صحيفة الفيغارو 18 أيار 2015 بقلم
إيزابيل لاسير Isabelle
Lasserre
لم
تستيقظ السياسية الخارجية البريطانية أبداً من هذا الانفجار، عندما رفض مجلس
العموم البريطاني السماح لدافيد كاميرون بالتدخل ضد النظام السوري في شهر آب 2013،
ويبدو أن الدبلوماسية البريطانية انسحبت من شؤون العالم. لم تشارك بريطانيا في
المواجهة بين باريس وواشنطن حول الملف النووي الإيراني، واختبأت خلف فرنسا
وألمانيا في الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، ولم تقل أي كلمة حول التغيرات
الاستراتيجية الجارية في الشرق الأوسط. يبدو أنها لا تهتم بمصير ليبيا والفوضى
الناجمة عن التدخل الفرنسي ـ البريطاني ضد القذافي عام 2011. في العراق، تعمل
طائرات التورنادو ضمن الحدود الدنيا لكي لا تُثير غضب الأمريكيين.
إن
أسباب الكسوف الدبلوماسي البريطاني معروفة. تعيش بريطانيا هاجس الفشل في العراق
وأفغانستان، وبذلت جهوداً تفوق طاقتها في العمليات العسكرية، ووقع الجيش البريطاني
ضحية العمل فوق طاقته (Burn Out). قررت وزارة الخارجية البريطانية بعد سنوات عام 2000 التوسعية أن
تأخذ فترة من الراحة. اختارت لندن تفضيل الإنعاش الاقتصادي ودعم السوق المالية في
لندن بعد الأزمة المالية. كما أن عقيدة عدم التدخل لإدارة أوباما عززت تواري
بريطانيا عن الأنظار. تربط بريطانيا "علاقة خاصة" مع الولايات
المتحدة، ويتقدمان عادة جنبأً إلى جنب في الملفات الدولية الهامة. على الصعيد
الداخلي، إن النفق الانتخابي ـ المتمثل بالاستفتاء على استقلال اسكتلندا
والاستفتاء على بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي والانتخابات التشريعية ـ عرقل
أي تعبير حول مواضيع السياسة الخارجية. قال النائب الفرنسي في البرلمان الأوروبي
عن حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية أرنو دانجان Arnaud
Danjean: "تم
اعتبار كل ما عدا ذلك كتسلية بالمقارنة مع الأولوية المطلقة للسياسة
الداخلية".
هل
يمكن أن تتغير هذه النزعة بالاتجاه المعاكس؟ هل سيستفيد رئيس الوزراء البريطاني
بعد انتخابه بفارق مريح من ولايته الثانية من أجل إعادة إعطاء بريطانيا مكانتها في
العالم واستئناف سياستها التدخلية التقليدية؟ يأمل أرنو دانجان أن يكون الجواب
بالإيجاب، وينتظر "عودة" نشاط الدبلوماسية البريطانية إلى حد ما،
وقال: "بذلت بريطانيا الجزء الأكبر من الجهود الاقتصادية المطلوبة. ينظر
دافيد كاميرون إلى نهاية النفق الانتخابي، وبإمكانه القيام بدور دولي من جديد لكي
يُظهر أن بريطانيا ما زالت طرفاً أوروبياً لا غنى عنه قبل الاستفتاء على بقائها
داخل الاتحاد الأوروبي". لكن بقاء وزيري الدفاع والخارجية في الحكومة
البريطانية الجديدة ربما يكون إعلاناً بأن لندن لا تنوي التخلي عن تحفظها. قال
رئيس مؤسسة شومان Schuman جان دومينيك جولياني Jean- Dominique Jiuliani متأسفاً: "أخشى ألا نجد
البريطانيين قبل فترة طويلة"، ولاسيما فيما يتعلق بالمسائل الأوروبية.
من
الناحية الظاهرية، يبدو أن باريس استفادت
من التلاشي التدريجي لحليفها. لم يتمكن دافيد كاميرون وفرانسوا هولاند من التفاهم
فيما بينهما إطلاقاً. قامت فرنسا بالدور الأول خلال شهر تشرين الثاني 2013 عندما
عارضت التسوية الأمريكية حول الملف النووي الإيراني. كما دافعت فرنسا لوحدها عن
الموقف المعارض ضد بشار الأسد وضد داعش، ولكن مع دعم المعارضة المعتدلة ـ التي
يعتبرها البعض شجاعة والبعض الآخر غير واقعية ـ في الحرب السورية. وقفت فرنسا في
الخط الأول إلى جانب ألمانيا في محاولة لإيجاد مخرج دبلوماسي للأزمة الروسية ـ
الأوكرانية.
يتفق
الخبراء على أن باريس لن تستطيع "التصرف بمفردها" إلى الأبد،
واعترف أحد الدبلوماسيين قائلاً: "تحتاج فرنسا إلى بريطانيا. يصوت البلدان
بالطريقة نفسها دوماً في مجلس الأمن". إنهما قوتان نوويتان، ولديهما
ثقافة سياسية وعسكرية متشابهة وردة فعل واحدة ومصالح استراتيجية مشتركة. حذر أحد
الضباط قائلاً: "عَمِلَ الجيشان الأكبر في أوروبا يداً بيد دوماً. لن
تستطيع فرنسا التصرف لوحدها لفترة طويلة". حلّ الثنائي الفرنسي ـ
الألماني مكان الثنائي الفرنسي ـ البريطاني منذ تلاشي الدور البريطاني، وكانت
فرنسا ملتحمة مع ألمانيا خلال رئاسة نيكولا ساركوزي حول الأزمات الدولية الكبرى
مثل الحرب في شرق أوكرانيا. ولكن فيما يتعلق بالشؤون العسكرية، إن باريس وبرلين لا
تتحدثان اللغة نفسها. قال الضابط المذكور أعلاه مؤكداً: "إن ألمانيا لا
تُحارب. فيما يتعلق بالتوافق بين فرنسا والولايات المتحدة، إنه خداع بصري. ليس
هناك شريك بديل لبريطانيا". كما أعرب هذا الضابط عن قلقه من استمرار
التخفيض المعلن للموازنة العسكرية البريطانية، الأمر الذي سيلقي بعبئه على مستقبل
قوة التدخل الفرنسية ـ البريطانية التي يفترض أن تصبح جاهزة للعمل عام 2016.
إن "الانسحاب"
البريطاني ليس فقط خبراً سيئاً بالنسبة لفرنسا، بل بالنسبة لأوروبا والعالم أيضاً.
يعتقد البعض أنه لو صوت مجلس العموم البريطاني في شهر آب 2013 لصالح التدخل في
سورية، فإنه ذلك ربما كان سيُقنع باراك أوباما بالتدخل أيضاً، وأن مجرى الحرب ربما
كان سيتغير أيضاً. لكن لا يمكن إعادة صنع التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق