الصفحات

الجمعة، ٩ أيار ٢٠١٤

(في سورية، سقوط البقعة المتمردة الأخيرة في حمص)

صحيفة اللوموند 9 أيار 2014 بقلم سيسيل هينيون Cécile Hennion

     لم تعد حمص آخر معقل للمتمردين المتحصنين في المركز التاريخي القديم فيها. بدأ إخلاء أكثر من ألف مدني ومقاتل وجريح من هذه المدينة فجر يوم الأربعاء 7 أيار بعد سلسلة من المفاوضات المعقدة بين مختلف الأطراف المتحاربة، واستمرت عملية الإخلاء طوال هذا اليوم بدون وقوع حوادث هامة. يعتبر الثوار السوريون الشباب، ولاسيما الناشطين الذين هربوا من بلدهم، أن رحيل هؤلاء المقاتلين الأشداء من حمص بأنه "حرقة في القلب" و"رمزاً للمعارضة" المنهارة. اتسمت الأحاديث التي أدلى بها المقاتلون بالمرارة، وتحدث الجميع عن المجاعة والاستسلام والموت البطيء لتفسير هذا الرحيل التفاوضي بعد حصار لا يرحم فرضه النظام منذ شهر حزيران 2012. قال أحد المقاتلين في حمص وائل الحمصي إلى صحيفة اللوموند عشية الإخلاء: "لم يعد لدينا ماء ودواء وذخيرة. من المرعب رؤية الأطفال النحيلين وهم يبحثون عن شيء ما ليأكلونه على الأرصفة دون الاهتمام بالقنابل التي تسقط حولهم. مات بعضهم جوعاً. أرسلنا قائمة بالضحايا إلى بان كي مون، ولكن لم يساعدنا أحد".
     طالب الأمين العام للأمم المتحدة خلال مفاوضات مؤتمر جنيف 2 في شهر كانون الثاني بتوفير منفذ إنساني فوراً في سورية، وحصلت المدينة القديمة في حمص على اتفاق يسمح لفرق الأمم المتحدة والهلال الأحمر السوري بإخلاء المدنيين خلال فترة هدنة قصيرة. ولكن إطلاق الرصاص والقذائف على القافلة الإنسانية أدى إلى مقتل خمسة أشخاص وجرح عشرين آخرين بين المدنيين. قال الناطق الرسمي باسم اللجنة العامة السورية للثورة في حمص أحمد القصير: "كانت هذه المحاولة الأولى كارثية"، وتحدث عن ظروف صحية أصبحت لا تُطاق، وأشار إلى أن المساعدات الغذائية التي وصلت إلى المدينة القديمة استُهلكت خلال يومين. الأسوأ من ذلك هو اعتقال المقاتلين الذين وافقوا على تسليم سلاحهم مقابل العفو الموعود من قبل دمشق وجميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و55 عاماً وأرادوا الخروج من المدينة. بالمحصلة، "اختفى" أكثر من ثلاثمائة شخص بأيدي النظام، وقال أحمد القصير متأسفاً: "لا أحد يعرف ماذا حلّ بهم. لا مجال للسقوط في الفخ نفسه. ليست هناك وعود بالعفو هذه المرة، ووافق الرجال على الخروج، ولكنهم لم يستسلموا".
     هذا هو الفارق الأساسي مع الاتفاقات التي تم التوصل إليها مؤخراً بين نظام بشار الأسد وبقية المدن المتمردة المحاصرة في البلد. نجح مقاتلو حمص القديمة في التفاوض على الخروج مع  أسلحتهم (الخفيفة على الأقل، وهذا يشمل بنادق الكلاشينكوف والقنابل اليدوية والآربي جي) لإعادة الانتشار في شمال المدينة باتجاه مدن الدار الكبيرة وتلبيسة والرستن الواقعة ضمن المناطق التي يُسيطر عليها التمرد. إنه اتفاق غير مسبوق حسب تعبير الناطق الرسمي باسم اللجنة العامة السورية للثورة في حمص الذي قال أن هذا الاتفاق تم التفاوض عليه "من قبل مسؤولي الجبهة الإسلامية ـ أكبر تحالف للكتائب المتمردة في سورية ـ  مع ممثلي النظام في دمشق وإيران خلال شهرين تقريباً. تم تنسيق هذه العملية على الصعيد المحلي مع الأمم المتحدة". تعهد التمرد بفك الحصار حول القريتين الشيعيتين نبل والزهراء في محافظة حلب عبر السماح بفتح ممر إنساني، وذلك مقابل السماح بخروج المقاتلين من حمص. تضمن الاتفاق أيضاً الإفراج عن عدة سجناء من بينهم بعض الرهائن المعتقلين من قبل الكتائب التابعة لتنظيم القاعدة، الأمر الذي يدفع للاعتقاد بأن هذه الكتائب شاركت في المفاوضات بشكل غير مباشر.
     حصلت صحيفة اللوموند على جزء من الوثيقة الصادرة عن الجبهة الإسلامية التي تقول أن اتفاق يوم الأربعاء 7 أيار ينص على إخلاء ستمائة مقاتل منهم خمسة عشرة جريحاً مقابل الإفراج التدريجي عن خمس وأربعون رهينة على الأقل من بينهم "إثني عشر طفلاً علوياً وثلاثة نساء علويين" أسرتهم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام في شمال اللاذقية في شهر آب 2013، بالإضافة إمرأة "تحمل الجنسية العراقية" وتسعة وعشرين عضواً من "قوات النظام" منهم ضابطان تم أسرهما في منطقتي حلب واللاذقية. من المفترض أن ينتهي إخلاء بقية المقاتلين يوم الخميس 9 أيار مقابل عمليات إفراج جديدة يمكن أن تشمل العديد من الإيرانيين حسب بعض المصادر داخل المعارضة. اعتادت وسائل الإعلام الرسمية السورية على استضافة السفير الإيراني في دمشق محمد رضا رؤوف شيباني الذي تحدث قبل فترة قصيرة من عملية إخلاء حمص عن احتمال الإفراج عن "مهندسين إيرانيين اثنين". توجهت صحيفة اللوموند بالسؤال إلى السفارة الإيرانية في دمشق، ولكنها لم ترغب بالتعبير عن دورها في مفاوضات حمص.
     وصل المتمردون الذين تم إخلاؤهم يوم الأربعاء إلى مدينة الدار الكبيرة الواقعة على مسافة عشرين كيلومتراً شمال حمص على نهر العاصي. قال أحد الناشطين في هذه المدينة: "استقبلناهم بحرارة. يوجد من بينهم العديد من الجرحى والمقاتلين والمدنيين، وقام أطباؤنا بمعالجتهم فوراً. انضم الباقون إلى مناطق أخرى لم يتم الكشف عنها لأسباب أمنية. جرت هذه العملية بشكل جيد بعكس التوقعات. غادر المقاتلون مرفوعي الرأس وبكرامة".
     اعتبرت دمشق عملية الإخلاء الأولى بدون عنف كمرحلة في "عملية المصالحة الوطنية"، وتمثل هذه العملية انتصاراً للنظام على الصعيد الإعلامي على الأقل. قدّم الرئيس بشار الأسد إلى السوريين صورة جديدة لرئيس يبدو أنه قادر على التسوية، وذلك قبل عدة أسابيع من العملية المبرمجة لإعادة انتخابه، وأكد يوم الأربعاء 7 أيار للتلفزيون السوري أن "الدولة تتمنى إيقاف حمام الدم".
     إن مدينة حمص كرمز وكـ "عاصمة للثورة" التي انتفضت ضد النظام منذ شهر أيار 2011 أعطت صدى إعلامياً واسعاً وحتى خارج سورية. كما سمح ذلك للنظام بنسيان "النقاط الساخنة" مثل الحدود الأردنية حول درعا أو معرة النعمان الاستراتيجية التي تتواجد فيها بعض القواعد العسكرية النظامية الهامة والمحاصرة من قبل الكتائب المتمردة وتحصل على تموينها عبر الطائرات المروحية.
     لم يتردد وزير السياحة بشير اليازجي في الإعلان بشكل كاريكاتوري مبالغ به عن  "موسم سياحي مزدهر" في حمص اعتباراً من الصيف القادم. كانت مدينة حمص القديمة مكاناً سياحياً وثقافياً وتاريخياً مع أبنيتها التاريخية مثل جامع النوري الكبير الذي يعود للحقبة المملوكية وكنائسها مثل كنيسة أم الزنار ـ إحدى أقدم الكنائس في سورية ـ ، ولكن المدينة القديمة  اجتاحها الدمار بعد سنتين من الحصار الذي أدى إلى مقتل 2200 شخص نقلاً عن المرصد السوري لحقوق الإنسان. أظهرت صور عملية الإخلاء حافلة كبيرة خضراء اللون تنقل المتمردين عبر مشهد من الدمار الشامل للأبنية التي تحولت إلى أنقاض.
     يمثل حي الوعر آخر تجمع للمعارضة المسلحة في حمص ضد نظام بشار الأسد، ويقع هذا الحي على أطراف حمص، ولا يكتسي أية أهمية إستراتيجية أو رمزية بالنسبة للمتمردين في المدينة القديمة، ويجب عليهم الانسحاب بدورهم قريباً. من المفترض أن يعلن النظام عن استعادة كامل مدينة حمص، ثالث مدينة في سورية ومن أهم المدن الاقتصادية والصناعية في وسط سورية. ولكن لم يبق من حمص أي شيء يُذكر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق