الصفحات

الثلاثاء، ١ تشرين الأول ٢٠١٣

(بشار الأسد، الناجي)

صحيفة اللوموند 1 تشرين الأول 2013 بقلم بنجامان بارت Benjamin Barthe

     عندما ينظر بشار الأسد من نافذة منزله في حي المالكي التي يمثل ملجأ للنخبة الدمشقية، بإمكانه أن يتأمل دوماً بالوضع الطبيعي الظاهري. إن تجمع السيارات الفخمة أمام المحلات الراقية التي تتسوق فيها النخبة الحاكمة المقربة من النظام لشراء الجبنة الفرنسية والأيباد ميني (IPad mini)، تخفف من صعوبات جولاته على الجبهة في أنقاض داريا أو باب عمرو في حمص. كما يشعر بالإطمئنان عندما يشاهد مبنى هيئة الأركان، الدعامة الأساسية لسلطته، التي قاومت سنتين ونصف من المعارك والانشقاقات. ماذا يهم إذا كانت الحرب تحتدم على مسافة عدة كيلومترات في حي جوبر، النقطة الأكثر تقدماً للمتمردين في دمشق، أو إذا سقطت بعض قذائف الهاون من حين لآخر على حي المالكي كما حصل في شهر آب عندما سقطت إحداها بالقرب من موكبه. ما زال بشار الأسد وزوجته يتصرفان كما لو أن البلد من أملاكهما، وكما لو أن الكارثة التي حلت بهذا البلد مع مئة وعشرة آلاف قتيل ومليوني لاجىء وخمسة ملايين نازح، لم تغير شيئاً تقريباً، وعلى أي حال، لا يوجد شيء لا يمكن إصلاحه.
     قام الزوجان قبل عدة أسابيع بتنظيم حفلة عيد ميلاد أحد أطفالهما، وأطلقا البالونات التي جعلت سكان الحي مذهولين. بمناسبة عيد الفطر في منتصف شهر آب، تلقت إحدى المتعاطفات مع المعارضة اتصالاً هاتفياً من أسماء التي أصرت على أن تتمنى لها "عيداً سعيداً" على الرغم من ضجيج الانفجارات. قال مصدر له علاقاته مع الدائرة الأولى للسلطة: "إنه أمر سوريالي، ولكن هذا هو الوضع. أسماء ليست من النوع الذي يشعر بالكثير من القلق. لقد عثرا على وتيرة حياتهما، ولم يعد الوضع يؤثر بهما".
     يشعر رئيس الدولة السورية بتفاؤل أكبر بعد خروجه بدون أية خدوش من الأزمة الدولية الناجمة عن قيامه بقصف الغوطة بغاز الساران بتاريخ 21 آب. لقد تراجع الاهتمام بمشروع الضربات الفرنسية ـ الأمريكية كرد على المجزرة بحق مئات السكان في الغوطة، كما أن اتفاق تفكيك الترسانة الكيميائية التي تم التوصل إليه برعاية روسيا والولايات المتحدة بتاريخ 14 أيلول يسمح له بالحلم بعودة بطيئة للحظوة. قال أحد الدبلوماسيين الأجانب العاملين في دمشق: "تمت إعادته إلى محور الرهان السياسي. بالتأكيد لن يتم التفاوض حول نزع الأسلحة مع أحمد الجربا، ويدرك بشار هذا الأمر. إنه يعرف بأن التهديد قد رحل ولن يعود قريباً".
     مضى عدة أشهر على تشقق جدار الأعمال الشائنة التي يحيط بجلاد الثوار السوريين. أعادت الأجهزة السرية الألمانية علاقاتها مع نظيرتها السورية، وأرسل الإسبان قائماً بالأعمال لزيارة دمشق. كما قام وزير الإعلام السابق محسن بلال بجولة في إسبانيا وإيطاليا. وأعادت سفارة الاتحاد الأوروبي فتح أبوابها بعد أن أغلقتها لأسباب أمنية.
     في ذروة التوتر مع باريس وواشنطن، وبإحساس ذكي بالتوقيت، عاد بشار الأسد لإجراء المقابلات لكي يلعب على وتر الخوف الذي يشعر به الرأي العام في الدول الغربية بسبب الأزمة السورية واشتعال المنطقة والدمار الجهادي. أجرى المقابلات مع الفيغارو وCBS وفوكس نيوز والتلفزيون الروسي... لقد شهدت مكاتب الرئيس في العفيف والفيلا التي يعمل بها على جبل قاسيون نشاطاً لم يسبق له مثيل منذ عدة أشهر، تمثل هذه الأمكنة عنصراً محورياً في عمله كرجل دولة لطيف ويمكن الاتصال معه بسهولة.
     قال أحد الذين يترددون على دمشق ويعرف رهانات السلطة فيها: "يريد النظام الاعتقاد بأنه تجاوز مرحلة، وأن الرياح بدأت تهب لصالحه. بدأ الإعداد لآلية عمل كاملة من أجل إعادة شرعيته". كان اللقاء بين زعيم دمشق والنائبة الأوروبية البلجيكية فيرونيك دوكيزير Véronique De Keyzer يوم الخميس 19 أيلول آخر عمل ضمن هذه الإستراتيجية لاستعادة شرعيته. لقد وافقت الرئاسة السورية الكريمة على عدم إثارة ضجة إعلامية حول هذا اللقاء، وراهنت على أن نائبة رئيس المجموعة الإشتراكية في البرلمان الأوروبي ستقوم بذلك بنفسها.
     هذا ما حصل فعلاً: لم تتأخر فيرونيك دوكيزير بعد عودتها إلى بروكسل عن عرض لائحة الحجج لمستضيفها الذي قدم نفسه كالعادة كرجل إصلاحي غير مفهوم، وكحصن ضد الإسلاميين، وكضمان لسورية علمانية وموحدة، وكقائد لسفينة في وسط العاصفة، وأنه سيكون مجرماً إذا تخلى عنها. كما هو الحال بالنسبة لجميع الساذجين الذين دخلوا صالونات قاسيون أو العفيف، لقد شعرت بالذهول من "هدوء" الرئيس واستعداده "للإصغاء ومناقشة كل شيء". أي بكلمة واحدة: الذهول من جاذبيته، هذه الكلمة التي ستكون عادية لولا أن الكثير من السوريين لا يتحملونها.
     هذه هي العلامة المميزة للأسد الابن. إنه متحدث متواضع المستوى أمام الجمهور، ولكنه يُظهر كاريزما غير متوقعة في اللقاءات الثنائية. تصفه الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية للدفاع عن حقوق الإنسان بأنه مجرم حرب، ولكنه لا يتبنى الوسائل القوية والعنف السياسي البارد والصريح. بصفته رئيساً، حاول دوماً الابتعاد عن الأسلوب الجامد والمتكلف لوالده حافظ الذي لم يكن يتردد في الإطالة بالحديث خلال عدة ساعات أمام زواره. لا يتلخص هذا الأسلوب بمجرد تكتيك إعلامي. عندما كان يدرس في الثانوية الفرنسية وكلية الطب في دمشق، كان بشار الأسد يوصف بأنه رجل شاب بدون صفات مميزة، وأنه متواضع ويحب العمل. أي على عكس أخيه الأكبر باسل ذي الشخصية القوية والمشهور بمواهبه في الفروسية وإعجاب الفتيات به.
     لا أحد يستطيع تجميد المجتمع. إن تزامن القنبلة السكانية مع ارتفاع مستوى التعليم والوضع الاقتصادي المتأزم، خلق قنبلة موقوتة. يدخل مئتا ألف شاب سوق العمل سنوياً، ولكن حفنة منهم فقط تجد عملاً لها. قال الباحث السياسي سهيل بلحاج الذي ألف كتاباً عن سورية الأسد: "كان بإمكان الأسد إصلاح سورية خلال سنوات عام 2000، ولكنه لم يفعل شيئاً. لم يسمع صعود غضب البروليتاريا السنية، وهذا هو خطأه الأكبر والزاوية الميتة في رئاسته". كان حزب البعث وسيلة للإرتقاء الاجتماعي، وهذا ما يدل عليه الأصول المتواضعة والريفية لأغلب قادته. ولكن تم تهميش الحزب لصالح طبقة من رجال الأعمال الوصولية التي لا يوجد حد لشهيتها، وتتجسد هذه الطبقة برامي مخلوف، ابن خالة الرئيس، الذي سيطر على قطاعات واسعة من الاقتصاد. كان رئيس الدولة السورية يعتقد بأن نجاحاته في السياسة الخارجية وموقفه المعادي لإسرائيل، ولاسيما دعمه لحزب الله أثناء نزاعه مع الدولة اليهودية في صيف عام 2006، سيعوض فشله على الصعيد الداخلي. ولكنه أخطأ.
     قال أحد المراقبين المتابعين للساحة السياسية السورية: "بعكس والده الذي كان من الممكن التعامل معه، فإن بشار يكذب كثيراً وباستمرار. إن جميع الذين أرادوا التفاوض معه شعروا بذلك. تتمثل إستراتيجيته الوحيدة بتفاقم الوضع، إما هو أو الطوفان". كيف يمكن تفسير مثل هذا التعالي من قبل زعيم يبدو أنه مثل بقية الناس ومن هواة موسيقى البوب الإنكليزية واشترى DVD هاري بوتر على الأنترنت؟ قال أحد الدبلوماسيين الأجانب: "لديه عقدة الزعماء الذين وصلوا لعدم وجود بديل آخر. إنه لا يريد أن يُخيب أمل الذين اعتمدوا عليه ليأخذ مكان باسل. بسبب التأكيد على ذلك، تحول من الدكتور بشار إلى المستر أسد". يقترح أحد العارفين بالعائلة الرئاسية تفسيراً آخر: "كما هو الحال بالنسبة لسيف الإسلام القذافي، يمثل بشار الأسد رمزاً إشكالياً لهذا الجيل من الأبناء الذين عاشوا في المدينة وأحياناُ في الخارج ويحتقرون مجتمعهم، بعكس آبائهم الذين تشبعوا بثقافة شعبية حقيقية. لهذا السبب، استطاع أن يبدأ مشروعه في تدمير الطبقة الشعبية السورية".

     يعتقد بشار الأسد أنه عاد إلى فترة عام 2007 في بداية نهاية عزلته الدولية، عندما استأنفت فرنسا الحوار معه بمبادرة أمريكية. في ذلك الوقت، عرف كيف يلعب بذكاء على فزاعة الفوضى العراقية التي أضعفت النظرية الأمريكية بـ "تغيير النظام". إنه يكرر ذلك بشكل يلفت الانتباه، ويُلوح اليوم بتهديد تنظيم القاعدة ـ على الرغم من أنه لم يتوقف عن تغذيته في الكواليس، ولاسيما عبر الإفراج عن الجهاديين ـ من أجل نزع المصداقية عن معارضيه، وإعادة نفسه إلى الساحة. ولكنه تشابه زائف، ولا يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنه بين هاتين الفترتين تمردت قطاعات واسعة من الشعب على حساب تضحيات جسيمة. هل يمكنه العودة؟ هل يمكنه أن يجعل الناس ينسون أطفال الغوطة الذين ماتوا بالمئات أثناء نومهم؟ ما زالت الحرب الأهلية في بدايتها، وربما سينقذ هذا الرجل رأسه. ولكن النظام الذي يحمل اسمه محكوم عليه بالفناء، إلا إذا حكم على أكوام من الأنقاض، على بلد سجين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق