الصفحات

الخميس، ٢٩ أيار ٢٠١٤

(مارين لوبين تفرض قانونها)

مجلة النوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية 28 أيار 2014 بقلم الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري Michel Onfray

     انقسم المشهد السياسي الفرنسي إلى نصفين: اليسار واليمين. ولكن هذين النصفين أيضاً ينقسم كلاهما إلى نصفين آخرين: الليبراليين والمعارضين للتيار الليبرالي. إذاً، يوجد في فرنسا أربعة تيارات سياسية كبيرة، ولكنها لا تمثل في الحقيقة إلا تيارين اثنين يختلفان عما نتصوره... إذاً، يفترض هذا الانقسام بين اليمين واليسار أن يكون هناك انقسام آخر بين يمين اليمين ويمين اليسار من جهة، وبين يسار اليمين ويسار اليسار من جهة أخرى. لن نستغرب أن يكون يمين اليسار (حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية) ويسار اليمين (الحزب الاشتراكي) أكثر قرباً من بعضهما البعض بالمقارنة مع قرب يمين اليمين (حزب الجبهة الوطنية) من يمين اليسار، وقرب يسار اليسار (حزب جبهة اليسار) من يسار اليمين.
     فشل حكم الحزبين (Bipartisme) القديم في تحقيق أهدافه: شهدت فرنسا سابقاً حكم الحزبين بين فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران، ثم بين جاك شيراك وفرانسوا ميتران، ثم بين نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، وكان الرؤساء الفرنسيون يعطون الانطباع بوجود تعارض بين الحزبين. في الحقيقة، لم يكن هذا التعارض إلا ظاهرياً، ولا يظهر إلا عبر الخطابات خلال الانتخابات. عندما وصل فاليري جيسكار ديستان إلى السلطة، مالت سياسته نحو اليسار. عندما وصل فرانسوا ميتران إلى السلطة، مالت سياسته نحو اليمين. وكان الرئيسان يتبعان سياسة متشابهة إلى حد كبير.
      من إحدى علائم هذا الاختلاط: أن "الرئيس المحافظ" سمح بالإجهاض، وأن "الرئيس التقدمي" فرض سياسة صارمة. هناك أيضاً علائم أخرى: قام جاك شيراك الذي يدعي أنه وريث ديغول بإلغاء الخدمة العسكرية، وهي مبادرة قادرة على إرضاء اليسار المعادي للتوجهات العسكرية. كما قام فرانسوا هولاند الذي يُفترض أنه وريث جان جوريس Jean Jaurès بتحويل فرنسا نحو الليبرالية مع اتفاقية ماستريخت Maastricht عام 1992، وهو خيار يُرضي جداً الوسط واليمين. مثال آخر أيضاً: قام فرانسوا ميتران بإدخال فرنسا في حرب الخليج، ورفض جاك شيراك القيام بذلك في حرب العراق: يتصرف الرئيس الاشتراكي كدعاة الحرب، ويتصرف الرئيس الديغولي كدعاة السلم...
     استمر هذا العداء المزيف بين اليمين واليسار على شاشات التلفزيون. في الحقيقة، كان اليمين يتكلم باتجاه اليمين، واليسار يتكلم باتجاه اليسار، ثم يحكم اليمين واليسار باتجاه الوسط باعتبارهم ليبراليين يؤمنون بقيم السوق. ما زالت الخطابات فقط منقسمة بين اليسار واليمين، أما الممارسات فكانت توافقية لصالح أوروبا الليبرالية التي كرسها فرانسوا ميتران كدين إجباري عام 1983. قام فرانسوا ميتران بتقديم اتفاقية ماستريخت باعتبارها المستقبل والتقدم والحل لجميع المشاكل: وقدم لنا أوروبا الليبرالية باعتبارها الطريق الوحيد. إذا أراد أي شخص أن يرفض أوروبا الليبرالية دون أن يرفض أوروبا بحد ذاتها، يتم اعتباره عدواً لأوروبا وصديقاً للنزعات القومية. ألقى فرانسوا ميتران كلمة في البرلمان الألماني، وكال المديح لشجاعة الجنود الألمان خلال الحرب العالمية الثانية مؤكداً أن القوميات تعني النزعة القومية، وأن النزعة القومية تعني الحرب! في مثل هذه الظروف، من يستطيع الدفاع عن الأمة؟
     كان يجب على أوروبا الليبرالية أن توفر السلام والازدهار والعمالة الكاملة والصداقة بين الشعوب والقوة بين بقية الأمم. من يستطيع القول أنه يريد الحرب والانحطاط والبطالة والحقد بين الشعوب والعجز الدولي؟ ولكن الذين صوتوا على اتفاقية ماستريخت (صوت جان لوك ميلانشون عليها بنعم، وليس أنا...) لم ينعموا بالسلام بل حصلوا على الحرب في أوروبا الوسطى، ولم يبرروا وجود الجنود الأوروبيين في بعض النزاعات في جميع أنحاء العالم؛ ولم يحصلوا على الازدهار لأن حرية السوق ولّدت الفقر: أصبح الفقراء أكبر عدداً وأكثر فقراً، وتراجع عدد الأغنياء وأصبحوا أكثر غنى؛ ولم يتحقق الازدهار الموعود بالنسبة للطبقات الفقيرة لأن الانتقال إلى اليورو كان فرصة لرفع الأسعار في الوقت الذي لم ترتفع فيه الرواتب والأجور؛ كما لم يحصلوا على العمالة الكاملة: لم يكن عامل التمديدات الصحية البولوني خيالاً بل حقيقة لأن اليد العاملة القادمة من بعض الدول كانت أكثر ربحية بسبب انخفاض الرواتب والأجور فيها وعدم توحيد أنظمة العمل الأوروبية بما يتناسب مع الأنظمة الأكثر حماية لليد العاملة، وهكذا أصبح من مصلحة رب العمل الذي يتعرض للمنافسة الدولية تخفيض كلفة الإنتاج عبر نقل معمله إلى بلد آخر أو عبر تشغيل العمال القادمين إلى فرنسا الذين يجري استغلالهم بالنظر للقانون الفرنسي؛ كما لم يحصلوا على الصداقة بين الشعوب: إن المنافسة التي تفرضها الليبرالية على عمال الدول الأوروبية لم تلعب دوراً في تشجيع التعاطف بين العمال الذين يتنافسون بين بعضهم البعض؛ كما لم يحصلوا على القوة من أوروبا القوية، لأن الليبرالية التي تهيمن على أوروبا منذ ربع قرن لم تكن في صالح أوروبا الاجتماعية.
     كانت حسابات فرانسوا ميتران متعالية وشخصية: لقد بذل جهده في المجال الأوروبي، ووضع فرنسا في المرتبة الثانية لاهتماماته عبر تخليه عن السياسة اليسارية ووضعه فرنسا جانباً من أجل الاهتمام ببناء أوروبا التي كان يعتقد أنه من الأسهل له ربطها باسمه. لقد فشلت أوروبا الليبرالية. إن يمين اليسار ويسار اليمين يتقاسمان السلطة بفضل دستور عام 1958 الذي يشجع على حكم الحزبين (Bipartisme). لقد فشل حكم الحزبين. صوت الشعب الفرنسي عام 2005 بأعداد كبيرة مشيراً إلى أنه لا يريد أوروبا الليبرالية، وأنه كان يريد أوروبا أخرى، أوروبا الاجتماعية. لم يصوت ضد أوروبا، بل من أجل أوروبا أخرى. ولكن حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية والحزب الاشتراكي معاً احتقرا هذا التصويت الشعبي ، وصوتا معاً كرجل واحد ضد تصويت الشعب عام 2008، وأدرك الشعب آنذاك أنه خُدِعَ من قبل أولئك الذين يقولون بأنهم يمثلونه، ويكتفون بالدفاع عن إيديولوجية الجهة التي تدفع لهم رواتبهم.
     فشل حُكم الحزبين، ونجم عنه حُكماً لحزبين آخرين تتواجه فيه جبهتان: حزب الجبهة الوطنية وحزب جبهة اليسار. إن الذين يرفضون حكم الحزبين السابقين (حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية والحزب الاشتراكي)، وجدوا أنفسهم أمام حكم حزبين آخرين هما: حزب الجبهة الوطنية وحزب جبهة اليسار، وأظهرت الانشقاقات المتبادلة بين الحزبين الآخرين إمكانية الانتقال بينهما. أصبح بعض الأعضاء السابقين في نقابات العمال أو في الحزب الشيوعي الفرنسي يدعمون مارين لوبين، وبعض الذين كانوا يصوتون لليسار أصبحوا يصوتون لحزب الجبهة الوطنية.
     هناك نقاط مشتركة هامة تجمع بين الجبهتين مثل: الرفض المشترك لأوروبا الليبرالية، والإدانة نفسها لمنطق اتفاقية ماستريخت، والشكوك الصريحة تجاه اليورو، والغضب نفسه ضد الأحزاب التي تدافع عن أوروبا الليبرالية، والإدانة نفسها لجميع وسائل الإعلام تقريباً التي يملكها رجال المصارف وتمثل وسيلة يومية لنقل الإيديولوجية الليبرالية، والهموم نفسها التي تعبر عنها الطبقات الفقيرة، والإدانة نفسها للنخب الفاشلة، والدفاع نفسه عن الدولة والخدمات العامة ـ هذا الأمر الأخير جديد بالنسبة للجبهة الوطنية. فيما يتعلق بالأحداث الراهنة، هناك توافق واضح بين مارين لوبين وجان لوك ميلانشون حول مسألة التدخل في سورية ودعم بوتين والدفاع عن جيروم كيرفييل Gérôme Kerviel (كان يعمل في قسم المضاربات المالية في مصرف Société Générale وتمت إدانته قضائياً لأنه تسبب بخسارة قدرها 4.82 مليار يورو للمصرف عام 2008) الذي تحول إلى ضحية للنظام.
     إن الخلاف الوحيد بين الجبهة الوطنية وجبهة اليسار هو مسألة الإسلام الذي يمثل خطرا بالنسبة للأول وفرصة مواتية بالنسبة للثاني. لهذا السبب حصل الأول على ضعفي أصوات الثاني. تتصف مارين لوبين بالبراغماتية، وتطرح الأسئلة التي يطرحها الجميع؛ أما جان لوك ميلانشون فيتصف بأنه إيديولوجي، ويعتبر أن هذه الأسئلة غير مشروعة على الرغم من أنها مطروحة. لو كان ميلانشون الماسوني العلماني غاضباً من الإسلام كما هو غاضب من جميع الأديان باستثناء الإسلام، فإن موازين القوى ستنقلب. في هذه الحالة، ستصبح الحياة السياسية الفرنسية منظمة حول جان لوك ميلانشون، وسيكون ذلك أمراً مرغوباً بشكل أكبر من أجل إعطاء المزيد من الصبغة اليسارية ليسار الحكومة...
     هناك شريحة من السكان لا تعترف بهذه الخيارات الأربعة المطروحة، وهي تجمع أولئك الذين أدركوا أن الليبرالية بالنسبة لأوروبا المعاصرة تشبه ما كانت عليه الماركسية ـ اللينينية في النصف الثاني من القرن العشرين: عندما يُشار إلى الأخطاء، يقال أن السبب هو الحاجة إلى المزيد مثل القول بأن نقص تطبيق الماركسية يُفسر قصور الماركسية، وأصبح نقص تطبيق الليبرالية اليوم يُبرر الوضع الذي نعيشه اليوم! شاهد الذين لم تخنهم الذاكرة أن حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية والحزب الاشتراكي يدافعون عن عالم لا يريدونه.
     هناك شريحة أخرى من السكان لا تعترف بالخيار المعادي لليبرالية: إنها تريد أحياناً جزءاً من مارين لوبين، ولكن بدون أفكارها المتعلقة باليمين الكاثوليكي مثل العودة إلى تطبيق حكم الإعدام ورفض الإجهاض والدفاع عن العائلة الكاثوليكية وإدانة الحداثة باسم التقاليد؛ كما تريد هذه الشريحة أحياناً أخرى جزءاً من ميلانشون (هذا هو الحال بالنسبة لي...)، ولكن بدون أفكاره اليسارية المتعلقة بروبسبيير Robesbierre الذي كان يقطع الرؤوس، وبدون اليسار الحاقد وخياراته الشعبوية بدلاً من الخيارات الشعبية، وبدون البرنامج الإديولوجي للسنوات الممتدة من عام 1950 وحتى عام 1970 حول تمجيد الزعيم...
     هناك شريحة أخرى لم تعد تعترف بهذه الاحتمالات الأربعة: إنها واضحة وتشعر بالخيبة، وهي تعرف أن القانون الليبرالي للعبة الانتخابية الليبرالية ستُفرز ليبرالياً يمينياً أو يسارياً، ولكنه ليبرالياً في النهاية. ستكون هناك نقاشات تلفزيونية بين المرشحين الليبراليين، ولكنهم سيصوتون على القوانين نفسها في البرلمان الأوروبي. تعرف هذه الشريحة أيضاً أن معارضي الليبرالية لن يحصلوا إلا على بعض المقاعد المتحركة التي تسمح لهم بالتعبير عن آراء عامة الناس دون أن يثمر كلامهم عن أية نتيجة. سيردّ الليبراليون أن هذه الانتقادات تُبرهن على الطابع الديموقراطي لمؤسستهم! تعرف هذه الشريحة أيضاً أن هؤلاء المحامين عن حقوق الشعب سيحصلون على رواتبهم لقاء هذا العمل، وسيحصلون على حماية الأحزاب التي تختارهم ليكونوا أعضاء داخلها، هذا هو مبدأ لائحة المتحزبين الذين سيحصلون على أجر أعلى بكثير من أجر هذه الشريحة...
     على أي حال، استفادت مارين لوبين من أوروبا من أجل الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2017، أو حتى الانتخابات الرئاسية التي تليها. أصبحت مارين لوبين تمثل القوة السياسية التي ستُبنى عليها جميع استراتيجيات وتكتيكات الأحزاب الأخرى. لقد بدأت تفرض قانونها... أنا لست غاضباً منها، لأنها أحد الأعراض، بقدر الغضب من جميع الذين جعلوا ذلك ممكناً منذ عام 1983. لا يمكن إهانة شعب دون أن يرغب هذا الشعب باستعادة كرامته يوماً ما، حتى ولو أخطأ في الوسيلة. إن السماح لمارين لوبين باحتكار استعادة كرامة الشعب المحطمة بعد ثلاثين عاماً من الليبرالية، ليس قدراً محتوماً. إذا كان اليسار راغباً بذلك، فإنه أمر سهل جداً: تكفي الإرادة. ولكن الإرادة لم تعد موجودة في قاموس المصطلحات الاشتراكية منذ وقت طويل، لأن أوروبا الليبرالية تمنع الأمم من أن تريد شيئاً آخر غير الذين تريده أوروبا الليبرالية. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق