صحيفة اللوموند 19 شباط 2015،
بقلم أستاذ التاريخ في جامعة برنستون Princeton جيريمي أدلمان Jeremy Adelman
والباحثة في المركز الوطني للدراسات العلمية CNRS آن لور دولات Anne-Laure Delatte
تلاقى أخيراً أسوأ كابوسين أوروبيين. انتقد
رئيس الوزراء اليوناني الجديد ألكسيس تسيبراس Alexis
Tsipras في الشهر الماضي
العقوبات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا بسبب ضمها غير الشرعي لشبه جزيرة
القرم. عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعاوناً اقتصادياً مع تسيبراس، ودعاه إلى
زيارة موسكو للاحتفال بالذكرى السبعين للانتصار على النظام النازي بشكل يربط فيه
بين ذكرى الاضطهاد الألماني والأزمة الحالية في أوروبا. هناك أيضاً بعض الاشاعات
حول بناء خط أنابيب لنقل الغاز عبر الحدود التركية ـ اليونانية بشكل يسمح لروسيا بتجنب
أوكرانيا لبيع الغاز الروسي.
تدهورت المفاوضات حول الديون الحكومية
اليونانية بعد الانتخابات التشريعية في شهر كانون الثاني، وتبنت فرنسا وألمانيا
موقفاً متشدداً حول سندات الخزينة اليونانية، والتزمت مجموعة العملة الأوروبية Eurogroupe في
بروكسل بهذا الموقف يوم الاثنين 16 شباط. أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل
والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن إعادة جدولة الدين الحكومي اليوناني مرة أخرى
سيؤدي إلى تأخير الإصلاحات الهيكلية، وسيخلق مخاطر أخلاقية لدى بقية أعضاء منطقة
العملة الأوروبية. حان الوقت لكي نحب منطقة العملة الأوروبية أو أن نغادرها. لكن
هذا الموقف يهمل الأضرار الجانبية الهامة التي يمكن أن تنجم عن خروج اليونان من
منطقة العملة الأوروبية. سيوفر خروجها الفرصة أمام روسيا لكي تقدم مساعدتها إلى
دولة وصلت إلى طريق مسدود، وبالتالي سيمنح موسكو وسيلة لزيادة نفوذها في أوروبا
الغربية.
تزامن النزاع الأوكراني مع أزمة العملة
الأوروبية. تحتاج اليونان إلى تخفيض الديون العامة، وتستخدم هذا العامل في
المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لإعادة جدولة ديونها. فيما يتعلق بروسيا، إنها تسعى
إلى إضعاف خصومها، وتعتبر أن إفلاس اليونان ونتائجه السلبية على بقية الدول
الأوروبية بمثابة الفرصة الوحيدة لفرض نفسها. يمثل الاقتصاد الروسي ثمانية أضعاف
الاقتصاد اليوناني، وبالتالي، إن موسكو قادرة على مساعدة أثينا على الرغم من
انخفاض أسعار النفط.
يُظهر تاريخ الأجنتين الحديث وأسباب الفوضى
السائدة فيها حالياً ما يمكن حصوله في حال قيام موسكو بتقديم المساعدة إلى
اليونان. أعلنت الأرجنتين عام 2001 أنها ستتوقف عن سداد ديونها بعد تخليها عن
المساواة بين عملتها والدولار. انهارت مدخرات الأرجنتينيين، وكانت الحكومات تستمر
لعدة أيام، وتفاقم الوضع لدرجة اندلاع تمرد الجوع في بلد معروف عالمياً بانتاج
القمح والحبوب. منحت المشاكل الاقتصادية الأرجنتينية فرصة سياسية لخصوم الولايات
المتحدة. عندما أصبحت الأرجنتين غير قادرة على الاستدانة من الأسواق المالية
العالمية، جاء الزعيم الفنزويلي هوغو شافيز لنجدتها بفضل الثروة المالية الناجمة
عن الارتفاع المفاجئ لأسعار النفط.
طلب هوغو شافيز من الخزينة الفنزويلية شراء
السندات الحكومية الأرجنتينية بمبلغ 4.4 مليار دولار متحدياً حكومة جورج بوش
الابن، واقترح بناء خط أنابيب لنقل النفط إلى بوليفيا والباراغواي والبرازيل
والأرجنتين، كما أسس "مصرف الجنوب" Banque
du Sud لاستبعاد المصرف
الدولي Banque Mondiale. موّل النفط الفنزويلي الحملات الانتخابية لأصدقاء شافيز.
بالمقابل، أصبح الرئيس الأرجنتيني نيستور كيرشنر ثم زوجته الرئيسة كريستينا
فيرنانديز كيرشنر من المؤيدين المخلصين لحملة شافيز ضد واشنطن. انضمت الإكوادور
وبوليفيا إلى محور فنزويلا ـ الأرجنتين. أعلنت الأرجنتين الحداد الوطني ثلاثة أيام عندما توفي هوغو شافيز
بالسرطان في شهر آذار 2013. ما زالت علاقات واشنطن مع هذه الدول غير مستقرة حتى
اليوم.
عندما بدأ الاقتصاد الفنزويلي بالتراجع،
جاءت إيران الخصم الأكثر نذيراً بالشؤم لواشنطن لكي تملئ الفراغ. تضاعفت المبادلات
التجارية بين الأرجنتين وإيران ثلاثة أضعاف، ووجد القمح والذرة والوقود النووي
الأرجنتيني أسواقاً جديدة له في بلاد الرافدين بشكل يستخف بالعقوبات الدولية. تحتل
الأرجنتين اليوم المرتبة السابعة بين الشركاء التجاريين لإيران. سافر وزير
الخارجية الأرجنتيني هيكتور تيمرمان Hector
Timerman في بداية عام
2011 إلى حلب لإجراء مباحثات سرية مع نظيره الإيراني علي أكبر صالحي. كما تقوم
الأرجنتين بدعم إيران في الأمم المتحدة.
أعلنت الرئيس الأرجنتينية كريستينا كيرشنر
في شهر كانون الثاني 2013 عن تشكيل لجنة مشتركة مع إيران لـ "تقصي
الحقائق" بهدف التحقيق بعملية تفجير السيارة المفخخة أمام جمعية يهودية
عام 1994، وأدى إلى مقتل خمسة وثمانين شخصاً وجرح ثلاثمائة آخرين. عرض النائب
العام ألبيرتو نيسمان Alberto Nisman تقريراً خطيراً أمام الكونغرس الأرجنتيني قبل شهر واحد، وزعم فيه
أن الحكومتين الأرجنتينية والإيرانية وقعتا اتفاقات تجارية للتعتيم على عملية
التفجير عام 1994. أدى موته الغامض بتاريخ 18 كانون الثاني 2015 إلى شل الأرجنتين
التي وقعت فريسة العديد من نظريات المؤامرة.
تمثل الحالة الأرجنتينية العديد من الدروس
بالنسبة للزعماء الذين يتفاوضون مع الدول التي وصلت إلى حافة الإفلاس. في هذا
العالم المليء بالأصدقاء والخصوم والأعداء، إن ضعف بلد ما يمثل فرصة مواتية لبلد
آخر. الدرس الأول، تجنب هوس الخصوم بين الدائنين
والمدينين، والنظر إلى الأطراف المعنية. لم تتنبأ واشنطن بأن فنزويلا ستستفيد من
الارتباك الأرجنتيني، وبالطريقة نفسها، تخاطر السياسة الألمانية المتشددة بدفع
أثينا إلى أحضان بوتين. من الضروري أن تكون هناك نظرة تحيط بجميع الأمور الجانبية.
الدرس الثاني، تمثل الدول الخاضعة بعض
الأخطار التي تتجاوز خطر إفلاسها. في عالمنا القائم على الاتصالات والاعتماد
المتبادل، إن الحلقات الضعيفة تزعزع النظام بأسره وليس فقط العناصر الوسيطة. عندما
أصبحت الأرجنتين في طريق مسدود، اندلعت موجة شعبية في تشيلي والأورغواي. إن خروج
اليونان من العملة الأوروبية ربما ستنتقل عدواه إلى خارج الاتحاد الأوروبي،
ويُعرقل الدعم الدبلوماسي والمالي إلى
أوكرانيا.
الدرس الثالث، لا يجب الاكتفاء بالاعتبارات
الاقتصادية فقط. إن الدول التي تواجه صعوبات مالية تمثل مخاطر سياسية. إن الديون
وعمليات الانقاذ المالي تخلق بعض التحالفات، وتشجع النزاعات الإيديولوجية. أدت
المشاكل المالية في الأرجنتين إلى تأجيج طموحات هوغو شافيز في تحديه للتوجه
الاقتصادي الليبرالي في واشنطن. ولكن فلاديمير بوتين يمثل خطراً أكبر بكثير من
هوغو شافيز. وبالتأكيد، استفادت إيران من جميع الفرص المتاحة أمامها لكي تتقدم
داخل الشرق الأوسط وخارجه.
يجب على حكومات منطقة العملة الأوروبية أن
تدرك بأن الأوضاع التي لا يمكن معالجتها ينجم عنها بعض النتائج التي تتجاوز الأمور
المالية المعقدة والمباشرة. يجب على هذه الحكومات التفكير بشكل شامل، وليس فقط
بشكل إقليمي.