الصفحات

الاثنين، ٢٩ حزيران ٢٠١٥

(خطة فابيوس لا يمكنها إرضاء الفلسطينيين)

كان الهدف من المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية في الماضي أن يقدم كل طرف بعض التنازلات من أجل التوصل إلى تسوية. تريد المبادرة الفرنسية الجديدة اليوم الحصول على تنازلات فلسطينية حول القدس واللاجئين والحدود والاعتراف بيهودية دولة إسرائيل مقابل وعد فرنسي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. السؤال الذي يطرح نفسه: ما الفائدة من الاعتراف بالدولة الفلسطينية على الورق بعد تقديم هذه التنازلات؟ وربما تتحول مثل هذه التنازلات إلى معايير مستقبلية لأية مفاوضات قادمة في حال فشل المبادرة الفرنسية اليوم. بمعنى آخر، إنها مبادرة للحصول على تنازلات فلسطينية وعربية بدون حصول الفلسطينيين على أي شيء مقابل هذه التنازلات، لأن الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية سيتم في حال قبول الفلسطينيين بالمبادرة الفرنسية أولاً، ثم فشل هذه المبادرة في مجلس الأمن عند التصويت عليها ثانياً.

 (خطة فابيوس لا يمكنها إرضاء الفلسطينيين)
صحيفة الفيغارو 22 حزيران 2015 بقلم مراسلها في إسرائيل سيريل لوي Cyrille Louis

     رد بنيامين نتنياهو بجفاء على مبادرة السلام التي أطلقها لوران فابيوس، وأدان "الإملاءات الدولية" يوم الأحد 21 حزيران. كما لم يُعبّر الفلسطينيون عن حماسهم تجاه هذه المبادرة. ينوي وزير الخارجية الفرنسي طرح مشروع قرار على مجلس الأمن بحلول فصل الخريف القادم، ويمثل هذا المشروع توازناً دقيقاً بين مواقف الطرفين. يتضمن مشروع القرار عدة جوانب من الصعب أن يقبلها قادة منظمة التحرير الفلسطينية الذين امتنعوا حتى الآن عن التعبير علناً عن شكوكهم، لأنهم ينظرون بإيجابية إلى "عودة الانخراط" الفرنسي في الشرق الأوسط، ويأملون أن تعترف باريس بدولة فلسطين في حال فشل هذه المحاولة الجديدة. ولكن من المحتمل أنهم سيخرجون من غموضهم عاجلاً أم آجلاً لكي يقولوا فيما إذا كانوا موافقين على المعايير المحددة في مشروع القرار، وفيما إذا كانوا مستعدين لتحمل مسؤولية التنازلات التي يتضمنها أمام الرأي العام الفلسطيني.
     يمثل موضوع القدس إحدى المواضيع الأكثر إشكالية. يطالب الفلسطينيون بأن تكون القدس الشرقية مع المدينة القديمة و الأماكن المقدسة عاصمة لدولتهم المستقبلية. لكن الذين كتبوا نص المشروع الفرنسي يدركون جيداً بأن هذا المطلب غير مقبول لدى الجزء الأساسي من الطبقة السياسية الإسرائيلية، واختاروا صيغة غامضة بشكل متعمد. تطرق النص الفرنسي إلى ضرورة جعل القدس "العاصمة المستقبلية للدولتين" مع الحفاظ في الوقت نفسه على وضعها كمركز روحي مفتوح أمام "شعوب العالم". قال أحد المسؤولين الفلسطينيين: "يطرح هذا الغموض إشكالية كبيرة. سيغتنم الإسرائيليون هذا الغموض بالتأكيد لكي يقترحوا علينا سيادة محدودة، وسيتهموننا بإفشال العملية إذا رفضنا هذا العرض...".
     لم يرض المفاوضون الفلسطينيون أيضاً عن المقاربة "الوسطية" المتعلقة بمسألة اللاجئين. امتنع كاتبوا النص الفرنسي عن الإشارة إلى أية إشارة واضحة للقرار رقم 194 الذي أقر حق عودة مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين المهجرين خلال حرب عام 1948، وعودة أحفادهم أيضاً. دعا النص الفرنسي إلى تبني "حل عادل ومتوازن وواقعي" يعتمد على "آلية لإعادة التوطين، والإقامة في مكان آخر، أو التعويض". تهدف هذه الصيغة بوضوح إلى طمأنة الإسرائيليين الذين يعتبرون أن عودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين سيؤدي إلى إنهاء الدولة العبرية. أعرب المسؤول الفلسطيني المشار إليه أعلاه عن قلقه بالقول: "تؤكد الصيغة الفرنسية المعتمدة أنه يجب على اللاجئين التخلي عن العودة إلى أرضهم قبل البدء بالمفاوضات، وأنه يجب على الغالبية العظمى منهم الاكتفاء بتعويضات غامضة".
     لا شك أن السلطة الفلسطينية غير قادرة على فرض مثل هذه التنازلات. لهذا السبب، لم يحاول لوران فابيوس إطلاع محمود عباس على تفاصيل مشروع القرار، واختار إشراك أعضاء الجامعة العربية في مشروع القرار الفرنسي، وذلك على أمل أن تعتبر الدول العربية هذا المسعى يتطابق بما فيه الكفاية مع مصالحها لكي تشارك فيه. في هذه الحالة، سيقع على عاتق الدول العربية مهمة التأثير على الإدارة الفلسطينية من أجل إقناعها بالموافقة على بعض التسويات. وإذا حصلت المعجزة ونجحت المبادرة، سيقع على عاتق الدول العربية تقديم المساعدة إلى الإدارة الفلسطينية في الدفاع عن صحة هذه المبادرة أمام الشعب الفلسطيني.




الاثنين، ٢٢ حزيران ٢٠١٥

(كيف تفكر الإدارة الأمريكية وتتعامل مع روسيا)

صحيفة الفيغارو 1 حزيران 2015 بقلم مراسلتها في واشنطن لور ماندفيل Laure Mandeville

     يواجه الغرب تحديين استراتيجيين هامين هما: النزعة العدوانية الروسية مع ضم شبه جزيرة القرم وزعزعة الاستقرار في شرق أوكرانيا من جهة، والدولة الإسلامية التي تتقدم على الأرض في الشرق الأوسط وتمثل تهديداً إرهابياً متزايداً على القارة الأوروبية والولايات المتحدة عبر الجهاديين الذين تستقطبهم من جميع أنحاء العالم من جهة ثانية.
     أصبح التعامل مع روسيا بوتين اهتماماً مركزياً لدى المحللين الاستراتيجيين لدى إدارة أوباما في مواجهة هاتين المعضلتين الشائكتين. كيف يمكن دفع الزعيم الروسي إلى إيقاف اعتدائه في أوكرانيا، والاستفادة في الوقت نفسه من مساعدته في الشرق الأوسط من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي مع إيران وتحقيق الاستقرار في العراق وسورية عبر تنظيم عملية انتقالية سياسية في سورية؟ كيف يمكن احتواء بوتين مع الاعتراف في الوقت نفسه بالحاجة إليه؟ هذه هي المعادلة المستحيلة الحل. سيُطرح هذا الموضوع على خلفية النقاشات التي ستجري في باريس يوم الثلاثاء 2 حزيران مع أعضاء التحالف ضد داعش على الرغم من عدم حضور روسيا.
     تحاول الدبلوماسية الأمريكية منذ عدة أسابيع أن تضع فلاديمير بوتين أمام مسؤولياته في أوكرانيا والشرق الأوسط، ويزداد قلقها أكثر فأكثر تجاه التشنج الروسي. اجتمع وزير الخارجية الأمريكية جون كيري قبل عدة أيام مع فلاديمير بوتين في سوتشي، ثم أرسل معاونته فيكتوريا نولاند إلى موسكو لمواصلة النقاشات. أسرّ مسؤول رفيع المستوى في إدارة أوباما إلى صحيفة الفيغارو قائلاً: "في الوقت الذي تتركز فيه عملية اتخاذ القرار في روسيا أكثر فأكثر بشخص واحد، اعتبر وزير الخارجية أنه من المهم الاجتماع مع بوتين في غرفة واحدة من أجل مناقشة ثلاثة مواضيع هامة هي: إيران وسورية وأوكراينا. فيما يتعلق بإيران، كانت رسالة وزير الخارجية واضحة: إن المفاوضات حول الملف النووي الإيراني هي نموذج لما نفعله معاً بشكل جيد، ويجب إنهاء هذا العمل". فيما يتعلق بسورية، قال كيري إلى بوتين أنه يقوم بـ "رهان سيء"، وأضاف الدبلوماسي الأمريكي قائلاً: "قلنا أن الوضع اليوم وصل إلى درجة أنه يمكن أن نستيقظ غداً مع دولة إسلامية تسيطر على البلد، مع إمكانية انهيار نظام الأسد... إذا كنتم صادقين حول حقيقة أن أولويتكم هي الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ومنع انتصار المتطرفين، وأنكم لستم متمسكين بالأسد شخصياً، ففي هذه الحالة، استخدموا نفوذكم من أجل العمل حول عملية انتقالية".
     فيما يتعلق بأوكرانيا، قال المصدرنفسه أن النقاشات مع بوتين تتعلق "بإفهامه أننا جادون جداً حول فكرة إنهاء العقوبات في حال تنفيذ اتفاق مينسك بأكمله. وفي الوقت نفسه، نحن مستعدون لإبقاء العقوبات الحالية وحتى تشديدها بالتنسيق مع أوروبا في حال قيام بوتين وعملائه بالاستيلاء على أراضي جديدة".
     في الوقت الحالي، لم تعط هذه النقاشات نتائج ملموسة. يبدو أن بوتين ليس مستعجلاً للتحالف مع الأمريكيين من أجل عملية انتقالية في سورية، ما دامت إيران لم تنضم إلى هذا المسعى. فيما يتعلق بأوكرانيا، ما زال بوتين ينفي الوجود العسكري الروسي (المتزايد) على الأرض على الرغم من الأدلة القاطعة.
     لكن الهاجس الأكبر بالنسبة لواشنطن هو تفتت الموقف الأوروبي الموحد الذي ما زال مستمراً حتى الآن تجاه أوكرانيا بفضل الزعامة الألمانية. يعرف بوتين نقاط الضعف الأوروبية، ويعمل على استغلالها. تتفاوض اليونان حالياً مع دائنيها في الدول الغربية، واقترحت عليها موسكو في الوقت نفسه حلاً لمشاكلها المتعلقة بالطاقة عبر إقتراح ببناء خط أنابيب لنقل الغاز بشكل يجعلها تابعة للكريملين، ويهدد استراتيجية الاتحاد الأوروبي في تنويع مصادر الطاقة. كما تراقب واشنطن بقلق العلاقات التي ينسجها بوتين مع بعض أحزاب اليمين الأوروبية ولاسيما الفرنسية منها، عبر تقديم نفسه كحصن ضد الإسلام الراديكالي، ويراهن بوتين على أن قلق بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا من داعش أكبر بكثير من التهديد الروسي في أوكرانيا، هذا التهديد الذي تعتبره ألمانيا تهديداً وجودياً لها بسبب قربها الجغرافي.
     تعتبر واشنطن أن المشكلة تكمن في التوفيق بين الأولويات، والحفاظ على الموقف الموحد بين جانبي الأطلسي حتى يظهر الضعف داخل النظام الروسي. أشار المسؤول الأمريكي المذكور أعلاه إلى أن بوتين يعتقد نفسه قوياً، ولكن "هناك الكثير من التذمر في روسيا. لا نعتقد أن بوتين سيكون قادراً على إطعام الروس إلى الأبد عبر النزعة القومية".



الاثنين، ١٥ حزيران ٢٠١٥

(لندن ـ واشنطن: علاقة لم تعد "خاصة" جداً)

صحيفة الفيغارو 18 أيار 2015 بقلم مراسلتها في واشنطن لور ماندفيل Laure Mandeville

     لم تعد علاقة خاصة جداً. هذه هي العبارة التي تتكرر دوماً في الصحافة البريطانية والأمريكية حول العلاقة بين بريطانيا والولايات المتحدة. كتبت الديلي تلغراف في شهر كانون الثاني: "حقيقة غريبة: تتراجع سمعة بريطانيا بشكل كبير منذ عدة سنوات... وتهتم واشنطن بأنجيلا ميركل أكثر فأكثر". لكن ما زال هناك بالتأكيد الإرث التاريخي والمرجعيات الفكرية والثقافية واللغوية بالإضافة إلى العلاقة الوثيقة والفريدة بين أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية منذ الحرب العالمية الثانية.
     لا يمكن مقارنة التفاهم الحالي بين دافيد كاميرون وباراك أوباما مع النظرة الموحدة بين تاتشر وريغان حول كيفية الخروج من الحرب الباردة، أو بين بلير وكلينتون حول إيرلندا والبوسنة، أو بين بلير وبوش الابن خلال حرب العراق. أكد الباحث في معهد بروكنغز فيليب لوكور Philippe Le Corre أن التصريحات الرسمية حول هذه العلاقة "الخاصة" ما زالت مستمرة، ولكنها "تُخفي ابتعاداً في المواقف بين الحليفين". أشار هذا الباحث إلى أن المثال الأوضح على ذلك هو تركيز دافيد كاميرون اهتمامه بشكل كامل على إنعاش الاقتصاد، وعدم انزعاجه من كونه أول حلفاء الولايات المتحدة الذين ينضمون إلى المصرف الآسيوي للاستثمار دون استشارة العم سام بشكل مسبق. حذت بقية الدول الأوروبية حذوه بالانضمام إلى هذا المصرف، واضطرت واشنطن للانضمام إليه أيضاً، نظراً للزلزال الجيوسياسي الذي قد ينجم عن هذا الحدث بالنسبة للنظام الموروث عن اتفاقيات بريتون وودز. قال الباحث فيليب لوكور: "تسبب ذلك بفضيحة صغيرة في البيت الأبيض الذي ينتابه الشعور بأن البريطانيين مستعدين لتقديم جميع التنازلات من أجل جذب الاستثمارات الصينية".
     تركت الأحداث في سورية خلال صيف عام 2013 بعض الآثار عندما قرر باراك أوباما في نهاية المطاف عدم التدخل في سورية، وذلك بعد فشل دافيد كاميرون بإقناع مجلس العموم في الانضمام إلى العملية العسكرية. استنتج الأمريكيون أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد بشكل فعلي على الحليف البريطاني الذي كان في الماضي مستعداً لإرسال جيوشه إلى جميع أنحاء العالم إلى جانب الأخ الأمريكي الأكبر، ولكن هذا الحليف تنتابه اليوم الرغبة بالانكفاء وتقليص موازنته العسكرية بشكل ملموس. قال السفير البريطاني السابق في واشنطن كريستوفر ماير Christopher Mayer في صحيفة الديلي تلغراف: "ينتاب الأمريكيون قلق متزايد حول موثوقية بريطانيا كحليف أساسي".
     يجب القول أن النظرة الأمريكية إلى أوروبا تغيرت مع مرور السنين. كانت الولايات المتحدة تشعر بالريبة خلال فترة طويلة تجاه التطلعات الفيدرالية للاتحاد الأوروبي، وكانت ترتكز على بريطانيا بشكل أساسي لمواجهة مثل هذه التطلعات. لكن واشنطن لم تعد تشعر اليوم بالفائدة من بريطانيا التي أصبحت ترتاب بأوروبا أكثر من أي وقت مضى بعد أزمة اليورو وأزمة الهوية الأوروبية. إن الخوف الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة لم يعد أن تكون أوروبا منافسة لها، بل أن تنفجر تحت تأثير الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو، وألا تكون أوروبا قادرة على ضمان أمنها تجاه روسيا التي تعيش ذروة التشنج القومي.
     يبدو أن الولايات المتحدة أصبحت فجأة تراهن على برلين وباريس. إنها تراهن على أنجيلا ميركل في ألمانيا من أجل إدارة الأزمة الروسية، وتراهن على فرنسا التي أصبحت شريكاً أساسياً للولايات المتحدة في مواجهة التهديد الإرهابي في أفريقيا، وبرهنت على قدرتها في إرسال قواتها إلى مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى ومجمل منطقة الصحراء الأفريقية (الساحل). سألت صحيفة الفيغارو باراك أوباما خلال الزيارة الرسمية التي قام بها فرانسوا هولاند إلى واشنطن في شهر شباط 2014 فيما إذا كانت فرنسا قد حلّت مكان بريطانيا كأفضل حليف للولايات المتحدة، أجاب الرئيس الأمريكي عبر مزحة حول "ابنتيه الرائعتين" وأنه "يحب الاثنتين معاً". إذا كان المسؤولون الأمريكيون يشعرون بالقلق من الصعوبات البنيوية التي يواجهها الاقتصاد الفرنسي في إصلاح نفسه، فإنهم يؤكدون أيضاً قلقهم تجاه الاستفتاء الذي أعلنه دافيد كاميرون حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ويعتبرون التردد البريطاني سبباً في تراجع نفوذ لندن داخل أوروبا. قال رئيس مجموعة أوراسيا Eurasia إيان بريمر Ian Bremmer: "وهكذا أصبحت بريطانيا شريكاً أقل أهمية بكثير بالنسبة للولايات المتحدة". وأضاف الباحث فيليب لوكور: "إذا أضفنا إلى هذا القلق مسألة إمكانية انفصال اسكتلندا عن بريطانيا، من الممكن فهم الذعر الأمريكي تجاه الفترة القادمة في بريطانيا".



(الكسوف الدبلوماسي البريطاني يُقلق فرنسا وأوروبا)

صحيفة الفيغارو 18 أيار 2015 بقلم إيزابيل لاسير Isabelle Lasserre

     لم تستيقظ السياسية الخارجية البريطانية أبداً من هذا الانفجار، عندما رفض مجلس العموم البريطاني السماح لدافيد كاميرون بالتدخل ضد النظام السوري في شهر آب 2013، ويبدو أن الدبلوماسية البريطانية انسحبت من شؤون العالم. لم تشارك بريطانيا في المواجهة بين باريس وواشنطن حول الملف النووي الإيراني، واختبأت خلف فرنسا وألمانيا في الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، ولم تقل أي كلمة حول التغيرات الاستراتيجية الجارية في الشرق الأوسط. يبدو أنها لا تهتم بمصير ليبيا والفوضى الناجمة عن التدخل الفرنسي ـ البريطاني ضد القذافي عام 2011. في العراق، تعمل طائرات التورنادو ضمن الحدود الدنيا لكي لا تُثير غضب الأمريكيين.
     إن أسباب الكسوف الدبلوماسي البريطاني معروفة. تعيش بريطانيا هاجس الفشل في العراق وأفغانستان، وبذلت جهوداً تفوق طاقتها في العمليات العسكرية، ووقع الجيش البريطاني ضحية العمل فوق طاقته (Burn Out). قررت وزارة الخارجية البريطانية بعد سنوات عام 2000 التوسعية أن تأخذ فترة من الراحة. اختارت لندن تفضيل الإنعاش الاقتصادي ودعم السوق المالية في لندن بعد الأزمة المالية. كما أن عقيدة عدم التدخل لإدارة أوباما عززت تواري بريطانيا عن الأنظار. تربط بريطانيا "علاقة خاصة" مع الولايات المتحدة، ويتقدمان عادة جنبأً إلى جنب في الملفات الدولية الهامة. على الصعيد الداخلي، إن النفق الانتخابي ـ المتمثل بالاستفتاء على استقلال اسكتلندا والاستفتاء على بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي والانتخابات التشريعية ـ عرقل أي تعبير حول مواضيع السياسة الخارجية. قال النائب الفرنسي في البرلمان الأوروبي عن حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية أرنو دانجان Arnaud Danjean: "تم اعتبار كل ما عدا ذلك كتسلية بالمقارنة مع الأولوية المطلقة للسياسة الداخلية".
     هل يمكن أن تتغير هذه النزعة بالاتجاه المعاكس؟ هل سيستفيد رئيس الوزراء البريطاني بعد انتخابه بفارق مريح من ولايته الثانية من أجل إعادة إعطاء بريطانيا مكانتها في العالم واستئناف سياستها التدخلية التقليدية؟ يأمل أرنو دانجان أن يكون الجواب بالإيجاب، وينتظر "عودة" نشاط الدبلوماسية البريطانية إلى حد ما، وقال: "بذلت بريطانيا الجزء الأكبر من الجهود الاقتصادية المطلوبة. ينظر دافيد كاميرون إلى نهاية النفق الانتخابي، وبإمكانه القيام بدور دولي من جديد لكي يُظهر أن بريطانيا ما زالت طرفاً أوروبياً لا غنى عنه قبل الاستفتاء على بقائها داخل الاتحاد الأوروبي". لكن بقاء وزيري الدفاع والخارجية في الحكومة البريطانية الجديدة ربما يكون إعلاناً بأن لندن لا تنوي التخلي عن تحفظها. قال رئيس مؤسسة شومان Schuman جان دومينيك جولياني Jean-  Dominique Jiuliani متأسفاً: "أخشى ألا نجد البريطانيين قبل فترة طويلة"، ولاسيما فيما يتعلق بالمسائل الأوروبية.
     من الناحية الظاهرية، يبدو  أن باريس استفادت من التلاشي التدريجي لحليفها. لم يتمكن دافيد كاميرون وفرانسوا هولاند من التفاهم فيما بينهما إطلاقاً. قامت فرنسا بالدور الأول خلال شهر تشرين الثاني 2013 عندما عارضت التسوية الأمريكية حول الملف النووي الإيراني. كما دافعت فرنسا لوحدها عن الموقف المعارض ضد بشار الأسد وضد داعش، ولكن مع دعم المعارضة المعتدلة ـ التي يعتبرها البعض شجاعة والبعض الآخر غير واقعية ـ في الحرب السورية. وقفت فرنسا في الخط الأول إلى جانب ألمانيا في محاولة لإيجاد مخرج دبلوماسي للأزمة الروسية ـ الأوكرانية.
     يتفق الخبراء على أن باريس لن تستطيع "التصرف بمفردها" إلى الأبد، واعترف أحد الدبلوماسيين قائلاً: "تحتاج فرنسا إلى بريطانيا. يصوت البلدان بالطريقة نفسها دوماً في مجلس الأمن". إنهما قوتان نوويتان، ولديهما ثقافة سياسية وعسكرية متشابهة وردة فعل واحدة ومصالح استراتيجية مشتركة. حذر أحد الضباط قائلاً: "عَمِلَ الجيشان الأكبر في أوروبا يداً بيد دوماً. لن تستطيع فرنسا التصرف لوحدها لفترة طويلة". حلّ الثنائي الفرنسي ـ الألماني مكان الثنائي الفرنسي ـ البريطاني منذ تلاشي الدور البريطاني، وكانت فرنسا ملتحمة مع ألمانيا خلال رئاسة نيكولا ساركوزي حول الأزمات الدولية الكبرى مثل الحرب في شرق أوكرانيا. ولكن فيما يتعلق بالشؤون العسكرية، إن باريس وبرلين لا تتحدثان اللغة نفسها. قال الضابط المذكور أعلاه مؤكداً: "إن ألمانيا لا تُحارب. فيما يتعلق بالتوافق بين فرنسا والولايات المتحدة، إنه خداع بصري. ليس هناك شريك بديل لبريطانيا". كما أعرب هذا الضابط عن قلقه من استمرار التخفيض المعلن للموازنة العسكرية البريطانية، الأمر الذي سيلقي بعبئه على مستقبل قوة التدخل الفرنسية ـ البريطانية التي يفترض أن تصبح جاهزة للعمل عام 2016.
     إن "الانسحاب" البريطاني ليس فقط خبراً سيئاً بالنسبة لفرنسا، بل بالنسبة لأوروبا والعالم أيضاً. يعتقد البعض أنه لو صوت مجلس العموم البريطاني في شهر آب 2013 لصالح التدخل في سورية، فإنه ذلك ربما كان سيُقنع باراك أوباما بالتدخل أيضاً، وأن مجرى الحرب ربما كان سيتغير أيضاً. لكن لا يمكن إعادة صنع التاريخ.


الاثنين، ٨ حزيران ٢٠١٥

(ما الذي تراهن عليه روسيا من وراء بيع صواريخ S-300 إلى إيران؟)

الموقع الإلكتروني لوهوفنغتون بوست 28 نيسان 2015 بقلم الباحث المختص بأفغانستان والباكستان وإيران وآسيا الوسطى ديدييه شوديه Didier Chaudet

     من المعروف أن الضغوط الغربية على الاقتصاد الروسي أصبحت كبيرة جداً، وأن الكريملين ردّ على هذه الضغوط عبر بيع صواريخ S-300 إلى إيران. لكن الرد الروسي ليس مجرد رغبة بالانتقام تجاه الموقف الأمريكي من النزاع الأوكراني. بدأت روسيا بالاستعداد لإمكانية انفتاح السوق الإيراني في حال نجاح المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، وتريد أن تكون في المقدمة بالنسبة لسوق السلاح في "الجنة الإيرانية" المحتملة. لا شك أن إيران ستعمل على تحديث جيشها عندما تسنح الفرصة أمامها، ولاسيما سلاح الطيران التي يتألف بشكل أساسي من طائرات ميغ 29 المصنوعة في سنوات السبعينيات.
     لن تزول المشاكل بين الدول الغربية وإيران حتى في حال التوصل إلى تسوية حول الملف النووي الإيراني، وبالتالي، لا يخش الروس من المنافسة الأمريكية والأوروبية بشكل جدي داخل السوق الإيراني. لكن الصناعة العسكرية الروسية ستواجه منافساً آخراً هو الصين التي تستطيع توفير معدات ذات نوعية عالية وبأسعار تنافسية، بالإضافة إلى تقديم دعم دبلوماسي أكثر قوة من الدعم الدبلوماسي الروسي خلال السنوات الأخيرة. يحتاج تحديث الجيش الإيراني إلى أربعين مليار دولار.
     يهدف موقف روسيا أيضا إلى طمأنة زبائنها تجاه صناعتها العسكرية. لقد رفض الكريملين عام 2010 أثناء رئاسة ميدفيديف تسليم صواريخ S-300 إلى إيران على الرغم من دفع ثمنها، وكان الرئيس الروسي آنذاك يؤمن بسياسة اليد الممدودة في واشنطن. اعتبرت جميع الدول المهتمة بشراء الأسلحة الروسية هذا التراجع الروسي بمثابة التحذير، وأن موسكو تتحدث كثيراً ولكنها تخضع للغرب عندما تمارس واشنطن الضغوط عليها. لهذا السبب، أراد بوتين طمأنة زبائنه بشكل كامل، وأصبحوا يحظون بأولوية أكبر من سياسة إرضاء الدول الغربية. لا شك أن بوتين يراهن أيضاً على النزعة القومية الروسية، ويريد أن يبرهن للأحزاب اليمينية والقومية الروسية أن الدبلوماسية الروسية مستقلة وتحرص على مصالحها القومية قبل أي شيء آخر.
     من المفترض التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني مع نهاية شهر حزيران. كان ميدفيديف يريد دفع إيران إلى التفاوض من خلال عدم تسليمها صواريخ S-300، وأن يقول لها بأن تسليم هذه الصواريخ لن يكون ممكناً بدون التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني. إذا، لقد انهار هذا الدعم الروسي غير المباشر للمفاوضات بعد موافقة الكريملين على بيع إيران هذه الصواريخ، وذلك قبل أن يتوصل الأمريكيون والإيرانيون إلى اتفاق. يعني ذلك أن الدبلوماسية الروسية اختارت ثلاثة مواقف متشددة: الموقف الأول، يريد بوتين إفهام أنه لن يدعم أية عقوبات جديدة ضد إيران، ويمنح إيران الوسائل اللازمة للدفاع عن نفسها في حال تعرضها لهجوم، ويوجه الرسالة التالية إلى الدول الغربية: يجب التوصل إلى أرضية للتفاهم  مع الإيرانيين لأننا لن ندعم سياستكم في الضغط والتهديد العسكري بعد 30 حزيران. الموقف الثاني، يُلح الكريملين على الطابع العقلاني للدبلوماسية الروسية لكونها أول من "كافأ" الموقف البراغماتي الإيراني بعد اتفاق لوزان حول الملف النووي الإيراني. يُقدم الروس أنفسهم كشريك عقلاني بعكس الدول الغربية التي تظهر أحياناً أسيرة إيديولوجيا غير عقلانية تجاه الملف الإيراني. الموقف الثالث، من غير المستحيل أن بوتين يستخدم نفوذه لكي يجعل المفاوضات أكثر صعوبة أو حتى إفشالها. لأنه في حال تطبيع العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية، فإن إيران ستكون قادرة على دخول سوق النفط العالمي، الأمر الذي سيؤثر سلباً على موسكو، واعتبر المصرف المركزي الروسي أن هذا التأثير السلبي يبلغ سبعة وعشرين مليار دولار.

     في الواقع، سمح هذا الحدث للحكومة الإسرائيلية بالربط بين المفاوضات الدبلوماسية مع إيران وإمكانية إعادة تسليح الجمهورية الإسلامية. هناك خطر رؤية جميع أنصار الخط المتشدد ضد إيران (الحزب الجمهوري الأمريكي والسعودية وربما الدبلوماسية الفرنسية) يتحدثون مثل إسرائيل. سيؤدي ذلك إلى تصاعد التصريحات العدائية من الجانبين وإضعاف أنصار التيار المعتدل، وبالتالي، جعل روسيا دولة لا غنى عنها في الحوار الإيراني ـ الغربي. في جميع الحالات، سينتصر الكريملين مهما حصل بفضل قرار تجاري بسيط.

الاثنين، ١ حزيران ٢٠١٥

(ما هو تأثير صواريخ S-300 على الشرق الأوسط والولايات المتحدة؟)

الموقع الإلكتروني لوهوفنغتون بوست 5 أيار 2015 بقلم الباحث المختص بأفغانستان والباكستان وإيران وآسيا الوسطى ديدييه شوديه Didier Chaudet

     بدأت الأوساط المطلعة في الشرق الأوسط وأوروبا، وأحياناً مع بعض الصداقات داخل الأوساط الاسرائيلية رفيعة المستوى، تتحدث بالطريقة نفسها بشكل يدعو للاستغراب. تعتبر هذه الأوساط أن اسرائيل ربما ستشعر بالتهديد عبر التطورات في الحوار حول الملف النووي الإيراني، وأنها ستستعد بالتالي للقيام بضربات جوية ضد المنشآت النووية الإيرانية. بالتأكيد، إنها مجرد إشاعات، ولا يجب أن ننسى أبداً أن الأوساط التي يُفترض أنها "واسعة الاطلاع" تميل إلى تقديم معلومات خاطئة إلى المحللين والصحفيين. إذاً، ليس بالضرورة أن نأخذ هذه الإشاعة على محمل الجد. لا شك أنها تُعبر عن ردة فعل مزاجية من قبل بعض الإسرائيليين والأوروبيين المعارضين للتطورات الأخيرة في الملف النووي الإيراني، وذلك تجاه تهدئة العلاقات بين الغرب وطهران.
     سمح فلاديمير بوتين مؤخراً ببيع صواريخ S-300 إلى إيران، الأمر الذي أثار عصبية القادة السياسيين في الشرق الأوسط وبالتالي عصبية واشنطن بشكل غير مباشر. هل يمكن تصور حصول تغير أمني جذري في الشرق الأوسط بسبب القرار الروسي؟ إن إمكانية حصول إيران على هذه الصورايخ سيوفر لها قدرة أكبر على الدفاع عن مجالها الجوي، وبالتالي سيكون ذلك أمراً مزعجاً بالنسبة لواشنطن وإسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر، نظراً لأن  هذه الدول تتمنى الإبقاء على إمكانية الخيار العسكري ضد طهران.
     يتفق المحللون على القول بأن هذا النظام الدفاعي S-300 هو أحد أفضل الأنظمة الدفاعية في العالم، وقادر على منع اختراق الأجواء الإيرانية من قبل الطائرات المقاتلة F15 (التي تستخدمها الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل بشكل أساسي) وطائرات F/A18 (التي تستخدمها الولايات المتحدة وكندا واستراليا وفنلندا والكويت). إن الطائرات الوحيدة القادرة على التحليق فوق المناطق المحمية بنظام S-300 دون أن تلتقطها الرادارات هي طائرات الشبح مثل القاذفة الاستراتيجية Northrop B-2 Spirit وطائرة Lockheed Martin F-22 Rapter أو طائرة Lockheed Martin F-35 Lightning II. لكن هذه الطائرات باهظة الثمن (2.2 مليار دولار للطائرة B-2)، ولا يمكنها البقاء لفترة طويلة فوق الأراضي الإيرانية في حال القيام بعملية عسكرية.
     إن النظام الصاروخي الذي ينوي فلاديمير بوتين بيعه إلى الإيرانيين يتمتع بقدرة كبيرة على الحركة بالمقارنة مع النظام الأمريكي باتريوت MIM-14، الأمر الذي يزيد من صعوبة الطائرات المعتدية. ليس من قبيل الصدفة أن روسيا والصين تستخدمان صواريخ S-300 (وحالياً الجيل الأخير من صواريخ S-400) من أجل حماية أجوائهما الجوية. ستقلل هذه الصواريخ من إمكانيات العمل العسكرية الإسرائيلية ضد إيران حتى تستلم إسرائيل طائرات F-35. لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن إسرائيل ستستلم طائرتين من هذا النوع عام 2016، ثم ستستلم واحد وثلاثين طائرة بحلول عام 2021. من جهة أخرى، يبدو أن طائرات F-35 تعاني من بعض المشاكل التقنية التي يجب حلها. إذاً، من الواضح أن وجود صواريخ S-300 في إيران سيكون عائقاً كبيراً أمام عمل عسكري إسرائيل من جانب واحد بدون المساعدة العسكرية الأمريكية.
     هناك عاملان رئيسيان وراء القلق والانزعاج في الدول التي ترغب باستخدام القوة ضد طهران: العامل الأول، تم تدريب الإيرانيين فعلاً على  استخدام صواريخ S-300 منذ عملية الشراء التي جرت عام 2007. يحتاج التدريب على استخدام هذه الصواريخ لمدة ستة أشهر بشكل طبيعي، ولكن الجيش الإيراني لن يحتاج إلى عدة أشهر بل إلى عدة أسابيع لكي يضعها موضع الاستخدام. العامل الثاني، طورت إيران نسخة محلية من صواريخ S-300 الروسية. بدأ العلماء الإيرانيون بالعمل في هذا الاتجاه منذ عام 2010 عبر تطوير بعض الأنظمة القديمة مثل S-200. حقق الإيرانيون تقدماً هائلاً في انتاج الصواريخ محلياً وفي وسائل الدفاع الجوي عموماً. من المفترض أن يكون صاروخ Bavar-373 النسخة الإيرانية عن نظام S-300، ومن المفترض تشغيله على الأراضي الإيرانية هذا العام أو العام القادم.
     بالطبع، لا يعني ذلك أن صواريخ S-300 ستجعل الأجواء الإيرانية غير قابلة للانتهاك. أولاً، يجب أن يحترم الروس وعدهم، وأن يتفقوا مع الإيرانيين حول تفاصيل البيع وتسليم الصواريخ فعلاً. من جهة أخرى، يقول الخبراء العسكريون في الولايات المتحدة وإسرائيل أن صواريخ S-300 ستجعل القصف الجوي أكثر صعوبة ولكنها لا تجعله مستحيلاً. ليس من الخطأ الاعتقاد بأن كثرة الحديث عن هذا الموضوع دولياً يمثل وسيلة بالنسبة لبعض المتشددين لافتعال الخوف والتوتر بين الدول الغربية وإيران. يبرهن ذلك على أن الشرق الأوسط لن ينعم بالسلام حتى في حال التوصل إلى اتفاق نهائي حول الملف النووي الإيراني.