الصفحات

السبت، ٢٩ كانون الأول ٢٠١٢

(عروة نيربية: هذا الاعتقال كان الفيلم الأضخم بحياتي)


صحيفة اللوموند 14/10/2012  بقلم مراسلتها في القاهرة كلير تالون Claire Talon

     يبحث المخرج السينمائي عروة نيربية (35 عاماً) عن شقة للأجار في القاهرة لعدة أشهر فقط من أجل إنهاء فيلمه الذي توقف العمل فيه بسبب اعتقاله بتاريخ 23 آب من قبل المخابرات العسكرية. يصف عروة نيربية نفسه بأنه "معارض لطيف" للنظام وما زال يؤمن أكثر من أي وقت مضى بسلطة السينما وقال: "كان هذا الاعتقال الفيلم الأضخم بحياتي".
     قام عروة نيربية بتوظيف شهرته لخدمة المقاومة منذ بدايتها، وذلك قبل أن يتم اعتقاله في مطار دمشق. لا شك بأن أحد الناشطين أوشى باسمه تحت التعذيب. لقد أدرك عروة نيربية منذ يومه الثاني في السجن أنه سيتلقى معاملة خاصة ستُجنبه ما هو أسوأ، وقال: "سمعت أحد المحققين يقول: هذا هو السينمائي البارع؟. عندها أدركت فوراً أنه سمع هذه الكلمة في التلفزيون". لقد تم تنظيم حملة دعم دولية للمطالبة بالإفراج عنه، وأحسّ عروة نيربية بالإرتياح عندما اكتشف أن أصدقائه أغلقوا حساباته في Gmail وSkype وFacebook، وهذا ما يقوم به الناشطون دوماً عند اعتقال أحد منهم من أجل تجنب سلسلة من الاعتقالات.
     لم يتعرض عروة نيربية للتعذيب، وبدأ التحقيق معه بسرعة منذ وصوله، وذلك بعكس رفاقه الثمانين الذين يتكدسون في زنزانة طولها سبعة أمتار وعرضها ثلاثة أمتار. قال عروة نيربية: "إنهم مهووسون بالمسلسل البوليسي الأمريكي CSI ويحلمون بالقبض على جواسيس. إن خيالهم يشبه خيال الرسوم  المتحركة. يُسيطر عليهم وسواس المؤامرة الدولية ويؤمنون بذلك بشكل كامل. لا يمكنهم تصور أن الناشطين ليسوا عملاء للخارج. وهكذا أصبحوا يهتمون بالخارج أكثر بكثير من نشاطات المقاومة. إنهم رجال مساكين.". أشار عروة نيربية إلى أن أحد المحققين طلب منه بسذاجة من هو روبرت دونيرو، الذي وقّع على فيديو يطالب بالإفراج عنه، وكيف يعرفه. واعترف قائلاً: "كان لدي رغبة بالضحك مرات عديدة".
     وجد عناصر النظام على حاسوبه قوائم كاملة من الأدوية التي أرسلها الناشطون إلى المستشفيات الميدانية وكشفاً بنفقات المساعدة إلى العائلات. قام عروة نيربية بإختراع أسماء وقصص مزج فيها بين الحقيقة والخيال لدرجة أنه بنفسه لم يعد يُفرّق بينهما، وقال: "كنت أروي لهم أحياناً حادثة حقيقية ناسياً أنها ليست خيالاً. وفي المساء، كنت أكرر الأسماء المختلقة لأصدقائي في الزنزانة لكي لا أنساها".
     إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من اتهامات التجسس غير المعقولة، إن ما يصطدم عروة نيربية هو جهل سجّانيه بنشاطات المعارضين، وقال: "كان لديهم الكثير من المعلومات الخاطئة، ولم يكونوا متأكدين من المعلومات الصحيحة. إنهم لا يعرفون شيئاً عن المقاومة ولا يعرفون شيئاً عن المجلس الوطني ولجان التنسيق. تقتصر إستراتيجيتهم على انتزاع الأسماء تحت التعذيب. ويتوقفون عن التعذيب عما تعطيهم عشرة أسماء. النتيجة هي أنه لديهم قائمة تتضمن 97000 مطلوباً. إنها الفوضى الكاملة".
     كان يتواجد في زنزانته مُخبران من أصل ثمانين شخصاً، وثلاثة منهم فقط من الناشطين الحقيقيين، وعشرة منهم هم مجرمو حق عام ولا يفهمون شيئاً من التهم المنسوبة إليهم. ولكن الأمر المثير للصدمة هو أن الجزء الأكبر من المعتقلين (65 من أصل 80) هم مجندون أعمارهم حوالي عشرين عاماً وليس لديهم أي وعي سياسي، وهم مسجونون من شهرين أو خمسة أو سبعة أشهر ويُشتبه بأنهم "كانوا ينوون الإنشقاق" أو "متهمين بانتقاد قصف قراهم".
     يعتبر عروة نيربية أن أحد أسباب هذا الإرتباك هو عدم وجود تواصل بين أكبر أربع أجهزة أمنية للنظام وهي: المخابرات العسكرية والمخابرات الجوية والأمن السياسي وأمن الدولة، ويشرف عليها حالياً الأمن القومي. هناك تنافس محموم بين هذه الأجهزة لكسب رضى بشار الأسد. قال عروة نيربية: "قامت المخابرات الجوية المعروفة بأنها الأكثر عنفاً باعتقال الصحفي مازن درويش قبل أكثر من ثمانية أشهر، وليس هناك أي معلومات عنه على الرغم من أنه أكثر اعتدالاً مني بكثير. إنه أمر غير منطقي إطلاقاً".
     يصف عروة نيربية الضباط بأنهم جهلة ومُنهكين ومزعوجين من دورهم، ويشتكون من أنهم لم يحصلوا على إجازة منذ بداية الثورة، وأن هوسهم بالمؤامرة أعماهم عن أعمالهم البربرية. في أحد الأيام، انفعل أحدهم غاضباً من تقرير منظمة هيومان رايتش ووتش التي اتهمت السجن بتعليق الناس من أقدامهم لمدة ثلاثة أيام وقال: "نحن نعلّقهم هنا من أيديهم لمدة ثلاثة أيام ولا نعلقهم إطلاقاً من أقدامهم!" وكان هذا الرجل يكرر دوماً أنه اكتشف "كذبة خارجية".
     قال عروة نيربية: "كان الرجل الذي يضع القيود في يدي يتنهد في كل مرة أقول له فيها بأنني سأقول بأنهم كانوا سيئين. إن المُخبرين داخل الزنازين هم ليسوا إلا بعض المساجين المساكين الذين يشترون أفضل مكان في الزنزانة من أجل النوم". إنه وضع سيء بشكل عام ويغذي انتشار العنف. يبدأ الطبيب زيارته  اليومية بضرب المرضى.
     رأى عروة نيربية زملاءه في السجن وهم مُحطمون بدون أظافر ومع علائم التعذيب بالكهرباء. إن غياب الشمس والرطوبة الشديدة وحشود الحشرات والأمراض الجلدية لا تعادل شيئاً أمام الصراخ الدائم للذين يتعرضون للتعذيب. في الليل، تختلط ضحكات الجلادين الثملة مع رائحة العرق غير المحتملة القادمة من غرف التعذيب،. تدخل هذا الرائحة إلى الزنزانة عبر النافذة الوحيدة التي تطل على الممر. قال عروة نيربية: "لن أنسى أبداً هذه الليالي وهذه الرائحة".
     تعززت قناعة عروة نيربية بعد خروجه من السجن، بأن الثورة لن تنجح بدون مساعدة خارجية. ويعتبر أن موقف الدول الغربية يدل على نظرة عمياء. وقال: " إذا كان هناك ناشط إسلامي إلى حد ما، واحتاج إلى المال لمعالجة الجرحى، فإنه يتصل بالسعودية وقطر، وفي اليوم التالي، تصل الأموال إلى حسابه. ولكن عندما يقوم ناشط علماني بالاتصال بأوروبا لإنقاذ نفس الجرحى، فإن الدول الغربية تحتاج إلى شهر لكي تقول: نعم، ثم تطالب بالفواتير أيضاً! إن الجهة التي تُنقذ هذا الجريح، هي التي ستفوز في الانتخابات القادمة. تُعطينا قطر 55 مليون مساعدات إنسانية مقابل وعود أمريكية بإعطاء 15 مليون. يدّعي الغرب أنه يريد تجنب الخطر الإسلامي من خلال الامتناع عن التدخل، ولكن النتيجة ستكون معاكسة لما يريده".
    يعتبر عروة نيربية أن الجزء الأساسي من الأموال القطرية لا يمر عبر الإسلاميين في سورية بل عبر ممثلي "اليمين الليبرالي". هل هم رجال أعمال؟ إنه يرفض التوضيح. بعد خروجه سليماً معافى، ما زال يحرص على كل كلمة يقولها لكي لا يُعرّض حياة الآخرين للخطر، ولكي يعود إلى سورية. وقال عروة نيربية مع ابتسامة ساخرة: "يمين ليبرالي، هذا يكفي. إنه أمر جيد ومعقد جداً بالنسبة لهم، ولن يفهموا".
     قال عروة نيربية: "إن إحدى معجزات الثورة هي اندماج المغتربين السوريين بفضل الأنترنت. هناك مئات الشبكات في العالم التي تجد حلولاً لإيصال الأموال. إذاً، لماذا تستمر البيروقراطية الغربية في تمويل الهلال الأحمر السوري؟". تعمل هذه المنظمة الرسمية وفق المعايير الدولية وتعطي فواتير، ولكنه يعتبرها خاضعة كلياً لسيطرة النظام، وتُرسل جميع المساعدات إلى المناطق التي تؤيد بشار الأسد.
     قال عروة نيربية ضاحكاً: "إن الجانب الإيجابي الوحيد من الاعتقال هو أن وزني انخفض عشرة كيلوغرامات خلال عشرين يوماً". سأبقى في مصر عدة أشهر فقط، ثم سأعود".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق