صحيفة الفيغارو 19 آب 2014 بقلم رونو جيرار
Renaud Girard
كان
لا بد من انتظار صيف عام 2014 لكي يدرك الرأي العام الغربي أخيراً مأساة إبادة
مسيحيي الشرق. إن هذه الظاهرة ليست جديدة، ولكنها تسارعت منذ سقوط الموصل بأيدي
المتعصبين في الدولة الإسلامية. يعود تاريخ وجود المسيحية في هذه المنطقة إلى
القرن الرابع الميلادي. أدرك الغرب الورطة الكبيرة التي تسبب بها في العراق. إنها
نتيجة التدخلات العسكرية الغربية بين دجلة والفرات! تعرض العراق للغزو مرتين عام
1991 وعام 2003، وقاد هذا الغزو رئيسان أمريكيان مسيحيان يلتزمان بواجباتهما
الدينية، وأدى ذلك في النهاية إلى صلب المسيحيين!
كانت
ممارسة العمل السياسي تتصف بالخطورة خلال حكم صدام حسين، ولكن الجميع كان يمارس
طقوسه الدينية كما يحلو له، وكانت النساء تمشي بحرية في الشوارع مع الحجاب أو
بدونه. أتذكر ما قاله الراهب الدومينيكاني يوسف توما Youssef Thomas في بغداد خلال شهر شباط عام
2003 عندما أعرب لي سرّاً عن سروره بوصول الأمريكيين معتقداً أنهم سينجحون في زرع
الحرية السياسية والديموقراطية ودولة القانون. كم هو عدد المواطنين العراقيين
الذين تعرضوا لخيانة جورج بوش الابن وتوني بلير؟ إن استخدام الولايات المتحدة
لطيرانها وقواتها الخاصة لعرقلة الموجة السوداء للتعصب الإسلامي للدولة الإسلامية
هو الحد الأدنى مما يجب القيام به.
يمثل الفشل الأنغلو ـ أمريكي في العراق بين عامي
2003 و2010 تخلياً مذهلاً عن المسيحيين الذين دفعوا ثمناً باهظاً للفوضى. ارتكب
الأنغلوساكسونيون خطأ سياسياً خطيراً في غزوهم للعراق بتاريخ 20 آذار 2013 وعدم
إصغائهم لنصائح حليفهم الفرنسي، ثم ارتكبوا خطأ آخر أكثر خطورة على الصعيد
الأخلاقي والاستراتيجي بانسحابهم من العراق دون أن ينجحوا في بناء "الشرق
الأوسط الجديد" الديموقراطي الذي وعدوا به علناً وبتهور. ارتكبت الولايات
المتحدة خطأ أخلاقياً بتخليها عن العراقيين وعن المسيحيين في المقام الأول، كما
ارتكبت خطأ استراتيجياً بفقدانها سلطة الردع في العالم العربي ـ الإسلامي. إذا
تخليتم عن صديق في الشرق الأوسط، فهذا يعني أنكم ضعفاء، ولن يتأخر أعداؤكم كثيراً
لاستغلال ضعفكم.
فيما
يتعلق بالتخلي عن مسيحيي الشرق، لا تستطيع فرنسا للأسف إعطاء الدروس. لم تُبالِ
فرنسا بمصير المارونيين في لبنان عام 1975، هؤلاء المارونيين الذي كانوا يشعرون
بأنهم فرنسيين (منذ القديس لوي Saint Louis)، ويتكلمون الفرنسية، ويريدون الدفاع عن سيادة الدولة (تجاه
الفلسطينيين) التي أنشأتها فرنسا عام 1920. كانت النخبة المثقفة الباريسية
بأغلبيتها معادية للمارونيين، وكانت تُعبّر عن ابتهاجها بأعداء المارونيين، وتصفهم بصيغة "الإسلاميين
التقدميين". بذلت فرنسا جهوداً كبيرة في صيف عام 1982 من أجل إخلاء
المقاتلين الفلسطينيين المحاصرين من قبل الجيش الإسرائيلي، ولكن الجنود الفرنسيين
المقيمين في العاصمة اللبنانية لم يتحركوا في بداية شهر أيلول عام 1983 لإنقاذ
المسيحيين في الشوف (التي يحتاج الوصول إليها ساعتين) عندما كانت الميليشيات
الدرزية تقتلهم بعد الانسحاب المفاجىء لجيش الغزو الإسرائيلي. قُتِلَ ألف وخمسمائة
مسيحي بالإضافة إلى طرد عشرات الآلاف دون أن نتحرك قيد أنملة! نظراً لهذا الضعف
الواضح، إن تخاذلنا تعرض للعقاب بسرعة: مات 58 جندي فرنسي بتاريخ 23 تشرين الأول
1983 في عملية تفجير دراكار Drakkar في بيروت.
وحتى
إسرائيل، هذا البلد الغربي الذي كان يُفترض به معرفة الشرق المُعقد أفضل من غيره،
ارتكبت الخطأ الاستراتيجي عندما تخلّت عن صديق في ساحة مكشوفة لوحده. أمَرَ رئيس
الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك بسحب القوات الإسرائيلية بشكل مفاجىء من جنوب
لبنان في شهر أيار عام 2000 دون أن يُكلف نفسه عناء استشارة حلفائه (المسيحيين
بأغلبهم) في جيش لبنان الجنوبي الذي تحالف مع إسرائيل منذ عام 1976. كانت إسرائيل
تبعث على الخوف في المشرق حتى هذا الانسحاب المفاجىء، ولكنها لم تعد تبعث على
الخوف بعد ذلك. اغتنم حزب الله بسرعة هذا الضعف، وألقى الأمين العام لحزب الله
كلمة في بيت جبيل أمام حوالي مئة ألف شخص
(وقد حضرت شخصياً إلقاء هذه الكلمة) من أجل الاحتفال بـ "انتصاره" ضد
إسرائيل. توجه حسن نصر الله في الجزء الثاني من كلمته إلى الفلسطينيين لكي يقول
لهم أن التفاوض مع الإسرائيليين لا ينفع شيئاً، وأنهم لا يفهمون إلا لغة السلاح.
في شهر أيلول التالي، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي انتقلت من الحجارة
إلى المواجهات بالكلاشينكوف وأحزمة المتفجرات.
ستقولون أن الغرب هو الذي خلق إسرائيل، وأنه لم
يتخل عنها! ليست لدي أية مشكلة في أن بلدي فرنسا أعطى القنبلة النووية والصواريخ
اللازمة معها إلى إسرائيل، فرنسا هي صديقة إسرائيل منذ ولادتها عام 1948. كان يجب
خلال سنوات الخمسينيات والستينيات منع تدمير هذا البلد الصغير الشجاع والرائد من
قبل القوى العربية المجاورة. ولكن الصداقة تفترض أيضاً التحلي بالشجاعة لإعطاء
النصائح. تُخطىء إسرائيل عبر القيام بكل ما بوسعها لتخريب الدولة الفلسطينية
المستقبلية. إن تأثير الأراضي المحتلة يشبه السم البطيء على صحة الدولة اليهودية.
إن السماح لصديق بارتكاب بعض الأخطاء هو أيضاً شكل من أشكال التخلي عنه. ساهمت
الولايات المتحدة كثيراً في خلق دولة إسرائيل، ويجب عليها اليوم أن تفرض خطة
لتقسيم الأراضي. إن الخرائط موجودة، وقد رسمها بعض رجال السياسة الإسرائيليين
والفلسطينيين ذوي الإرادة الحسنة خلال مبادرة جنيف عام 2003.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق