الصفحات

الاثنين، ١٨ أيار ٢٠١٥

(السلام البارد بين الغرب وروسيا؟)

صحيفة اللوموند 30 أيلول 2014 ـ حوار بين مدير التطوير الاستراتيجي في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية توما غومار Thomas Gomart والباحثة السياسية في المركز الوطني للدراسات العلمية CNRS ماري ميندراس Marie Mendras ـ أجرى الحوار غايدز ميناسيان Gaïdz Minassian

سؤال: هل تتحمل الدول الغربية جزءاً من مسؤولية الأزمة في أوكرانيا؟
توما غومار: بدون أي شك، كما تتحمل موسكو المسؤولية أيضاً. أولاً، تشعر الدول الغربية بالثقة بعد انتصارها على الاتحاد السوفييتي، وأنكرت وجود الفضاء ما بعد السوفييتي لصالح التقسيم الإقليمي. ولكن سقوط الإمبراطوريات يحتاج إلى عدة عقود. ثانياً، اتصفت سياسة الدول الأوروبية بالتناقض تجاه جيرانهم في الشرق: لقد شجعوا عملية الاندماج الإقليمي في العالم باستثناء الفضاء ما بعد السوفييتي. بالتأكيد، ازدادت حدة هذه النزعة مع انضمام بعض الدول التي تريد التخلص من النفوذ الروسي إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. ثالثاً، لم تنتبه الدول الغربية بما فيه الكفاية إلى النظرة الروسية للعالم، ولاسيما علاقتها مع الشرق الأوسط والراديكالية السنية.
     بدأ الخلاف الأساسي في كوسوفو ثم العراق. إن ضم شبه جزيرة القرم والعمليات في شرق أوكرانيا تمثل النتائج المتأخرة للقصف الذي قام به الحلف الأطلسي ضد صربيا وإنشاء كوسوفو. عارضت باريس وبرلين وموسكو التدخل البريطاني ـ الأمريكي في العراق عام 2003. وبعد مضي عشرة سنوات، تدعم موسكو سورية بشار الأسد معتبرة أنها تواصل تحليلها الثابت حول الإسلام الراديكالي بخلاف واشنطن ولندن وباريس. تعتبر موسكو أن الدول الغربية تلعب بالنار وأنها تهدد الاستقرار. دفع ذلك بروسيا إلى ربط المسرح السوري بالأوكراني في تحليل الدور المشؤوم للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. تعتبر موسكو أن هذين المسرحين يدلان على تهديدين منفصلين هما: النزعة العسكرية الغربية والراديكالية السنية، ويجب الوقاية منهما في وقت واحد عن طريق إقامة منطقة عازلة على حدودها الغربية في أوكرانيا التي تحتل موقعاً مركزياً في الثقافة الاستراتيجية الروسية، وعبر إقامة خط دفاعي على الجبهة الجنوبية التي تمتد من اليونان إلى إيران مروراً بقبرص وسورية وإسرائيل.
ماري ميندراس: لماذا يتم التعامل حرفياً مع خطاب الكريملين الذي يخلط بين الأزمات؟ يجب مواجهة هذا السرد  الذي يقدمه فلاديمير بوتين، ويتهمنا فيه بـ "تدبير" الثورات العربية عام 2011 وبزعزعة استقرار ليبيا ومصر، وذلك في الوقت الذي يقوم فيه بتسليح ودعم نظام بشار الأسد في دمشق المسؤول عن قتل المدنيين بشكل أدى إلى الراديكالية الإسلامية. لا يجب السماح لبوتين أن يقول بأنه يعمل من أجل السلام! هناك انخراط روسي قوي ميدانياً في سورية وأوكرانيا، ويرسل أسلحة متطورة وضباط وفنيين روس. بالنسبة لنا نحن الأوروبيين، إذا كانت هناك صلة مشتركة بين موقف روسيا في سورية وتدخلها في أوكرانيا، فهي قدرة نظام فلاديمير بوتين على استخدام العنف المسلح بدون رقابة ديموقراطية وبدون نقاش برلماني.
سؤال: اجتمع الحلف الأطلسي يومي 5 و6 أيلول 2014 في مدينة نيوبورت البريطانية، هل ذهب الحلف الأطلسي بعيداً، أم أنه لم يفعل ما فيه الكفاية تجاه روسيا؟
ماري ميندراس: لم يكن الحلف الأطلسي واضحاً بما فيه الكفاية، على الرغم من أنه كان له الفضل في إدانة الاعتداء الروسي دون مواربة منذ شهر حزيران 2014. عندم أسقط صاروخ روسي أرض ـ جو بالخطأ طائرة ركاب ماليزية في أوكرانيا الشرقية بتاريخ 17 تموز، أظهر الحلف الأطلسي الأخطار القصوى للتدخل الروسي. آمل بأننا سنرى قريباً إعادة تقويم جدية لسياسات الحلف الأطلسي تجاه "الدول الواقعة بين حدين"، أي الدول الواقعة بيننا وبين روسيا مثل أوكرانيا ومولدافيا وجورجيا الذين وقعوا مؤخراً اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. يجب على الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي تنسيق أعماله، نظراً لأن أوروبا لا تتمتع بسياسة عسكرية مشتركة. بالطبع، تعتمد الكثير من الأمور على الموقف الأمريكي.
توما غومار: تعتبر موسكو أن الحلف الأطلسي ما زال يمثل الخطر الرئيسي على حدودها الغربية. يجب على الحلف الأطلسي طمأنة الدول التي تشعر بأنها مهددة من روسيا والمحمية بموجب المادة الخامسة من ميثاق الحلف. أخذ الحلف الأطلسي علماً بعودة التوتر مع روسيا في قمة نيوبورت، ولكن دون أن يوهم كييف باحتمال تقديم الدعم العسكري لها. إن هذا النزاع سيُعيد توجهات الحلف الأطلسي نحو القيام بمهمته الأساسية المتمثلة بالدفاع عن الأراضي، وذلك بعد مرور عقدين من التدخلات خارج مناطقه، هذه التدخلات التي تصفها موسكو بالمتهورة. يبقى السؤال المتعلق بالدول الواقعة بين روسيا والغرب.
سؤال: ماذا يريد فلاديمير بوتين؟
ماري ميندراس: لا يرغب فلاديمير بوتين بعد مرور ستة أعوام على الحرب في جورجيا أن تصبح الدول الواقعة بين روسيا والغرب دولاً ذات سيادة ومزدهرة. إنه يبذل كل ما بوسعه لمنع هذه الدول من الانضمام إلى منظمة متعددة الأطراف إذا لم تكن روسيا عضواً فيها، ولاسيما الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. إنه يريد أن يكون زعيم القوى العظمى الثانية في مواجهة القوى العظمى الأمريكية، ولكنه أمر مستحيل. لا أعرف كيف يمكن لروسيا أن تتحول إلى قوة عظمى مثل الاتحاد السوفييتي في موازين القوى مع الولايات المتحدة، وذلك حتى لو استعادت روسيا السيطرة على بعض الأجزاء الصغيرة في أوكرانيا وجورجيا. هناك خيبة أمل عميقة وعقلية الانتقام التي تتأجج في روسيا منذ قيام الحلف الأطلسي بقصف صربيا عام 1999 و"الثورة البرتقالية" في أوكرانيا عام 2004. تعمل السياسة الروسية على منع الدول الغربية من جذب دول الاتحاد السوفييتي سابقاً إليها، لأن امتداد أوروبا إلى دولة مثل أوكرانيا يعني نشر الديموقراطية ودولة القانون. أنا مقتنعة بأن فلاديمير بوتين يعتبر بأن الخطر الأكبر هو نهوض بعض المجتمعات بالقرب من حدوده ورفضها إملاءات الأنظمة الاستبدادية والفاسدة. يخشى النظام الروسي أن يخسر هذه "الدولة العازلة" التي يعتقد بأنه يحميها من النفوذ الخارجي والعولمة.
توما غومار: تعتبر روسيا مثل بقية الأنظمة الاستبدادية أن العالم يشهد انحساراً لموجة الديموقراطية الشاملة بعد ثلاثة أعوام من "الربيع العربي". كما يعتبرون أن الأنظمة الأوروبية ربما تشهد أيضاً "لحظتها الاستبدادية". هذه هي قراءة المجموعة الحاكمة التي لا تهتم بالتحرر الفردي. في هذا السياق، يُعزز فلاديمير بوتين سلطته الشخصية. من أجل القيام بذلك، إنه يستخدم النزاع الأوكراني لتعزيز شعبيته، ويحشد المجتمع حول الأفكار القومية الراهنة في الوقت الذي يعاني فيه النموذج الاقتصادي الروسي من الركود. إنه يريد أن يجعل من المستحيل حصول أي تقارب بين الحلف الأطلسي وأوكرانيا، وأن يجعل روسيا قوة عسكرية تقليدية عظمى وتهيمن على منطقة نفوذها، وأن يبقى في الوقت نفسه قوة عظمى عالمية بفضل السلاح النووي، وأن يمتحن مدى الانسجام الغربي.
سؤال: هل نحن على مشارف حرب باردة جديدة بين الدول الغربية وروسيا؟
توما غومار: تبرز مواجهة إيديولوجية في قراءة العالم والقضايا الدولية. توصلت روسيا إلى انتاج مصل مضاد لمقاومة العقيدة الجيوسياسية الغربية. إن فلاديمير بوتين مُشبع بالتاريخ الروسي، واختار تجسيد نزع الصفة الغربية Désoccidentalisation عن العالم. يبدو أن النخبة الروسية مقتنعة بالطابع الحتمي للانحطاط الغربي، وتنظر بتعالي تجاه "الطابع الريفي" Provincialisme الغربي. من المفترض منطقياً أن يدفع ذلك بالكريملين إلى المراهنة على العلاقة الأطلسية عبر مقاربتين مُحتملتين. تعتقد المقاربة الأولى أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تتجهان معاً نحو انحطاط حتمي، وتريد المقاربة الثانية استباق عودة القوة العظمى الأمريكية على المدى الطويل. في الواقع، من المفترض أن يكون نمو الاقتصاد الأمريكي واعتماده الذاتي على الطاقة وفوائد الانسحاب الأمريكي من العالم تدشيناً لمرحلة جديدة بالنسبة لواشنطن خلال الفترة الممتدة بين عامي 2016 ـ 2018، وهي فترة حاسمة بالنسبة لفلاديمير بوتين. من الممكن أن يكون عام 2013 هو ذروة عودة القوة الروسية التي بدأت عام 1999.
ماري ميندراس: إذا كان المحللون الإستراتيجيون الروس يعتقدون بذلك، فإنهم مخطئون بشكل كامل تقريباً. ويجب أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار. لديهم نظرتهم الخاصة للوقائع والتوجهات المستقبلية. نحن في مواجهة بعض الأشخاص في روسيا ـ إنهم قليلون جداً حول الرئيس ـ الذين لا يريدوا تغيير نظرتهم للأمور، وهم مقتنعون بنوايانا السيئة تجاههم عندما نفكر بمنطق مختلف عنهم. عندما ننظر إلى الاقتصاد الروسي خلال عشرة أو عشرين عاماً، فإن روسيا تراجعت على الخارطة العالمية. إذا كان هناك بلد مهدد بأن يصبح ريفياً Provincial، فإنه روسيا وليس أوروبا  التي تبقى المنطقة الأغنى في العالم. أخيراً، أين الصين من كل ذلك؟ إذا كان هناك بلد يجب على روسيا أن تقارن نفسها به، فإنه الصين!
سؤال: هل يجب الاكتفاء بحوار بين الدول العظمى، أم يجب إفهام روسيا بأن عصر مناطق النفوذ قد انتهى؟
توما غومار: نحن نتجه نحو عالم من العلاقات الهجينة. في أوروبا، تريد روسيا العودة إلى الانسجام الأوروبي بين كبرى العواصم الأوروبية بدلاً من الاتحاد الأوروبي. خارج أوروبا، تريد روسيا الظهور كقوة عظمى تقليدية وصاعدة. ولكن هناك مشكلة على صعيد المستوى الروسي: لا تمثل روسيا إلا خُمس الاقتصاد الصيني ونصف الاقتصاد الفرنسي ـ الألماني. في الوقت نفسه، استأنفت روسيا انفاقها العسكري على غرار الدول الآسيوية. يعني ذلك أنه يجب على الأوروبيين متابعة هذه التغيرات عن كثب، والتخلي عن فكرة انتقال روسيا إلى المعايير الأوروبية الطبيعية، والاستمرار في الوقت نفسه بجهودهم في الإصلاحات الاقتصادية.
ماري ميندراس: إن صورة الحرب الباردة مفيدة ومضللة. أولاً، إنها مفيدة لأنه ما زالت هناك في موسكو نظرة متخلفة ومعادية للولايات المتحدة حول الفترة الماضية. في المحصلة، شاهدت روسيا خلال السنوات العشرين الماضية كيف تطورت أوروبا بشكل مختلف عما كانت تتصوره موسكو. إن اندماج بلد مثل بولونيا في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي يمثل هزيمة بالنسبة لفلاديمير بوتين. ثانياً، إنها صورة مضللة لأنه لم تعد هناك مواجهة بين قطبين. أصبحت روسيا وحيدة استراتيجياً، ولم تعد تتزعم قطباً مثل حلف فارصوفيا، وحتى الحكام المستبدين في روسيا البيضاء وكازاخستان يشعرون بالقلق من الطموحات الروسية! تختبئ الصين وراء روسيا عندما يتعلق الأمر بمواجهة الدول الغربية في الأمم المتحدة، وتستخدم بذكاء المواقف الروسية العدائية. إنها الوسيلة التي تسمح للصين بتأجيل المواجهة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. يضع الروس أنفسهم في موقف "الشريك الصغير"، ولا يتطرقوا بصراحة إلى الطموحات الصينية. لم تستعد أوروبا للنزاعات المحلية والساخنة، وتواجه تحدياً عاجلاً هو: هل سنستطيع مستقبلاً ضمان أمن القارة الأوروبية مع السماح بوجود نزاعات محدودة التوتر في الدول المحيطة بالاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي؟.


الاثنين، ١١ أيار ٢٠١٥

(وولتر راسل ميد: "بوتين يراهن على ضعف أوروبا")

صحيفة الفيغارو 11 شباط 2015 ـمقابلة مع وولتر راسل ميد Walter Russell Mead، أستاذ العلاقات الاستراتيجية في Bard College والكاتب في مجلة The American Interest ـ أجرت المقابلة مراسلتها في واشنطن لور ماندفيل Laure Mandeville

سؤال: أشرتم في كتاباتكم الأخيرة إلى العجز البنيوي للدول الغربية في فهم الدوافع التي تقف وراء سلوك فلاديمير بوتين.
وولتر راسل ميد: لدينا في الغرب مقاربة تقليدية جداً لطريقة عمل السياسة. نحن نؤمن بأن المال وبناء اقتصاد ناجح يمثلان الدافع الأساسي، وأن القيم الليبرالية المضمرة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا يمكن التراجع عنها. نحن نعيش في عالم دافوس، وهذا ما يجعل قراءة الأمور التي تعتمل داخل فلاديمير بوتين صعبة. ينظر الرئيس الروسي إلى العالم تقريباً كما كان يُنظر إليه قبل مئة عام بخصوص علاقات القوى التقليدية. يعتبر الرئيس الروسي أن ألمانيا، بالاتفاق مع الولايات المتحدة، في طور بناء نظام أوروبي سيمزج بين الأفكار الاقتصادية الألمانية المتعلقة بالرأسمالية الاجتماعية والصرامة في موازنة الدولة وثقافة القوانين التي تضع حدوداً لسلطة الدول عبر القانون من جهة، وبين أوروبا ما بعد القوميات وتحولها إلى وطن عالمي لجميع الجنسيات Cosmopolite من جهة أخرى. يواجه هذا المشروع بعض المصاعب منذ أزمة العملة الأوروبية، ويعتبر فلاديمير بوتين أن هذا المشروع هش باعتبار أن ألمانيا ليست قوة عسكرية عظمى. يعتقد زعيم الكريملين أن ألمانيا وحلفاءها لا يملكوا الإرادة السياسية والأموال والقوة العسكرية لمساعدة أوكرانيا وربطها بهذا العالم الأوروبي ما بعد القوميات. إنه يرى الغرب مُحطماً وذو توجه سياسي مشتت وأن ألمانيا أكثر ضعفاً مما تعتقد.
سؤال: أليس محقاً إلى حد ما؟
وولتر راسل ميد: هناك بعض العوامل التي تؤكد تحليله، ولكنه يقلل بلا شك من أهمية بعض جوانب هذا المشروع. تحظى فكرة أوروبا الواحدة والقائمة على القانون بشعبية كبيرة في جميع الدول الأوروبية، وكذلك الأمر بالنسبة لفكرة أن الدول الأوروبية يجب ألا تسمح لنفسها بالانفصال مرة أخرى بسبب بعض الرهانات الجيوسياسية. ربما يهمل بوتين هذا الحرص العميق. في الواقع، هناك توتر بين مختلف القوى. إن خيبة الأمل الاقتصادية في اليونان وإيطاليا، وإرادة هذين البلدين بإقامة علاقة خاصة مع روسيا، هما أمران حقيقيان. عندما ننظر إلى بلغاريا ورومانيا وفشل إصلاحاتهما الهيكلية والصعوبة التي يواجهانها مع الإدارة الرشيدة، يمكن فهم قلة الحماس الأوروبي تجاه أوكرانيا. ظهر أن توسيع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي أكثر تعقيداً بكثير مما كان متصوراً. يحاول بوتين الاستفادة من هذه الأمور المعقدة وهذه الخيبات.
