الصفحات

الثلاثاء، ٢٨ نيسان ٢٠١٥

(عندما يحقق التوتر بين بروكسل وأثينا رهان موسكو)

صحيفة اللوموند 19 شباط 2015، بقلم أستاذ التاريخ في جامعة برنستون Princeton جيريمي أدلمان Jeremy Adelman والباحثة في المركز الوطني للدراسات العلمية CNRS آن لور دولات Anne-Laure Delatte

     تلاقى أخيراً أسوأ كابوسين أوروبيين. انتقد رئيس الوزراء اليوناني الجديد ألكسيس تسيبراس Alexis Tsipras في الشهر الماضي العقوبات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا بسبب ضمها غير الشرعي لشبه جزيرة القرم. عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعاوناً اقتصادياً مع تسيبراس، ودعاه إلى زيارة موسكو للاحتفال بالذكرى السبعين للانتصار على النظام النازي بشكل يربط فيه بين ذكرى الاضطهاد الألماني والأزمة الحالية في أوروبا. هناك أيضاً بعض الاشاعات حول بناء خط أنابيب لنقل الغاز عبر الحدود التركية ـ اليونانية بشكل يسمح لروسيا بتجنب أوكرانيا لبيع الغاز الروسي.
     تدهورت المفاوضات حول الديون الحكومية اليونانية بعد الانتخابات التشريعية في شهر كانون الثاني، وتبنت فرنسا وألمانيا موقفاً متشدداً حول سندات الخزينة اليونانية، والتزمت مجموعة العملة الأوروبية Eurogroupe في بروكسل بهذا الموقف يوم الاثنين 16 شباط. أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن إعادة جدولة الدين الحكومي اليوناني مرة أخرى سيؤدي إلى تأخير الإصلاحات الهيكلية، وسيخلق مخاطر أخلاقية لدى بقية أعضاء منطقة العملة الأوروبية. حان الوقت لكي نحب منطقة العملة الأوروبية أو أن نغادرها. لكن هذا الموقف يهمل الأضرار الجانبية الهامة التي يمكن أن تنجم عن خروج اليونان من منطقة العملة الأوروبية. سيوفر خروجها الفرصة أمام روسيا لكي تقدم مساعدتها إلى دولة وصلت إلى طريق مسدود، وبالتالي سيمنح موسكو وسيلة لزيادة نفوذها في أوروبا الغربية.
     تزامن النزاع الأوكراني مع أزمة العملة الأوروبية. تحتاج اليونان إلى تخفيض الديون العامة، وتستخدم هذا العامل في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لإعادة جدولة ديونها. فيما يتعلق بروسيا، إنها تسعى إلى إضعاف خصومها، وتعتبر أن إفلاس اليونان ونتائجه السلبية على بقية الدول الأوروبية بمثابة الفرصة الوحيدة لفرض نفسها. يمثل الاقتصاد الروسي ثمانية أضعاف الاقتصاد اليوناني، وبالتالي، إن موسكو قادرة على مساعدة أثينا على الرغم من انخفاض أسعار النفط.
     يُظهر تاريخ الأجنتين الحديث وأسباب الفوضى السائدة فيها حالياً ما يمكن حصوله في حال قيام موسكو بتقديم المساعدة إلى اليونان. أعلنت الأرجنتين عام 2001 أنها ستتوقف عن سداد ديونها بعد تخليها عن المساواة بين عملتها والدولار. انهارت مدخرات الأرجنتينيين، وكانت الحكومات تستمر لعدة أيام، وتفاقم الوضع لدرجة اندلاع تمرد الجوع في بلد معروف عالمياً بانتاج القمح والحبوب. منحت المشاكل الاقتصادية الأرجنتينية فرصة سياسية لخصوم الولايات المتحدة. عندما أصبحت الأرجنتين غير قادرة على الاستدانة من الأسواق المالية العالمية، جاء الزعيم الفنزويلي هوغو شافيز لنجدتها بفضل الثروة المالية الناجمة عن الارتفاع المفاجئ لأسعار النفط.
     طلب هوغو شافيز من الخزينة الفنزويلية شراء السندات الحكومية الأرجنتينية بمبلغ 4.4 مليار دولار متحدياً حكومة جورج بوش الابن، واقترح بناء خط أنابيب لنقل النفط إلى بوليفيا والباراغواي والبرازيل والأرجنتين، كما أسس "مصرف الجنوب" Banque du Sud لاستبعاد المصرف الدولي Banque Mondiale. موّل النفط الفنزويلي الحملات الانتخابية لأصدقاء شافيز. بالمقابل، أصبح الرئيس الأرجنتيني نيستور كيرشنر ثم زوجته الرئيسة كريستينا فيرنانديز كيرشنر من المؤيدين المخلصين لحملة شافيز ضد واشنطن. انضمت الإكوادور وبوليفيا إلى محور فنزويلا ـ الأرجنتين. أعلنت الأرجنتين الحداد  الوطني ثلاثة أيام عندما توفي هوغو شافيز بالسرطان في شهر آذار 2013. ما زالت علاقات واشنطن مع هذه الدول غير مستقرة حتى اليوم.
     عندما بدأ الاقتصاد الفنزويلي بالتراجع، جاءت إيران الخصم الأكثر نذيراً بالشؤم لواشنطن لكي تملئ الفراغ. تضاعفت المبادلات التجارية بين الأرجنتين وإيران ثلاثة أضعاف، ووجد القمح والذرة والوقود النووي الأرجنتيني أسواقاً جديدة له في بلاد الرافدين بشكل يستخف بالعقوبات الدولية. تحتل الأرجنتين اليوم المرتبة السابعة بين الشركاء التجاريين لإيران. سافر وزير الخارجية الأرجنتيني هيكتور تيمرمان Hector Timerman في بداية عام 2011 إلى حلب لإجراء مباحثات سرية مع نظيره الإيراني علي أكبر صالحي. كما تقوم الأرجنتين بدعم إيران في الأمم المتحدة.
     أعلنت الرئيس الأرجنتينية كريستينا كيرشنر في شهر كانون الثاني 2013 عن تشكيل لجنة مشتركة مع إيران لـ "تقصي الحقائق" بهدف التحقيق بعملية تفجير السيارة المفخخة أمام جمعية يهودية عام 1994، وأدى إلى مقتل خمسة وثمانين شخصاً وجرح ثلاثمائة آخرين. عرض النائب العام ألبيرتو نيسمان Alberto Nisman تقريراً خطيراً أمام الكونغرس الأرجنتيني قبل شهر واحد، وزعم فيه أن الحكومتين الأرجنتينية والإيرانية وقعتا اتفاقات تجارية للتعتيم على عملية التفجير عام 1994. أدى موته الغامض بتاريخ 18 كانون الثاني 2015 إلى شل الأرجنتين التي وقعت فريسة العديد من نظريات المؤامرة.
     تمثل الحالة الأرجنتينية العديد من الدروس بالنسبة للزعماء الذين يتفاوضون مع الدول التي وصلت إلى حافة الإفلاس. في هذا العالم المليء بالأصدقاء والخصوم والأعداء، إن ضعف بلد ما يمثل فرصة مواتية لبلد آخر.  الدرس الأول، تجنب هوس الخصوم بين الدائنين والمدينين، والنظر إلى الأطراف المعنية. لم تتنبأ واشنطن بأن فنزويلا ستستفيد من الارتباك الأرجنتيني، وبالطريقة نفسها، تخاطر السياسة الألمانية المتشددة بدفع أثينا إلى أحضان بوتين. من الضروري أن تكون هناك نظرة تحيط بجميع الأمور الجانبية.
     الدرس الثاني، تمثل الدول الخاضعة بعض الأخطار التي تتجاوز خطر إفلاسها. في عالمنا القائم على الاتصالات والاعتماد المتبادل، إن الحلقات الضعيفة تزعزع النظام بأسره وليس فقط العناصر الوسيطة. عندما أصبحت الأرجنتين في طريق مسدود، اندلعت موجة شعبية في تشيلي والأورغواي. إن خروج اليونان من العملة الأوروبية ربما ستنتقل عدواه إلى خارج الاتحاد الأوروبي، ويُعرقل  الدعم الدبلوماسي والمالي إلى أوكرانيا.
     الدرس الثالث، لا يجب الاكتفاء بالاعتبارات الاقتصادية فقط. إن الدول التي تواجه صعوبات مالية تمثل مخاطر سياسية. إن الديون وعمليات الانقاذ المالي تخلق بعض التحالفات، وتشجع النزاعات الإيديولوجية. أدت المشاكل المالية في الأرجنتين إلى تأجيج طموحات هوغو شافيز في تحديه للتوجه الاقتصادي الليبرالي في واشنطن. ولكن فلاديمير بوتين يمثل خطراً أكبر بكثير من هوغو شافيز. وبالتأكيد، استفادت إيران من جميع الفرص المتاحة أمامها لكي تتقدم داخل الشرق الأوسط وخارجه.

     يجب على حكومات منطقة العملة الأوروبية أن تدرك بأن الأوضاع التي لا يمكن معالجتها ينجم عنها بعض النتائج التي تتجاوز الأمور المالية المعقدة والمباشرة. يجب على هذه الحكومات التفكير بشكل شامل، وليس فقط بشكل إقليمي.

الثلاثاء، ٢١ نيسان ٢٠١٥

(رعب في ساحة الدول العظمى)

صحيفة اللوموند 13 نيسان 2015 بقلم سيلفي كوفمان Sylvie Kauffmann

      تجمع الولايات المتحدة حولها بعض الدول التي تجد مصالحها في الاحتماء تحت الجناح الأمريكي. استطاع البعض منها تنظيم نفسه في تجمعات فرعية ويشكلون وزناً مضاداً في بعض الأحيان كما هو الحال بالنسبة للاتحاد الأوروبي. إن المناخ السائد في ساحة هذه الدول العظمى جيد على الأغلب، وتحصل بعض التجاذبات فيها أحياناً، ولكنها لا تستمر لفترة طويلة أبداً. تُرحب هذه الدول العظمى ببعض الدول الأخرى أحياناً، ولكن بشرط أن تتمتع بالمستوى اللائق وأن تحترم القواعد. جاءت دولتان للاعتراض على هذه القواعد، ويسود الرعب في ساحة الدول العظمى.
      هذا ما يجري حالياً تحت أنظارنا. تعمل روسيا والصين، كل بطريقته الخاصة، على تحدي النظام الدولي للانتقال من موقع القوة الصاعدة، أو الصاعدة من جديد بالنسبة لهاتين الدولتين، إلى موقع القوة القائمة. إنهما تقومان بذلك بطريقتين مختلفتين، ولكنهما تعارضان معاً "أحادية القطب". يشعر النادي الغربي بالحيرة، ويجد صعوبة كبيرة في إدارة هذا التحدي المزدوج إلى درجة أن مسؤولاً ألمانياً رفيع المستوى أطلق على روسيا اسم "تحدي الخاسر" وعلى الصين اسم "تحدي الرابح".
      إن التحدي الروسي هو نتيجة خمسة عشرة عاماً من حكم فلاديمير بوتين بشكل أساسي على بلد خسر الحرب الباردة، وخسر الفكرة السياسية القائمة على نضوج "العالم الروسي". يعمل فلاديمير بوتين منذ انتخابه رئيساً للمرة الثالثة عام 2012 على تنفيذ استراتيجية إعادة القوة الروسية إلى فضاء لا يتوافق مع الفضاء الذي أعطاه إياه نظام ما بعد الحرب الباردة وتحرير دول أوروبا الوسطى عام 1989 وتوحيد ألمانيا وانهيار الاتحاد السوفييتي في شهر كانون الأول 1991.
      تعتبر الدول الغربية أن هذا النظام الجديد أصبح بمثابة المقبول من قبل الجميع، وذلك بعد مرور عقدين على انهيار الاتحاد السوفييتي. لكن فلاديمير بوتين صرخ قائلاً: "توقفوا، لم أعد أريد الاستمرار"، وعارض انضمام بلد إضافي هو أوكرانيا إلى المعسكر الغربي. يعتبر بوتين أن أوكرانيا تشكل جزءاً من "العالم الروسي". يُلخص الباحث المتخصص بروسيا في معهد كارنيجي في موسكو ديمتري ترينين Dmitri Trenin الوضع قائلاً: "في عام 2014، قطعت روسيا العلاقة مع نظام ما بعد الحرب الباردة". تُهدد روسيا بقيادة فلاديمير بوتين الدعامة الأوروبية للنظام الدولي، وتلجأ إلى القوة عبر تغيير الحدود وفرض وحدة أوراسية على بعض الدول المجاورة مثل روسيا البيضاء وكازاخستان اللتين توافقان طوعاً على المكاسب الاقتصادية ولكنهما تعرقلان البعد السياسي بقوة.
      تتعامل الصين مع الوضع بشكل مختلف. تتمثل استراتيجيتها أيضاً بتأكيد قوتها، ولكنها تفكر بشكل جيواقتصادي في الوقت الذي تفكر فيه روسيا بشكل جيوسياسي. في البداية، لم يكن يبدو أن الاستراتيجية الصينية تهدد النظام الدولي، بل على العكس، أعطت جميع المؤشرات على أنها تريد الانضمام إليه. ولكن إذا أرادت الصين الانضمام إليه، فلكي تطالب بجميع الاعتبارات والامتيازات التي تتلاءم مع مرتبتها التي ترتفع باستمرار على الصعيد الاقتصادي: إنه منطق لا يمكن تفاديه. كلما ازداد غنى الدولة، لكما ازدادت قوتها، وكلما أرادت الاعتراف بها بهذه الصفة.
     لا يدّعي الرئيس الصيني زي جينبينغ Xi Jinping بوجود "عالم صيني" بل بـ "حلم صيني"، إنها نسخة ناعمة لامبراطورية الوسط التي كانت تمارس نوعاً من الجذب الطبيعي داخل الفضاء الكونفوشوسي وفي آسيا بشكل عام. تكمن المشكلة في أن الصين تهدد الزعامة الاقتصادية الأمريكية بعكس روسيا التي لا يمكن مقارنة وزنها الاقتصادي بالوزن الاقتصادي الأمريكي أو الأوروبي. كما أن شعار "الحلم الصيني" يترافق مع إدارة خفية وبناء قوة عسكرية عظمى وارتفاع حرارة المواجهات في بحر الصين بشكل يُرعب بقية الدول الآسيوية. هناك حذر في ساحة الدول العظمى من وصول هذا القادم الجديد بجيوبه المليئة، إنه يأتي مبتسماً ولكن يُخفي رهانه.
     ماذا تفعل الصين؟ سئمت الصين من الرفض المستمر لإعطائها مفاتيح النادي، وقررت الاعتراض على عمله، بل وحتى افتتاح نادي آخر. لا يقتصر التهديد الصيني على عالم ما بعد الحرب الباردة، بل يشمل أيضاً النظام الاقتصادي الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقيات بروتون وودز عام 1944، والذي تُهيمن عليه الدول الغربية بشكل كبير. باعتبار أنه لا أحد يريد إعطاء الصين مكاناً يتلاءم مع وزنها في المؤسسات المالية الدولية مثل المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي أو المصرف الآسيوي للتنمية، قامت الصين بافتتاح مؤسساتها الخاصة بها، وانفتحت على بقية الدول. هذا هو ما قامت به الصين مؤخراً مع تأسيس المصرف الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية Banque asiatique d'investissement pour les infrastructures، وتريد إكماله بمصرف البريك BRIC (البرازيل، روسيا، الهند، الصين).
     ردّ النادي الغربي بشكل مختلف على هذا التحدي المزدوج الذي يطرحه نظامان يشتركان في أنهما استبداديان. ما زال النادي الغربي موحداً تجاه التحدي الروسي: تلتزم هذه الدول بموقف واحد في اللحظة الحاسمة على الرغم من وجود بعض الاختلافات المعلنة. بالمقابل، تواجه الدول الغربية التحدي الصيني بشكل مشتت. أسرع حلفاء الولايات المتحدة واحداً بعد الآخر إلى الانضمام إلى المصرف الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية الذي أسسته الصين، وذلك بخلاف الرأي الأمريكي وعلى الرغم من التحفظ على إدارة المصرف المستقبلي. انضم الأوروبيون بشكل متفرق إليه، ثم انضمت استراليا ثم اليابان وتايوان، نظراً لأن الجميع مهتم بالامكانيات الاقتصادية للتنمية الآسيوية. بقيت الولايات المتحدة بمفردها تجتر فشلها الكبير. إنها ضربة بارعة بالنسبة للصين، واكتشاف مؤلم بالنسبة للدول الغربية التي لم يعد لديها استراتيجية تجاه "الحلم الصيني" ولا تجاه "العالم الروسي".


الثلاثاء، ١٤ نيسان ٢٠١٥

(صحيفة اللوموند: "لماذا نحن مع السنة؟")


صحيفة اللوموند 3 نيسان 2015 بقلم آلان فراشون Alain Franchon
 
     طرح أحد رؤساء هيئة التحرير في صحيفة اللوموند السؤال التالي: لماذا نحن مع السنة؟ لماذا تقف الدول الغربية إلى جانب معسكر العرب السنة ضد إيران الشيعية في المعركة الإستراتيجية ـ الدينية الكبيرة  التي تعصف بالشرق الأوسط؟ إن هذا السؤال هو محور المفاوضات الجارية حول الملف النووي في لوزان. نطمئن رئيس أحد أقسام هيئة التحرير الذي طرح هذا السؤال أن خيار تحالفاتنا لا يحكمه أي تحيز ديني. إن الدول الغربية حيادية في هذا النزاع المعقد، ولم تعبر الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن موقفها تجاه الخلاف الذي يعيشه الإسلام: أي قضية خلافة النبي محمد. إن خيارهم لا تحكمه فقط حقيقة ان السنة يشكلون تسعين بالمئة من المسلمين ولاسيما العرب منهم. كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية يحبون الجميع قبل الثورة الإيرانية عام 1979 لأن هذه المنطقة غنية بالموارد النفطية.
      أقامت الثورة الإيرانية نظاماً دينياً متسلطاً يمزج بين النزعة القومية والنزعة المعادية للإمبريالية والتبشير بالشيعية. بدأت الثورة الإيرانية ضد الغرب الذي كان يدعم النظام السابق، وتسعى إلى زعزعة استقرار جيرانها العرب الذين خافوا منها. هاجمها عراق صدام حسين فور ولادتها بدعم من الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وجزء كبير من العالم العربي. عززت الثورة الإيرانية نفسها خلال الحرب مع العراق (1980 ـ 1988)، وأصبحت راديكالية، وخطفت بعض الدبلوماسيين الأمريكيين في طهران، واستخدمت بعض الميليشيات لخطف بعض الفرنسيين والأمريكيين في لبنان، وطورت بعض الشبكات الإرهابية التي كانت فرنسا إحدى ضحاياها، وتدعو إلى اختفاء إسرائيل، واستهانت بالحريات العامة داخل إيران.
     استأنفت إيران العمل في البرنامج النووي في منتصف سنوات الثمانينيات بعد تعرضها للهجمات الكيميائية من قبل العراق. أحس النظام بأن موقعه تعزز عام 2003 عندما خلصه جورج بوش الابن من عدوه اللدود صدام حسين. ترتكز طهران على الشيعة في العالم العربي، وحولتهم إلى ميليشيات مسلحة في لبنان والعراق. تهيمن إيران على حليفها القديم في سورية. تستطيع إيران الاعتماد على رغبة الانتقام لدى العرب الشيعة الذي عذبهم السنة لفترة طويلة. يعيش الشرق الأوسط حالياً ساعة الانتقام الشيعي.
     هذه هي الخطوط العريضة لكون إيران "عدونا". لهذه الأسباب وطدت الولايات المتحدة تحالفاتها التقليدية في العالم العربي ولاسيما مع السعودية. لهذا الأسباب أرادت بعض الأنظمة العربية والخليجية مواجهة التوسع الإيراني الذي يستغل أحد أمراض الإسلاموية السنية الراديكالية: أي الجهادية التي تهدد اليوم بالانقلاب عليهم. كيف يمكن الخروج من هذه الفوضى الدامية؟ يعتبر باراك أوباما أن ذلك يتم عبر تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران. لماذا؟ لأنه لا يمكن اختزال إيران بنظامها، ولأنها ليست أحادية البعد كبقية الدكتاتوريات التقليدية. إنها توفر بعض المجال للحريات السياسية، ويوجد فيها تيار إصلاحي يؤيد توثيق العلاقات مع الغرب، وهذا التيار يتوافق مع جزء كبير من الرأي العام الإيراني الذي يؤيد الغرب.
     إن المقارنة بين نظامين دينيين لا يحترما الحريات العامة كثيراً ليست في مصلحة السنة. في إيران، الكنائس مفتوحة، والنساء يعملن، ووصلن إلى المناصب في الحكومة والبرلمان. تؤهل الجامعات الإيرانية نوعية عالية من الخريجين، ولاسيما المهندسين، ولن يسمح أي شيء ولا حتى العقوبات والقصف بالقضاء على المعرفة النووية فيها. في طهران، هناك مهندسين معماريين ومثقفيين وسينمائيين مشهورين عالمياً. إن إيران مجتمع مدني متنوع ومُطلع وفخور بنفسه.
     وجه باراك أوباما رسالة تلفزيونية إلى الإيرانيين بمناسبة السنة الفارسية الجديدة بتاريخ 20 آذار، وقال ما يلي: سيكون التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي فرصة تاريخية لاستئناف العلاقات الوثيقة بين البلدين. إنه يراهن بكل منطقي على اعتدال النظام الإيراني تحت صدمة الانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي. ولكن تحالفاً غريباً يضم السعوديين والمصريين والإسرائيليين والجمهوريين الأمريكيين يعتبرونه ساذجاً. يراهن باراك أوباما على أن الاتفاق حول الملف النووي سيُطلق ديناميكية التهدئة التي ستطمئن الدول العربية، وتخفف من حدة المواجهة بين السنة والشيعة. يكافح باراك أوباما ضد الجهادية السنية، ويريد استئناف العلاقة مع إيران الشيعية. ولكن هذا التحالف الغريب الذي يعارضه يعتقد على العكس أن مثل هذا الاتفاق سيحرر إيران من العقوبات المفروضة عليه، وسيعزز ميوله التوسعية. إن هذا التحالف لا يقترح شيئاً آخراً غير معركة طويلة وغير مضمونة. على الأقل، أوباما له الفضل بأنه لديه سياسة.