الصفحات

الاثنين، ٣١ كانون الأول ٢٠١٢

(روسيا في مواجهة تصلّب الأسد)


صحيفة الفيغارو 31/12/2012  بقلم رونو جيرار Renaud Girard

     قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعد لقائه مع المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي في موسكو يوم السبت 29 كانون الأول: "إن فرص التوصل إلى حل سياسي ما زالت موجودة" من أجل إنهاء الحرب الأهلية. كما أعلن المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في القاهرة يوم الأحد 30 كانون الأول أن لديه خطة للخروج من الأزمة "مقبولة من المجتمع الدولي". لا يمكن توجيه اللوم إلى لافروف والإبراهيمي لقيامهما بعملهما الدبلوماسي بشكل صحيح، ولكنهما يعرفان  أكثر من أي شخص آخر بأن الحلول السياسية في الغرف المغلقة لا تصمد طويلاً أمام الوقائع على الأرض، وغالباً ما تكون هذه الوقائع أقل عقلانية.
     يعرف الجميع ما هو السيناريو المثالي: إنه وقف إطلاق النار، ثم انتشار القبعات الزرق لمراقبة تنفيذه، ثم تشكيل حكومة انتقالية تضم جميع الطوائف والأحزاب السياسية، ثم انتخابات سياسية تحت إشراف دولي، ... الخ. ولكن المشكلة في جميع هذه السيناريوهات الجميلة أنها تصل متأخرة جداً، وأنها تصطدم دوماً بمصالح الدول الكبيرة وليس بأولئك الذين يدعون إلى العدالة والسلام.
     إن ظهور حكومة انتقالية على الساحة السورية يفترض رحيل بشار الأسد وعائلته عن السلطة. لقد اعترف لافروف بنفسه أنه "من المستحيل" موافقة الرئيس السوري الحالي على مغادرة دمشق برضاه. هناك سببان يحملان بشار الأسد ـ الذي لم يُظهر في شبابه أي تعلّق بالسلطة ـ على رفضه اليوم للتخلي عن السلطة: الأول هو سبب نفسي، ربما يكون لديه احساس بأنه يخون والده، وأنه لم يكن على مستوى المسؤولية التي قرر والده أن يعهدها إليه عام 1994 بعد موت شقيقه الأكبر. السبب الثاني ذو طابع سياسي: إن بشار لوحده يُجسد النظام، و صوره مُعلقة في جميع المحلات التجارية، وستؤدي إزالة صورته إلى انهيار الدولة فوراً. هذا ما يخشاه على الأقل جزء من السوريين الذين ما زالوا يدعمون النظام، أو يعتبرون أن بقاءه هو أقل الحلول سوءاً في الوقت الحالي. من هم هؤلاء السوريين الذين لا نسمع صوتهم كثيراً في وسائل الإعلام الغربية أو القطرية بالمقارنة مع صوت إخوانهم المتمردين؟ إنهم يمثلون الأقليات (العلوية والمسيحية والكردية والدرزية ... الخ) بالإضافة إلى البورجوازية السنية في المدن التي تحرص على بقاء العلمانية السورية. هل هؤلاء السوريين أقلية، هل هم أغلبية، هل هم النصف؟ لا أحد يعرف شيئاً.
     عبّر لافروف عن أسفه بأن الإئتلاف الوطني السوري الذي حاز على مباركة ثم على اعتراف الدول الغربية، لا يقبل بالحوار مع الروس، وأنه يُطالب بـ "اعتذارات"  مسبقة. يشعر هذا الإئتلاف الذي يسيطر عليه الإخوان المسلمين أن انتصاره قريب، ويعتبر نفسه قوياً لدرجة أنه لا مصلحة له بالتفاوض على العملية الانتقالية مع بشار. يحظى الإئتلاف بدعم مالي غير محدود من قطر والسعودية، وتم الاعتراف به ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب السوري من قبل الدول الغربية ومصر. على الرغم من ذلك، يعرف الإئتلاف جيداً بأنه لن يكون قادراً على فرض احترام وقف اطلاق النار على الكتائب الإسلامية التي تُشكل اليوم محور جميع العمليات الهجومية الجادة للمتمردين، وذلك حتى ولو وافق الإتئلاف على وقف لإطلاق النار وعلى شكل من العملية الانتقالية.
     بدأ الروس يدركون اليوم بأنهم أصبحوا جزءاً من الأطراف العاجزة في العالم العربي ـ الإسلامي الذي تُهيمن عليه الإيديولوجيا الوهابية وأموال النفط المجنونة. من المفترض أن يقول لهم البريطانيون والفرنسيون والأمريكيون: "أهلاً وسهلاً في نادي العاجزين!".

(الحياة أو الموت على وتيرة المعارك في شوارع حلب)


صحيفة اللوموند 29/12/2012 بقلم مراسلتها الخاصة في حلب فلورانس أوبنا Florence Aubenas

     استغرب أحد المسلحين تحليق إحدى الطائرات فوق حلب، فقد انخفض القصف في الأيام الأخيرة. لماذا؟ هناك عدة تفسيرات: ربما بسبب المعارك الكبيرة التي تُجبر النظام على حشد قواته في دمشق وحماة، أو ربما بسبب الأسلحة المضادة للطائرات التي حصل عليها المتمردون مؤخراً، الأمر الذي لا يُشجّع الطائرات على الإقلاع.
     يعتقد الجميع هنا أن النظام سيسقط، ولكن أحياناً هناك انطباع بأن المعارك ستستمر دهراً، وأحياناً أخرى هناك انطباع بأنها ستنتهي بعد دقيقة واحدة. لقد مضى ستة أشهر على دخول الجيش السوري الحر إلى مدينة حلب، ويسيطر حالياً على أكثر من نصفها.
     قال أحد عمال الكهرباء: "في هذا السوق، تُباع كل مظاهر الغنى الممكنة مثل السجادات والألماس والأثريات القديمة. أنتم في مركز حلب الجميلة، العاصمة الاقتصادية لسورية". لقد انقطع التيار الكهربائي في هذا الحي وفي المدينة بأكملها، ولم يعد هناك شوفاج، ولكن ما زال هناك بعض الماء أحياناً.
     نشاهد من النافذة حائطاً مكتوب عليه: "بشار هو ربّنا". ولكن أحدهم قلل من أهمية هذا الكلام، وأشار إلى أن ذلك لا يعني أن سكان الحي يحبون بشار حقاً، ولكنهم يحاولون تجنب المتاعب. بتاريخ 20 تموز 2012، شاهد سكان الحي دخول المتمردين إلى المدينة مع نوع من الدهشة: من هم هؤلاء الناس الذين جاؤوا من الريف، ويدّعون بأنهم جاؤوا لتحريرهم ببنادقهم القديمة، تحرير سكان حلب الفخورين جداً ببشرتهم البيضاء؟ لقد هرب عامل الكهرباء مثل الكثيرين في حلب، وكان مُقتنعاً بأن ذلك لن يستمر أكثر من أسبوع. لقد أمضى شهرين في مصر، وأنفق خلالهما مدخراته، ثم عاد إلى هذا السوق الصغير الذي لم تعد تعيش فيه إلا سبعة علائلات تحت سيطرة الجيش السوري الحر.
     في الجانب الآخر من خط المواجهة، يُرسل قناصة النظام الرسالة التالية: "إذا عبرتم، سنقتلكم". حاول عامل الكهرباء في إحدى المرات عبور حاجز تفتيش بشكل نظامي، وقال: "نظروا إلي كما لو أنني حيوان، لأنني أعيش في الجانب الآخر. لم أعد واحداً منهم". لهذا السبب قرر التقرّب من المتمردين، وقال: "لدينا هنا كتيبة فعلية، أي أنها لا تسرق".
     ظهر احتجاج بسيط في أحد أبنية حي طارق الباب الهادىء، قال أحد سكان البناء عندما شاهد أحد المتمردين يصعد الدرج: "ماذا جاء يفعل هذا الرجل هنا؟ سيتعرض البناء للقصف بسببه". قال هذا الجندي: "يبتسم الناس أمامنا، ولكن نصف الحي ينتظر عودة بشار".
     اضطرت مجموعة من المعلمين في مدرسة مصطفى العيسى إلى التفاوض طويلاً لرحيل الجنود من المدرسة، وذلك بعد ضمها إلى الثكنة كما هو الحال في أغلب الأحيان. نعم، إن التربية هي إحدى ركائز نظام دمشق، وجميع الكتب المدرسية عليها صورة الرئيس، وكُتب تحتها: "الأطفال سعداء مع بشار". نعم، يطلب بعض المعلمين من طلابهم التبليغ عن آبائهم فيما إذا كانوا يشاهدون محطات تلفزيونية أجنبية على سبيل المثال. نعم، يجب تغيير كل شيء، وحتى الكتب المدرسية. وأكد مدير المدرسة (32 عاماً) قائلاً: "في جميع الأحوال، نحن نحرق الكتب المدرسية". عندما سألناه، هل هذه الكتب سيئة إلى هذه الدرجة؟ انزعج من هذا السؤال وقال: "إن هذه الأسئلة ليست الأسئلة الحقيقية بالنسبة لنا": إن الكتب سيئة بالتأكيد، ولكن لا يتم حرقها لهذا السبب، بل من أجل التدفئة.
     تمت إعادة فتح مدرسة مصطفى العيسى بمبادرة خاصة جمعت حوالي خمسين معلماً في 12 مدرسة. إنهم يعقدون عدة اجتماعات في الأسبوع، ويجب على النساء ارتداء الحجاب لكي يشاركن فيها. قال مُنسّق هذا المشروع: " قام نظام بشار الأسد قبل سنتين بطرد جميع المعلمات المُحجبات، نريد أن نقول لهم اليوم: نحن معكم". قام مُنسق المشروع بتسمية منظمته بـ "جمعية الإحسان  السنية" وقال: "أعرف أنه يُنظر إلينا كإسلاميين".
     طرحت مشكلة التمويل نفسها بسرعة على "جمعية الإحسان السنية" التي حاولت الاتصال مع العديد من المؤسسات والمنظمات غير الحكومية، ولكن الجميع رفض مساعدتها باستثناء جبهة النصرة. لقد عارضت أغلبية المتمردين السوريين جبهة النصرة وتحدّتها لفترة طويلة دفاعاً عن "ثورتهم". ولكن أحد قادة الجيش السوري الحر قال: "في لحظة ما، لم يعد أمامنا خيار آخر. بدأنا بالقتال ببندقية واحدة لكل جنديين، ثم بندقية واحدة لكل عشرة، ولم يعد لدينا ذخيرة. لقد قامت جبهة النصرة بتوزيع المال بسرعة وبمبالغ كبيرة،  وذلك في الوقت الذي لم توافق فيه أية دولة أو مؤسسة على مساعدة المتمردين المنهكين". وأضاف أحد المعلمين قائلاً: "الجديد في الأمر هو أن جبهة النصرة لا تطبق هذه الإستراتيجية في المجال العسكري فقط، بل تُطبقها أيضاً داخل المجتمع المدني بأكمله". أشارت إحدى النساء إلى أنها تريد لاحقاً دولة "لها علاقة مع الله" دون أن تعرف بالضبط ماهية هذه العلاقة.
     حاول (مصطفى ـ مترجم للغة الإنكليزيه) قبل عدة أشهر إطلاق "نداء من أجل حلب"، واتصل مع عشرات المنظمات الدولية غير الحكومية عبر الأنترنت، ولكن دون جدوى باستثناء مؤسسة تشيكية صغيرة اسمها (People in need) التي قامت بإرسال مساعدة قدرها خمسة آلاف دولار وخمسين  طناً من الطحين الألماني. أشار مصطفى إلى أن هذه المؤسسة التشيكية هي المنظمة الدولية الوحيدة التي لديها فرع في حلب.
     تم استئناف القصف على "حي الشباب"، وهو برنامج سكني بناه النظام من أجل مسؤوليه وأصحاب الامتيازات. ولكن سكانه هربوا منه بعد بدء المعارك، وأقام اللاجئون فيه. لم يبق من سكانه الأوائل إلا عائلة واحدة، ولا أحد يزورها. يمكن مشاهدتها فقط عندما تصل الطائرات المقاتلة، لأنه في هذه اللحظة، تخرج يد من النافذة وتُلوّح بعلم أبيض.  
     أشار أحد السكان إلى أنه هرب في البداية مع عائلته ولجأ إلى أقاربه في مدينة إدلب، وأضاف أن هذه المدينة تتعرض للقصف أيضاً لدرجة أن المتمردين يضطرون أحياناً للانسحاب، ولكن ذلك لا يحصل في حلب. وقال: "ينتشر جنود الجيش النظامي في الشوارع، ويدخلون البيوت التي يستطيعون دخولها بشكل عشوائي، ويقتلون الناس، وأحياناً يقتلونهم بالسكين". يستمر ذلك عدة ساعات ثم يعود الجيش السوري الحر. أكد هذا الرجل أنه شاهد مثل هذا الهجوم ثلاثة مرات خلال شهر واحد. لا أحد يتحدث عن ذلك، ولا  أحد يعرف ما يحصل هناك: لا يستطيع الصحفيون الدخول إلى هذه المنطقة. أشار هذا الرجل إلى أن الوضع أفضل في حي صلاح الدين، وأن حوالي عشرين عائلة عادت إلى هذا الحي، وأن عدة عائلات أخرى أعلنت بأنها ستعود أيضاً.

(مدينة مزدهرة أصبحت بؤرة النزاع السوري)


صحيفة اللوموند 29/12/2012 بقلم مراسلتها في بيروت سيسيل هينيون Cécile Hennion

     هل ستصبح حلب كما يؤكد أحد الناشطين المحليين "مقبرة لجيش بشار الأسد"؟ تُمثل المعركة المحتدمة في حلب منذ شهر تموز رهاناً هاماً بالنسبة للنظام وخصومه.
     قال الناطق الرسمي باسم الجيش السوري الحر في القطاع الغربي من حلب باتصال هاتفي معه: "كان تجار حلب يدعمون النظام، وكانوا يريدون مواصلة نشاطاتهم بأي ثمن". ولكن السبب الأساسي لتأخر انضمام حلب إلى الثورة كان التواجد الكبير لقوات الأمن والشبيحة الذين أشاعوا الرعب في المدينة.
     تُمثل معركة حلب ملخصاً مكثفاً للمواقف الراديكالية التي تُخفيها الحرب في سورية. في الوقت الذي تتعرض فيه المدينة إلى القصف الجوي والمدفعي، يهرب الأغنياء إلى دمشق أو إلى خارج سورية، وينضم بعضهم إلى التمرد من بعيد عن طريق تمويل المتمردين. أما الأكثر فقراً، فهم يُغيّرون الحي وفقاً للهزائم والانتصارات.
     أشار مركز توثيق الانتهاكات في سورية، وهو مجموعة من الناشطين في مجال حقوق الإنسان، إلى أنه قُتِل حوالي 4792 شخصاً من سكان حلب، مدنيين ومتمردين. لا يشمل هذا الرقم خسائر الجيش النظامي والقتلى الأجانب.
      تتميز حلب بأنها المدينة الوحيدة التي تملك قاعدة خلفية "مُحررة" وجزء من الحدود التي تسيطر عليها، وأصبحت المقصد المنطقي للمقاتلين الأجانب. لقد توافد إليها الثوار المسلحون بسبب "الربيع العربي" والجهاديون المرتبطون أو غير المرتبطين بتنظيم القاعدة.
      إن الكتائب المسلحة المُوحّدة بشكل أو آخر تحت قيادة المجلس العسكري للجيش السوري الحر (مثل كتيبة التوحيد التي تضم 116 مجموعة مقاتلة)، تقوم بعمليات مشتركة ومنتظمة مع جبهة النصرة. كان عتاد الجيش السوري الحر ضعيفاً جداً في البداية، ثم تحسنت فعاليته بشكل كبير بفضل هذه الشراكة والسيطرة على مستودعين كبيرين للأسلحة في خان تومان وLahan.
      يؤكد الجيش السوري الحر أنه يسيطر على 80 % من مدينة حلب، ولكنه لم ينجح في فرض سيطرته على المدينة بأكملها حتى الآن. تجري المعارك الحاسمة من الآن فصاعداً خارج حلب. يستهدف المتمردين حالياً قرية الزهراء الشيعية الواقعة على بعد عشرين كيلومتراً شمال غرب حلب، بسبب تواجد مدفعية الجيش فيها. وأشار مصدر تابع للجيش السوري الحر أن هذه القرية محاصرة حالياً من قبل المتمردين، ولا تصلها الإمدادات إلا عن طريق الطائرات المروحية.
     تدور معركة أخرى هامة في حلب بالقرب من المطار، فقد وقعت بالقرب منه اشتبكات عنيفة جداً بين المتمردين والفوج 18 التابع لجيش بشار الأسد يومي الخميس والجمعة 27 و28 كانون الأول. إنه آخر حصن للنظام قبل السيطرة على هذا الموقع الإستراتيجي الهام.

(حرب القناصين في شوارع حلب)


صحيفة الليبراسيون 29/12/2012:  بقلم مراسلها الخاص في حلب جان بيير بيران Jean-Pierre Perrin

     كان القناص الشاب (رضوان ـ 21 عاماً) في الطابق الثاني لأحد الأبنية المهدمة في حي صلاح الدين بحلب، منزوياً في إحدى الغرف ومعه بندقية M16 بمنظار. يقوم القناص (رضوان) أيضاً بصناعة بعض القنابل البدائية في علب عصير Spot التي يملؤها بالرمل والملح والنترات. ولكنه يعترف بأن هذه القنابل غير فعالة، والهدف منها هو إحداث بعض الضجيج. كان العلم السوري مُعلّقاً على واجهة البناء المقابل، مما يعني أنه تحت سيطرة الجيش النظامي.
     تتداخل خطوط المواجهة في حي صلاح الدين لدرجة أن مدفعية وطائرات الجيش النظامي لم  تعد تستطيع التدخل، كما أن الدبابات لم تعد تقوم بمحاولات التوغل إلا بين فترة وأخرى. أصبحت الحرب مواجهة بين القناصين المترصدين، يُحاول كل واحد منهم العثور على الآخر، ومراقبته واصطياده. يعترف المتمردون أن قناصي الجيش النظامي أفضل تجهيزاً وذخيرة.
     يقود هذه الوحدة الصغيرة أبو عدي المريقاني (27 عاماً) الذي كان عريفاً في الجيش النظامي قبل أن ينشق  عنه. يشعر أبو عدي المريقاني بالشك من وجودنا، وقال: "ربما ستنقلون ما تشاهدونه هنا إلى النظام. ولكن ذلك غير مهم، إننا أقوياء بما فيه الكفاية لمقاومته". كما أشار إلى أن القناص المُعادي في هذا الحي هو "قناص جيد" أي أنه لا يطلق النار على السكان عندما يأتون باحثين عن بعض الحاجيات.
     لم يبق في حي صلاح الدين إلا المتمردين الموجودين في الشوارع، ونُشِرت بعض الأغطية القماشية الكبيرة بين الأبنية في الشوارع الأكثر تعرضاً للنيران من أجل تجنب نيران قناصة الجيش النظامي.
     تتواجد قاعدة عمليات إحدى الوحدات المتمردة للجيش السوري الحر في الطابق الأول لأحد الأبنية المجاورة، وتؤكد هذه الوحدة أنها الأقدم في حي صلاح الدين. إن هذه الشقة في حالة جيدة، ويخلع المتمردون أحذيتهم قبل الدخول إليها. قال أحد المتمردين: "استأجرنا هذه الشقة من أحد المالكين الأغنياء، وهو يعيش في حي آخر"، وكانت هناك صورة كبيرة للمالك في هذه الشقة.
     (عبد الله رحال) هو قناص هذه المجموعة. إنه يتحدر من هذا الحي، ولديه بندقية نمساوية دقيقة التصويب من طراز Steyr Daimler (هذه البندقية هي سلاح الوحدات الخاصة السعودية). أشار هذا القناص أن البندقية سمحت له بقتل ثلاثة قناصين مُعادين، منهم اثنين في حي صلاح الدين. أشار زميله جمال المغربي (21 عاماً) إلى أن انشقاقه عن الجيش قبل أربعة أشهر كان "أفضل قرار اتخذه بحياته". ولكن الخسائر في صفوفهم كبيرة، فقد قُتِل عشرة مقاتلين من أصل ثمانين مقاتلاً في هذا الحي، ومنهم قائدهم (أبو عبيدة) الذي قُتِل قبل أربعة أشهر.
     جاء (أبو عبد الرحمن) ومسبحته بيده، إنه يتمتع بنفوذ أكيد على المجموعة، ولكنه يتجنب إصدار الأوامر. كان والده عضواً في حزب الإخوان المسلمين، وكان ذلك مُعاقباً عليه بالإعدام أثناء حكم حافظ الأسد، وما زال ذلك مستمراً تحت حكم ابنه بشار. لقد  اضطر للهروب من سورية مع والديه عندما كان عمره ست سنوات. ثم عاد إلى بلده عام 2006، وحُكِم عليه بالسجن المؤبد لأنه رفض الانضمام إلى النظام. خرج من سجن الزبداني بموجب قانون عفو عام 2010، ثم انضم إلى التمرد بعد سنة. لم يعد يُشارك في القتال لأنه جُرح في ظهره بسبب قنبلة. إنه أكثر اهتماماً بالسياسة من الآخرين، قال (أبو عبد الرحمن): "نحن نتقدم بسرعة السلحفاة، لأننا لا نملك الأسلحة ولا الذخيرة الكافية. نحن نشتري السلاح بأموالنا لأنه لا أحد يريد مساعدتنا. هل تعرفون أن القنبلة سعرها دولارين. إن ما ينقصنا بشكل أساسي هو راجمة قذائف، وقذائف خاصة لتدمير الدبابات الروسية T72 وT82".
     من المفترض أن تستعيد القوات النظامية السيطرة بسهولة على حي صلاح الدين، لأنها تواجه تمرداً ضعيف التسليح. كما أنها تتمركز بالقرب من الملعب الكبير الذي تُقلع منه الطائرات المروحية، وبالقرب من القلعة التي تُطل على حي المدينة القديمة الإستراتيجي. ولكن جيش بشار يعاني من ضعف كبير أيضاً، فقد اعتبر المحللون أن دباباته تصبح هدفاً سهلاً في الشوارع الصغيرة والضيقة، ويجب على الجيش استخدام سلاح المشاة في هذا الحي، ولكن هذا هو ما ينقصه. لهذه الأسباب، يبدو أنه لا يمكن لأي معسكر أن يحقق الانتصار على الآخر.
     عند سماع صوت محرك إحدى المدرعات يقترب من نقطة التقاطع بين الجانبين، قام أحد المقاتلين بإطلاق قنبلة يدوية بشكل عشوائي باتجاه هذا الصوت، وقال: "هذا من أجل إخافته. إن الانفجار سيجعله يعتقد بأنه إذا اقترب، فإن لدينا راجمة قذائف ستُطلق النار عليه". وأضاف (أبو عبد الرحمن) قائلاً: "إن أعدائنا لا يتمتعون بالإيمان. إنهم يهربون كلما استطاعوا ذلك".

(الزعامة الأمريكية في مواجهة الأزمة)


صحيفة الفيغارو 29/12/2012 بقلم آن ماري سلوغتر Anne-Marie Slaughter، المديرة السابقة لمركز دراسات الآفاق المستقبلية في وزارة الخارجية الأمريكية

     يجب أن يشعر جميع وزراء الخارجية في دول العالم بالتوتر. إذا لم تنجح الولايات المتحدة بتنظيم موازنتها العامة، فستكون مُجبرة على التخلي عن دورها القيادي في العديد من القضايا الدولية الهامة.
     على المدى القصير، ستدفع سورية وجيرانها ثمن تركيز الولايات المتحدة لجهودها على السياسة الداخلية منذ إعادة انتخاب أوباما، وعجزها عن تكريس جهودها لمواجهة أية مسألة أخرى. وصلت المسألة السورية برأيي إلى نقطة حاسمة: يبدو أن انتصار المعارضة وسقوط الرئيس بشار الأسد أصبح محتماً، ولكن الوقت اللازم لحل الأزمة هو الذي سيُحدد من سيستلم السلطة وبأية شروط. إن تفتيت سورية والفوضى والتطرف الناجم عنها، سيُهدد الشرق الأوسط بأكمله: أي استقرار لبنان والأردن وتركيا والعراق وغزة والضفة الغربية وإسرائيل وإيران والسعودية.
     على المدى المتوسط الأجل، هناك الكثير من التوترات والأزمات الكامنة التي يجب على الولايات المتحدة حلها. هذا ما أظهرته الأحداث في مصر خلال الأسابيع الأخيرة، وما زالت الصحوة السياسية في بدايتها بالنسبة لعدة دول عربية.
     ما زالت الديموقراطية هشة في المغرب. ولم  تشعر الأردن والأراضي الفلسطينية والكويت والسعودية إلا بالإشارات الأولى للموجة التي اجتاحت المنطقة. ما زالت البحرين مهددة بالانفجار، والعراق غير مستقر إطلاقاً، ومن الممكن أن ينفجر النزاع الكامن بين إسرائيل وإيران في أية لحظة. حتى عندما لا تكون الولايات المتحدة في الطليعة، فإنها تلعب دوراً أساسياً في كواليس المساومات الدبلوماسية من أجل حض الأطراف المتخاصمة على التقارب وتوحيد المعارضة، كما تقوم واشنطن بالتنسيق مع الدول الإقليمية الأساسية مثل تركيا ومصر والسعودية من أجل التوصل إلى اتفاقات.

السبت، ٢٩ كانون الأول ٢٠١٢

(الأسرار الهامة للمُنشق مناف طلاس)


مجلة النوفيل أبسرفاتور الأسبوعية 1/11/2012 بقلم كريستوف بولتانسكي Christophe Boltanski وماري فرانس إيتشيغوان Marie-France Etchegoin

    قرر مناف طلاس الرحيل في فصل الربيع الماضي عندما تم إفهامه بأنه حتى أطفاله ليسوا بأمان. كان فصل الشتاء طويلاً جداً، وأمضاه قابعاً في مكتبه. إنه ضابط بثلاث نجوم وقائد للوحدة 104 في الحرس الجمهوري ـ المكلفة بحماية النظام ـ ، وهو صديق الطفولة وأحد المُقربين جداً من بشار الأسد. ولكنه في حالة إضراب! يقوم بشار بقمع المتظاهرين بالدم منذ شهر آذار 2011، ورفض مناف طلاس منذ ذلك الوقت الرد على المكالمات الهاتفية أو تنفيذ  الأوامر، واكتفى بتسيير المهام الإدارية والعودة إلى منزله بمرافقة رجال الأمن وسياراتهم المصطفة باستمرار أمام منزله والمليئة بالأجهزة الإلكترونية التي تتنصت على كل كلمة يقولها. لو قام شخص آخر بما فعله، فسوف تتم تصفيته فوراً. لم يقل بشار أي شيء. ولكن جواسيسه قاموا في شهر نيسان باغتيال المرافق المكلّف بحماية أطفال مناف طلاس على طريق المدرسة. لقد فهم طلاس الرسالة. إنه بحاجة إلى ثلاثة أشهر لإعداد رحيله والوصول إلى فرنسا في منتصف فصل الصيف.
     في نهاية شهر تشرين الأول، كان له وجه شاب على الرغم من عمره البالغ 48 عاماً، ويرتدي سترة جلدية وقميصاً يضعه فوق البنطلون، ويشبه مظهره السياح الأنيقين والمرتاحين، كما لو أن ذكرى هروبه الصعب أصبحت من الماضي البعيد. قال مناف طلاس: "قام النظام بكل شيء من أجل إمساكي، يجب أن تفهموا بأنني لست شخصاً عادياً... ". إنه حالياً أحد المعارضين، وكان من أكثر المقربين من الرئيس. إن هذا الإنشقاق على أعلى مستوى يُشبه الإعلان بالحرب. لقد أعلن لوران فابيوس شخصياً نبأ وصول الضابط المستقيل إلى باريس في شهر تموز، الأمر الذي أثار قلق العديد من اللاجئين السوريين الذين توجهوا مسرعين إلى وزارة الخارجية الفرنسية للمطالبة بتوضيحات: هل لدى فرنسا "خطة مع مناف"؟ هل تريد  أن تصنع من هذا الضابط رفيع المستوى "ديغول سورية" بعد أن استفاد لفترة طويلة من النظام؟ هل تم تنصيبه زعيماً للثوار على الرغم من أن عائلته تمثل الصورة الكاريكاتورية للعلاقات الغامضة بين باريس ودمشق خلال ثلاثين عاماً تقريباً؟
     إلتقى مناف على ضفاف نهر السين مع شقيقته الجميلة ناهد إحدى رموز الحياة الباريسية التي تقوم بتنظيم الرحلات لتنمية السياحة في سورية منذ فترة طويلة. كما إلتقى أيضاً مع والده مصطفى وزير الدفاع السابق الذي خدم النظام دون أن ترف له جفن، وكان يقوم بدور "صاحب المساعي الحميدة" بين بلده وفرنسا خلال نصف قرن. يُمضي هذا الرجل العجوز حياة تقاعدية هانئة في أجمل أحياء العاصمة الفرنسية. فيما يتعلق بشقيقه الأكبر فراس، فهو يقيم في فندق Plaza Athénée أثناء زيارته إلى باريس. إنه رجل أعمال مقيم في دبي، وقد انضم أيضاً إلى المعارضة بعد أن جمع ثروة بفضل إخلاص عائلته لعائلة الأسد.
    إنها عائلة مُربكة: حياة باذخة في ظل بشار، وانضمت متأخرة إلى الثورة، وفيها أفضل الكفاءات. ولكن مناف طلاس ينوي أن يجعل من قربه السابق مع السلطة ورقة رابحة. من يستطيع تقديم المساعدة أفضل منه إلى "العملية الانتقالية"؟ إنه لا يجهل شيئاً عن خفايا الدولة السورية. لقد كان يرى الرئيس "يومياً" قبل انسحابه الطوعي. يعود تاريخ هذه العلاقة الوثيقة إلى زمن بعيد. ففي عام 1994، عندما تم انتزاع بشار من دراسته بطب العيون في لندن بعد موت شقيقه باسل وهو يقود سيارته السريعة، كان مناف يقوم بدور يشبه دور "المُدرّب". كان يتم تجهيز باسل لخلافة حافظ الأسد على رأس سورية، وليس بشار الشاب الخجول الذي تربى خارج أروقة السلطة، والذي تمت ترقيته لخلافة والده بسبب عدم وجود بديل آخر، وكان مجبراً في هذا النظام الدكتاتوري على ارتداء البذلة وتقليد شقيقه والانضمام إلى وحدة النخبة في الحرس الجمهوري، وورث أصدقاء شقيقه وفي مقدمتهم مناف طلاس الذي كان برتبة نقيب، في حين كان الرئيس القادم برتبة ملازم أول. قال مناف طلاس: "لقد علّمته قواعد الجيش".
     إن الوريث ذو الملامح الحزينة والعسكري الأنيق والواثق من جاذبيته أصبحا صديقين لا يفترقان، كما لو أنهما لا يستطيعان اتباع طريق آخر غير الطريق الذي رسمه لهما والديهما اللذان تربطهما أيضاً علاقة صداقة من أيام المدرسة العسكرية. كان مصطفى طلاس التابع المخلص  لبشار ووزيراً للدفاع منذ 32 عاماً. لقد كان الضمانة السنية للرئيس العلوي، وبرهن له عن إخلاص لا غبار عليه، حتى في الأوقات الأكثر دموية. لقد عرف مصطفى طلاس من خلال هذا الخضوع في جميع المحن كيف يجعل عائلته تستفيد من ذلك (لقد تم ترفيع المئات من أقاربه ومن سكان الرستن إلى رتبة ضابط). بالنسبة لإبنه الأكبر فراس، فقد منحه الصفقات السخية في الجيش السوري. درس فراس التجارة في فرنسا، ثم أصبح أهم موردي  الرز والسكر واللحوم وتجهيزات المعلوماتية والألبسة والإسمنت ومواد أخرى. أما ابنته ناهد، فقد قام بتزويجها عندما كان عمرها 18 عاماً من أكرم العجة الملياردير السعودي من أصل سوري الذي يتجاوز عمره الستين عاماً، وكان العجة وسيطاً هاماً في جميع صفقات السلاح. فيما يتعلق بمناف، فقد قام بتوريثه مفاتيح الصعود الممكن إلى السلطة من خلال العمل العسكري بعد حصوله على دبلوم أكاديمية فوروشيلوف المرموقة في موسكو. كان على رأس الوحدة المدرعة 104 في الحرس الجمهوري التي يبلغ عدد عناصرها 4000 رجل، واستطاع تحقيق سمعة عسكرية بكفاءته، ولكن أحد الدبلوماسيين قال: "إنه لا يُحب الطرق الصعبة. إنه ليس المساعد كروننبورغ".
    على أي حال، كان نجمه يلمع في حفلات الأغنياء الدمشقية: إنه ذكي ولا يكره النكتة ويُدخن السيغار باستمرار. تزوج زوجته الجميلة تالا ، عندما كان عمرها 16 عاماً. إنها تنحدر من البورجوازية السنية، وهي مثل أسماء زوجة بشار من الجيل الشاب الغني الذي يشتري ثيابه في لندن ويتمتع بشمس الشاطىء الأزرق في فرنسا وتُتابع أخبار المعارض والموضة. إنها مثل مناف، تريد تجسيد هذه النخبة المُنفتحة على الخارج التي قرر الرئيس الشاب الاعتماد عليها عندما وصل إلى السلطة بعد وفاة والده عام 2000. على الرغم من ذلك، قام "المستبد المتنور" بدفن بوادر الإصلاح. قال أحد المدعويين إلى حفلاته الدمشقية الكثيرة: "على الرغم من كل شيء، استمر الجنرال في الدفاع عن الرئيس". وأكد أحد الدبلوماسيين الذين أمضوا فترة طويلة في دمشق قائلاً: "لكنه كان يُقدم أيضاً بعض الخدمات إلى بعض المثقفين الناقدين وحتى إلى بعض المعارضين". في عام 2005، كان طلاس أحد الذين حافظوا على العلاقات مع فرنسا في الكواليس، على الرغم من أن بشار كان مشتبهاً به بأنه وراء اغتيال رفيق الحريري المُقرّب جداً من جاك شيراك، وكان حينها شخصاً لا يمكن الإتصال معه. لم ينس الفرنسيون في دمشق أيضاً كيف قام بتحريك قواته لمنع المتظاهرين من حرق سفارتهم بعد نشر الصور الكاريكاتورية حول (محمد).
     يمشي طلاس الصغير على خطا والده ولكن بطريقته الخاصة. كان والده يرتدي بذلته العسكرية دائماً ويُعلّق عليها أوسمته مثل الجنرال ألكازار Alcazar بشكل يشبه الشخصيات الخارجة لتوها من إحدى قصص "تان تان". ولكنه هو الذي  كان "يتعامل" مع الزوار الفرنسيين إلى سورية في عصر حافظ الأسد. كما قام بتأليف حوالي أربعين كتاباً ـ من تاريخ البعث حتى ثقافة الزهور ـ ، كما أسس دار نشر، وهو مولع بالكتب النادرة (قال رولان دوما: "هذا المثقف الذكي كان يملك الأعمال الكاملة لفرانسوا ميتران")، ويحلم برؤية أعماله في علوم الحرب بجامعة السوربون. للأسف! تم إلغاء إطروحته للدكتوراه في اللحظة الأخيرة عام 1986 عندما ذكّرت الصحافة بأنه كتب قبل ثلاث سنوات مقالة نقدية معادية للسامية بعنوان: "عظيم صهيون" استعاد فيها جميع الهلوسات المتعلقة "بطقوس الجرائم اليهودية". في عام 1999، كان يستعد مرة أخرى للدفاع عن أطروحته عندما وصف ياسر عرفات بأنه "ابن 60.000 عاهرة"، فاستقال بطرس بطرس غالي من لجنة التحكيم.
     لم يكن مصطفى شحيحاً في تبجحه على العكس من مناف الذي يحرص على اتباع الأساليب المتمدنة. لقد ادعى الوالد بأنه منع (حزب الله) اللبناني من تفجير القاعدة العسكرية الإيطالية في بيروت عام 1983 لكي "لا يرى الدموع على وجه جينا لولو بريجيدا"! وذكّر جيرار دوفيلييه Gérard de Villiers، رئيس دار نشر SAS للروايات البوليسية والتجسس، الذي كان يزوره دوماً في دمشق بأن لديه وسائد للنوم عليها صور هذه الممثلة. ويبدو أن مصطفى طلاس يملك أيضاً تمثال نصفي للممثلة ليتيسيا كاستا Laetitia Casta. قال أحد أعضاء السفارة الفرنسية في دمشق: "سألني في أحد الأيام فيما إذا كانت هي التي تمثل موديل ماريان الجديدة،وقال لي مشيراً بيده إلى صدرها الكبير: أريد نسخة". كان لديه غرفة سرية وراء مكتبه، وسمح لي بزيارتها. يوجد فيها سرير محاط بصور النساء العارية. لا بد أن صورة ماريان قد دخلت هذه الغرفة لاحقاً". كان الماريشال مولعاً أيضاً بالممثلة صوفي مارسو Sophie Marceau، قال جان لوي إسكيفييه Jean-Louis Esquivié، أحد أعضاء خلية مكافحة الإرهاب في قصر الإليزيه أثناء ولاية فرانسوا ميتران، مازحاً: "لقد كان بوده لو كانت لديه السلطة الكافية بأن يُبادل الفرنسيين المختطفين في لبنان بصوفي مارسو".
     أمضى جان لوي إسكيفييه أياماً كاملة عند عائلة طلاس عام 1985 عندما كانت فرنسا تعتقد بأن سورية تستطيع المساعدة في الإفراج عن الرهائن. كان وزير الدفاع يُنظم في منزله بطيبة خاطر سلسلة من الاجتماعات مع جميع الذين يدّعون معرفة الخاطفين. في ذلك الوقت، كان مناف صغيراً، وكانت شقيقته ناهد هي التي تقوم بالترجمة. لقد رآها إسكيفييه وهي تُزيل بسرعة جميع الديكورات المغرية من منزل والدها قبل وصول رئيس الحرس الجمهوري الإيراني رفيق دوست. فيما بعد، عندما قام فرانسوا ميتران بدعوة الماريشال على حفل غداء بمزرعته في Latche، كانت ناهد حاضرة بشعرها اللامع ونظرتها الناعمة. قال ميتران أنها "جذابة"، ووقع وزير خارجيته رولان دوما بغرامها، وأغضبت علاقاتهما في منتصف التسعينيات الإدارة العامة للاستخبارات الخارجية الفرنسية DGSE. كان رولان دوما يستخف بالاستخبارات، وأطلق عليه العارفون "أسد طلاس" أو "رولان دمشق". كان رولان دوما يذهب غالباً إلى دمشق دون إعلام السفارة الفرنسية، ويقول اليوم مع ابتسامة صغيرة: "ناهد؟ لا أعرف كيف أصبحت اليوم. سأكون مسروراً إذا كان لديكم بعض المعلومات عنها، وأخبرتموني بها".
     حافظ مناف طلاس على تقاليد العائلة ونسج علاقاته مع فرنسا أثناء حكم بشار، ولكن بطريقته الخاصة. إنه أكثر دقة وحداثة، وبعيد جداً عن نزوات والده العابرة. إنه يفتح ذراعيه لاستقبال جميع الذين يريدون تذوق سحر دمشق مع زوجته تالا التي تتحدث الفرنسية بطلاقة، ومن بين هؤلاء الزوار جاك لانغ Jacques lang وريشار ديكوان Richard Descoings (رئيس المعهد العالمي للعلوم السياسية في باريس، وقد توفي مؤخراً في نيويورك) وبيير كومبيسكو Pierre Combescot وماكس غالو Max Gallo ومارك فومارولي Marc Fumaroli ولوك فيري Luc Ferry وجان دورميسون Jean d’Ormesson. في أغلب الأحيان، كانت ناهد هي التي تقوم بإرسالهم إلى سورية. بعد علاقتها العابرة مع رولان دوما، عاشت ناهد أرملة أكرم العجة عدة سنوات مع فرانسوا أوليفييه جيزبير François-Olivier Giesbert الذي كان حينها رئيساً لصحيفة الفيغارو، واتسعت علاقاتها داخل المجتمع الباريسي. تقوم ناهد بتنظيم بعض الحفلات في منزلها الفخم بالدائرة السادسة عشر في العاصمة الفرنسية، حتى ولو كان الخدم يضعون السماعات الموصولة مباشرة بالمركز الأمني الموجود في القبو. على الرغم من "انتقادات ناهد للنظام"، يقول بعض أصداقائها مثل: آلان مانك Alain Minc ولوك فيري Luc Ferry بأنها ما زالت ضمن السلك الدبلوماسي في السفارة السورية. وهي تقوم بإرسال قوافل من الشخصيات المعروفة إلى بلدها الأم لكي يكتشفوا سحره وجاذبيته.
     يلتقي مناف بجميع الأبواق المدافعة عن السلطة وحتى مع الشخصيات التي لا يمكن معاشرتها مثل: تييري ميسان Thierry Meyssan الذي ينفي حصول انفجارات 11 أيلول ومؤلف كتاب "الخديعة الكبرى" ويستطيع الحديث في التلفزيون السوري متى شاء. ويلتقي أيضاً  مع الممثل ديودونيه Dieudonné الذي يذهب مراراً إلى سورية. إن فريديريك شاتيون ذو السمعة السيئة هو الذي عرّفهما على عائلة طلاس. يبلغ عمر شاتيون حوالي أربعين عاماً، وله جسم يشبه المصارعين، وكان رئيس نقابة طلاب اليمين المتطرف وصديقاً لمارين لوبن Marine Le Pen، وقام بتأسيس موقع Infosyrie.fr الإلكتروني الذي يُفترض به أنه يكافح "المعلومات المغلوطة التي تنشرها الصحافة الغربية". يقوم شاتيون أيضاً بإدارة مكتب ريوال Riwal للعلاقات العامة الذي يُقدم خدماته إلى وزارة السياحة السورية. قال شاتيون: "عرفت مناف عن طريق مصطفى عام 1994 عندما كان عمري عشرين عاماً، كنت مولعاً حينها بحزب البعث". أكدت العديد من تقارير الشرطة أنه خلال إقاماته في دمشق، كان يسعى إلى الحصول على مساعدات مالية من الماريشال لصالح نقابة طلاب اليمين المتطرف. ألم تُظهر سورية دوماً كرمها مع حركات اليمين المتطرف ودعاة الأدب المعادي للصهيونية؟ لقد نشر مصطفى طلاس بنفسه كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، ولكن ابنه يقول حالياً: "والدي له آراءه، وأنا لي آرائي".
     متى بدأ الضابط الشاب "بالتخلي عن الشيطان وأعماله" كما يقول أحد الكتاب الفرنسيين المشهورين الذي حافظ على صداقته معه؟  أجاب مناف: "منذ المظاهرات الدامية الأولى في درعا بشهر آذار 2011". كان يريد حينها إقناع بشار بالاعتماد على الاحتجاجات للبدء بالتغييرات التي وعد بها منذ سنوات، وتوسّله أن يُعاقب ابن خالته عاطف نجيب رئيس الأمن في درعا المُتهم بتعذيب الأطفال حتى الموت بسبب كتابات معادية على جدران مدرستهم، ولكن دون جدوى. قام مناف أيضاً بالاتصال مع الكاتب المعارض ميشيل كيلو الذي أمضى عدة سنوات في السجن ولكنه ما زال يعيش في سورية. قال ميشيل كيلو: "لقد كلّفه الأسد بالحديث عن الإصلاحات مع المعارضة. قال لي مناف: الرئيس يكذب، ولكن يجب المحاولة من أجل الحوار. ثم أضاف بأنه إذا فشلت المحاولة، فسوف ينضم إلينا". عندما تلقى الجنرال الأمر بالتدخل ضد المتظاهرين في دوما في بداية شهر نيسان، أمر جنوده بحمل العصي فقط، وقال مناف: "رفضت مرافقتهم. لقد وصل الأمن السياسي وأطلق النار". إنها مجزرة. حاول حينها القيام بوساطة، ونظم اجتماعاً بين السكان ورئيس الدولة. ولكن تم القبض على أعضاء الوفد قبل الموعد بيوم واحد. ثم بدأ القمع في مدينة الرستن معقل عائلة طلاس. ذهب الجنرال إلى الرستن ووعد بالتدخل لوقف القتل، ولكن السكان الغاضبين رفضوه. من وجهة نظر بشار، إن مناف لم يعد يتحكم بعائلته، فقد أعلن أربعون ضابطاً من عائلة طلاس الانشقاق لاحقاً. وترأس أحد أقاربه عبد الرزاق طلاس إحدى المجموعات المتمردة. هل يخشى الجنرال مناف أن يخسر على الجانبين؟ لقد قال إلى بشار في آخر لقاء معه: "لم أعد أستطيع المتابعة معك في هذا الطريق الانتحاري". وفي ذلك الوقت، قام بزيارة مفاجئة إلى ميشيل كيلو وقال له: "إن بشار يستحق الشنق".
     يقول مناف الآن: "كنت أريد أن يقوم بانقلاب داخل النظام. ما زالت أتذكره يقول قبل القطيعة بيننا بأنه معي. في الحقيقة، إنه يقول الشيء نفسه إلى الآخرين. إن العصابة التي تقف وراءه لديها الكثير لتخسره، لقد كانت تقوم بدون علمي بتخريب كل ما أقوم به. والأسوأ من ذلك أنها تحاول توريطي واتهامي بعمليات الإبتزاز التي تقوم بها". لقد حان الوقت للهرب، فقام أولاً بإخراج أقاربه. لا يمكن أن تترك أي شخص وراءك في سورية بشار الأسد. قام مناف طلاس بإرسال والده إلى باريس منذ شهر آذار، ثم أرسل زوجته وأطفاله إلى بيروت التي يتواجد فيها ابنه الذي يدرس في الجامعة الأمريكية ببيروت. في اليوم المحدد، اتصل مع أصدقائه وهو يعرف بأن هاتفه تحت المراقبة، ودعاهم إلى العشاء في اليوم التالي لأنه مشغول هذا اليوم. لقد كانت مناورة لصرف الأنظار. هل استفاد من دعم قريبه المتمرد عبد الرزاق طلاس؟ أو حتى من وجود تواطؤ داخل النظام؟ قال مناف طلاس: "إنهم ناس رائعون، ولا أريد تعريض حياتهم للخطر. كل ما أستطيع قوله أنني كنت على وشك التعرض للاعتقال عدة مرات. كانت عملية معقدة جداً". ومن أجل التشويش على ما حصل، قام هذا الصيف بتوجيه الشكر علناً إلى أجهزة الإستخبارات الفرنسية. ولكن وفقاً للمعلومات التي بحوزتنا، فإن عناصر الإدارة العامة للإستخبارات الخارجية الفرنسية لم يتدخلوا إلا بعد وصوله إلى لبنان، وقيامهم بتنظيم عملية عبوره بالسفينة إلى قبرص من أجل تجنب مطار بيروت الذي يسيطر عليه حزب الله.
     يقوم مناف طلاس حالياً من منفاه الباريسي بالعديد من الاتصالات في فرنسا والأردن وقطر. يجب عليه مواجهة شائعة بشعة (تقول أنه هروبه زائف وأن بشار يقوم بإدارته عن بعد)، وإقناع المجلس الوطني السوري القاعدة السياسية الأساسية للتمرد. يحمل معه اسم عائلته كعبء عليه. قال الناطق الرسمي باسم الجيش السوري الحر في باريس فهد المصري: "لست ضد عائلة طلاس، إنهم سوريون مثلنا، ولكن يجب عليهم الاعتراف بأنهم كانوا شركاء هذا النظام منذ عقود، وأن يعتذروا". تؤكد وزارة الخارجية الفرنسية أن "مناف لم تتلوث يديه بالدماء، ولكن بعض اللاجئين السوريين يتساءلون: "كيف يمكن التأكد من ذلك؟". من الصعب الحصول على مكان داخل معارضة ممزقة ومرتبطة بمصالح دول المنطقة المتنافسة، ويتبادل الجميع الاتهامات بالخيانة وبالقيام بدور مزدوج. قال أحد الدبلوماسيين متأسفاً: "حالما تظهر شخصية جديدة، يتم انتقادها". وقال ميشيل كيلو في أحد مقاهي المونبارناس في باريس: "يجب ألا نتحدث عن الماضي. أنا متأكد من أن مناف طلاس سيقوم بدور حاسم في المستقبل ". بمجرد نطقه بهذه الكلمات، شاهد الجنرال السوري يتصبب عرقاً على جبينه باللباس الرياضي في الشارع. تبادلا التحية والتهاني كما لو أنهما ما زالا في دمشق، هذه المدينة ذو الجاذبية الريفية التي يعرف فيها الجميع بعضهم البعض.

مقابلة مع مناف طلاس بعنوان: : (أريد تجنب عرقنة سورية)


مجلة النوفيل أبسرفاتور الأسبوعية 1/11/2012، أجرى المقابلة  كريستوف بولتانسكي Christophe Boltanski وماري فرانس إيتشيغوان Marie-France Etchegoin

سؤال: كيف عايشتم الأيام الأولى من الثورة؟
مناف طلاس: لقد شجعت الرئيس على الاعتماد على هذه الحركة من أجل إصلاح البلد بدلاً  من الاعتماد على حزب البعث المنخور، كما قمت بزيارات ميدانية. يجب أن تفهموا موقفي في ذلك الوقت: كنت أنتمي إلى الدائرة الأولى، وكان لدي اتصال مباشر مع الرئيس، وكنت أقول له أنني سأتناقش مع المحتجين. في البداية، سمح لي أن أقوم بذلك. ولكن بعد انتهاء الشهر الثالث، لاحظ المُحيطون به أنني أحقق بعض النتائج، وبدؤوا بوضع العراقيل أمامي. كنت أشعر بوجود انفصام (شيزوفرينيا) في قمة الدولة، وحتى الجنود كانوا ضائعين. عندما تم إدخال جنودي في المعارك، رفضت مرافقتهم وبقيت في مكتبي وامتنعت عن الكلام. كان النظام يُوجه الأوامر إليهم عن طريق معاوني الذي قُتِل مؤخراً أثناء المعارك في حلب.
سؤال: هل استطعتم إكتشاف سر بشار الأسد؟
مناف طلاس: لا أعرف ماذا أرد على هذا السؤال في كل مرة يتم فيها طرحه عليّ. كان لدي شعور مثل الآخرين بأنه رجل إصلاحي، وكنت آمل بأن يقف مع الثورة. قلت له: "أنت رجل شاب، وتستطيع فهم ما يجري في الشارع". لا أستطيع نفي أنه كان صديقي قبل الثورة. أعتقد أن والده كان سيتصرف بشكل مختلف، وربما كان سيشعر بالخطر مبكراً، وربما كان سيعرف كيف يُقدم التنازلات الضرورية.
سؤال: بماذا تردون على أولئك الذين يتهمونكم بمجاملة بشار؟
مناف طلاس: إن ما يهمني هو الدولة وليس النظام. أريد تجنب عرقنة سورية ـ أي تجزئة ـ بلدي. يجب أن يسقط النظام وبشار معه. اليوم، أنا خصمه بشكل واضح. لا مجال لأي حل مع شخص أرسل طائراته لقصف المدن.
سؤال: هل هو مجرم حرب؟
مناف طلاس: النظام هو كذلك، ومن يعطي الأوامر أيضاً. وعليكم استخلاص النتيجة.
سؤال: هل تنتظرون حصول إنشقاقات أخرى؟
مناف طلاس: لقد  انشق 250 ضابطاً بعد رحيلي. إن الأولوية اليوم ليست في تشجيع الإنشقاقات بقدر معرفة كيفية الخروج من كل ذلك. إن حصول إنشقاقات أخرى لن يغير شيئاً. وحتى خسارة أربعة ضباط كبار في التفجير الذي حصل في شهر تموز، لم يُغيّر موازين القوى. إن آلة القتل مستمرة.
سؤال: كيف تنوون مساعدة سورية للخروج من الفوضى؟
مناف طلاس: أعمل على إعداد خارطة طريق منذ وصولي إلى فرنسا من أجل إعادة هيكلة الجيش السوري الحر وتوفير قيادة حقيقية له وتقليل نفوذ الإسلاميين داخله. يجب فتح هذا الجيش أمام جميع مكونات المجتمع السوري. إنها الطريقة الوحيدة لدفع الدول الغربية نحو تزويده بالأسلحة التي يحتاجها وتشجيع انشقاق الضباط. أريد توفير بديل عن المواجهة بين المتطرفين لدى المعسكرين. لدي دور أقوم به لأن المؤسسة العسكرية وجزء كبير من جهاز الدولة والأقليات يثقون بي. أنا لا أسعى إلى منصب قيادي، ولكن يجب أن تفهم المعارضة في الخارج أنها لا تُمثل شيئاً كبيراً في الداخل. يجب أن تكون أولويتها توجيه رسالة تهدئة إلى جميع الطوائف وإقناع العلويين بشكل خاص أن مكانهم محفوظ في سورية الغد.

(عروة نيربية: هذا الاعتقال كان الفيلم الأضخم بحياتي)


صحيفة اللوموند 14/10/2012  بقلم مراسلتها في القاهرة كلير تالون Claire Talon

     يبحث المخرج السينمائي عروة نيربية (35 عاماً) عن شقة للأجار في القاهرة لعدة أشهر فقط من أجل إنهاء فيلمه الذي توقف العمل فيه بسبب اعتقاله بتاريخ 23 آب من قبل المخابرات العسكرية. يصف عروة نيربية نفسه بأنه "معارض لطيف" للنظام وما زال يؤمن أكثر من أي وقت مضى بسلطة السينما وقال: "كان هذا الاعتقال الفيلم الأضخم بحياتي".
     قام عروة نيربية بتوظيف شهرته لخدمة المقاومة منذ بدايتها، وذلك قبل أن يتم اعتقاله في مطار دمشق. لا شك بأن أحد الناشطين أوشى باسمه تحت التعذيب. لقد أدرك عروة نيربية منذ يومه الثاني في السجن أنه سيتلقى معاملة خاصة ستُجنبه ما هو أسوأ، وقال: "سمعت أحد المحققين يقول: هذا هو السينمائي البارع؟. عندها أدركت فوراً أنه سمع هذه الكلمة في التلفزيون". لقد تم تنظيم حملة دعم دولية للمطالبة بالإفراج عنه، وأحسّ عروة نيربية بالإرتياح عندما اكتشف أن أصدقائه أغلقوا حساباته في Gmail وSkype وFacebook، وهذا ما يقوم به الناشطون دوماً عند اعتقال أحد منهم من أجل تجنب سلسلة من الاعتقالات.
     لم يتعرض عروة نيربية للتعذيب، وبدأ التحقيق معه بسرعة منذ وصوله، وذلك بعكس رفاقه الثمانين الذين يتكدسون في زنزانة طولها سبعة أمتار وعرضها ثلاثة أمتار. قال عروة نيربية: "إنهم مهووسون بالمسلسل البوليسي الأمريكي CSI ويحلمون بالقبض على جواسيس. إن خيالهم يشبه خيال الرسوم  المتحركة. يُسيطر عليهم وسواس المؤامرة الدولية ويؤمنون بذلك بشكل كامل. لا يمكنهم تصور أن الناشطين ليسوا عملاء للخارج. وهكذا أصبحوا يهتمون بالخارج أكثر بكثير من نشاطات المقاومة. إنهم رجال مساكين.". أشار عروة نيربية إلى أن أحد المحققين طلب منه بسذاجة من هو روبرت دونيرو، الذي وقّع على فيديو يطالب بالإفراج عنه، وكيف يعرفه. واعترف قائلاً: "كان لدي رغبة بالضحك مرات عديدة".
     وجد عناصر النظام على حاسوبه قوائم كاملة من الأدوية التي أرسلها الناشطون إلى المستشفيات الميدانية وكشفاً بنفقات المساعدة إلى العائلات. قام عروة نيربية بإختراع أسماء وقصص مزج فيها بين الحقيقة والخيال لدرجة أنه بنفسه لم يعد يُفرّق بينهما، وقال: "كنت أروي لهم أحياناً حادثة حقيقية ناسياً أنها ليست خيالاً. وفي المساء، كنت أكرر الأسماء المختلقة لأصدقائي في الزنزانة لكي لا أنساها".
     إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من اتهامات التجسس غير المعقولة، إن ما يصطدم عروة نيربية هو جهل سجّانيه بنشاطات المعارضين، وقال: "كان لديهم الكثير من المعلومات الخاطئة، ولم يكونوا متأكدين من المعلومات الصحيحة. إنهم لا يعرفون شيئاً عن المقاومة ولا يعرفون شيئاً عن المجلس الوطني ولجان التنسيق. تقتصر إستراتيجيتهم على انتزاع الأسماء تحت التعذيب. ويتوقفون عن التعذيب عما تعطيهم عشرة أسماء. النتيجة هي أنه لديهم قائمة تتضمن 97000 مطلوباً. إنها الفوضى الكاملة".
     كان يتواجد في زنزانته مُخبران من أصل ثمانين شخصاً، وثلاثة منهم فقط من الناشطين الحقيقيين، وعشرة منهم هم مجرمو حق عام ولا يفهمون شيئاً من التهم المنسوبة إليهم. ولكن الأمر المثير للصدمة هو أن الجزء الأكبر من المعتقلين (65 من أصل 80) هم مجندون أعمارهم حوالي عشرين عاماً وليس لديهم أي وعي سياسي، وهم مسجونون من شهرين أو خمسة أو سبعة أشهر ويُشتبه بأنهم "كانوا ينوون الإنشقاق" أو "متهمين بانتقاد قصف قراهم".
     يعتبر عروة نيربية أن أحد أسباب هذا الإرتباك هو عدم وجود تواصل بين أكبر أربع أجهزة أمنية للنظام وهي: المخابرات العسكرية والمخابرات الجوية والأمن السياسي وأمن الدولة، ويشرف عليها حالياً الأمن القومي. هناك تنافس محموم بين هذه الأجهزة لكسب رضى بشار الأسد. قال عروة نيربية: "قامت المخابرات الجوية المعروفة بأنها الأكثر عنفاً باعتقال الصحفي مازن درويش قبل أكثر من ثمانية أشهر، وليس هناك أي معلومات عنه على الرغم من أنه أكثر اعتدالاً مني بكثير. إنه أمر غير منطقي إطلاقاً".
     يصف عروة نيربية الضباط بأنهم جهلة ومُنهكين ومزعوجين من دورهم، ويشتكون من أنهم لم يحصلوا على إجازة منذ بداية الثورة، وأن هوسهم بالمؤامرة أعماهم عن أعمالهم البربرية. في أحد الأيام، انفعل أحدهم غاضباً من تقرير منظمة هيومان رايتش ووتش التي اتهمت السجن بتعليق الناس من أقدامهم لمدة ثلاثة أيام وقال: "نحن نعلّقهم هنا من أيديهم لمدة ثلاثة أيام ولا نعلقهم إطلاقاً من أقدامهم!" وكان هذا الرجل يكرر دوماً أنه اكتشف "كذبة خارجية".
     قال عروة نيربية: "كان الرجل الذي يضع القيود في يدي يتنهد في كل مرة أقول له فيها بأنني سأقول بأنهم كانوا سيئين. إن المُخبرين داخل الزنازين هم ليسوا إلا بعض المساجين المساكين الذين يشترون أفضل مكان في الزنزانة من أجل النوم". إنه وضع سيء بشكل عام ويغذي انتشار العنف. يبدأ الطبيب زيارته  اليومية بضرب المرضى.
     رأى عروة نيربية زملاءه في السجن وهم مُحطمون بدون أظافر ومع علائم التعذيب بالكهرباء. إن غياب الشمس والرطوبة الشديدة وحشود الحشرات والأمراض الجلدية لا تعادل شيئاً أمام الصراخ الدائم للذين يتعرضون للتعذيب. في الليل، تختلط ضحكات الجلادين الثملة مع رائحة العرق غير المحتملة القادمة من غرف التعذيب،. تدخل هذا الرائحة إلى الزنزانة عبر النافذة الوحيدة التي تطل على الممر. قال عروة نيربية: "لن أنسى أبداً هذه الليالي وهذه الرائحة".
     تعززت قناعة عروة نيربية بعد خروجه من السجن، بأن الثورة لن تنجح بدون مساعدة خارجية. ويعتبر أن موقف الدول الغربية يدل على نظرة عمياء. وقال: " إذا كان هناك ناشط إسلامي إلى حد ما، واحتاج إلى المال لمعالجة الجرحى، فإنه يتصل بالسعودية وقطر، وفي اليوم التالي، تصل الأموال إلى حسابه. ولكن عندما يقوم ناشط علماني بالاتصال بأوروبا لإنقاذ نفس الجرحى، فإن الدول الغربية تحتاج إلى شهر لكي تقول: نعم، ثم تطالب بالفواتير أيضاً! إن الجهة التي تُنقذ هذا الجريح، هي التي ستفوز في الانتخابات القادمة. تُعطينا قطر 55 مليون مساعدات إنسانية مقابل وعود أمريكية بإعطاء 15 مليون. يدّعي الغرب أنه يريد تجنب الخطر الإسلامي من خلال الامتناع عن التدخل، ولكن النتيجة ستكون معاكسة لما يريده".
    يعتبر عروة نيربية أن الجزء الأساسي من الأموال القطرية لا يمر عبر الإسلاميين في سورية بل عبر ممثلي "اليمين الليبرالي". هل هم رجال أعمال؟ إنه يرفض التوضيح. بعد خروجه سليماً معافى، ما زال يحرص على كل كلمة يقولها لكي لا يُعرّض حياة الآخرين للخطر، ولكي يعود إلى سورية. وقال عروة نيربية مع ابتسامة ساخرة: "يمين ليبرالي، هذا يكفي. إنه أمر جيد ومعقد جداً بالنسبة لهم، ولن يفهموا".
     قال عروة نيربية: "إن إحدى معجزات الثورة هي اندماج المغتربين السوريين بفضل الأنترنت. هناك مئات الشبكات في العالم التي تجد حلولاً لإيصال الأموال. إذاً، لماذا تستمر البيروقراطية الغربية في تمويل الهلال الأحمر السوري؟". تعمل هذه المنظمة الرسمية وفق المعايير الدولية وتعطي فواتير، ولكنه يعتبرها خاضعة كلياً لسيطرة النظام، وتُرسل جميع المساعدات إلى المناطق التي تؤيد بشار الأسد.
     قال عروة نيربية ضاحكاً: "إن الجانب الإيجابي الوحيد من الاعتقال هو أن وزني انخفض عشرة كيلوغرامات خلال عشرين يوماً". سأبقى في مصر عدة أشهر فقط، ثم سأعود".

الجمعة، ٢٨ كانون الأول ٢٠١٢

(التفاوض على مستقبل سورية في موسكو)


صحيفة الفيغارو 28/12/2012  بقلم آلان بارليويه Alain Barluet

     انتقل مركز الثقل الدبلوماسي للنزاع السوري إلى موسكو. سيلتقي مبعوث الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوم السبت 29 كانون الأول لكي يحاول "تسويق" مشروع حكومة انتقالية قادرة على إنهاء الزاع الدامي الذي أدى إلى مقتل 45000 شخصاً منذ واحد وعشرين شهراً. كما سيقوم نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بزيارة موسكو اليوم 28 كانون الأول.
     إذا كانت موسكو ما زالت تُعتبر طرفاً محورياً لحل الأزمة، فقد تم تسليط الضوء على هذا الدور في الأسابيع الماضية عبر ابتعاد موقف موسكو عن حليفها بشار الأسد. كما تم التأكيد على محورية الدور الروسي عبر النداء الذي أطلقه وزير الخارجية السوري  السابق فاروق الشرع بتاريخ 18 كانون الأول من أجل التوصل إلى اتفاق "تاريخي" بين النظام والمتمردين، ومن الممكن أن يكون هذا النداء قد تم بدعم روسي.
     لا شيء يؤكد على أن الجهود الروسية ستؤدي إلى إيجاد مخرج للأزمة خلال فترة قصيرة. قال أحد الدبلوماسيين المقربين من الملف السوري: "يتزايد انزعاج الروس أكثر فأكثر، لأنهم يعرفون جيداً بأن بشار الأسد ليس له أي مستقبل. ولكنهم تمسكوا بموقفهم، وهم غير مستعدين حتى الآن أن يقولوا للرئيس السوري أنه يجب عليه الرحيل". كما لا تريد موسكو سقوط سورية في فلك الدول الخليجية مثل السعودية وقطر.
     لقد نفى الأخضر الإبراهيمي يوم الخميس 27 كانون الأول وجود خطة روسية ـ أميركية، وفضّل الاحتماء وراء البيان الغامض الذي تم التوقيع عليه في جنيف بتاريخ 30 حزيران الماضي. ولكن هيلاري كلينتون وسيرغي لافروف قاما فعلاً بتكليف الإبراهيمي بعرض مبادرة للخروج من الأزمة على بشار. تنص هذه المبادرة على تشكيل حكومة انتقالية وبقاء الأسد بدون سلطة حتى الانتخابات الرئاسية عام 2014، ولكن لن يحق له ترشيح نفسه في هذه الانتخابات. لم يقبل الرئيس السوري بهذه الخطة التي تنفي موسكو وجودها لكي لا تعطي الانطباع بأنها تخلت عن حليفها. وما زالت موسكو ترفض رحيل الأسد كشرط مسبق، وتُلوّخ بشبخ "فوضى دامية" إذا لم يتم التوصل إلى حل تفاوضي.
     أكدت باريس يوم الخميس 27 كانون الأول أن بشار "لا يمكن أن يكون جزءاً من العملية الانتقالية السياسية". لقد راهنت فرنسا كثيراً على التمرد، وتعتبر أن هناك "ديناميكية على الأرض ويجب أخذها بعين الاعتبار" لأنها هي التي ستحدد مصير سورية.

(المعارك تصل إلى المنطقة العلوية، في معقل نظام الأسد)


صحيفة اللوموند 28/12/2012 بقلم كريستوف عياد Christophe Ayad

     إنه تطور جديد في النزاع السوري. تزداد جرأة التمرد أسبوعاً بعد أسبوع، وأصبحت تهاجم "المنطقة" العلوية التي يُعتبر سكانها مؤيدين للرئيس بشار الأسد. إن الجبل العلوي والشريط الساحلي الممتدان من طرطوس إلى اللاذقية، يُعتبران غالباً كملجىء أخير محتمل للعائلة الحاكمة التي قامت بتخزين كمية كبيرة من الأسلحة الثقيلة فيه.
     إن الهجوم على المنطقة العلوية يعني استهداف نواة النظام، نظراً لأنها المصدر الأساسي للضباط والمجندين الجدد الذين يسقطون يومياً برصاص التمرد. لم يعد المتمردون يترددون في مهاجمة القرى العلوية في جبل الأكراد وجبل التركمان وبالقرب من حماة. يتمتع المتمردون بموقع قوي في المرتفعات الشمالية ـ الغربية، ويقتربون شيئاً فشيئاً من اللاذقية وجسر الشغور، ويهاجمون في طريقهم القرى العلوية التي تخلو من سكانها مع  اقتراب الجيش السوري الحر. كما يهاجمون  القرى المعزولة في وسط سورية. لقد استعاد الجيش يوم الأربعاء 26 أيلول قرية معان العلوية التي سقطت بأيدي المتمردين قبل يومين منذ ذلك.
     تهدف هذه الإستراتيجية إلى تحقيق ثلاثة أهداف. إنها تهدف أولاً إلى منع النظام من تشكيل منطقة انسحاب متجانسة. وتهدف ثانياً إلى الحيلولة دون تشكيل أية استمرارية بين الأراضي التي يسكنها العلويون في سورية وتركيا. وتهدف ثالثاً إلى حشد القوات في اللحظة التي ستُكثف فيها حركة التمرد ضغطها على العاصمة، والاستمرار في السيطرة على جزء كبير من حلب.
     لا يمكن أن يترك النظام هذه القرى العلوية دون حماية، لأنها تزوده بالجزء الأساسي من قواته المسلحة التي تقاتل اليوم على الأرض. سيكون التخلي عنها خيانة لن تنساها طائفة غير متحمسة تجاه بشار الأسد، ولكنها متضامنة معه حالياً لمواجهة التهديد السني.
     لا يمكن إهمال البعد النفسي لهذه الهجمات. يريد المتمردون أن يدفع جيرانهم ثمن القمع الذي يتعرضون له منذ أكثر من واحد وعشرين شهراً، والذي أدى إلى مقتل أكثر 45000 شخصاً. هناك خطر بتزايد المجازر الطائفية مثل مجزرة الحولة (108 قتيلاً أغلبهم من السنة) ومجزرة عقرب (125 إلى 150 قتيلاً يبدو أن أغلبهم من العلويين) بتاريخ 11 كانون الأول في ظروف ما زالت غامضة حتى الآن.
     لن يؤدي النفوذ المتزايد لجبهة النصرة إلى تهدئة الأمور، لقد قامت الولايات المتحدة مؤخراً بتصنيفها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية بسبب تقاربها الإيديولوجي مع تنظيم القاعدة، وتواجد العديد من الجهاديين الأجانب داخلها. إن تركيز جبهة النصرة على العداء تجاه العلويين والشيعة، يعادل أو يتجاوز رفضها لنظام دمشق. لقد حذر المستشار الخاص في الأمم المتحدة لشؤون الوقاية من مجازر الإبادة من مخاطر الانتقام التي تُلقي بظلها على الأقليات في سورية، فقد أكد أداما دينغ Adama Dieng في بيانه قائلاً: "أشعر بقلق عميق لأنه هناك طوائف بأكملها مهددة بدفع ثمن الجرائم التي ارتكبتها الحكومة السورية". كما أشار أعضاء لجنة التحقيق المستقلة حول حقوق الإنسان التي تعمل لحساب الأمم المتحدة إلى أن "النزاع أصبح طائفياً بشكل واضح".

(عبد الله، جهادي مُعادي للشيعة في سورية)


صحيفة اللوموند 28/12/2012  بقلم مراسلها الخاص في قرية سلمى بجبل الأكراد لويس روت Lewis Roth

     قال (عبد الله) أنه تخلى عن "شقته وسيارته وزوجته" قبل أن يذهب إلى "لحرب المقدسة"، وهو الذي قام بتعداد ما تخلى عنه بهذا الترتيب. لقد أكد على أن الشقة والسيارة كانتا جديدتين، دون معرفة مصير زوجته. إنه الجهاد الأول بالنسبة لـ (عبد الله) الذي لا يريد إزعاج نفسه بكل ما يمكن أن يُذكّره بـ "الحياة المريحة". وقال لنفسه أن دفع القليل من المال في سورية، لن يكون تبذيراً. كما باع أيضاً محله لبيع العطورات. عندما نسأله عن سبب مجيئه إلى سورية، يكتفي بالقول: "إن كل ما قمت به، كان بسبب التفكير بدموع الأطفال السوريين". لا يبدو عليه مظهر المُقاتل المُحنك، بل مظهر شاب عمره 26 عاماً، وخرج لتوه من مرحلة المراهقة.
     إنه واحد من مئات الجهاديين الأجانب الذين جاؤوا إلى سورية للقتال ضد النظام "الكافر" لبشار الأسد. (عبد الله) رجل حذر جداً، ولا يعطي إلا اسمه، وربما كان اسماً مزيفاً. كما أنه لا يقول اسم  المدينة السعودية التي جاء منها، ولا الطريق الذي عبره للوصول إلى سورية. إذاً، "الله" هو الذي قاد خطاه، ربما عن طريق أنطاكية حتى وصل إلى جبل الأكراد الذي أصبح تحت سيطرة المتمردين بشكل كامل تقريباً. إن الحدود التركية ليست مفتوحة في هذا المكان، ولكن المهربين يعبرونه بسهولة، ولاسيما من تركيا إلى سورية.
      أشار (عبد الله) إلى أنه وصل وحيداً بصفة شخصية، ولم يصل ضمن مجموعة. إنه يتهرّب من الإجابة على أي سؤال محدد، ويرد بشكل عام مستشهداً بآية قرآنية تُثير الريبة بصحتها أحياناً، ولكنها تفرض نفسها على إخوانه السوريين في الدين. بالتأكيد، إن الحافز الأساسي بالنسبة له هو الدين قبل كل شيء. أشار (عبد الله) إلى أن "الرسول قال بأن جيش الإسلام سيعود إلى الأرض في أحد الأيام، وأن هذه العودة ستبدأ في بلاد الشام، ولهذا السبب أنا هنا في سورية". إنه لا يحب الإشارة إلى سورية باسمها الرسمي، لأنه اسم غربي جداً بالنسبة له. إنه يذكر "أرض الحرمين" للإشارة إلى بلده السعودية. إنه شديد التدين، وقادر على اجبار أحد المقاتلين على إطفاء سيجارته بنظرة واحدة، ويعتبرها "حراماً".
     لم يُفكر (عبد الله) إطلاقاً بالذهاب إلى مصر أو تونس أو ليبيا في بداية الثورات العربية التي تابعها بلهفة على التلفزيون. ولكن عندما اندلعت الاضطرابات في سورية، ثارت الحمية في دمائه فوراً. قال (عبد الله): "كنت أعرف عن طريق أصدقائي السوريين في السعودية أن سورية يحكمها نظام معارض للإسلام. إن الذهاب إلى صلاة الفجر أو مجرد امتلاك كتاب حول الإسلام الصحيح ـ أي بالنسبة له الإسلام السني الوهابي بشكله الأكثر تصلباً ـ يُعاقب عليه بالسجن ثلاثة سنوات في السجن. كما لا يحق للفتيات إرتداء الحجاب في المدرسة، كما هو الحال في فرنسا".
     يقول هذا الرجل الشاب عن نفسه بأنه "سلفي"، ويعتبر أن سورية يحكمها "كفار" و"شيعة" يشُبههم بالطائفة العلوية لعائلة الأسد الحاكمة. إن الحرب التي جاء من أجلها هي جهاد ضد الهرطقة الشيعية التي يعتبرها أسوأ بكثير من الإمبريالية الغربية. عندما سألناه ما هو الأسوأ: غزو العراق من قبل جورج بوش أو القمع الذي يمارسه بشار الأسد في سورية، أجاب (عبد الله) بسرعة ودون تردد قائلاً: "بشار هو الأسوأ لأنه ينتحل صفة المسلم، ويسعى إلى تحويل المسلمين السنة إلى المذهب الشيعي. الأمريكيون هم أعداء وكفار، ولكنهم على الأقل لا يسعون إلى تنصيرنا".
     تعكس أراؤه بوضوح الخطاب الحاقد للشيخ العرعور، رجل الدين السوري المقيم في السعودية منذ بداية التمرد، الذي يبث خطاباته المعادية للعلويين على إحدى المحطات الفضائية. تتفق هذه الخطابات مع خطابات السلطة السعودية التي لا تدخر جهدها في دعم التمرد السوري من أجل مواجهة التحالف الإستراتيجي بين نظام دمشق وإيران العدو اللدود لدول الخليج.
     لقد وصل (عبد الله) إلى سورية قبل عدة أشهر، ويدّعي أنه تعلّم استخدام السلاح خلال فترة تدريبية قصيرة مع كتيبة صقور العز، ويتفاخر بأنه شارك في الهجوم الناجح على الموقع الحكومي في برج القصب في بداية شهر أيلول. أكد (عبد الله) أن كتيبته تضم أقل من عشرة مقاتلين أجانب من أصل حوالي مئة مقاتل، دون أن يكون بالإمكان التأكد من ذلك. كما أكد زميله السوري (معتز) أن عدد المقاتلين الأجانب لا تتجاوز نسبته 10 % في مختلف الكتائب الموجودة في جبل الأكراد.
     يبدو أن الليبيين بشكل خاص والمغاربة بشكل عام يشكلون الجزء الأساسي من الجهاديين الدوليين في سورية. لقد وصل أغلبهم اعتباراً من شهر آذار 2012 عندما أصبحت حركة التمرد مسلحة، وذلك بعكس تأكيدات الحكومة السورية التي وصفت التمرد منذ أيامه الأولى كمشروع تقوده "عصابات سلفية مسلحة" جاءت من الخارج بهدف زعزعة استقرارها.
     أكد (أبو برهان)، ضابط منشق ويقود اليوم مجموعة مُسلحة في قرية سلمى، عدم وجود أي مقاتل أجنبي في جبل الأكراد، خلافاً لكل التأكيدات، وقال: "أنا ضد وجود المقاتلين الأجانب. إنهم لا يعرفون البلد، ويأتون بأفكار غريبة عن ثقافتنا. إن ما ينقصنا هو السلاح وليس الرجال". إن بعضهم مُقاتلين مُحنكين ولاسيما القادمين من الشيشان وليبيا والعراق. إنهم يُفضلون القتال في حلب التي تشهد معارك عنيفة داخل المدينة منذ شهر تموز 2012، وتم استخدام بعضهم للقيام بعمليات انتحارية ولاسيما من قبل جبهة النصرة.
     إن (عبد الله) هو داعية إيديولوجي، وقليل الخبرة عسكرياً، ولا يعرف بشكل جدي الأرض والمجتمع السوري. إنه يساهم بشكل أساسي في تشديد راديكالية إخوته في الدين عن طريق خطاب معاد للعلويين بشكل واضح. أما صديقه السوري الجالس بجانبه (معتز) الذي يبدو أنه على طريق  اعتناق "السلفية" بشكل سريع، فلم تكون مواقفه حاسمة بهذا الشكل، وقال: "أعرف أنه هناك علويين انضموا إلى الثورة، وأن بعض السنة يدافعون عن النظام".
     لن يترك (عبد الله) سورية بعد سقوط النظام، بل بعد "تحويل البلد إلى الإسلام الحقيقي" أي إقامة الشريعة الإسلامية. ولكن (معتز) قاطعه قائلاً: "سيترك إخواننا الأجانب سورية عندما يسقط النظام. إن الشعب السوري هو الذي يقرر بحرية ماذا يحصل بعد ذلك". إنها المرة الأولى التي يصمت بها (عبد الله).

الخميس، ٢٧ كانون الأول ٢٠١٢

(السلطة والمعارضة تتجاهلان خطة الوسيط الأممي)


صحيفة اللوموند 27/12/2012  نقلاً عن وكالة الصحافة الفرنسية AFP

     من المفترض أن يبقى مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي في دمشق حتى يوم الأحد 30 كانون الأول، ولكنه لم يحظ بموافقة بشار الأسد ولا موافقة مجموعات المعارضة الأساسية على الخطة الدولية للخروج من الأزمة. أشار دبلوماسيون في الأمم المتحدة إلى أنه ليست هناك أية إشارة على الإرادة بالتفاوض من قبل الرئيس السوري الذي إلتقى مع الأخضر الإبراهيمي يوم الاثنين 24 كانون الأول، وقال أحد هؤلاء الدبلوماسيين: "يبدو أن بشار الأسد يريد عرقلة عمل الأخضر الإبراهيمي مرة أخرى، ما زال مجلس الأمن بعيداً عن إظهار الدعم الضروري، ولن يقبل المتمردون حالياً بأية  تسوية".

(الدولة البربرية ما زالت تعيث فساداً)


صحيفة الفيغارو 27/12/2012  بقلم الباحثة نور بنكوريش Nora Benkorich، الباحثة المساعدة في قسم التاريخ المعاصر للعالم العربي في الكوليج دو فرانس

     يأخذ الوضع في سورية منحى مأساوياً بعد مرور أكثر من 21 شهراً على بداية التمرد الشعبي ضد نظام بشار الأسد. لم يستسلم مرتزقة العائلة الحاكمة أمام حركة الاحتجاج المستمرة والمتصاعدة، وقاموا بتسريع وتيرة العقوبات الجماعية ضد المدنيين العزّل. هناك مدينتان تُظهران بشكل واضح هذه الإجراءات العقابية هما: داريا (200.000 نسمة تقريباً) ومعرة النعمان (120.000 نسمة تقريباً). تتعرض هاتان المدينتان منذ عدة أسابيع لهجمات يومية من قبل جنود النظام عبر الهجمات البرّية المدعومة بالدبابات والمدفعية وراجمات القذائف ومدافع الهاون والغارات الجوية ـ الميغ والطائرات المروحية ـ  التي تقصف جميع الأحياء بدون تمييز وحتى المدنيين. كانت منظمة هيومان رايتش ووتش قد أشارت إلى استخدام القنابل العنقودية، وتشير حالياً إلى استخدام القنابل الحارقة الممنوع استخدامها في المناطق المأهولة من قبل أكثر من مئة دولة.
     بلغت الحصيلة المؤقتة لهذه الهجمات المستمرة 300 قتيل في داريا خلال شهر واحد، و600 قتيل في معرة النعمان خلال شهرين، أغلبهم من المدنيين، بالإضافة إلى آلاف الجرحى. كما اضطر أغلب السكان إلى اللجوء للمدن والقرى المحيطة. هذا هو الوضع في داريا بالنسبة للناشط (أسامة)، فقد اضطرت عائلته المكونة من 11 شخصاً إلى مغادرة المدينة في بداية شهر تشرين الثاني والإقامة لدى شقيقته في دمشق، هرباً من القصف المكثف. قال (أسامة) عبر SKYPE: "إنها شقة صغيرة تتكون من غرفتين، ولكننا محظوظون جداً". لم تتوفر مثل هذه الفرصة لأغلب العائلات المُهجرة التي لجأت إلى الحقول الواقعة غرب المدينة وإلى القرى المجاورة مثل صحنايا وكفرسوسة وخان الشيح وزاكية. لقد ذهبت هذه العائلات المحاصرة إلى الأماكن المتاحة أمامها، فلجأت بعضها إلى المزارع والجوامع والمدارس، ولم يكن بوسعها الحصول على المازوت والكهرباء للتدفئة. بسبب نقص الأماكن المتاحة، وجدت بعض العائلات نفسها في الشارع أو في الحدائق العامة خلال فصل الشتاء الذي تنخفض درجة الحرارة فيه ليلاً إلى الصفر. يُضاف إلى هذه الظروف، نقص الخبز والارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الضرورية، ومن ضمنها حليب الرضّع.
     إلى متى ستستطيع هذه العائلات الصمود؟ قام جنود النظام مؤخراً بقصف بعض أماكن لجوء العائلات مثل جامع صحنايا الذي لجأ إليه العديد من اللاجئين. كما  شن حملة على خان الشيح قبل عدة أيام من أجل اعتقال جميع رجال العائلات اللاجئين في المزارع ـ حوالي مئة رجل ـ . حاول بعضهم الذهاب إلى دمشق، ولكن حواجز التفتيش المنتشرة على مداخل المدينة، تمنع وصول المُهجرين في الداخل.
     إن الوضع في معرة النعمان ليس أفضل حالاً، فقد تحولت هذه المدينة إلى ساحة معركة. كما حصل لسكان داريا، اضطر سكان معرة النعمان إلى اللجوء للقرى المجاورة في جبل الزاوية. أشار الناشط محمد يحيى الذي تم الاتصال به عبر SKYPE، إلى أن أغلب السكان يعيشون في ظروف صحية وإنسانية سيئة، وأن الذين حالفهم الحظ بالعثور على ملجأ، يعيشون بدون كهرباء ولا تدفئة ولا ماء. يحاول الآخرون البقاء على قيد الحياة بدون ملجأ وتحت الثلوج حالياً. لقد تم إحصاء العديد من حالات الوفاة بسبب البرد والمجاعة.
     كيف يحاول الناشطون في هذه المدن تنظيم أنفسهم لمساعدة السكان المُهجرين؟ يتنقل المُهجرون دوماً بين مختلف القرى التي تُزودهم بما يحتاجونه للبقاء على قيد الحياة (أغطية وماء وخبز)، ولكن هناك نقص كبير في الإمكانيات. يصطدم تنقلهم في داريا دوماً بحواجز قوات أمن النظام التي تمنعهم من التنقل في أفضل الأحوال، أو ترسلهم إلى السجن في أسوأ الأحوال. من أجل التحايل على هذه العقبة، تنكّر بعضهم بلباس الهلال الأحمر، الأمر الذي يسمح لهم بعبور الحواجز دون تدقيق هوياتهم. يجب الإشارة هنا إلى أن الهلال الأحمر السوري لا يستطيع التدخل بدون موافقة النظام السوري، ولا يُسمح له بالتعامل مع "الأطراف الثورية".
     إن معرة النعمان وداريا ليستا مثالين عديمي الأهمية. لقد أظهر الناشطون ووجهاء هاتين المدينتين قدرتهم على تأسيس "مجالس ثورية محلية" ـ وانتخابها بشكل ديموقراطي في معرة النعمان ـ ، وأصبحت هذه المجالس تقوم بتسيير الأمور الإدارية بدلاً عن الدولة، وتزويد سكانها بالخدمات العامة الأساسية مثل الأمن والقضاء بفضل إنشاء  محاكم ثورية وشرطة محلية، وتوفير المساعدة الطبية والإنسانية العاجلة. هل أخطأت هذه المدن عندما أظهرت للنظام أنها تقوم بتسيير أمورها بنجاح أثناء غيابه؟
     على الصعيد العسكري، تمثل هاتين المدينتين رهاناً إستراتيجياً.  تقع معرة النعمان بالقرب من القاعدة العسكرية في وادي الضيف التي يُحاصرها الجيش السوري الحر منذ شهرين. لقد قام النظام بالهجوم على المعرّة كإجراء عقابي. فيما يتعلق بداريا، فهي تقع بالقرب من مطار المزة العسكري وقواته التي يُرابط جزء منها في شمال غرب المدينة. ولكن الناشط عبد الكريم الكافي (اسم مستعار) أشار إلى سبب هذه التوغلات هو القذائف التي استهدفت القصر الجمهوري انطلاقاً من المزارع الواقعة غرب المدينة. رداً على ذلك، اختار النظام معاقبة المدنيين بشكل جماعي وبعنف غير مقبول. إن المعارك ضد الجيش السوري الحر، لا يمكنها أن تبرر بأي شكل من الأشكال تحويل المدنيين العُزّل إلى رهائن. لقد ظهر هذا الموقف الحاقد عبر استخدام القنابل العنقودية التي تقتل دون تمييز، واضطهاد اللاجئين خارج حدود  مدينتهم، إنه انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف التي تنص على أنه يجب التمييز بوضوح بين المدنيين والمقاتلين.
     إن داريا ومعرة النعمان ليستا إلا مثالاً من بين أمثلة أخرى على سياسة الأرض المحروقة التي يتبناها النظام السوري. منذ خريف عام 2012، لم تعد حمص "المدينة الشهيدة" الأولى، حالة معزولة. هناك العديد من المدن التي تواجه المصير نفسه ولاسيما دير الزور والقصير وكرناز (بالقرب من حماة) وببيلا. لقد حان الوقت لكي يتحرك المجتمع الدولي، وإلا سيزداد رقم 43000 قتيل بشكل كبير في الأيام القادمة.