الصفحات

الأربعاء، ٢ تشرين الأول ٢٠١٣

(من أجل فيدرالية في سورية)

صحيفة الليبراسيون 2 تشرين الأول 2013 بقلم برنار دوران Bernard Dorin

     إن الحرب الأهلية في سورية ليست كبقية الحروب الأهلية. إن صفتها الأساسية هي أنها ذات طابع ديني، وبعكس المنطق، تقوم الأقلية الدينية العلوية باضطهاد الأغلبية السنية في البلد منذ وصول البعث السوري ووالد الرئيس الحالي العلوي حافظ الأسد إلى السلطة. من أجل الحفاظ على السلطة العلوية، لم يتصرف ابنه بشار بشكل مختلف تجاه التمرد السني الجديد منذ سنتين ونصف. يجب على أي حل سياسي أن يأخذ بعين الاعتبار هذا الطابع الخاص.
     تتضمن هذه الحرب الأهلية السورية بعض أوجه التشابه مع الحرب الأهلية العراقية. أدى تطبيق  القاعدة الديموقراطية بعد سقوط صدام حسين إلى وصول الرئيس الشيعي نوري المالكي، الأمر الذي تسبب بردة فعل عنيفة من قبل العرب السنة على شكل عمليات تفجير دامية. بالمقابل، هناك نتيجتان إيجابيتان للتدخل العسكري الأمريكي والبريطاني في العراق: الأولى هي تصفية صدام حسين بصفته أحد أسوأ الحكام الدكتاتوريين في عصرنا، والثانية هي إقامة منطقة حكم ذاتي للأكراد في العراق تشمل مناطق أربيل والسليمانية وداهوك. تشهد هذه المنطقة الكردية سلاماً مدنياً وإزدهاراً اقتصادياً بقيادة الرئيس مسعود بارزاني.
     يُشير هذا المثال بوضوح إلى ما يجب القيام به في سورية من أجل إنعاش الاقتصاد المنهار وإعادة السلام الذي يشكل المهمة الأكثر أهمية ويعتمد كل شيء عليها. إذاً، ما العمل؟ يجب ملاحظة أن التدخلات الفرنسية و/ أو الأمريكية بشكلها الحالي لم يكن لها أي هدف محدد باستثناء "عقاب" ـ الذي لم يتم تحديده أيضاً ـ رئيس الدولة السورية. من المؤكد أن "الضربات الجراحية" لوحدها التي يفكر بها الرئيسان الأمريكي والفرنسي لن يكون لها أي تأثير على استمرار النزاع. إذاً، يجب العثور على حل بديل لا يمكن أن يكون إلا عن طريق الضغط الدولي ـ بالمرور عبر مجلس الأمن إن أمكن ـ على الطرفين من أجل فرض وقف إطلاق النار أولاً، ثم البدء بالمفاوضات من أجل الوصول إلى انفتاح ديموقراطي.
     لا شك أنها عملية صعبة جداً وغير مؤكدة. ولكن إذا نجحت، من الملائم بناءها مع الإبقاء في أذهاننا على الوضع في العراق وتجربة الانتداب الفرنسي على سورية بين الحربين العالميتين. كانت السلطات الفرنسية بين عامي 1922 و1939مدركة للوضع الديني المعقد في سورية، وقامت بتقسيم الأراضي الواقعة تحت الانتداب إلى ثلاث دول مختلفة هي: الجمهورية "السورية" في الوسط والشمال مع دمشق وحلب، والجمهورية العلوية حول الجزء الساحلي، والدولة الدرزية في الجنوب.
     أخذ هذا النظام بعين الاعتبار الواقع الديني في سورية، ونجح حتى عشية الحرب العالمية الثانية عندما قررت فرنسا في ذلك الوقت توحيد البلد تحت ضغط الوطنيين السوريين السنة، مع النتائج التي نلاحظها اليوم. إن الحل المنطقي الوحيد والمتوقع للنزاع السوري على المدى الطويل أيضاً، هو تحويل سورية الحالية إلى دولة فيدرالية أو كونفيدرالية تعطي الحكم الذاتي إلى الأقليات الدينية العلوية والدرزية بالإضافة إلى الأقلية العرقية الكردية (التي لم يكن منصوص عليها خلال فترة الانتداب). إذاً، ستكون سورية الجديدة تركيبة من دولة فيدرالية (أو كونفيدرالية) تألف من أربعة كيانات هي: جمهورية (أو الدولة أو المنطقة ذات الحكم الذاتي) سورية الوسطى، والعلوية والدرزية والكردية.
     إن هذا التقسيم سيُرضي الأقليتان الدينيتان المعارضتان، وسيُرضي أيضاً الأقلية العرقية الكردية التي لم تكن دكتاتورية حافظ الأسد تعتبرهم كمواطنين سورييين، وهي تمثل حوالي 15 % من  سكان سورية. إذا نجح هذا التقسيم، سيكون بالإمكان الاستفادة من التجربة السورية كنموذج لحل العديد من النزاعات الموجودة في الشرق الأوسط (في تركيا ولبنان وإيران والعراق بشكل خاص). فيما يتعلق بهضبة الجولان التي لم تعترف أية دولة بضم إسرائيل لها، يجب إعادتها إلى سورية الجديدة، ولكن مع إجراءات عسكرية تحمي الأراضي الإسرائيلية.

     بالتأكيد، تبدو هذه النظرة طوباوية بالنظر للأحداث المأساوية الحالية. ولكن هناك ضرورة مطلقة للتحرك من أجل إيقاف الرعب في النزاع السوري الداخلي وقيام نظام بشار الأسد باستخدام السلاح الكيميائي. قال الشخص الذي نجح في صعود قمة إيفرست بعد وصوله للقمة: "لا يمكن إدراك أن الوصول إلى القمة كان ممكناً إلا عندما نصل إلى قمة الجبل".

(نظرة على الانفراج الهش)

صحيفة الليبراسيون 2 تشرين الأول 2013 بقلم برنار غيتا Bernard Gutta

     هناك انفراج دولي في الأجواء على الرغم من أنه ما زال بعيداً عن التأكيد. سواء فيما يتعلق بإيران أو سورية، إن كل ما يمكن انتظاره اليوم هو أن تحل ديناميكية السلام مكان ديناميكية الحرب بين عائلة الأسد والتمرد، وأن يقوم الحكم الديني الإيراني بتليين مواقفه في الداخل مع البقاء في مرحلة العتبة النووية، وأن يصبح قوة استقرار في المنطقة بدلاً من قوة لزعزعة الاستقرار.
     يبقى السؤال الكبير حول الحدود في الشرق الأوسط. إذا نجح مؤتمر جنيف 2، سيتوصل إلى وقف إطلاق النار وتقسيم الأرض السورية بحكم الواقع حسب خطوط الجبهة الفاصلة بين السلطة والتمرد. يريد كل طرف الاعتقاد بأن هذا التقسيم سيكون مؤقتاً، ولكن هل التعايش بين الأغلبية السنية والأقلية العلوية ما زال ممكناً داخل دولة واحدة؟ إنه غير محتمل. هناك خطر بروز تجمع سني يشمل العراق وسورية، ومنطقة علوية على الساحل، وكردستان جديد مستقل ذاتياً وسيتقارب حكماً مع كردستان العراق. إن بقاء الحدود الاستعمارية ليس مؤكداً أبداً في الشرق الأوسط الذي ربما يشهد ظهور دول طائفية على المدى الطويل.


الثلاثاء، ١ تشرين الأول ٢٠١٣

(بشار الأسد، الناجي)

صحيفة اللوموند 1 تشرين الأول 2013 بقلم بنجامان بارت Benjamin Barthe

     عندما ينظر بشار الأسد من نافذة منزله في حي المالكي التي يمثل ملجأ للنخبة الدمشقية، بإمكانه أن يتأمل دوماً بالوضع الطبيعي الظاهري. إن تجمع السيارات الفخمة أمام المحلات الراقية التي تتسوق فيها النخبة الحاكمة المقربة من النظام لشراء الجبنة الفرنسية والأيباد ميني (IPad mini)، تخفف من صعوبات جولاته على الجبهة في أنقاض داريا أو باب عمرو في حمص. كما يشعر بالإطمئنان عندما يشاهد مبنى هيئة الأركان، الدعامة الأساسية لسلطته، التي قاومت سنتين ونصف من المعارك والانشقاقات. ماذا يهم إذا كانت الحرب تحتدم على مسافة عدة كيلومترات في حي جوبر، النقطة الأكثر تقدماً للمتمردين في دمشق، أو إذا سقطت بعض قذائف الهاون من حين لآخر على حي المالكي كما حصل في شهر آب عندما سقطت إحداها بالقرب من موكبه. ما زال بشار الأسد وزوجته يتصرفان كما لو أن البلد من أملاكهما، وكما لو أن الكارثة التي حلت بهذا البلد مع مئة وعشرة آلاف قتيل ومليوني لاجىء وخمسة ملايين نازح، لم تغير شيئاً تقريباً، وعلى أي حال، لا يوجد شيء لا يمكن إصلاحه.
     قام الزوجان قبل عدة أسابيع بتنظيم حفلة عيد ميلاد أحد أطفالهما، وأطلقا البالونات التي جعلت سكان الحي مذهولين. بمناسبة عيد الفطر في منتصف شهر آب، تلقت إحدى المتعاطفات مع المعارضة اتصالاً هاتفياً من أسماء التي أصرت على أن تتمنى لها "عيداً سعيداً" على الرغم من ضجيج الانفجارات. قال مصدر له علاقاته مع الدائرة الأولى للسلطة: "إنه أمر سوريالي، ولكن هذا هو الوضع. أسماء ليست من النوع الذي يشعر بالكثير من القلق. لقد عثرا على وتيرة حياتهما، ولم يعد الوضع يؤثر بهما".
     يشعر رئيس الدولة السورية بتفاؤل أكبر بعد خروجه بدون أية خدوش من الأزمة الدولية الناجمة عن قيامه بقصف الغوطة بغاز الساران بتاريخ 21 آب. لقد تراجع الاهتمام بمشروع الضربات الفرنسية ـ الأمريكية كرد على المجزرة بحق مئات السكان في الغوطة، كما أن اتفاق تفكيك الترسانة الكيميائية التي تم التوصل إليه برعاية روسيا والولايات المتحدة بتاريخ 14 أيلول يسمح له بالحلم بعودة بطيئة للحظوة. قال أحد الدبلوماسيين الأجانب العاملين في دمشق: "تمت إعادته إلى محور الرهان السياسي. بالتأكيد لن يتم التفاوض حول نزع الأسلحة مع أحمد الجربا، ويدرك بشار هذا الأمر. إنه يعرف بأن التهديد قد رحل ولن يعود قريباً".
     مضى عدة أشهر على تشقق جدار الأعمال الشائنة التي يحيط بجلاد الثوار السوريين. أعادت الأجهزة السرية الألمانية علاقاتها مع نظيرتها السورية، وأرسل الإسبان قائماً بالأعمال لزيارة دمشق. كما قام وزير الإعلام السابق محسن بلال بجولة في إسبانيا وإيطاليا. وأعادت سفارة الاتحاد الأوروبي فتح أبوابها بعد أن أغلقتها لأسباب أمنية.
     في ذروة التوتر مع باريس وواشنطن، وبإحساس ذكي بالتوقيت، عاد بشار الأسد لإجراء المقابلات لكي يلعب على وتر الخوف الذي يشعر به الرأي العام في الدول الغربية بسبب الأزمة السورية واشتعال المنطقة والدمار الجهادي. أجرى المقابلات مع الفيغارو وCBS وفوكس نيوز والتلفزيون الروسي... لقد شهدت مكاتب الرئيس في العفيف والفيلا التي يعمل بها على جبل قاسيون نشاطاً لم يسبق له مثيل منذ عدة أشهر، تمثل هذه الأمكنة عنصراً محورياً في عمله كرجل دولة لطيف ويمكن الاتصال معه بسهولة.
     قال أحد الذين يترددون على دمشق ويعرف رهانات السلطة فيها: "يريد النظام الاعتقاد بأنه تجاوز مرحلة، وأن الرياح بدأت تهب لصالحه. بدأ الإعداد لآلية عمل كاملة من أجل إعادة شرعيته". كان اللقاء بين زعيم دمشق والنائبة الأوروبية البلجيكية فيرونيك دوكيزير Véronique De Keyzer يوم الخميس 19 أيلول آخر عمل ضمن هذه الإستراتيجية لاستعادة شرعيته. لقد وافقت الرئاسة السورية الكريمة على عدم إثارة ضجة إعلامية حول هذا اللقاء، وراهنت على أن نائبة رئيس المجموعة الإشتراكية في البرلمان الأوروبي ستقوم بذلك بنفسها.
     هذا ما حصل فعلاً: لم تتأخر فيرونيك دوكيزير بعد عودتها إلى بروكسل عن عرض لائحة الحجج لمستضيفها الذي قدم نفسه كالعادة كرجل إصلاحي غير مفهوم، وكحصن ضد الإسلاميين، وكضمان لسورية علمانية وموحدة، وكقائد لسفينة في وسط العاصفة، وأنه سيكون مجرماً إذا تخلى عنها. كما هو الحال بالنسبة لجميع الساذجين الذين دخلوا صالونات قاسيون أو العفيف، لقد شعرت بالذهول من "هدوء" الرئيس واستعداده "للإصغاء ومناقشة كل شيء". أي بكلمة واحدة: الذهول من جاذبيته، هذه الكلمة التي ستكون عادية لولا أن الكثير من السوريين لا يتحملونها.
     هذه هي العلامة المميزة للأسد الابن. إنه متحدث متواضع المستوى أمام الجمهور، ولكنه يُظهر كاريزما غير متوقعة في اللقاءات الثنائية. تصفه الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية للدفاع عن حقوق الإنسان بأنه مجرم حرب، ولكنه لا يتبنى الوسائل القوية والعنف السياسي البارد والصريح. بصفته رئيساً، حاول دوماً الابتعاد عن الأسلوب الجامد والمتكلف لوالده حافظ الذي لم يكن يتردد في الإطالة بالحديث خلال عدة ساعات أمام زواره. لا يتلخص هذا الأسلوب بمجرد تكتيك إعلامي. عندما كان يدرس في الثانوية الفرنسية وكلية الطب في دمشق، كان بشار الأسد يوصف بأنه رجل شاب بدون صفات مميزة، وأنه متواضع ويحب العمل. أي على عكس أخيه الأكبر باسل ذي الشخصية القوية والمشهور بمواهبه في الفروسية وإعجاب الفتيات به.
     لا أحد يستطيع تجميد المجتمع. إن تزامن القنبلة السكانية مع ارتفاع مستوى التعليم والوضع الاقتصادي المتأزم، خلق قنبلة موقوتة. يدخل مئتا ألف شاب سوق العمل سنوياً، ولكن حفنة منهم فقط تجد عملاً لها. قال الباحث السياسي سهيل بلحاج الذي ألف كتاباً عن سورية الأسد: "كان بإمكان الأسد إصلاح سورية خلال سنوات عام 2000، ولكنه لم يفعل شيئاً. لم يسمع صعود غضب البروليتاريا السنية، وهذا هو خطأه الأكبر والزاوية الميتة في رئاسته". كان حزب البعث وسيلة للإرتقاء الاجتماعي، وهذا ما يدل عليه الأصول المتواضعة والريفية لأغلب قادته. ولكن تم تهميش الحزب لصالح طبقة من رجال الأعمال الوصولية التي لا يوجد حد لشهيتها، وتتجسد هذه الطبقة برامي مخلوف، ابن خالة الرئيس، الذي سيطر على قطاعات واسعة من الاقتصاد. كان رئيس الدولة السورية يعتقد بأن نجاحاته في السياسة الخارجية وموقفه المعادي لإسرائيل، ولاسيما دعمه لحزب الله أثناء نزاعه مع الدولة اليهودية في صيف عام 2006، سيعوض فشله على الصعيد الداخلي. ولكنه أخطأ.
     قال أحد المراقبين المتابعين للساحة السياسية السورية: "بعكس والده الذي كان من الممكن التعامل معه، فإن بشار يكذب كثيراً وباستمرار. إن جميع الذين أرادوا التفاوض معه شعروا بذلك. تتمثل إستراتيجيته الوحيدة بتفاقم الوضع، إما هو أو الطوفان". كيف يمكن تفسير مثل هذا التعالي من قبل زعيم يبدو أنه مثل بقية الناس ومن هواة موسيقى البوب الإنكليزية واشترى DVD هاري بوتر على الأنترنت؟ قال أحد الدبلوماسيين الأجانب: "لديه عقدة الزعماء الذين وصلوا لعدم وجود بديل آخر. إنه لا يريد أن يُخيب أمل الذين اعتمدوا عليه ليأخذ مكان باسل. بسبب التأكيد على ذلك، تحول من الدكتور بشار إلى المستر أسد". يقترح أحد العارفين بالعائلة الرئاسية تفسيراً آخر: "كما هو الحال بالنسبة لسيف الإسلام القذافي، يمثل بشار الأسد رمزاً إشكالياً لهذا الجيل من الأبناء الذين عاشوا في المدينة وأحياناُ في الخارج ويحتقرون مجتمعهم، بعكس آبائهم الذين تشبعوا بثقافة شعبية حقيقية. لهذا السبب، استطاع أن يبدأ مشروعه في تدمير الطبقة الشعبية السورية".

     يعتقد بشار الأسد أنه عاد إلى فترة عام 2007 في بداية نهاية عزلته الدولية، عندما استأنفت فرنسا الحوار معه بمبادرة أمريكية. في ذلك الوقت، عرف كيف يلعب بذكاء على فزاعة الفوضى العراقية التي أضعفت النظرية الأمريكية بـ "تغيير النظام". إنه يكرر ذلك بشكل يلفت الانتباه، ويُلوح اليوم بتهديد تنظيم القاعدة ـ على الرغم من أنه لم يتوقف عن تغذيته في الكواليس، ولاسيما عبر الإفراج عن الجهاديين ـ من أجل نزع المصداقية عن معارضيه، وإعادة نفسه إلى الساحة. ولكنه تشابه زائف، ولا يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنه بين هاتين الفترتين تمردت قطاعات واسعة من الشعب على حساب تضحيات جسيمة. هل يمكنه العودة؟ هل يمكنه أن يجعل الناس ينسون أطفال الغوطة الذين ماتوا بالمئات أثناء نومهم؟ ما زالت الحرب الأهلية في بدايتها، وربما سينقذ هذا الرجل رأسه. ولكن النظام الذي يحمل اسمه محكوم عليه بالفناء، إلا إذا حكم على أكوام من الأنقاض، على بلد سجين.

(التمرد السوري تتأكله الانقسامات والتهديد الجهادي)

صحيفة اللوموند 1 تشرين الأول 2013 بقلم بنجامان بارت Benjamin Barthe

     يمر التمرد السوري بمرحلة من الاضطراب منذ عدة أيام: اندفاعة جهادية وتصفية حسابات وانشقاقات وإعادة تركيب المعارضة، الأمر الذي أدى إلى سقوط ضحية واحدة هي الإئتلاف الوطني السوري. ساهم التغير  المفاجىء للموقف الأمريكي عندما تخلى عن مهاجمة النظام في إضعاف الإئتلاف. كان من المفترض أن يكون الجيش السوري الحر هو الجناح العسكري للإئتلاف الوطني، ولكنه في طريقه نحو التفكك في الوقت الذي تحقق فيه المجموعات المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة تقدماً على الأرض.
     بالتأكيد، أكد رئيس الإئتلاف الوطني السوري أحمد الجربا أثناء وجوده في نيويورك خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة رفضه "للمتطرفين" وإلتزامه بالعمل من أجل سورية "ديموقراطية وحرة وعادلة". كما أكد للأمين العام للأمم المتحدة الذي إلتقى معه للمرة الأولى أن إئتلافه مستعد للمشاركة في مؤتمر السلام جنيف 2 الذي يفترض انعقاده في منتصف شهر تشرين الثاني. ولكن الانفصال الواضح والمتزايد أكثر فأكثر بين الجناح السياسي والجناح العسكري للمعارضة يُقلل من أهمية هذه التصريحات، ويستأنف الحديث حول قدرة الإئتلاف الوطني السوري على فرض نفسه ميدانياً في حال انهيار النظام السوري.
     بدأ كل شيء مع البيان المنشور على الأنترنت يوم الثلاثاء 24 أيلول، وأعلنت فيه ثلاث عشر كتبية عن تشكيل تحالف جديد، وهذه الكتائب هي الأكثر قوة داخل التمرد. لا يعترف هذا التحالف الجديد بالإئتلاف الوطني السوري، ويدعو إلى جعل الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للقانون ضمن أفق ما بعد الأسد. يوجد بين هؤلاء الرافضين بعض الإسلاميين المتشددين الذين لم يسبق أن ربطتهم أية علاقة مع الجيش السوري الحر مثل جهاديي جبهة النصرة وسلفيي أحرار الشام، بالإضافة إلى إلى حوالي ست مجموعات كانت مرتبطة نظرياً بالجيش السوري الحر، وتدعوا إلى إسلام معتدل حتى الآن مثل لواء التوحيد في حلب ولواء الإسلام الذي يقود المعارك في ضواحي دمشق. هل تُعبّر صياغة الجمل في إعلان القطيعة مع الجيش السوري الحر عن راديكالية سياسية حقيقية، أم أنها شكل ظاهري يهدف إلى جذب اهتمام السلفيين في الخليج العربي ـ الفارسي بصفتهم الممولين الأساسيين للحركة الجهادية في سورية؟ من الصعب معرفة ذلك في الوقت الحالي.
     الأمر المؤكد هو أن هذا الإنشقاق ناجم عن عجز الإئتلاف الوطني السوري في الحصول على كميات كافية من الأسلحة من شركائه العرب والغربيين لمواجهة آلة الحرب السورية. يدل هذا الانشقاق أيضاً على ارتياب مقاتلي الداخل من أي شكل من أشكال التفاوض مع ممثلي النظام كما ينص مؤتمر جنيف 2 الذي لا يتضمن استقالة بشار الأسد كشرط مسبق.
     يبعث هذا التنصل على المزيد من القلق بالنسبة لأحمد الجربا والجنرال سليم إدريس بسبب كرة الثلج التي تسبب بها بيان "المجموعات الثلاثة عشر". أعلنت أيضاً ثلاثة عشر كتيبة أخرى بقيادة العقيد عمار الواوي يوم الجمعة 27 أيلول عن قطع علاقاتها مع الإئتلاف الوطني السوري، واتهمته بالانفصال عن القوى الثورية. كما أعلنت حوالي أربعين كتيبة أخرى يوم الأحد 29 أيلول عن انضمامها إلى إئتلاف عسكري جديد باسم جيش الإسلام بهدف التنسيق بشكل أفضل لمقاومة الهجوم المضاد للقوات النظامية في منطقة دمشق. تمت قراءة البيان خلال حفل رسمي في ضواحي دمشق ، ولم يتضمن أية إشارة إلى الإئتلاف الوطني السوري أو الجيش السوري الحر، ولا حتى إلى الشريعة الإسلامية.
     تأتي هذه التشكيلات الجديدة في الوقت الذي تتزايد فيه الاشتباكات بين المتمردين والجهاديين. استعادت ميلشيات الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام السيطرة على مدينة إعزاز، وطردوا مقاتلي الجيش السوري الحر منها، ثم حصلت مواجهات في دير الزور وبالقرب من إدلب، وقُتِل على إثرها بعض قادة هذه المنظمة التابعة لتنظيم القاعدة في العراق.
     استولى بعض مقاتلي جبهة النصرة وأحرار الشام يوم الأحد 29 أيلول على موقع عسكري بالقرب من درعا. إن هذه العملية قد تهدد هيمنة المجموعات المؤيدة للجيش السوري الحر في هذه المنطقة أيضاً. ظهر في شريط فيديو تم تصويره في مكان المعارك، رجل ملثم يصرخ منتصراً وخلفه دبابة استولى عليها من العدو، ويرفرف عليها علم الجهاديين الأسود.


(الرهان الغامض لتركيا مع المجموعات المتطرفة)

صحيفة اللوموند 1 تشرين الأول 2013 بقلم مراسلها في استانبول غيوم بيرييه Guillaume Perrier

     من الناحية الرسمية، لا تدعم تركيا أية مجموعة محددة داخل المعارضة السورية. ولكن التنقلات المستمرة للمقاتلين الجهاديين جيئة وذهاباً على حدودها مع سورية أصبحت تبعث على القلق. أكد وزير الخارجية التركي قائلاً: "نحن لا نقدم أية مساعدة مباشرة إلى جبهة النصرة ولا إلى أية مجموعة أخرى". ولكن أصبح من الواضح أكثر فأكثر وجود الناشطين الراديكاليين الذين يُعالجون في المستشفيات الحدودية أو المقيمين في مخيمات اللاجئين.
     يتساءل حلفاء تركيا في الحلف الأطلسي منذ عدة أشهر حول موقف أنقرة المتهمة في أفضل الأحوال بإغلاق عيونها عن مرور هؤلاء الجهاديين، وفي أسوأ الأحوال، متهمة بتعزيز مواقع الجهاديين في شمال سورية. اعتبر الصحفي التركي Mete Cubukçu أن هذه الحسابات خطيرة، وتساءل "فيما إذا كانت السياسة الخارجية التركية قد خلقت حركة طالبان سورية". وقال أحد الدبلوماسيين الغربيين: "من الصعب جداً العثور على تفسير منطقي. لا يمكن مطالبة الحلف الأطلسي بحماية الحدود عبر صواريخ باتريوت ومساعدة جبهة النصرة في الوقت نفسه. هذا هو التناقض الكبير في الدبلوماسية التركية".
     كانت الانتقادات الكردية الأكثر حدة. أكد زعيم حزب السلام والديموقراطية Selahettin Demirtas المقرب من حزب العمال الكردستاني أن "الحدود التركية مفتوحة بشكل كامل أمام الجهاديين الذين لن يستطيعوا الصمود أسبوعاً واحداً بدون الدعم التركي". إن حكومة أردوغان متهمة باستخدام الجهاديين من أجل مواجهة بوادر الحكم الذاتي الكردي في شمال سورية. تقوم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام بمحاصرة الميليشيات التابعة لحزب العمال الكردستاني في مدينتي عين العرب (Kobani) ورأس العين (Sere Kaniye).
     أكد رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي صلاح مسلم، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، إلى صحيفة Taraf التركية قائلاً: "تستخدم تركيا هذه العصابات المسلحة لشن الحرب ضدنا. إنها تعطيهم الذخيرة وقنابل الهاون. وتقوم بذلك علناً". كما كتب Kadri Gürsel في صحيفة Milliyet التركية: "كان من المستحيل أن ينجح هؤلاء الناشطين المتطرفين في تحقيق مثل هذا التفوق على قوات النظام لولا الدعم اللوجستي التركي والسماح بعبور الحدود بدون عوائق".
     هناك انتقادات من واشنطن أيضاً للدعم التركي إلى المجموعات المتطرفة. وقد سمع وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بعض التحذيرات أثناء زيارته إلى واشنطن في شهر آذار. اعتبر الباحث في مركز الدراسات الاقتصادية والسياسة الخارجية (EDAM) Sinan Ulgen أن تركيا ستُغير سياستها "لكي لا تُعرض علاقاتها مع حلفائها للخطر، ولأنها أدركت أيضاً الخطر الذي يمكن أن يمثله الجهاديون على الأمن التركي".


(الولايات المتحدة وإيران معلقتان على خيط)

صحيفة الليبراسيون 30 أيلول 2013 بقلم مراسلتها في واشنطن لورين ميلو Lorraine Milot

     أكدت المكالمة الهاتفية بين باراك أوباما وحسن روحاني يوم الجمعة 27 أيلول أن واشنطن وطهران مستعدان للبدء في مفاوضات الفرصة الأخيرة حول البرنامج النووي الإيراني. قال الكاتب ستيفن كينزر Stephen Kinzer الذي ألف عدة كتب حول السياسة الخارجية الأمريكية وإيران: "إن المصالح الإستراتيجية المشتركة بين الولايات المتحدة وإيران أكبر بكثير من المصالح الإستراتيجية الأمريكية مع دول أخرى مثل السعودية التي تُعتبر شريكة للأمريكيين. من الممكن أن تقوم إيران بالكثير من أجل الاستقرار في العراق وأفغانستان وسورية".
     تدل الكثير من "المؤشرات" على أن الإيرانيين "جادون هذه المرة"، ويريدون الحصول فعلاً على رفع العقوبات التي تخنق إقتصادهم. قالت الباحثة جينيف عبدو Geneive Abdo في مركز ستيمسون Stimson Center ومعهد بروكنغز: "بعد حملة العلاقات العامة الهائلة التي قام بها الإيرانيون في نيويورك الأسبوع الماضي، سيواجهون مشكلة كبيرة في المصداقية إذا لم يقدموا بعض التنازلات، ولن يصدقهم أحد إطلاقاً بعد ذلك".
     تعالت أصوات المشككين لدى الجانبين الأمريكي والإيراني بعد عودة الرئيس الإيراني إلى طهران خلال عطلة نهاية الأسبوع. لقد تم استقبال حسن روحاني يوم السبت 28 أيلول بمظاهرة مختلطة من المؤيدين والمنتقدين. إن الهتافات الصاخبة ضد الرئيس الإيراني الجديد تمثل تذكيراً لواشنطن بهامش المناورة الضيق أمام الرئيس الإيراني. كما أشارت صحيفة النيويورك تايمز يوم الأحد 30 أيلول إلى أن التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي يجب أن يسمح بإزالة 18000 جهاز طرد مركزي تملكهم إيران حالياً، بالإضافة إلى السماح للمفتشين الدوليين بمقابلة العقول المفكرة للبرنامج النووي الإيراني، ولاسيما محسن فخري زاده مهبادي الذي يُعتبر أب القنبلة الإيرانية، ويعيش متخفياً للهروب من الأجهزة السرية (ولاسيما الإسرائيلية) التي تتعقبه.
     بالنسبة للجانب الأمريكي، هناك شكوك كبيرة حول قدرة باراك أوباما على تقديم شيء أكثر من الكلام إلى الإيرانيين. إن العقوبات الأمريكية الأكثر قسوة على الاقتصاد الإيراني هي التي صوت عليها الكونغرس الأمريكي الذي لم يوافق حتى على الموازنة التي تقدم بها الرئيس خلال عطلة نهاية الأسبوع، كما أن الكونغرس ليس مستعداً للقيام بأية بادرة إيجابية تجاه طهران.
     قالت الباحثة جينيف عبدو: "يجب أن تأتي الليونة من الأوروبيين بلا شك. إذا رفع الأوروبيون الحظر عن النفط، فإنه سيكون إجراءاً هاماً جداً، ومن الممكن أن يرضي الإيرانيين". إذا لم يكن هناك أي شيء مؤكد حتى الآن، فإن هذه الباحثة ترى عاملاً آخر بإمكانه توفير فرصة للمفاوضات على الرغم من الشكوك المستمرة في واشنطن، وقالت: "من الممكن أن يكون الإيرانيون مستعدين لتقديم تنازل حول الملف النووي، إذا استطاعت المشاركة أيضاً في التوصل إلى حل دبلوماسي في سورية. لا يريد الأمريكيون مناقشة إلا موضوع واحد والتركيز على الملف النووي، وذلك بعكس الإيرانيين الذين يؤيدون مقاربة أكثر شمولاً. من الممكن أن يكونوا مهتمين بحل في سورية يتضمن رحيل بشار الأسد عام 2014 مع الإبقاء على النظام".
     يبقى الآن إقناع إسرائيل بصوابية هذه المفاوضات. قال ستيفن كينزر: "لا شك أن عدد  الأصوات التي يُسيطر  عليها بنيامين نتنياهو في الكونغرس الأمريكي أكبر من عدد الأصوات التي يسيطر عليها باراك أوباما أو حتى رئيس البرلمانيين الجمهوريين جون بويهنر John Boehner".


الاثنين، ٣٠ أيلول ٢٠١٣

(كيف يمكن إزالة الأسلحة الكيميائية في سورية؟)

صحيفة الفيغارو 30 أيلول 2013 بقلم جان جاك ميفيل Jean-Jacques Mevel

     تعهد نظام بشار الأسد بتقديم جرد لمواقع أسلحته الكيميائية والتوقف عن انتاجها وفتحها أمام "ممثلين عن روسيا وبقية دول الأمم المتحدة". تتوزع الترسانة الكيميائية السورية في أربعين موقعاً تقريباً، وربما قام النظام بتوزيعها في مناطق إضافية الصيف الماضي مع احتمال توجيه الضربات الغربية. إنها شبكة من المخابر ومعامل التصنيع والمستودعات ومخازن الذخيرة والأسلحة الموجودة لدى الوحدات العسكرية. بالنسبة لبلد في حالة حرب، تزداد صعوبة الجرد مع احتمال جاهزية بعض الأسلحة الكيميائية للمعركة (مدافع، راجمات، مدافع هاون...).
     تتحدث التقديرات في أغلب الأحيان عن وجود ألف طن من الأسلحة الكيميائية. ولكن يبقى تحديد فيما إذا كانت عبارة عن مكونات جامدة غير ناشطة كيميائياً ومن السهل تدميرها، أم أنها عناصر كيميائية غير مستقرة وجاهزة للاستخدام. تتضمن الترسانة السورية غاز الخردل والساران وغاز الأعصاب VX. هناك عامل مجهول آخر هو نسبة العناصر الكيميائية التي تمت "عسكرتها"، أي تمت تعبئتها في الذخيرة. قال الخبير الألماني بنزع الأسلحة رالف تراب Ralf Trapp: "في الحالة الأولى، ليست هناك مشكلة مع الصواريخ أو الصواعق أو المتفجرات. ولكن في الحالة الثانية، يمكن أن تكون العملية قاتلة في كل مرحلة من مراحل معالجتها. يتطلب ذلك المزيد من الحرص والحماية، وبالتالي المزيد من الوقت".
     ينص اتفاق جون كيري مع سيرغي لافروف على تدمير الترسانة الكيميائية قبل 30 حزيران 2014. ومن المفترض أن ينتهي المفتشون الدوليون من تفتيش جميع المواقع التي أعلنت عنها دمشق اعتباراً من 30 تشرين الثاني القادم، بالإضافة إلى تعطيل وحدات الإنتاج. يبدو هذا الجدول الزمني طموحاً، ولكن بعض الخبراء يعتبرونه ممكناً إذا رافقته الإرادة والوسائل. تحدث بشار الأسد شخصياً عن "عام واحد أو أكثر بقليل". ستتم تحديد وتيرة العمل وطريقته عبر قرار في مجلس الأمن وخارطة الطريق المنتظرة من منظمة منع الأسلحة الكيميائية. قال الخبير في مسائل الأمن الدولي دافيد شاتر David Chuter: "حتى في أوقات السلم، من الممكن أن تستغرق إزالة الأسلحة الكيميائية عدة سنوات. من الصعب تصور مهمة أكثر صعوبة من سورية".
     إن الأمر العاجل سياسياً منذ هجوم 21 آب هو جعل هذه الأسلحة غير قابلة للاستخدام، أو وضعها تحت رقابة دولية صارمة. قال الباحث البلجيكي  المتخصص في مسائل نزع الأسلحة جان باسكال زاندرز Jean-Pascal Zanders: "يجب جمع العناصر الكيميائية في عدد محدود من المواقع، ثم إتلافها بشكل يسمح بنقلها أو حتى تصديرها على شكل مخفف". لقد استغرق تدمير حوالي عشرين طناً من غاز الخردل في ليبيا حوالي ثلاث سنوات تحت رقابة منظمة منع الأسلحة الكيميائية.
     يبقى معرفة فيما إذا كانت منظمة منع الأسلحة الكيميائية تملك الوسائل اللازمة للتحرك بالسرعة المطلوبة في مثل هذه الحالة. تفتخر هذه المنظمة بأنها دمرت 80 % من مخزون الأسلحة الكيميائية التي أعلنت عنها الدول الأعضاء الموقعة على الاتفاقية، ولكنها لا تملك إلا 150 مفتشاً، وأغلبهم يعمل في مهمات أخرى. إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من مسألة عدد المفتشين، إن بنود قرار مجلس الأمن هي التي ستستمح للمفتشين بالعمل  بحرية أم لا. يطرح المفتشون مشاكل أكثر عملية: من سيضمن حمايتهم وحرية حركتهم في بلد بحالة حرب؟ هل سيحصلون على تفويض بفتح جميع الأبواب؟ وماذا عن الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون؟
     قال الخبير دافيد شاتر: "إن منظمة منع الأسلحة الكيميائية تعمل في أوقات السلام، وهي مكلفة بتنفيذ التعهدات الوطنية الطوعية. فيما يتعلق بسورية، فإن الوضع مختلف تماماً. إذا نجحت المنظمة في مهمتها، فإن السبب سيكون سياسياً محضاً: لا مصلحة لأحد في واشنطن وموسكو وباريس وحتى في دمشق بأن تفشل هذه المهمة  بشكل واضح. إن إزالة الترسانة الكيميائية السورية ليست إلا جزءاً من الرهان، إنها وسيلة تهدف إلى تهدئة أزمة إقليمية ودولية أكثر اتساعاً". باختصار، إن منظمة منع الأسلحة الكيميائية مجبرة على النجاح.
     ما زال الرهان الروسي كبيراً في سورية، وذلك بعد المناورة الناجحة لإيقاف الضربات الغربية المبرمجة. إن التفكيك الناجح للترسانة الكيميائية السورية سيكون إكمالاً لسعي بوتين الهادف إلى أن يُظهر للعالم كيف تقوم الدول الغربية بإفساد مجلس الأمن وتحويله إلى مجرد أداة لإعطاء الشرعية إلى استخدام القوة كما حصل في العراق عام 1991 وصربيا عام 1999 وليبيا عام 2011. كانت روسيا أول دولة تقترح إرسال رجالها "لحماية المنشآت" عندما تبدأ منظمة منع الأسلحة الكيميائية عملها. تملك روسيا قاعدة مثالية في سورية لحماية الترسانة الكيميائية السورية هي القاعدة العسكرية في طرطوس. إذا كان سيرغي لافروف يريد إقناع الدول الغربية بجديته، من الممكن أن تتحول طرطوس إلى قاعدة عمل (أو حتى ملجأ) للمفتشين الدوليين.
     ما زالت هناك ورقة أخرى بيد الكريملين، حتى ولو كان يتجنب التباهي بها. يعرف الروس الترسانة الكيميائية السورية جيداً لسبب بسيط هو أن الاتحاد السوفييتي هو الذي قام برعاية نموها، ولاسيما خلال العقد الأخير من الحرب الباردة. إلى أية درجة؟ أجاب الخبير رالف تراب قائلاً: "تقديم المساعدة التقنية والمادية، ولكن من غير المحتمل إرسال شحنات مباشرة". على أي حال، استمرت العلاقات الشخصية فترة طويلة. بعد عشر سنوات من سقوط الاتحاد السوفييتي، أثارت قضية الجنرال أناتولي كونتسيفيتش Anatoly Kountsevitch فضيحة في موسكو. كان هذا الجنرال رئيس نزع الأسلحة في روسيا أثناء رئاسة بوريس يلتسين، وتورط بشكل مباشر في بيع مئات الكيلوغرامات من العناصر الأولية لغاز VX إلى النظام السوري. كما توفي هذا الجنرال عام 2002 في ظروف غامضة بعد عودته من... دمشق.

     يبدو أن إزالة الأسلحة الكيميائية السورية ستكون أكثر العمليات كلفة بعد عمليات إزالة الأسلحة الكيميائية في روسيا والولايات المتحدة. تؤكد اتفاقية عام 1997 على أن كلفة إزالة هذه الأسلحة تقع على عاتق الدولة الموقعة على الاتفاقية، ولكن يبدو أنه من الصعب تحميل كلفتها على نظام في حالة حرب. لقد قام بشار الأسد بتقديم فاتورته بالدولارات الأمريكية عندما قال في الأسبوع الماضي إلى محطة فوكس نيوز الأمريكية: "لا بد من مليار دولار تقريباً". لا شك أنه رقم سياسي، وتقدير لحجم "التضحية" التي وافق عليها النظام السوري، ومزاودة ربما سيعقبها مطالب أخرى مثل إنهاء الدعم الغربي للتمرد. ولكن هذا الرقم ليس بعيداً عن الصواب. قال رالف تراب: "يجب على الدول العظمى أن تدفع حصتها، ولاسيما في البداية من أجل البدء بالعملية". ما زال من الصعب تقدير الفاتورة العراقية التي تحملتها الأمم المتحدة في ذلك الوقت. بالنسبة لتفكيك الترسانة الليبية الأقل حجماً بكثير، فقد كلفت عشرات الملايين من الدولارات، وقامت عدة منظمات دولية بتحمل هذه النفقات بالإضافة إلى المساعدات التقنية التي قدمتها الدول إلى ليبيا بشكل مباشر.