الصفحات

الاثنين، ٢٨ أيلول ٢٠١٥

(كيف ستكون دولة إسرائيل بعد عشرين عاماً؟)

صحيفة الفيغارو 14 أيلول مقالاً 2015 بقلم مراسلها في إسرائيل سيريل لوي Cyrille Louis

     يمثل العامل السكاني في إسرائيل موضوعاً متفجراً أكثر من أي بلد آخر. يتطرق البعض إلى هذا الموضوع لكي يتنبأ بإقامة حكم ديني يُسيطر عليه اليهود المتطرفون. يستخدم البعض الآخر هذا الموضوع لإدانة النفوذ المتزايد لـ "الطابور الخامس" العربي. ينظر الجميع إلى هذا الموضوع بالشكل الذي يلائمه لكي يؤكد قراءته للنزاع مع الفلسطينيين. قال الأستاذ في الجامعة العبرية في إسرائيل سيرجيو ديلابيرغولا Sergio DellaPergola متأسفاً: "تنظر أغلبية الطبقة السياسية إلى أعمالنا من زاوية إيديولوجية بحتة"، ودعا إلى دراسة موضوعية حول تأثير التقلبات التي حصلت خلال العقود الأخيرة على تركيبة المجتمع الإسرائيلي. كما قال رئيس الدولة الإسرائيلية روفين ريفلين Reuven Rivlin: "نحن نتحدث عن تحولات ستُعيد هيكلة هويتنا نفسها"، ودعا مواطنيه إلى "مواجهة ما يجب تسميته بنظام إسرائيلي جديد".
     ماذا بقي من الصهيونية العلمانية التي دافع دافيد بن غوريون عنها؟ إن المشروع الأصلي لمؤسس إسرائيل كان إقامة دولة عصرية واشتراكية وبعيدة عن الطابع الديني، ولكنه سيجد اليوم صعوبة في التعرف على الدولة التي  أسسها. شهد هذا البلد الصغير تقلبات هائلة خلال سبعين عاماً، وتأثر بموجات الهجرة المتتابعة القادمة من شمال أفريقيا في الخمسينيات، ثم من الاتحاد السوفييتي خلال التسعينيات، كما تأثر بالتزايد الكبير للسكان العرب الذين بقوا في منازلهم بعد حرب عام 1948. لقد تغير وجه المجتمع الإسرائيلي. تتصف النخبة الأشكنازية بالعلمانية، وجسدت في الماضي "الأرستقراطية" الصهيونية، ويجب عليها التعامل اليوم مع بقية المجموعات الاجتماعية التي وسعت نفوذها تدريجياً حتى أصبحت تهدد هيمنة النخبة الأشكنازية. إن الأقلية اليهودية المتطرفة Haredi التي تنبأ بن غوريون بحتمية انصهارها في الوطن القومي، ستُشكل أكثر من ربع الشعب الإسرائيلي في منتصف القرن الواحد والعشرين. إن حجم الأقلية العربية التي لا تعترف بإسرائيل كدولة يهودية، أقل بقليل من الأقلية اليهودية المتطرفة. لن تصل نسبة أنصار الدولة العلمانية والليبرالية إلى أكثر من ثلث السكان، ويمارس بعضهم طقوس الديانة اليهودية بشكل شخصي، لكنهم يرغبون بفرض القيود عليها في الأماكن العامة. إن الصهاينة المتدينين مقتنعون بأن إقامة الوطن القومي لليهود على أرض إسرائيل القديمة هو تعبير عن إرادة إلهية، و وتتجاوز نسبتهم الـ 15 % من السكان.
     تتعايش هذه "القبائل" الأربعة، كما أسماها الرئيس الإسرائيلي روفين ريفلين مؤخراً، ولكنها لا تتفاعل مع بعضها البعض. بنت كل قبيلة مدارسها، وأسست وسائل إعلامها ومدنها ومشاريعها السياسية. قال رئيس الدولة: "لنأخذ طفلاً من بيت إل Beit El (مستوطنة صهيونية متدينة في الضفة الغربية) ومن مدينة رهط (مدينة عربية في صحراء النقب)، ومن هرتزليا (مدينة غنية في شمال تل أبيب)، ومن بيتار إيليت Beitar Illit (مستوطنة لليهود المتطرفين)، ليس فقط إنهم لا يعيشوا إلى جانب بعضهم البعض، بل تعلموا أيضاً قيماً ومفاهيم مختلفة جذرياً عن دولة إسرائيل".
    هل سيتمكن الاقتصاد الإسرائيلي من التغلب على مثل هذه "الثورة"السكانية؟ يتنبأ أغلب المحللين أن هذه التحولات ستؤثر في النهاية بشكل ملموس على النمو الاقتصادي (أكثر من 3 % حالياً) وعلى موازنة دولة إسرائيل. إن الجزئين اللذين يتزايد عددهما بشكل أسرع داخل المجتمع (أي الأقلية اليهودية المتطرفة والعرب) هم الاقل اندماجاً في سوق العمل. قال المدير العام السابق لوزارة الاقتصاد أفي بن باساط Avi Ben Bassat: "إن المشكلة أكثر حدة لدى الرجال المتدينين المتطرفين (يعمل 46 % منهم فقط) الذين تُملي عليهم قناعاتهم الدينية تفضيل دراسة التوراة، وذلك الأمر بالنسبة للنساء العربيات (58 %) اللواتي يشجعهن العرف الاجتماعي على البقاء في المنزل". إن النتيجة الطبيعية المتوقعة لهذا الوضع هي ارتفاع نسبة الفقر كثيراً لدى الأقلية اليهودية المتطرفة (52 %) ولدى العرب (53 %) بالمقارنة مع بقية السكان (17 %). بالإضافة إلى ذلك، يؤكد الكثيرون أن درجة الاعتماد على المساعدات الاجتماعية المخصصة للعائلات الكبيرة الحجم لدى المتطرفين اليهود تؤثر تلقائياً على الإنفاق العام.
     لكن التوافق يتفتت عندما يتعلق الأمر بتحديد العلاج لهذه المشاكل. قال آفي بن باساط: "يجب حث هؤلاء السكان بشكل فعلي على الانخراط في سوق العمل"، ونصح بـ "تعليق المساعدات المقدمة إلى أولئك الذين يرفضون العمل عن قناعة، وإيقاف تمويل المدارس التلمودية عندما ترفض تعليم المواد العامة". ينصح البعض الآخر بالتركيز على مكافحة التمييز في دخول سوق العمل، ويحذرون من مقاربة مفرطة في القسوة بشكل يهدد بإثارة غضب المعنيين. اعتبر سيرجيو ديلابيرغولا أنه "يجب التصرف بهدوء وحذر لمواكبة عملية الاندماج التي بدأتها هذه المجموعات بنفسها"، ودعا إلى عدم التركيز على النقاط السوداء مؤكداً أنه "يمكن تبني فرضية أن هذا التوجه نحو سوق العمل سيترافق في النهاية مع انخفاض نسبة الولادة".
     هل يمكن أن تكون "إسرائيل الكبرى" يهودية وديموقراطية في آن معاً؟ إن العامل السكاني سيُجبر المسؤولين الإسرائيليين عاجلاً أم آجلاً على التعبير عن موقفهم تجاه ملايين الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتهم، إلا إذا أدت المفاوضات غير المتوقعة إلى إقامة دولة دائمة وذات سيادة في الضفة الغربية بشكل سريع. إن الحكم الذاتي النسبي الذي يتمتع به الفلسطينيون منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993 لا يمكن تمديده إلى الأبد في ظل غياب الأفق السياسي. إذاً، يجب على الدولة العبرية أن تقول فيما إذا كانت ستمنحهم المواطنة الكاملة مع خطر تحولهم إلى الأغلبية في إسرائيل. يتمتع السكان العرب في أراضي فلسطين التاريخية (أي في إسرائيل وقطاع غزة والضفة الغربية) بديناميكية كبيرة على الصعيد السكاني، ويعادل عددهم حالياً عدد السكان اليهود (أي 6.3 مليون نسمة لكل منهما). يرفض أغلب الإسرائيليين هذه الأرقام، ويؤكدون أن سكان قطاع غزة (1.8 مليون نسمة) لا يعيشوا رسمياً تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي الذي قرره أرييل شارون عام 2005. لكنهم ينسون بسرعة أن سكان قطاع غزة ما زالوا خاضعين لحصار صارم، ولم يتخلوا إطلاقاً عن المشاركة في دولة واحدة مع فلسطينيي الضفة الغربية والقدس الشرقية. على المدى الطويل الأجل، من غير المستبعد أن يصبح عدد السكان الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل معادلاً لعدد السكان اليهود.
     على الرغم من هذا الأفق، ما زال قادة اليمين الإسرائيلي القومي المتطرف يدعون إلى ضم الفلسطينيين ودمجهم داخل "إسرائيل الكبرى". ينصح البعض منهم بأن يستفيد العرب المقيمين فيها من المساواة في الحقوق، ولكن دون أن يتمكنوا من التصويت في الانتخابات الوطنية. يراهن البعض الآخر على معدل الولادة الذي ينخفض حالياً من أجل الحفاظ على الهيمنة السكانية اليهودية.
     ما هو العقد الاجتماعي من أجل إسرائيل في القرن الواحد والعشرين؟ إذا تحققت التوقعات السكانية، فإن الصهيونية ستصبح أقلية إيديولوجية خلال عشرين عاماً. وافق أغلب اليهود المتطرفين والعرب على وجود الدولة العبرية، لكن الصلة التي تربط بينهما داخل هذه الدولة ما زالت غير موجودة. قال الباحث في مركز مجموعة الأزمات الدولية أوفر زالزبيرغ Ofer Zalzberg: "إنهم لا يؤدوا الخدمة العسكرية، ولا يرددوا النشيد الوطني، ولا يحيوا العلم"، واعتبر أن هذه المعطيات الجديدة ستفرض نفسها عاجلاً أم آجلاً على المجتمع الإسرائيلي لكي يفكر بـ "بعض التغييرات الجذرية" إذا لم يكن يريد انفجار هذا المجتمع. أضاف أوفر زالزبيرغ قائلاً: "إن جزء كبيراً من السكان، ولاسيما اليسار الصهيوني والعلماني، يفضلون غض النظر بدلاً من الاعتراف بأن العقد الاجتماعي في طور التقادم". حاول الرئيس الإسرائيلي روفين ريفلين في كلمته أمام مؤتمر هرتزليا الخامس عشر في بداية شهر حزيران إثارة الوعي، وتساءل قائلاً: "هل هناك قاسم مشترك في القيم بشكل يسمح بصهر هذه "القبائل" المختلفة حول دولة يهودية وديموقراطية في آن واحد؟" مدركاً أن الجواب ليس بهذه السهولة.
     هناك الكثير من خطوط الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي: العرب ضد اليهود، العلمانيون ضد المتدينون، أنصار "إسرائيل الكبرى" ضد أنصار الحل القائم على أساس دولتين. يتنبأ بعض المراقبين المتشائمين بأن هذه الانتقسامات ستتعمق حكماً. يعتبر أوفر زالزبيرغ أن "المعطيات السكانية الجديدة ستُجبر هذه "القبائل" على تصور تحالفات جديدة من أجل التفكير بشكل جماعي بهوية مشتركة".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق