صحيفة الفيغارو 3 آذار 2014 بقلم
فلورانتان كولومب Florentin
Collomp
شددت
لندن لهجتها حول شبه جزيرة القرم خلال عطلة نهاية الأسبوع 1 ـ 2 آذار. قام وزير
الخارجية البريطاني وليم هيغ باستدعاء السفير الروسي، وطلب عقد اجتماع لمجلس الأمن
في الأمم المتحدة، ثم استعد للذهاب إلى كييف. إنها صحوة متأخرة. تميز الموقف
البريطاني حتى الآن بصمت مطبق منذ بداية المظاهرات في ساحة ميدان في كييف، وذلك في
الوقت الذي انخرط فيه وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس ونظيريه الألماني
والبولوني من أجل السعي إلى حل الأزمة السياسية الأوكرانية. قامت بريطانيا بدور
أساسي في توسيع أوروبا نحو الشرق في الماضي، ولكنها تنظر اليوم بريبة إلى التطلعات
الأوروبية للشعب الأوكراني، وذلك في الوقت يتحدى فيه المسؤولون البريطانيون
الاتحاد الأوروبي.
يبدو
أن التقاليد الدبلوماسية العريقة لوزارة الخارجية البريطانية لم تعد قادرة على
الاستمرار، كما لو أن الطموحات العالمية لبريطانيا أصبحت محاصرة بين الاستفتائين
القادمين اللذين ستكون لهما نتائج كبيرة على مكانة بريطانيا في العالم: الاستفتاء
الأول في شهر أيلول القادم حول استقلال اسكتلندة، والاستفتاء الثاني المحتمل عام
2017 حول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. بانتظار ذلك، يبدو أن بريطانيا انطوت على
نفسها. رأينا ذلك في نهاية الصيف الماضي أثناء التصويت الجارح للبرلمان الذي عارض
مشروع التدخل في سورية. كما رأيناه خلال المفاوضات حول الملف النووي الإيراني
عندما التزمت لندن بموقف واشنطن بدون دراسة التفاصيل. عندما طلبت فرنسا من حليفها البريطاني
مساعدة عسكرية للتدخل في مالي أو في جمهورية أفريقيا الوسطى، اكتفت بريطانيا
بتقديم مساعدة لوجستية. يبدو أن إدارة دافيد كاميرون عادت إلى "بريطانيا
الصغيرة" (Little England) بعد النظرة
الواسعة لسنوات طوني بلير.
هل
يُفضل دافيد كاميرون السياسة الداخلية؟ قال دينيس ماكشاين Denis MacShane، الوزير السابق للشؤون الأوروبية في حكومة
طوني بلير: "لم يكن لدى دافيد كاميرون والمحافظون بوصلة دبلوماسية عند
وصولهم إلى السلطة. كان وزير الخارجية وليم هيغ
مؤسس التيار الذي يغذي الريبة بأوروبا. إن التجارة هي الشيء الوحيد المهم
بالنسبة لهم. أصبحت النظرة البريطانية نظرة رهبانية (Paroisial)
تُهيمن عليها السياسة الداخلية بشكل كامل. يبدو أن العلاقات مع الخارج تقتصر على
المواجهة مع أوروبا والدفاع عن جزر المالوين ومضيق جبل طارق الذي تسبب بعدة أشهر
من الخلافات العابرة وغير المفيدة مع إسبانيا". إن هذا
السياق لا يُسهّل التوجه الدولي. تصاعدت قوة الحزب القومي البريطاني UKIP (Uniter
Kingdom Independence Party) المعادي لأوروبا وللهجرة على يمين
المحافظين، الأمر الذي أدى إلى نقل مركز الجاذبية السياسية. كان يُنظر إلى فتح
الحدود الأوروبية باتجاه الشرق بمثابة الفرصة سابقاً، ولكنه أصبح اليوم تهديداً.
لقد تحول ترحيب حكومة طوني بلير بانضمام بولونيا للاتحاد الأوروبي إلى رفض للرومان
والبلغار أو حتى للريبة بكل ما يأتي من الخارج. تفرض الأحزاب الشعبوية عقيدتها
القائلة بأنه يجب الدفاع عن المنزل وليس شن مغامرات خارجية متهورة.
هل
يمكن أن تطوي بريطانيا صفحة العراق وأفغانستان؟ قال روبيرت نايبليت Robert Niblett، مدير معهد الأبحاث الدبلوماسية شاتام هاوس
(Chatham House): "يلاحظ
وجود انفصال بين توجهات الزعماء السياسيين مثل كاميرون وهيغ اللذين يريدان التدخل
في سورية، وبين توجهات الشعب. أظهر التصويت حول سورية أن بريطانيا مُتعبة بعد
الحروب المنهكة في العراق وأفغانستان، وكانت بريطانيا البلد الأوروبي الأكثر
انخراطاً في هذه الحروب وتكبدت خسائر فادحة. إنه وضع يشبه وضع الولايات المتحدة
بعد فييتنام، هناك تراجع في الثقة بالأحزاب السياسية. من هنا جاءت ضرورة قيام
الحكومة بطلب موافقة البرلمان من أجل استعادة الشرعية". يبدو أن عصر
التدخل البريطاني في كوسوفو وسيراليون ورواندا أصبح بعيداً. بعد التدخل غير الشعبي
إطلاقاً في العراق وأفغانستان ونتائجه غير المقنعة، برزت الشكوك لاحقاً حول ضرورة
العملية العسكرية في ليبيا إلى جانب فرنسا. كما فرض عجز الموازنة نفسه على قدرات
انتشار القوات. قال جيزون رالف Jason Ralph،
أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليدز Leeds:
"ترافقت الضغوط المالية مع تراجع طموح بعض النخب السياسية ومع عداء الرأي
العام، ولكن ذلك لا يعني توجهاً انعزالياً. من الثابت أنه إذا كانت بريطانيا قادرة
على القيام بشي ما، فإنها يجب أن تفعله ضمن حدود إمكانياتها".
ما
هي الأولويات الجديدة لبريطانيا؟ إذا لم تكن بريطانيا قد تخلت عن جميع
طموحاتها العالمية، فإنها في طريقها نحو تعديل أولوياتها. تريد إدارة كاميرون
مواكبة بروز قوى جديدة أدت إلى تغيير النظام القائم للأمم القديمة. إن السياسة
الخارجية المتركزة على التحالف مع الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط أصبحت في
طريقها نحو تغيير التوازن لصالح العالم الجديد. قال جيمس سترونغ James Strong الباحث المتخصص بالسياسة الخارجية البريطانية في
مدرسة لندن للاقتصاد (London School of Economics):
"إنه تغيير تكتيكي مع انسحاب نسبي من بعض مناطق العالم من أجل التركيز على
مناطق أخرى والتشديد على العلاقات التجارية، أكثر من كونه ثورة استراتيجية".
إن هذا التغير يجري حالياً في وزارة الخارجية البريطانية. إنه ليس انكفاء، فقد
استفادت الشبكة الدبلوماسية البريطانية من إمكانيات جديدة. إذا كان يجب على وزارة
الخارجية البريطانية، كبقية الوزارات العامة، تخفيض نفقاتها بنسبة 5 إلى 10 %
سنوياً بسبب سياسة التقشف، فإن الوزير وليم هيغ تعهد بحماية هذه الشبكة
الدبلوماسية والاستثمار في الممثليات البريطانية في الخارج بعد عدة سنوات من
التخفيضات الكبيرة للحكومات السابقة. تم إغلاق 45 مكتب دبلوماسي في الخارج منذ عام
1997، ولكن وزير الخارجية البريطاني وعد بإعادة فتحها وتعزيز خمسة عشر مكتباً بحلول عام 2015، ومنها أحد عشر مكتباً خلال هذا
الصيف. إن قائمة أسماء المدن المرشحة لهذه المكاتب تُعطي فكرة حول الأولويات
البريطانية الجديدة: جوبا (جنوب السودان)، أبيدجان (ساحل العاج)، أنتاناناريفو
(مدغشقر)، فيينتيان (لاوس)، كالغاري (كندا)، ريسيف (البرازيل)، سياتل (الولايات
المتحدة)، مونروفيا (ليبيريا)، حيدر أباد (الهند). تم زيادة عدد الموظفين في
البعثات الموجودة في الصين والهند والباكستان وفييتنام وتركيا وكولومبيا وتشيلي.
بشكل موازي، انخفض عدد الموظفين في بعض السفارات البريطانية في أوروبا.
هل
انتهت العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة؟ نجم عن هذه المعطيات الجديدة أن
بريطانيا لم تعد تعتبر نفسها الصديق الأفضل والدائم للولايات المتحدة، ويبدو أن
فرنسا هي التي تبنت هذا الدور مؤخراً. لقد بدأت عملية إعادة تحديد هذه "العلاقة
الخاصة" بين البلدين التي قادت إلى تشبيه طوني بلير بالكلب الصغير لجورج
بوش. تحدث وليم هيغ عن علاقة "صلبة وليست تابعة". بشكل موازي،
حاولت بريطانيا اجراء تحالفات جديدة دون تحقيق النجاح المأمول. تم التقرب من بكين
دون تردد من أجل أسواقها الاقتصادية بشكل خاص. ولكن تقارب كاميرون مع الدالاي لاما
أزعج قادة الحرب الشيوعي الصيني، الأمر الذي جعله يضع تقاربه مع الدالاي لاما في
المرتبة الثانية باسم الواقعية السياسية. ينطبق ذلك أيضاً على الطموح بالمصالحة مع
روسيا بوتين، ولكن بدون تحقيق النتائج المنتظرة. بعد سنوات "الحرب
الباردة" التي أعقبت اغتيال المعارض ألكسندر ليتفينانكو بواسطة السم عام
2006، أظهر كاميرون استعداده لوضع هذه الخصومات جانباً إلى درجة خنق التحقيق
القضائي حول عملية الاغتيال المنسوبة إلى موسكو. حظي بوتين باستقبال حافل في لندن
خلال صيف عام 2012. رأينا نتائج ذلك في موقفه حول سورية وأوكرانيا. ظهرت الحيرة
على كاميرون، وتقلبت مواقفه بين التشدد والتساهل، ورفض حضور الألعاب الأولمبية
الشتوية في سوتشي. تتوسع الدبلوماسية البريطانية أيضاً في خدمة التجارة الخارجية
باتجاه أمريكا اللاتينية أو آسيا. لم تتحقق النتائج المنتظرة: طلبت البرازيل شراء
طائرات مقاتلة من السويد، وفضّلت الهند طائرات رافال الفرنسية على طائرات التيفون
البريطانية. قال دينيس ماكشاين ساخراً: "يتفاقم العجز التجاري في أية
عاصمة يزورها وليم هيغ".
هل
تواجه بريطانيا خطر الضعف؟ لاشك أن هذه الطموحات التجارية تصطدم هنا أيضاً
باعتبارات السياسة الداخلية. تعهدت حكومة كاميرون بتنفيذ وعد مستحيل هو تخفيض
الهجرة إلى النصف، ووضعت سياسة تقييدية جداً على منح سمات الدخول بشكل أثار
انتقادات وزراء الاقتصاد والتجارة في أغلب الأحيان وانتقادات السلطات وممثلي
السياحة في لندن. إن انتشار نزعة الارتياب من أوروبا لن تُسهّل السياسة الخارجية
البريطانية. فيما يتعلق بالاستفتاء حول اسكتلندا، يزداد عدد المسؤولين السياسيين
الذين يدافعون عن وحدة الأراضي البريطانية تجاه التهديد الانفصالي. في حال التصويت
الإيجابي لانفصال اسكتلندا، ستخسر بريطانيا 8 % من سكانها والنسبة نفسها من إجمالي
الناتج المحلي البريطاني. قال أحد الدبلوماسيين الأوروبيين ساخراً: "ستجد
بريطانيا نفسها وراء إيطاليا، وستُطرح مسألة مقعدها في مجلس الأمن للأمم المتحدة
بشكل أوتوماتيكي". إنه السيناريو الأسود، قليل الاحتمال، الذي تريد لندن
تجنبه بأي ثمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق