الصفحات

الخميس، ٦ آذار ٢٠١٤

(الاغتصاب، سلاح تدمير شامل)

صحيفة اللوموند 6 آذار 2014 بقلم مراسلتها الخاصة في عمّان أنيك كوجان Annick Kojean

     إنها الجريمة الأكثر قتلاً التي يتم ارتكابها في سورية حالياً. إنها جريمة واسعة النطاق، ويقوم النظام بتنظيمها وتنفيذها ضمن أشد الظروف وحشية. إنها جريمة مبنية على إحدى المحرمات الأكثر تغلغلاً داخل المجتمع السوري التقليدي وعلى صمت النساء الضحايا المقتنعين بأنهن يجازفن بخطر رفض عائلاتهن لهم أو حتى إدانتهن بالموت. إنها الجريمة التي تسحق النساء وتدمر العائلات وتُفكك المجتمعات. إنها الجريمة التي تصفها حشود اللاجئين الهاربين من سورية إلى الدول المجاورة بأنها السبب الأساسي لرحيلهم، ولكن محققي الأمم المتحدة وجميع المنظمات غير الحكومية تجد صعوبة بالغة في تجميع الوثائق حولها لأنها موضوع مؤلم جداً. إنها جريمة غائبة عن مفاوضات جنيف على الرغم من أنها تُعذب السوريين وتُسيطر على هاجس عشرات آلاف الناجين منها.
     كانت (ألما ـ 27 عاماً)، جميع أسماء الضحايا مستعارة، نحيلة جداً وممددة على سرير في أحد المستشفيات بوسط عمّان. لن تتمكن من السير مستقبلاً، لأن أحد عناصر ميليشيات النظام كسر عمودها الفقري بضربها بأخمص بندقيته. إنها أم لأربعة أطفال، وتحمل إجازة جامعية في الإدارة، وانخرطت بقوة إلى جانب المتمردين منذ الأشهر الأولى للثورة عبر إيصال الطعام والدواء أولاً ثم نقل الذخيرة بواسطة صرّة تحزمها على بطنها لكي تبدو أنها إمرأة حامل. تم اعتقالها في أحد الأيام على حاجز للتفتيش في ضواحي دمشق، وبقيت 38 يوماً في مركز الاعتقال التابع لأجهزة المخابرات الجوية مع حوالي مئة إمرأة أخرى. قالت ألما مع ابتسامة حزينة: "يجب أن يكون سجن أبو غريب في العراق جنة بالمقارنة. تعرضت لكل شيء! الضرب، والجلد بالكابلات الفولاذية، وأعقاب السجائر في العنق، وشفرات الحلاقة على الجسد، والكهرباء في العضو التناسلي. تعرضت للاغتصاب معصوبة العينين يومياً من قبل العديد من الرجال الذين تنبعث منهم رائحة الكحول ويطيعون تعليمات رئيسهم الموجود دوماً. كانوا يصرخون: كنت تريدين الحرية؟ هذه هي الحريةّ". قالت أن جميع النساء كانوا، بالإضافة إلى الألم، يفكرن بأن عائلاتهن ستقتلهن إذا عرفوا بمصيرهن. لم يؤد ذلك إلا إلى تعزيز تصميمها على الانضمام إلى الجيش السوري الحر. عندما خرجت من السجن، أصبحت إحدى النساء النادرات اللواتي أصبحن رئيسة كتيبة تضم عشرين رجلاً، ثم تعرضت للإصابة بجروح خطيرة، وتم إخلاؤها إلى الأردن.
     تدفق إلى الأردن مئات آلاف السوريين، وهنا استطعنا جمع ومقارنة العديد من الشهادات ومقابلة العديد من الضحايا بفضل بعض الأطباء والمحامين وعلماء النفس. كانت مقابلات مؤلمة وتحت ضغط كبير. قال الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري برهان غليون: "حان الوقت لإدانة هذه الجريمة علناً! لأن هذا السلاح برأيي هو الذي دفع بثورتنا نحو الحرب، كنا نريد ثورة سلمية"، وأشار إلى أن عناصر الميليشيات بدأوا بتنظيم حملات الاغتصاب داخل المنازل وبحضور العائلات منذ ربيع عام 2011. تعرضت بعض الفتيات للاغتصاب أمام آبائهن، والنساء أمام أزواجهن. أصبح الرجال مجانين، وكانوا يصرخون بأنهم سيدافعون عن أنفسهم وينتقمون لشرفهم. أضاف برهان غليون قائلاً: "كنت أعتقد أنه يجب بذل كل الجهود من أجل عدم الدخول في مرحلة العسكرة، وأن تسليح الثورة سيُضاعف عدد القتلى مئات المرات. ولكن ممارسة الاغتصاب لم تسمح بذلك. وأعتقد أن بشار أراد ذلك أيضاً. بمجرد تسليح الثوار، كان من السهل عليه تبرير المجازر ضد الذين كان يسميهم بالإرهابيين منذ ذلك الوقت".
     من الصعب التحقق من صحة هذه الفرضية. على أي حال، ظهر بوضوح أن أعمال العنف الجنسية تزايدت، وساهمت بخلق مناخ الرعب. أدانت الكاتبة سمر يزبك اللاجئة في باريس قائلة: "يتم استخدام النساء كوسائل لإصابة الآباء والإخوة والأزواج. إن أجسادهن هي ساحات التعذيب والمعركة. ويبدو أن صمت المجتمع الدولي حول هذه المأساة يصم الآذان". أشارت العديد من المنظمات الدولية إلى عمليات الاغتصاب التي ارتكبها النظام، ومن بين هذه المنظمات: منظمة العفو الدولية ولجنة الإغاثة الدولية والرابطة الدولية لحقوق الإنسان وهيومان رايتس ووتش... ولكن جميع هذه المنظمات تتحدث عن الصعوبة البالغة في الحصول على شهادات مباشرة بسبب تشبث الضحايا بالصمت والخوف من جرائم الشرف المرتكبة ضد النساء المغتصبات والقلق الناجم عن التصور السائد بأن اعتقال النظام لإمرأة يعني حكماً أنها تعرضت للاغتصاب.
     أصدرت الشبكة الأوروبية ـ المتوسطية لحقوق الإنسان (Euro-Mediterranean Human Rights Network) تقريراً مفصلاً جداً في شهر تشرين الثاني 2013، وأكدت في تقريرها على مدى اتساع هذه الظاهرة، وطالبت بتحقيق عاجل حولها باعتبارها جرائم حرب يمكن وصفها بجرائم ضد الإنسانية في حال التأكد من التخطيط لها. قال الكاتبة الأساسية لهذا التقرير سيما نصار Sema Bassar، التي تم اعتقال شقيقتها مؤخراً، في اتصال عبر السكايب: "جعل النظام من النساء أهدافه الأولى. إنهن مستهدفات بصفتهن نساء من قبل القناصين، ولاسيما النساء اللواتي تبدو عليهن بوادر الحمل. يتم استخدامهن كدروع بشرية، كما حصل في حي عشيرة (Ashria) بحمص في شهر شباط 2012، عندما قام الجيش بإجبار بعض النساء على السير أمام قواته أو حتى إظهارهم على الدبابات أثناء الدوريات. كانت النساء عرضة للخطف من أجل الفدية وتبادل الرهائن. إن اغتصابهن بشكل ممنهج، سواء كان عمرها تسع سنوات أو ستين سنة، هو وسيلة لتدمير كامل النسيج الاجتماعي لفترة طويلة".
     نعم، سيما نصار لديها الكثير لتحكيه. هناك عشرات الاحالات المحددة والمؤرخة، مثل تلك الفتاة الشابة في حماة، التي لجأت حالياً إلى الولايات المتحدة، عندما كانت في منزلها مع أشقائها الثلاثة، ودخل عليهم الجنود فجأة، وطلبوا من الأشقاء الثلاثة اغتصاب أختهم. رفض الأول، فقطعوا رأسه. رفض الثاني، فقطعوا رأسه أيضاً. وافق الثالث، وقتلوه بجانب الفتاة التي اغتصبوها بأنفسهم. وهناك حكاية تلك الفتاة السورية التي اقتيدت إلى أحد المنازل في ضواحي حمص صيف عام 2012 مع حوالي 12 إمرأة أخرى، وتعرضن للتعذيب والاغتصاب الجماعي أمام الكاميرا، وتم إرسال الفيلم إلى عمها، وهو أحد الشيوخ المعروفين، وخطيب ديني على التلفزيون، وأحد أعضاء المعارضة.
     أكد رئيس الرابطة السورية لحقوق الإنسان عبد الكريم ريحاوي الذي يتواجد حالياً في القاهرة قائلاً: "تتكرر هذه الظاهرة بشكل كبير أثناء الغارات على القرى، وهي ممنهجة في مراكز الاعتقال التابعة للأجهزة السرية، مع عمليات التعذيب الأكثر سادية مثل إدخال فأر في العضو التناسلي لفتاة شابة من درعا عمرها 15 عاماً، ومع الاغتصاب الجماعي والعلني كما حصل في يلدا مع أربعين إمرأة صباح 5 كانون الثاني 2014، ومع ما نجم عنها من حوالي مئات جرائم الشرف ضد النساء عند خروجهن من السجن في مناطق حماة وإدلب وحلب"، واعتبر أنه هناك أكثر من خمسين ألف إمرأة تعرضن للاغتصاب في سجون بشار الأسد منذ بداية الثورة. لا شك أن المناطق السنية هي الأكثر تعرضاً لهذه الظاهرة، وتشير الروايات إلى تورط كبير لقوات حزب الله اللبناني وكتيبة أبو الفضل العباس العراقية.
     التقينا مع (سلمى) في مخيم اللاجئين السوريين في الزعتري على بعد ثمانين كيلومتراً من العاصمة الأردنية، كانت منهكة ونظرتها باهتة. ولدت سلمى في درعا قبل حوالي خمسين عاماً، وسكنت في دمشق مع زوجها وأطفالها الثمانية. أصيبت سلمى بالذهول عام 2011 عندما عرفت بطرد أطفالها من مدرستهم في دمشق كرد انتقامي على التمرد في مدينتها الأم في درعا. ذهبت سلمى تشتكي إلى مديرة المدرسة قائلة: "باسم ماذا تعاقبون أطفالي؟ لا علاقة لهم بهذه الأحداث!". لم تنته من كلامها عندما دخل عناصر الأجهزة السرية فجأة. وضعوا غطاء على رأسها، واقتادوها إلى قبو أحد مراكز الاعتقال في زنزانة مظلمة ومليئة بالفئران. بقيت يومين في زنزانة انفرادية بدون شراب أو طعام، ثم  وضعوها  في زنزانة أخرى صغيرة جداً مع إمرأتين إضافيتين. قالت سلمى: "لم يكن باستطاعتنا الاستلقاء، ولا يحق لنا الاغتسال حتى أثناء الدورة الشهرية. كنا نتعرض للاغتصاب يومياً مع صرخات: نحن العلويين سنسحقكم. إذا صدر أي احتجاج، يضعون العصاة الكهربائية في العضو  التناسي أو الشرجي. ضربوني كثيراً لدرجة أنهم كسروا ساقي، وأصبحت سوداء اللون، ثم عالجوني بشكل عشوائي قبل أن يضعوني في الزنزانة مرة أخرى. لم تعرف عائلتي أي شيء عني خلال ستة أشهر. باعتبار أنني لا أعرف القراءة والكتابة، قمت بالتوقيع ببصمة إبهامي على جميع الاعترافات". عندما خرجت من السجن، اختفى زوجها مع السيارة.
     تعرضت (أم محمد ـ 45 عاماً) للاعتقال مع ابنتها بتاريخ 21 أيلول 2012 بالصدفة في احد الشوارع، واقتيدت إلى المطار العسكري في المزة. كان علم الثورة يظهر على الهاتف الجول للطالبة بالإضافة إلى صورة أحد "الشهداء"، تم اعتقالهما عشرين يوماً، وتعرضتا للضرب والاغتصاب والحبس مع 17 إمرأة وبعض الأطفال في زنزانة طولها أربعة أمتار وعرضها أربعة أمتار. كانت إحدى هؤلاء النسوة زوجة أحد عناصر الجيش السوري الحر، وهي حامل منه، وكانت الشكوك تحوم حول مشاركتها بخطف 48 إيراني في حافلة خلال شهر آب 2012، وكان يرافقها أطفالها البالغة أعمارهم ثماني وتسع سنوات. كان زوج أحد هؤلاء النسوة مديراً للسجن، وعوقب بسبب معارضته لأعمال التعذيب المفرطة بقسوتها، كان زوجها مسجوناً في الطابق الأعلى بشكل يسمح له بسماع صرخات زوجته أثناء اغتصابها. قالت أم محمد والدموع في عينيها: "إن كل شيء كان فرصة لممارسة العنف الجنسي"، وكانت مهمومة جداً تجاه فكرة أن ابنتها التي فقدت عشرين كيلوغراماً تحتاج إلى معالجة نفسية وأصبح مستقبلها معرضاً للخطر.
     يتحدث الأطباء عن أعضاء تناسلية "تالفة" وأجساد معذبة وصدمات "لا يمكن شفاؤها". جاء الطبيب النفسي (يزن ـ 28 عاماً) للإقامة في عمّان من أجل "مساعدة ضحايا الحرب"، وحدثنا عن أحد مرضاه من مدينة حمص. لقد وشى جيرانه بنشاطاته الثورية، مما أدى إلى خطف زوجته وابنه الذي يبلغ عمره ثلاث سنوات. تم اعتقاله بعد عدة أسابيع، واقتيد إلى أحد المنازل الخاصة التي تُستخدم من أجل عمليات التعذيب. قالوا له: "من الأفضل من تتكلم! إن زوجتك وابنك هنا!". أجابهم: "أحضروهما أولاً!". كانت الزوجة الشابة تنزف دماً، وقالت له: "لا تُخبر عن أحد! لقد حصل ما كنت تخشاه". تعرض الاثنان لضرب عنيف، ثم تم اغتصاب زوجته أمامه وهو مُعلّق من معصميه على الحائط. قالوا له: "هل ستتكلم أم أنك تريد أن نستمر؟". في هذه اللحظة، انتفضت الزوجة، واستولت على الفأس الصغير الذي يستخدمه الجلادون، وكسرت رأسها فيه. فيما بعد، تم ذبح الطفل أمام عيني والده.
     وماذا بعد؟ هل هي مبادرات وحشية ومتفرقة يقودها بعض المرتزقة لحسابهم الخاص، أم أنها سلاح استراتيجي تم التخطيط له ونشره عبر الأوامر؟ بالنسبة لرئيس الرابطة السورية لحقوق الإنسان عبد الكريم ريحاوي، ليس هناك أي شك: "إنه خيار سياسي لسحق الشعب! تم تنظيم كل شيء بعناية: التقنية والسادية والفساد. ليس هناك أية صدفة. إن جميع الروايات متشابهة، واعترف بعض الذين قاموا بالاغتصاب أنهم تصرفوا بناء على الأوامر". يتفق المحامون الذين تم الاتصال بهم في سورية على هذه القناعة على الرغم من صعوبة جمع الدلائل. أكدت سيما نصار قائلة: "لديّ بعض الصور لعلب المنشطات التي يتغذى منها عناصر الميليشيات قبل شن الغارات على القرى". أشارت العديد من الشهادات أيضاً إلى وجود مواد تتسبب بالشلل يتم حقنها في فخذ النساء قبل اغتصابهن.
     أشارت إحدى الضحايا (أمل) إلى وجود طبيب في أحد مراكز الاعتقال في دمشق يُطلق عليه اسم: "السيد سيتامول" الذي كان يقوم بجولات على الزنزانات لتسجيل تاريخ الدورة الشهرية لكل إمرأة وتوزيع حبوب منع الحمل. قالت أمل: "كنا نعيش في القذارة والدم والغائط وبدون مياه وتقريباً بدون طعام. ولكننا كنا نعيش هاجس الحمل، ونأخذ هذه الحبوب بمواعيدها. وعندما تأخر موعد الدورة الشهرية في إحدى المرات، أعطاني الطبيب بعض الحبوب التي تسببت بآلام شديدة في البطن طوال الليل". إنها شهادة هامة من أجل إثبات الاغتصاب المتعمد أثناء الاعتقال. على الرغم من ذلك، وُلد بعض الأطفال جراء أعمال الاغتصاب الجماعية، مما أدى إلى مآسي متتالية. انتحرت فتاة شابة في اللاذقية لأنها لم تتمكن من الإجهاض، وسقطت فتاة أخرى من شرفة منزلها في الطابق الأول بعد أن دفعها والدها، وعُثر على بعض الأطفال الرضع في شوارع درعا. قالت عضوة الائتلاف الوطني السوري علياء منصور يائسة: "ولكن كيف يمكن مساعدة هؤلاء النساء؟ إنهن خائفات جداً لدرجة بقائهن محبوسات في شقائهن دون الحصول على مساعدة بعد خروجهن من السجن".
     روت لنا الشاعرة السورية في حمص لينا طيبي أن إحدى النساء نجحت في إجراء حوالي خمسين عملية لغشاء البكارة على فتيات مُغتصبات تتراوح أعمارهن بين 13 و16 عاماً خلال أسبوع واحد وبشكل سري جداً، وقالت: "إنها الوسيلة الوحيدة لإنقاذ حياتهن". ولكن العائلات تتفتت، والأزواج يرحلون ويُطلّقون زوجاتهم. قامت إحدى العائلات بحمص بجمع أمتعة زوجة ابنها بهدف طردها من المنزل حتى قبل خروجها من السجن. كما يتسرع بعض الآباء إلى تزويج بناتهم إلى أول شخص يطلب الزواج منهم مهما كان عمر الزوج. قالت إحدى طالبات الحقوق التي لم تتجرأ على الإفصاح عن مأساتها أمام أي شخص، ولا حتى أمام زوجها، قائلة: "يهتم العالم بأسره بالأسلحة الكيمائية، ولكن الاغتصاب بالنسبة لنا نحن السوريات هو أسوأ من الموت".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق