رحيل مئات الشباب الأوروبيين إلى سورية وانضمامهم إلى صفوف تنظيم القاعدة. وفجأة، عادت أجهزة الاستخبارات الأوروبية إلى طريق دمشق منذ بداية عام 2013. كان الرئيس القوي للأجهزة السورية علي مملوك يُطالب في كل لقاء باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع دمشق كشرط مسبق. بدأت بعض الدول الغربية التفكير جدياً بإعادة افتتاح سفاراتها...

     إذاً، لم تكن دمشق مضطرة في مؤتمر جنيف إلا إلى تقديم تنازل "محدود" ووحيد هو: القبول بالسماح بخروج الأطفال والنساء من حمص التي يحاصرها الجيش منذ ستة أشهر، والتي يتعرض سكانها للتجويع، واضطروا إلى أكل الفئران. كما لو أن النزاع الذي أدى إلى مقتل مئة وثلاثين ألف شخص على الأقل وتسعة ملايين نازح خلال ثلاث سنوات، لم يسمح في النهاية إلا إلى شيء واحد هو: تعزيز قوة بشار الأسد...

الأربعاء، ٢٩ كانون الثاني ٢٠١٤

(سورية: واشنطن ستُرسل أسلحة)

صحيفة الفيغارو 29 كانون الثاني 2014 بقلم جورج مالبرونو Georges Malbrunot

     إنها المرة الأولى التي يتم فيها إلغاء جلسة مفاوضات بين  النظام ومعارضيه يوم الثلاثاء 28 كانون الثاني. لا يتعلق سبب إلغائها بالخلاف حول العملية الانتقالية التي يرفضها ممثلو دمشق بشكل قاطع، ولكن بسبب القرار الأمريكي باستئناف إرسال الأسلحة إلى المتمردين المعتدلين. قال نائب وزير الخارجية فيصل المقداد: "إنها محاولة مباشرة لمنع  أي حل سياسي"، واتهم الولايات المتحدة التي تنشط في كواليس جنيف بتسليح المتمردين على الأرض.
     كشفت وكالة رويترز أن واشنطن قد بدأت بإرسال أسلحة خفيفة إلى المتمردين "المعتدلين" في جنوب سورية، وأن الكونغرس وافق سرّاً على الموازنة اللازمة لإرسال هذه الأسلحة الجديدة. بشكل موازي، أعلنت وول ستريت جورنال أن واشنطن ستبدأ قريباً بإرسال أسلحة غير فتاكة إلى بعض المتمردين في الجيش السوري الحر في شمال سورية، وذلك بعد أكثر من شهر على إيقاف مساعدتها بسبب نهب مقر الجيش السوري الحر من قبل خصومه السلفيين. لا تشمل الأسلحة المرسلة إلى الجنوب إلا بعض القذائف الصاروخية المضادة للدبابات وبعض الأسلحة الخفيفة، ولكنها لا تشمل صواريخ أرض ـ جو يمكن حملها على الكتف.
     كان الكونغرس متردداً جداً حتى الآن إزاء إرسال مثل هذه الأسلحة، خشية من وقوعها بأيدي الإسلاميين أو الجهاديين، أي الطرفان الأكثر قوة في التمرد. ولكن كان يجب على واشنطن أن تتحرك تجاه الجيش السوري الذي تسارعت إمدادات الأسلحة إليه من قبل حليفه الروسي. من الأسهل نسبياً القيام بذلك في الجنوب انطلاقاً من الأردن، أي في المنطقة التي تتصف بأن المكون الجهادي فيها أقل قوة بالمقارنة مع الشمال. إذاً، تستطيع نقاط اتصال الجيش السوري الحر الظهور بأنها أكثر فعالية للمحافظة على الأسلحة التي سترسلها واشنطن.

     ليس من قبيل الصدفة أن يأتي الإعلان عن هذا التحول في الموقف الأمريكي أثناء المفاوضات حول العملية الانتقالية. يجب على الولايات المتحدة تعزيز حلفاءها المعتدلين للسماح بتطبيق التقدم المحتمل انتزاعه في جنيف ميدانياً. أو في حال الفشل، من أجل عدم السماح للمتمردين الأكثر راديكالية بالسيطرة نهائياً على بقية المتمردين.

الثلاثاء، ٢٨ كانون الثاني ٢٠١٤

(سورية: النظام يُعرقل المفاوضات)

صحيفة الفيغارو 28 كانون الثاني 2014 بقلم مراسلها الخاص في جنيف جورج مالبرونو Georges Malbrunot

     كما كان متوقعاً، لم تتأخر عرقلة المفاوضات، وظهر ذلك حول المسألة المتفجرة المتعلقة بنقل السلطة. في اليوم الثالث للمفاوضات بين النظام ومعارضيه، قام كل طرف يوم الاثنين 27 كانون الثاني بطرح قراءته لبيان جنيف 1 الذي تم تبنيه في شهر حزيران 2012 حول إقامة جهاز حكومي انتقالي، وهو الموضوع الذي يشكل أساس هذه المفاوضات. ولكن عندما عرف معارضو بشار الأسد بـ "إعلان المبادىء" الذي قدمه النظام، لم تتأخر ردة فعلهم. قال رئيس مفاوضي المعارضة هادي البحرة متأسفاً بعد عدة لحظات من هذا الإعلان: "لا يتطرق الإعلان إلى المسألة المركزية". إذا كان هذا الإعلان قد أفاض في معالجة مكافحة الإرهاب، فإن خارطة الطريق للسلطة السورية تجاهلت أية إشارة إلى العملية الانتقالية للسلطة في دمشق. إذاً، رفض معارضو الأسد هذا النص.
     إنها الأزمة الأولى في هذه المفاوضات، وهي لا تُشكل مفاجأة حقيقية. كان وزير الخارجية وليد المعلم الذي يترأس وفد دمشق قد أكد عشية وصوله إلى سويسرا قبل أسبوع بالضبط أن "بشار الأسد يمثل خطاً أحمراً"، واعتبر أنه لا مجال إطلاقاً للحديث عن تغيير السلطة. يوافق ممثلو السلطة في أفضل الأحوال على الحديث عن تشكيل حكومة وحدة وطنية.
     تمكن الوفدان من مواجهة بعضهما البعض للمرة الأولى يوم السبت 25 كانون الثاني، وذلك بعد الانتقادات اللاذعة في اليوم الأول للمؤتمر. ثم قام الوسيط الدولي الأخضر الإبراهيمي بمفاجأة الجميع مساء اليوم نفسه بالإعلان عن تحقيق تقدم إنساني يتعلق بـ 600 إمرأة وطفل محاصرين منذ سنتين في المدينة القديمة لحمص من قبل القوات النظامية.
     أسرّ أحد أعضاء فريق الأخضر الإبراهيمي مساء الأحد 26 كانون الثاني قائلاً: "قالت لنا الحكومة فعلاً أن إخلاء النساء والأطفال يمكن أن يكون فورياً". هناك مئتان منهم مستعدون لمغادرة حمص يوم الاثنين 27 كانون الثاني، في حين طالبت الولايات المتحدة أيضاً بإدخال مساعدة إنسانية إلى المدينة. أضاف الدبلوماسي الأممي قائلاً: "بالمقابل، بالنسبة للرجال، يريد النظام معرفة من هم هؤلاء الرجال. إنه يريد قائمة بأسمائهم، وقال لنا أنه سينظر بوضع كل حالة على حدة. ولكن إذا كان بعض المتمردين ينتمون إلى جبهة النصرة أو بقية المجموعات التابعة لتنظيم القاعدة، فإنه لن يسمح لهم بالخروج بهذه السهولة".
     باختصار، إن حمص تمثل "خطوة صغيرة جداً" يجب تجسيدها على الأرض. هناك الكثير من العقبات مثل الخشية من اعتقال الرجال عند خروجهم من المدينة القديمة بالإضافة إلى النفوذ المحدود للمعارضين في جنيف على المجموعات المسلحة. من أجل التغلب على هذه العقبة، قامت الأمم المتحدة بإرسال بعض المبعوثين إلى بعض الفصائل المعارضة لجنيف 2، وقامت الدول التي ترعى هذه الفصائل (قطر والسعودية) بالشيء نفسه. أعرب الدبلوماسي الأممي عن سروره قائلاً: "نلاحظ بوادر تغيير من قبل بعض المجموعات التي تقول لنا بأنه إذا حقق مؤتمر جنيف تقدمأً، فسيكون ذلك أمراً جيداً".
     استطاع الأخضر الإبراهيمي الإعلان أمام الصحافة يوم الأحد 26 كانون الثاني أنه "مسرور" من الاتفاق حول حمص. في الحقيقة، سعى الدبلوماسي الجزائري الذكي جداً إلى الضغط على محاوريه، باعتبار أن أياً من الطرفين لا يريد المخاطرة بتحميله مسؤولية الفشل. وقال أحد معاونيه: "لقد توقفوا عن توجيه الشتائم لبعضهم البعض، وهذا أفضل مما كنا نخشاه"، ولكنه ما زال حذراً عشية التطرق إلى العملية الانتقالية السياسية. كما أن دراسة المسألة الشائكة المتعلقة بالمعتقلين أدت إلى تعكير الجو. قدمت المعارضة لائحة تتضمن 47.000 معتقلاً. ولكن دمشق أجابت بأن 60 % من هؤلاء الأشخاص لم يسبق اعتقالهم إطلاقاً أو تم الإفراج عنهم.

     على الرغم من المأزق، كرر الوفدان القول: "نحن سنبقى في جنيف". هذه هي النقطة المشتركة الوحيدة بين مؤيدي ومعارضي الأسد. لا يريد أي منهم الظهور بمظهر الذي أغلق باب المفاوضات.

(دعوة خبراء قانون دوليين للمساعدة في اتفاق جنيف)

صحيفة الفيغارو 28 كانون الثاني 2014 بقلم مراسلها الخاص في جنيف جورج مالبرونو Georges Malbrunot


     أعلن أحد أعضاء المعارضة في جنيف أنه من المفترض قدوم خبراء في السياسة والقانون الدولي لكي يشرحوا للوفدين مضمون اتفاق جنيف 1 الذي تم التوصل إليه في شهر حزيران 2012 حول نقل السلطة في سورية، وذلك من أجل حسم الخلاف حول هذا الاتفاق. يعني هذا الاتفاق بالنسبة للمعارضين ولعرابيهم الغربيين رحيلاً سريعاً لبشار الأسد وجهازه الأمني المسؤول عن قمع المعارضين. بينما تختلف قراءة دمشق لهذا الاتفاق بشكل جذري، وكرر ممثلوها في المفاوضات التي بدأت الأسبوع الماضي في مونترو قائلين: "يمثل جنيف 1 اتفاقاً اجمالياً (package)، ونحن مستعدون لمناقشته، ولكن لدينا بعض التحفظات حول بعض النقاط. إن جنيف 1 ليس كتاباً مقدساً". فيما يتعلق بالمسائل الإنسانية، الأقل صعوبة في حلّها، يخشى معارضو الأسد من الفخ الذي بدأ النظام بنصبه لهم. يدعي النظام أنه يريد التوصل إلى حل ليس فقط للمحاصرين في حمص، بل أيضاً إلى جميع أولئك الذين يعيشون في ظروف صعبة جداً في جميع أنحاء سورية. قال أحد العارفين بالسلطة في دمشق: "يعرف النظام جيداً أن هؤلاء المعارضين لا يستطيعوا فرض وجهات نظرهم في كل مكان وعلى جميع المجموعات المسلحة".

الاثنين، ٢٧ كانون الثاني ٢٠١٤

(مؤيدو ومعارضو الأسد يبدؤون الحوار في جنيف)

صحيفة الليبراسيون 27 كانون الثاني 2014 بقلم جان بيير بيران Jean-Pierre Perrin

     أشار الوسيط الأممي الأخضر الإبراهيمي إلى أن مفاوضات السلام حول سورية تتقدم "بخطوات صغيرة جداً" في جنيف. بالتأكيد، لقد جلس مفاوضو النظام السوري والمعارضة وجهاً لوجه لليوم الثاني على التوالي، ولكن بدون أن يتحدثوا مع بعضهم البعض بشكل مباشر. إذاً، تجري المفاوضات عبر الأخضر الإبراهيمي.
     يسعى الطرفان إلى التفاهم حول إجراءات تهدف إلى بناء القليل من الثقة بينهما، وذلك بسبب عدم إمكانية مناقشة الموضوع الأساسي حول العملية الانتقالية السياسية. ناقش الطرفان يوم السبت 25 كانون الثاني إرسال قوافل إنسانية إلى حمص التي كانت "قلب" التمرد لفترة طويلة، وما زالت بعض أحيائها تقاوم  القوات النظامية التي تقصفها بلا رحمة منذ شهر حزيران 2012. أكد  أحد أعضاء وفد المعارضة في جنيف لؤي صافي قائلاً: "حمص هي امتحان: إذا لم يفتح النظام بعض الممرات، فهذا يعني أن النظام يريد حلاً عسكرياً وليس سياسياً".
     أشار الإبراهيمي إلى أن دمشق بادرت البارحة 26 كانون الثاني بالسماح للنساء والأطفال بمغادرة مدينة حمص "فوراً". يهدف هذا الإجراء إلى أن يُظهر للدول الغربية أن دمشق قادرة على المرونة. وكانت دمشق قد سمحت مؤخراً بدخول الطعام إلى "مخيم" اليرموك المحاصر الذي ربما مات فيه ثلاثة وستون شخصاً بسبب الجوع. نوقشت البارحة مشكلة آلاف المعتقلين والمختطفين والمختفين. كان بيان جنيف 1 الذي يرتكز عليه المؤتمر الحالي ينص على قيام النظام بالإفراج عن المعتقلين. في الوقت الحالي، يتعلق الأمر بتبادل المعتقلين.
     هل وافق النظام على بيان جنيف 1؟ من حيث المبدأ، نعم. ولكنه يختلف مع المعارضة حول تفسيره. يقول معارضو بشار الأسد أن هذا البيان يستوجب بالضرورة رحيل الدكتاتور، بينهما ترفض دمشق هذا السيناريو وتتحدث عن حكومة وحدة وطنية. تؤكد المعارضة أن المفاوضات السياسية على أساس جنيف 1 ستجري اليوم وغداً. أكد لؤي صافي قائلاً: "إن سبب حضورنا ليس فتح ممر هنا أو هناك، بل الحديث عن مستقبل سورية".
     من المحتمل أن تستمر المفاوضات حتى يوم الجمعة 31 كانون الثاني، ثم سيتم استئنافها بعد توقف. لا ينوي أي طرف إغلاق باب المفاوضات، لأنه كما يقول أحد الدبلوماسيين الأوروبيين: "إن الذي يُغلق باب المفاوضات، سوف يتحمل مسؤولية الفشل". بالمقابل، لا يمكن رؤية إلى أين ستؤدي هذه المفاوضات، نظراً للعداء بين الطرفين.


(مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية يزور إيران)

صحيفة الفيغارو 27 كانون الثاني 2014

     قام مدير إدارة شمال أفريقيا والشرق الأوسط في وزارة الخارجية الفرنسية جان فرانسوا جيرو Jean-François Girault بزيارة طهران قبل فترة قصيرة من افتتاح مؤتمر جنيف حول سورية يوم الأربعاء 22 كانون الثاني. حاول المسؤول الفرنسي إقناع إيران بالمشاركة في هذا المؤتمر، ولكن دون جدوى. كانت طهران مستعدة للذهاب إلى جنيف بدون شروط مسبقة. ولكن فرنسا وبعض الدول الأخرى التي تدعم المعارضة السورية كانوا يطالبون بأن تقبل إيران بشكل مسبق بيان جنيف 1 عام 2012 الذي ينص على تشكيل حكومة انتقالية بدون بشار الأسد.


(المأساة السورية الأخرى)

صحيفة اللوموند 25 كانون الثاني 2014 بقلم كريستوف عياد Christophe Ayad

     يجري المشهد في مدينة أطمة الواقعة بأقصى شمال سورية مساء أحد أيام شهر شباط عام 2013. بعد حلول الظلام وانقطاع الكهرباء، هناك رجلان يتبادلان الصور على الهاتفين الجوالين حول مدفأة في ظلام دامس. إنهما يتهامسان ويقطع أحدهما حديث الآخر لكي يسأل عن معنى إحدى الكلمات الانكليزية أو كيفية كتابتها. إنهم متمردون حسب الظروف، وينتمون إلى إحدى المجموعات المسلحة، ولكنهم يقاتلون عندما يستطيعون وعندما يكون لهم مصلحة في ذلك.  تخلصت أطمة من سيطرة النظام منذ وقت طويل، وتجري فيها عمليات تهريب الأسلحة والبنزين والمساعدة الإنسانية وكل ما يمكن بيعه وشراءه في بلد بحالة حرب. ولكن في هذا المساء الشتائي، لم يكن الأمر يتعلق بكل ذلك. استطاع الزائر الأجنبي أخيراً مشاهدة الصور الغامضة المرسلة عن طريق البلوتوث (Bluetooth) بعد تدخين العديد من السجائر وتبادل كلمات الترحيب الودية: إنها صور تمثالين صغيرين من الفخار يبلغ ارتفاعهما حوالي عشرة سنتيمترات بالإضافة إلى قطعة نقدية كبيرة يتآكلها الصدأ. يبحث أحمد وعبد الله عن مشتري: يقوم عبد الله بـ "التنقيب"، ويبحث أحمد عن الزبائن. يتنقل أحمد باستمرار بين تركيا وأطمة. ما هو مصدر هذه الآثار الفنية؟ كم يبلغ ثمنها؟ من يشتريها؟ لا يريدان قول المزيد.
     يعطي هذا المشهد في قلب الليل السوري لمحة مختصرة لأحد الأوجه المخفية للحرب الأهلية والتدمير والنهب على نطاق واسع للتراث السوري. هل يجب الاهتمام بالأحجار في حين يموت العشرات يومياً، وتسبب القمع بمقتل ما بين مئة ألف ومئة وخمسين ألف شخص على الأقل خلال ثلاث سنوات؟ نعم، لأن سورية ليست فقط على وشك إفراغها من سكانها الذين يختارون الهجرة أكثر فأكثر، بل يجري أيضاً نهب هوية هذا البلد الذي يعتبر إحدى أقدم الدول في العالم وأكثرها غنى من حيث عدد وتنوع آثاره التاريخية. قالت عالمة الآثار صوفي كلوزان Sophie Clusan التي تعمل في قسم الحفاظ على التراث في متحف اللوفر: "إن الأمر يتعلق بروح سورية".
ـ تحتوي سورية سبعة مواقع مصنفة ضمن التراث العالمي لليونيسكو على الأقل: المدن القديمة في دمشق وحلب وبصرى وتدمر، و"المدن الميتة" في الشمال، وقلعة الحصن وقلعة حمص وقلعة صلاح الدين. لم ينج أي موقع منها من القصف والمعارك والنهب، وحتى مركز دمشق الذي بقي بمنأى عن المعارك نسبياً أصابته بعض القذائف. إذاً، ماذا نقول عن قلعة الحصن، هذه المعجزة المعمارية من العهد  الصليبي، التي تتعرض لقصف منتظم بالمدافع والطائرات المروحية وحتى طائرات الميغ التي تحاول إبعاد المتمردين بدون جدوى؟ فيما يتعلق بحلب التي تضم أجمل أسواق الشرق الأوسط، خسر الجامع الأموي فيها مئذنته، وتعرضت العديد من الخانات للأضرار، ودمرت الحرائق 1200 متجراً في السوق القديم.
     إنها الملاحظة نفسها في كل مكان: هناك كارثة مذهلة حالياً شبيهة بالكارثة التي شهدها التراث العراقي خلال سنوات الحظر بين عامي 1991 و2003، ثم خلال الغزو الأمريكي والفوضى التي أعقبته. قام عالم الآثار السوري الشاب شيخموس علي بتأسيس جميعة لحماية الآثار السورية، ويعتبر أنه هناك ثلاثة أخطار رئيسية على التراث السوري: الأول هو "احتلال الأماكن الإستراتيجية ـ من قبل الجيش ـ المطلة على المدن القديمة ومراكز المدن"، هذا هو حال قلعة حلب وقلعة حمص وقلعة تدمر، هذا هو الوضع أيضاً في بعض المواقع الأثرية والمتاحف مثل الجامع الأموي في حلب الذي انسحب منه الجيش وقام بقصفه، ومتحف معرة النعمان ومتحف الفنون والتقاليد الشعبية في حمص. ثانياً، هناك "قصف الأحياء التاريخية" والمواقع الأثرية بعد المعارك: مثل حمص وحلب والعديد من المدن الأخرى. أخيراً، الأخطار الناجمة عن "نقص الإجراءات الأمنية في المتاحف والمواقع الأثرية" التي تعرضت لنهب مكثف في بعض الأحيان.
     يقوم شيخموس علي بإحصاء جميع الانتهاكات ضد الثراث بواسطة الوسائل المتاحه له ولبعض أصدقائه، وينشر ذلك على موقع إلكتروني. يقيم شيخموس علي حالياً في ستراسبورغ، ولديه شبكة واسعة من الأشخاص الذين ينقلون له المعلومات من سورية. قال شيخموس علي: "أنا أتمتع بحرية الحديث وإدانة ما يحصل بعكس الإدارة العامة للآثار القديمة والمتاحف"، وينتقدها بسبب محاباتها للسلطة وعدم طرحها للمشكلة الناجمة عن ممارسات الجيش عندما قام على سبيل المثال بقصف الأنقاض التي يستخدمها القناصون المتمردون في مدينة نوى بالقرب من درعا، أو قيامه بحفر خندق في موقع تدمر لكي يتمكن من التنقل بأمان. ودائماً في تدمر التي تمثل أروع المواقع اليونانية ـ الرومانية في العالم، تمركزت وحدة من قناصي النخبة على سطح المتحف من أجل استهداف المدينة بشكل أفضل. كما تم وضع منصة لإطلاق القذائف بجانب أبراج المقابر، وربما أدى إطلاق المدافع إلى تدمير عمودين مشهورين في معبد بعل. من جهة أخرى، قام الجنود باختراق كوة الرمي في متحف حمص. كما تعرضت قلعة معرة النعمان للقصف انطلاقاً من المتحف. الأمثلة لا تحصى، وقال شيخموس علي متأسفاً: "يقع على عاتق الدولة السورية حماية المواقع الواقعة تحت مسؤوليتها، ولا تتجرأ الإدارة العامة للآثار القديمة والمتاحف على تذكيرها بذلك".
     تحاول هذه المؤسسة المعروفة بجديتها البقاء قدر الإمكان بمعزل عن السياسة في بلد ممزق إلى نصفين وتحت سلطة نظام لا يتسامح مع أي انتقاد. هناك عقبة أخرى، لم تعد الإدارة العامة للآثار القديمة والمتاحف تتمتع بأية سلطة على نصف الأراضي السورية التي انتقلت السيطرة عليها إلى بعض الفصائل المتمردة التي لا تعترف بأية قيادة مركزية. يحاول شيخموس علي جمع أكبر قدر من المعلومات عن طريق سكايب واليوتوب، وبهذه الطريقة عرف مؤخراً أن بعض الرجال المسلحين قاموا بنهب ثلاثة صناديق تحوي 150 قطعة من متحف الرقة، واعتدوا على ثلاثة صناديق أخرى.
     في المنطقة المتمردة التي تسود فيها الفوضى، قام بعض المخربين بسرقة وتدمير متحف دورا أوروبوس بالقرب من ماري الواقعة شرق سورية. كما تمت سرقة حوالي ثلاثين قطعة أثرية صغيرة من السيراميك في متحف معرة النعمان. ولكن الوجود الحكومي لا يضمن المزيد من الأمن: تمت سرقة تمثال من البرونز المدهون بالذهب لأحد الآلهة الأراميين من متحف حماة دون وجود آثار كسر، وذلك خلال الأشهر الأولى للتمرد في نهاية ربيع عام 2011. كما حصلت عمليات تنقيب عشوائية تحت أنظار الجيش، الأمر الذي حول موقع أفاميا شمال حماة إلى شبكة من الثقوب. ربما اختفت حوالي ثلاثين قطعة موزاييك. قالت مديرة برنامج المجلس الدولي للمتاحف (ICOM) فرانس ديماريه France Desmarais، وهي منظمة غير حكومية موجودة في باريس: "يُظهر تحليل صور الأقمار الصناعية وجود 14600 حفرة بتاريخ 28 تشرين الثاني 2013، وهذا يعادل أكثر من 50 % من مساحة موقع أفاميا".
     يعتبر عالم الآثار الإسباني رودريغو مارتان غالان Rodrigo Martin Galan، الذي يعرف سورية بشكل جيد وذهب إليها بشكل منتظم بين عامي 1996 و2010، أن ما يحصل في سورية هو كارثة علمية حقيقية، وقال: "إن أي مقتنى أثري خارج سياقه يفقد 70 % من قيمته العلمية، وأن الأضرار التي لحقت بالطبقة الجيولوجية لا يمكن إصلاحها، إنها الصفحات التي يستخدمها عالم الآثار لقراءة الماضي". تكشف صور الأقمار الصناعية عن وجود رافعات تبعث على الشك بعمل عصابات السرقة المنظمة، وقال رودريغو مارتان غالان متنهداً: "على أي حال، يكفي القيام بالحفر للعثور على شيء ما. ولكنني سأكون آخر من يلوم السكان المحليين الذين يموتون من الجوع".
ـ لم يكن الوضع قبل الثورة رائعاً بشكل دائم. أكد شيخموس علي قائلاً: "لم تبدأ عمليات التنقيب العشوائية مع الثورة. تعمل عصابات التهريب دوماً بالاتفاق أو حتى بدعم أجهزة الاستخبارات". كان رفعت الأسد مشهوراً بتصدير القطع الأثرية عبر الحاويات من ميناء اللاذقية. تفتقد الإدارة العامة للآثار القديمة والمتاحف للإمكانيات، ولا يوجد في منطقة الحسكة التي تضم حوالي خمسة آلاف تل أثري (هضاب تشكلت عبر تراكم الأنقاض)، إلا حارس واحد من أجل خمسين موقع، وذلك حتى قبل الثورة. أما اليوم....
     يهدف برنامج المجلس الدولي للمتاحف (ICOM) إلى مكافحة تهريب المقتنيات الثقافية، ونشر "لائحة حمراء" سورية بتاريخ 25 أيلول عام 2013. قالت مديرة البرنامج فرانس دوماريه: "تضم هذه اللائحة تصنيفاً لحوالي أربعين مادة أثرية، ونعرف أن هذه المواد مطلوبة في سوق الفن غير الشرعي. تم إرسال هذه القائمة التحذيرية إلى الجمارك وإدارات الآثار القديمة وتجار الفن في جميع الدول التي يُحتمل وصول هذه المواد المسروقة إليها". يقع على عاتق هذه الجهات إظهار حذرها الآن. في الوقت الحالي، ما زال التهريب محدوداً بالدول المجاورة، ولاسيما في لبنان وتركيا حيث حصلت فيهما عدة عمليات لاستعادة هذه الآثار. في أوروبا، تم إحصاء حالة واحدة لتهريب الآثار في مدينة تورينو الإيطالية تتعلق بتمثال صدري من تدمر. فيما يتعلق بفرنسا، تعتبر فرانس دوماريه أن الآثار السورية ستبدأ بالظهور في السوق الدولي بعد عامين أو ثلاثة، وقالت: "تم العثور على ثلاث عشرة مادة أثرية عراقية عام 2013. فيما يتعلق بسورية، إن ما يصل إلى فرنسا حالياً هي أثار مزيفة بأغلبها".
     تواجه مسألة التراث السوري المشاكل نفسها التي تواجهها تسوية النزاع السوري، ولكن على نطاق أضيق وفي مجال مختلف. من جهة أولى، هناك النظام الذي يحاول الاستفادة من مسألة التراث للظهور بمظهر الضامن الوحيد للنظام والاستقرار. من جهة أخرى، هناك المعارضين المنقسمين. وبينهما، هناك بعض المنظمات الدولية المشلولة بسبب القواعد والأنظمة الأممية. كما انقسمت شبكة شيخموس علي وجمعيته لحماية التراث السوري التي تعتمد على المتطوعين، ولاسيما المواطنين ـ الصحفيين، إلى نصفين بسبب مسائل متعلقة بمكان وجودها وبالأشخاص: يقود الفرع الآخر الناشط علي عثمان الموجود على الفيسبوك تحت اسم التراث الأثري السوري في خطر.
     بالنسبة لليونيسكو المكلفة بحماية المواقع المسجلة ضمن التراث العالمي، فقد تأخرت قبل مواجهة خطورة الوضع. لقد انتظرت حتى تاريخ 20 حزيران 2013 من أجل إدراج المواقع السورية المسجلة ضمن التراث العالمي على لائحة التراث العالمي المهدد. انتقد العديد من علماء الآثار حيادية المنظمة الدولية وعدم قيامها بإدانة القصف المكثف للنظام واستخدام الجيش لبعض المواقع الأثرية كمواقع لإطلاق النيران أو كثكنات. بررت مسؤولة قسم الدول العربية في مركز التراث باليونيسكو ندى الحسن ذلك بقولها: "نحن خاضعون لمتطلبات منظمة دولية. نحن لسنا هنا من أجل إدانة هذا الطرف أو ذاك. إنه ليس دور المنظمة". ولكنها حرصت على التأكيد أن اليونيسكو حققت تقدماً منذ المؤتمر الذي دعت إليه المديرة العامة إيرينا بوكوفا بتاريخ 29 آب 2013 بحضور المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي، وقالت: "نحن نعمل على إقامة مرصد للتراث السوري لكي يقوم بتنسيق جميع المعلومات وإحصائها في قاعدة للمعلومات حسب المعايير العلمية الدولية المعترف بها. نحن نرحب بجميع الإمكانيات: الجمعيات والجامعات وعلماء الآثار والمتاحف... الخ". من جهة أخرى، تستعد اليونيسكو لإطلاق عدة حملات لإثارة الاهتمام التلفزيوني على الصعيدين الإقليمي والمحلي. وأضافت ندى الحسن قائلة: "سنتدخل أيضاً في مخيمات اللاجئين. كما ننوي تقديم مساعدة فنية عاجلة إلى أولئك الذين يعملون من أجل حماية التراث السوري مهما كانت هويتهم وأينما كانوا".
     تمثل سورية أيضاً مسرحاً لبعض المبادرات الفردية الرائعة، ولكن لا يجري الحديث عنها كثيراً. أشار شيخموس علي إلى أن إحدى كتائب الجيش السوري الحر بادرت إلى حماية موقع ماري على نهر الفرات. وفي حلب، قام المجلس الثوري بتأسيس قسم للآثار القديمة، ويعمل على قدم وساق من أجل حماية الآثار المهددة مثل مخطوطات الجامع الأموي، وبناء حائط لحماية بعض الآثار أو الأبنية الأكثر هشاشة وتعرضاً للخطر، أو من أجل إطفاء الحرائق. كما قام سكان مدينة مسكنة بالقرب من بحيرة الأسد بحماية مكتشفات بعثة التنقيب الألمانية التي لم تستطع العودة منذ خريف عام 2010.

     كتبت مديرة اليونيسكو إلى الأخضر الإبراهيمي عشية مؤتمر جنيف 2 لكي تطلب منه التأكيد على الأطراف المشاركة حول أهمية حماية التراث. لقد بدأ علماء الآثار بالتفكير بمرحلة ما بعد الحرب، حتى ولو كان ذلك خارجاً عن سيطرتهم في الوقت الحالي. حذرت صوفي كلوزان التي تعمل في متحف اللوفر قائلة: "يجب على المجتمع العلمي أن يكون مستعداً، لأن أصحاب المصالح الخاصة يعرفون ماذا يريدون بالضبط". بالإضافة إلى كل ذلك، إنها تخشى من عملية لإعادة البناء شبيهة بما حصل في لبنان بشكل تتحول فيه حلب إلى بيروت ثانية: قام رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري بإعادة تصميم مركز مدينة بيروت اعتباراً من بداية سنوات التسعينيات لكي يجعل منها مركزاً تجارياً ضخماً للسواح القادمين من الخليج.

(هولاند في أنقرة، زيارة في أسوأ الأوقات)

صحيفة الليبراسيون 27 كانون الثاني 2014 بقلم مارك سيمو Marc Semo

     إنها أول زيارة دولة لرئيس فرنسي إلى تركيا منذ الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران إلى تركيا قبل 22 عاماً، ويبدو أن هذه الزيارة ستكون صعبة. يعتبر العديد من المثقفين والديموقراطيين الأتراك أن هذه الزيارة التي تبدأ اليوم 27 كانون الثاني وستستمر لمدة يومين "لا تأت في الوقت المناسب".
     تراجعت مصداقية رئيس الوزراء الإسلامي المحافظ رجب طيب أردوغان منذ قمع المتظاهرين خلال الربيع الماضي، كما تراجعت مصداقية "النموذج التركي" الذي يجمع بين الإسلام والديموقراطية والنمو الاقتصادي. لم يقم أي رئيس دولة أو حكومة لإحدى الدول الكبيرة في الاتحاد الأوروبي بزيارة تركيا منذ شهر حزيران الماضي. تفاقم الوضع منذ ذلك الوقت.
     يرافق فرانسوا هولاند في هذه الزيارة سبعة وزراء والعديد من رجال الأعمال. يصل الرئيس الفرنسي إلى بلد غارق في أزمة سياسية خطيرة. قال أحد النواب السابقين في حزب العدالة والتنمية الذي كان أحد أعمدة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان التركي لفترة طويلة: "وصلت حكومتنا إلى وضع لا يمكنها فيه مناقشة العلاقات الثنائية بشكل فعلي أو حتى المشاكل الإقليمية".
     يشعر الأوروبيون والمعارضة التركية بالقلق من محاولات أردوغان الهادفة إلى السيطرة على القضاء وتعزيز السلطة السياسية على المجلس الأعلى للقضاة والنواب العامين. أكد قصر الإليزيه أن الرسالة التي سيوجهها الرئيس الفرنسي ستكون مشابهة للرسالة التي وجهتها بروكسل من أجل تذكير أنقرة بـ "أهمية دولة القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء والحريات الأساسية".
     بموجب الأعراف البروتوكولية، سيتحاور الرئيس الفرنسي في أنقرة بشكل أساسي مع نظيره التركي عبد الله غول الذي يظهر أكثر فأكثر كبديل حتى داخل حزب العدالة والتنمية، وذلك بفضل مواقفه المعتدلة ونداءاته المتكررة لاحترام مبادىء دولة القانون. لن يلتقي فرانسوا هولاند مع رئيس الحكومة والرجل القوي في تركيا إلا بشكل مختصر جداً، ثم سيذهب إلى استانبول للاجتماع برجال الأعمال الأتراك.

     أدت الأزمة السياسية في تركيا إلى هبوط سعر العملة التركية مقابل اليورو والدولار، ولكن تركيا ما زالت اقتصاداً واعداً. ما زالت حصة الشركات الفرنسية في السوق التركي ضعيفة، وتراجعت من 6 % إلى 3 % بين عامي 2009 و2012.