الصفحات

الجمعة، ١٣ شباط ٢٠١٥

(موت مسيحيي الشرق يعني الانتحار الأخلاقي للغرب)

يعرف الجميع التعاطف الغربي مع مسيحيي الشرق منذ عدة قرون على الرغم من أن هذا التعاطف لم يقدم خدمة كبيرة للمسيحيين ولم يمنع رحيلهم البطيء من العالم العربي بعد حقبة الاستقلال حتى بداية تهجيرهم من العراق بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وحتى تسارع رحيل بعضهم من سورية منذ عام 2011. ولكن فيما يتعلق بالنظرة الغربية إلى الإسلام، بدأت آثار الانقسام السني ـ الشيعي في العالم العربي ـ الإسلامي تصل إلى الأوساط الثقافية والصحفية الفرنسية إلى درجة يمكن الحديث فيها عن مثقفين يؤيدون الشيعة مثل ريجيس دوبري وجان فرانسوا كولوسيمو وأخرين يؤيدون السنة مثل الطاهر بن جلون، أو عن صحف تؤيد السنة مثل اللوموند (كريستوف عياد) وأخرى تؤيد الشيعة مثل الفيغارو (رونو جيرار). يُلاحظ المؤيدون أن الإسلام الشيعي أكثر انفتاحاً وتقبلا للحوار، أما المؤيدون للإسلام السني فيعتبرون أن أصل مصائب الشرق الأوسط بدأ مع انتصار الثورة الإيرانية وما قاله آية الله الخميني بأن الإسلام إما أن يكون سياسياً أو لا يكون. تتطرق هذه المقابلة إلى دور المسيحيين في العالم العربي والرهان الشيعي ـ السني داخل العالم العربي ومواضيع أخرى.

مجلة الفيغارو ماغازين الأسبوعية 26 كانون الأول 2014 ـ مقابلة مع الكاتب المختص بالمسيحية جان فرانسوا كولوسيمو Jean-François Colosimo ـ أجرى المقابلة باتريس ميريتانس Patrice De Méritens ـ أصدر الكاتب جان فرانسوا كولوسيمو مؤخراً كتاباً بعنوان: (رجال فائضون عن الحاجة ـ لعنة مسيحيي الشرق) عن دار نشر Fayard


سؤال: ما الذي تسبب بتسريع مأساة مسيحيي الشرق؟
جان فرانسوا كولوسيمو: عاش مسيحو الشرق منذ القرن السابع تحت سلطة الإسلام، وخضعوا لوضع "الذمي" الذي يجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية. ولكن المسيحيين استطاعوا البقاء والاستمرار بفضل هذا التمييز العنصري الديني المشروط بضريبة خاصة، ولم يكن هناك أية مصلحة للخلفاء الإسلاميين اللاحقين بإبادتهم أو باعتناقهم للإسلام. إن سمعة التسامح المنسوبة للإمبراطورية العثمانية ناجمة عن هذه البراغماتية. لم تبدأ المأساة إلا مع بداية القرن العشرين وظهور حركة الجنسيات، عندما حاول المسيحيون استعادة سيادتهم الإقليمية والسياسية التي حُرموا منها منذ عدة قرون. ستُشجعهم القوى العظمى الأوروبية على ذلك، ثم ستتخلى عنهم: تخلى الروس عن الأرمن، ونجم عن ذلك إبادة الأرمن عام 1915؛ تخلى الفرنسيون والبريطانيون عن اليونانيين عام 1923، ونجم عن ذلك التطهير العرقي الذي صادقت عليه عصبة الأمم باعتبار أن مليون ونصف يوناني من آسيا الصغرى تم تهجيرهم إلى اليونان مقابل نصف مليون تركي عثماني في تركيا الجديدة لمصطفى كمال. فيما يتعلق بالآشوريين الذين نسيتهم لندن، تعرضوا للمذابح عام 1932 من قبل العائلة الهاشمية الحاكمة في العراق آنذاك.
     سيتشبث المسيحيون على الرغم من ذلك بإرادتهم في ضمان مستقبل أكثر حرية بعد الحرب العالمية الثانية. في المشرق، أصبحوا الناشطين الرئيسيين في الحركة المنادية بالعروبة Panarabe عبر تشجيعهم لإقامة فضاء علماني كبير عابر للقوميات وديموقراطي وعصري واشتراكي، ولم يعد العامل الطائفي موجوداً. وهكذا قام رجل مسيحي هو ميشيل عفلق بتأسيس حزب البعث الذي حكم سورية والعراق لاحقاً. كما ستعرف القضية الفلسطينية أسسها النظرية عبر إدوارد سعيد، وراديكاليتها عبر جورج حبش. في الحقيقة، إن المسيحيين مجبرون على المزاودة الناشطة مع ظهور المواجهة بين الشرق والغرب، ووجدوا أنفسهم في وضع الأقلية من جديد. حصلت القطيعة الحقيقية مع حرب لبنان بين عامي 1975 و1990: انطلق المارونيون في مغامرة التحالف مع الغرب، وتعرضت الحركة المنادية بالعروبة للإدانة بشكل تلقائي من الحركة المنادية بالإسلام Panislamisme بصفتها حصان طروادة للعلمانية. وهكذا بدأت المأساة.
سؤال: كيف تفسرون بروز الحركة المنادية بالإسلام؟
جان فرانسوا كولوسيمو: انتصرت هذه الحركة ليس فقط لأسباب سكانية بل أيضاً لأسباب إيديولوجية. لقد فرضت نفسها عبر التعويض عن انهيار الشيوعية. انتهى أمل المسيحيين في الشرق ابتداء من عام 2003 مع الغزو الأمريكي للعراق. يريد المحافظون الجدد إيجاد "فوضى خلاقة"، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير ليس فقط عبر تصدير الديموقراطية، بل أيضاً عبر عدد كبير من التبشيريين القساوسة الإنجيليين لدرجة أن المسيحيين سيُشار إليهم سريعاً بصفتهم الطابور الخامس للغزاة. لقد كانوا وسطاء بالولادة، وأصبحوا غير مرغوب بهم، ثم أصبحوا موعودين بالرحيل أو القتل. إنهم رجال فائضون عن الحاجة، وفضلا عن ذلك، أصبحوا رهائن وكبش الفداء للحرب الأزلية بين السنة والشيعة في العراق وسورية.
سؤال: ما هي هوامش المناورة أمام الأمريكيين في الوقت القادم؟
جان فرانسوا كولوسيمو: تراجعت مصالحهم النفطية في المنطقة بسبب تزايد استقلالهم الذاتي على صعيد الطاقة، والناجم عن استثمار زيت الأردواز في الأراضي الأمريكية. إذاً، من الممكن تخيل أنهم ينوون الانسحاب تدريجياً على الرغم من تورطهم تحت ضغط الرأي العام. ولكن ذلك سيعني تفتت المنطقة بين كيانات طائفية صغيرة جداً. قامت أوروبا سابقاً بترسيم الحدود الرسمية خلال اتفاقيات سايكس ـ بيكو عام 1916، وبعد مرور قرن من الزمن، نحن أمام الموزاييك العشائري في زمن الصليبيين، وتظهر الإمارات المرتجلة مرة أخرى في ظل الدول ـ القومية. تكمن مشكلة المسيحيين في أنه ليست لديهم أية إمكانية لكي يقوموا بأنفسهم بتشكيل كيانات إقليمية مستقلة ذاتياً. في الوقت الحالي، هناك أمران ضروريان بالنسبة للولايات المتحدة: الأول هو أمن إسرائيل في هذه الفترة الانتقالية على صعيد الطاقة، والثاني هو استقرار السعودية. تمثل السعودية البلد السني الرئيسي في طليعة الإسلاموية الراديكالية، ولكن يجب دعمها ضد إيران الشيعية بشكل خاص. إنه تناقض صعب لم تتمكن واشنطن من الخروج منه. كما هو الحال بالنسبة للكاتب البريطاني المشهور في بداية القرن العشرين جيلبيرت كيث شيسترتون Gilbert Keith Chesterton الذي كان يعتبر بريطانيا أول قوة إسلامية عظمى في بداية القرن العشرين، من الممكن قول الشيء نفسه عن الولايات المتحدة اليوم. لم تتأثر الولايات المتحدة كثيراً بالإسلام على أرضها بسبب سياسة الحصص (الكوتا) المتبعة، ولكنها تجد نفسها اليوم حليفة للقوى السنية الأكثر تخلفاً من أجل السيطرة على طرق الطاقة والتجارة. إذا كانت السياسة الأمريكية مُعتبرة بعدوانية كسياسة غربية في المنطقة، فإنها ليست حامية بالضرورة لكل هذا الجمود وهذه التناقضات في العالم العربي ـ الإسلامي.
سؤال: ماذا كان رهان المسيحيين بين الشيعة والسنة؟
جان فرانسوا كولوسيمو: لننظر إلى القوى الموجودة على الأرض: يحظى التحالف الدولي في العراق بدعم السعودية والإمارات وتركيا، وجميع هذه الدول تُمول أو تسهل عمل الإسلاموية السنية؛ في حين أنه على صعيد العمل الدبلوماسي، كانت فرنسا في طليعة السياسة القائمة على عزل إيران، وهو موقف لا يتحلى بالمسؤولية على المدى الطويل الأجل إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الإسلام الشيعي الفارسي والعربي حقق حلماً كان بعيد المنال بفضل تدخل الولايات المتحدة، وتمكن من بناء هلاله من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي. يُسيطر حزب الله على لبنان، ويحكم العلويون سورية، والشيعة هم أغلبية في العراق والبحرين واليمن وبالتأكيد في إيران. يمثل الإسلام الشيعي أفضل عامل في تطور العالم الإسلامي، وذلك مهما كانت الشكوك حول الغموض الحالي في العلاقة بين الإسلام الشيعي والسياسة الإيرانية. يقبل الإسلام الشيعي إعادة فتح التاريخ بعكس الإسلام السني. هناك انتظار للإمام المختفي. يمكن تفسير القانون بشكل مجازي. تحظى زوجة الرسول بالتبجيل، وتقوم النساء بدور في المجتمع، وهذا أمر ممنوع عليهن كلياً لدى السنة. إنه إسلام الصورة، ويشهد على ذلك المنمنمات الفارسية والسينما الإيرانية، إنه إسلام الثقافة التي تقبل التاريخانية (كون الشيء تاريخياً وواقعاً)، ويمكن أن يكون عاملاً للمصالحة مع الحداثة. على صعيد التحالف، إذا كان مسيحيو لبنان منقسمين بين تيارين، فإن السلطة الدينية المسيحية في سورية اختارت دعم نظام بشار الأسد لكي تتجنب وقوعها، لكي لا نقول قتلها، تحت نظام إسلامي يفرض الشريعة الإسلامية. فيما يتعلق بالماريشال السيسي، إنه يندرج في سياق التقاليد المصرية للإسلام الصوفي  الذي يقبل اللقاء مع الآخر والتاريخ، وهي ضمانات للبقاء على قيد الحياة بالنسبة للأقباط. الخلاصة: تتموضع القوى الحية في العالم المسيحي المشرقي على النقيض من التحالف السياسي ـ العسكري الغربي...
سؤال: كيف تُعرّفون الضمير الغربي في مواجهة المأساة الجارية حالياً؟
جان فرانسوا كولوسيمو: إنه ضمير لا يُدرك الرهانات في أغلب الأحيان، وذلك بسبب الجهل بالمسيحية التي تمثل ديناً شرقياً أولاً: إن مسيحيي آسيا الصغرى ليسوا بعض الإخوة الصغار الضائعين، بل آباؤنا في تدرج الإيمان والحضارة. النقطة الثانية هي إنكار تاريخنا الخاص: وبذلك حذفنا بيريكليس Périclès (رجل دولة في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد) من مقدمة الدستور الأوروبي بحجة أن أثينا كانت مهد النفي والإبعاد. إن إنكار أوروبا بصفتها كحلم طوباوي للمستقبل يدل على وجود انزعاج أكيد من الارتباك بالمسيحيين على الرغم من أنهم مؤسسو سلالتنا. النقطة الثالثة هي ملاحظة أخطاءنا التاريخية الأخيرة: في كل مرة تقوم فيها الحكومات الغربية بتحريض المسيحيين على التحرك، ينقلب ذلك ضدهم مع ما ينجم عن ذلك بخصوص التخلي الممنهج عنهم. أخيراً، هناك تخل فرنسا التي أرادت حماية المسيحيين منذ الملك سان لوي حتى الجمهورية الثالثة (التي انتهت حقبتها الزمنية باحتلال النازيين لفرنسا). لقد تخلينا عن كل شيء منذ اغتيال سفيرنا لوي دولامار Louis Delamarre عام 1981 وقضايا رهائننا في لبنان، وذلك بخلاف روسيا التي بقيت مدركة لمصالحها. علاوة على ذلك، لقد ارتكبنا خطأ مزدوجاً: الأول هو إبعاد إيران بناء على طلب السعودية، وذلك على الرغم من أن الإيرانيين هم الوحيدون القادرون في هذه المنطقة على قتال داعش بفعالية على الأرض بالنظر للتأثير المحدود للقصف. الخطأ الثاني هو إبعاد روسيا بسبب القضية الأوكرانية. ما زال عدد من المسيحيين الأورثوذوكس في الشرق يعتمدون على روسيا بسبب قربهم الطبيعي منها. فيما يتعلق بالكاثوليكيين الذين اعتادوا المجيء إلى باريس، أصبحوا يفضلون ركوب الطائرة إلى موسكو. من الممكن، على الأقل، الأمل بأن تتوقف باريس عن الإرادة بإبعاد موسكو عن المسألة الجديدة في الشرق لكي لا تخون قضية المسيحيين بشكل أعمى.
سؤال: في هذا السياق القائم على التخلي، ما الذي يمكن انتظاره من فرنسا حتى الآن؟
جان فرانسوا كولوسيمو: ما زالت فرنسا تتميز بتعبئة المسيحيين الكاثوليك بشكل خاص، ولكن من المؤسف أن حكومتها لا تنوي القيام بأعمال أخرى غير الأعمال الخيرية. إن منح تأشيرات الدخول إلى مسيحيي العراق الآشوريين والكلدانيين لكي يكتشفوا أنه من الممكن البقاء مادياً في فرنسا دون ضمان بقاءهم الروحي فيها، لا يُشكل سياسة. كانت عبقرية فرنسا تتمثل في معرفتها الوثيقة بالعالم العربي ـ الإسلامي مع مقاربة تاريخية وسياسية وثقافية للشأن الديني، ثم اختفت فرنسا حامية مسيحيي الشرق. فرنسا هي المعقل الأخير للمحافظين الجدد في العالم، وانطوت على نفسها، والتزمت سياستها بالسياسة الأمريكية بشكل يتصف بقصر مذهل للنظر. يشبه الوضع مع فرانسوا هولاند كما لو أن شبح غي موليه Guy Mollet (رئيس مجلس الوزراء الفرنسي من شباط 1956 حتى حزيران 1957) حل مكان شارل ديغول في قصر الإليزيه.
سؤال: هل تطرح علمانيتنا بعض الممنوعات على الصعيد السياسي؟
جان فرانسوا كولوسيمو: إن العمل الإنساني مُشتق من العمق المسيحي، ولكن مع توجه إيديولوجي يميل إلى اعتبار أن الاهتمام بالمسيحيين سيكون تصرفاً مبالغاً بالطائفية، كما لو أنهم ضحايا أقل من الآخرين... ينظر إليهم الاتحاد الأوروبي الذي يرفض بعناد منذ عدة سنوات الحديث عن مسيحيي الشرق، ولا يتحدث إلا عن مصير الأقليات بشكل عام. مرة أخرى، كما لو أن الموقف الديني يُلوث الكلام، وكما لو أنه يجب أن يتوافق الموقف الإنساني مع موقف عمومي مجرد. يدفع مسيحيو الشرق هنا ثمن موقفهم كوسيط بين الشرق والغرب، وهي كارثة أخلاقية بالمحصلة: تعتبرهم الإسلاموية كمتعاونين مع العدو، في حين أننا لسنا بعيدين عن النظر إليهم كجزء تكميلي. عندما تُقرع طبول الحروب، من المعروف ماذا سيحصل بهم: يتم التخلي عنهم. إذاً، من الصواب أن يلتقي قداسة البابا فرانسيس مع البطريرك بارتولومي، ويعلنان أثناء لقائهما في استانبول الكلمات التالية: "لا يمكننا القبول بنهاية المسيحية في المكان الذي ولدت فيه". بالنتيجة، لا بد من تدخل دولي عسكري حقيقي ضمن نطاق قانون الحرب العادلة. إن قيام هذين الرجلين من دعاة السلام بالحديث عن هذا الوضع العاجل هو أمر ذو دلالة: يجب على الحكومات الاعتراف بوجود مسيحيي الشرق، وأنهم ليسوا عاملاً متغيراً حسب الظروف.
سؤال: لماذا ستُدخلنا مجزرة مسيحيي الشرق في شكل من أشكال ما بعد التاريخ؟
جان فرانسوا كولوسيمو: إذا استسلم الغرب أمام هذا الأمر، فسوف يكون ذلك منعطفاً في تاريخ الإنسانية ليس فقط لأنهم صلة أساسية مع الحضارات السابقة للكتابة في بلاد ما بين النهرين أو مصر (إنهم يحملون الثقافة في شعائرهم الدينية)، وليس فقط لأنهم الحلقة التي لا غنى عنها بين أوروبا وآسيا، بل أيضاً لأن حياتهم بأكملها متعلقة بالتدين، أي الشعائر الدينية والصلاة والتصوف والنظام الهرمي العمودي. لقد تعرضوا للاضطهاد والنبذ والترحيل والقتل، ولكنهم ما زالوا على قيد الحياة بفضل هذا البعد الرمزي. إن القبول بإبادتهم يعني القبول بأن الإنسانية الشاملة للعولمة أصبحت محرومة من جذورها. إن الموافقة على اختفائهم سيؤدي في الحقيقة إلى الإعلان عن أننا نتجه نحو عالم من الإلحاد.