سؤال: هل استعراض القوة الروسية الحالية يهدف إلى التخلص نهائياً من توسيع الحلف الأطلسي حتى كييف؟
وولتر راسل ميد: كان بوتين فعالاً جداً في عرقلة توسيع الحلف الأطلسي. قام بذلك عبر النزاعات المجمدة على غرار أوسيتيا الجنوبية في جورجيا. إن متابعة توسيع الحلف الأطلسي إلى هذا البلد كان سيعني الموافقة على ضم أرض واقعة تحت احتلال أجنبي. ينطبق الأمر نفسه على أوكرانيا. تنظر الكثير من الدول الأوروبية إلى الحلف الأطلسي كتحالف يسمح لهم بعدم اللجوء إلى الحرب. من الصعب تسويق فكرة أن يتحول الحلف الأطلسي إلى تحالف يسمح بالقتال بشكل أكثر فعالية. من الناحية المؤسساتية، يحتاج توسيع الحلف الأطلسي إلى الإجماع. سترفض بعض الدول مثل اليونان ذلك بلا شك. إذا، حصل بوتين على انتصار أكبر مما نتصوره.
سؤال: ما هو هدفه؟
وولتر راسل ميد: هدفه هو استعادة مكانة روسيا بصفتها إحدى الدول الكبرى أو حتى أكبر الدول الأوروبية، وذلك لكي لا يتم اتخاذ أي قرار هام بدون موافقتها. إنه لا يختلف عن بقية القياصرة الروس في هذا المعنى. يشبه وضعه أيضاً الوضع الذي واجهه لينين وستالين سابقاً. كانت أغلب الدول الأوروبية أكثر قوة من روسيا السوفييتية، ولكن أي منها لم يكن يهتم بجيران روسيا بشكل يعادل اهتمام ستالين بها. وهكذا تمكن ستالين من إعادة بناء امبراطورية على الرغم من أن البلد منهك. يتكرر الأمر نفسه اليوم تقريباً. نحن لسنا مهتمون كثيراً بمصير أوكرانيا بعكس بوتين. لهذا السبب، استطاع خداعنا.
سؤال: تقولون أن الولايات المتحدة ليست لديها "أدنى فكرة" عما تريد القيام به في أوروبا.
وولتر راسل ميد: منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، لم يتوقف الأمريكيون عن المجيء إلى أوروبا، ولكن مع وجود إرادة بالانسحاب منها في الوقت نفسه! كانت الولايات المتحدة تعتقد عام 1990 بأنها قادرة على الرحيل، ولكنها اضطرت للعودة لإنهاء الحرب في البوسنة. لهذا السبب، لم تول الولايات المتحدة الاهتمام الاستراتيجي والسياسي الكافي بأوروبا التي تعيش أزمتها الأكثر خطورة منذ سنوات الخمسينيات، إنها أزمة تتضمن تداعيات مستقبلية هائلة بالنسبة للولايات المتحدة.
سؤال: هل تغير ذلك اليوم؟
وولتر راسل ميد: هناك وعي بأنه أمر جدي، ولكن ليس هناك توافق حول قيام الولايات المتحدة بـ "انعطاف" جديد نحو أوروبا. كان الإدارة الأمريكية تعتقد حتى عام 2012 بأنها انتهت من التهديد الإرهابي، وكان يُنظر إلى روسيا كبلد يتذمر ولكن هامشي. كان التحول سريعاً.
سؤال: هل ستقوم إدارة أوباما بإرسال الأسلحة إلى أوكرانيا؟
وولتر راسل ميد: هناك جدل كبير حول هذا الموضوع. إن السؤال هو معرفة ماذا سيفعل أوباما الذي ما زال متشككاً جداً حول ما يمكن أن يتسبب به إرسال الأسلحة. إذا أرسل الغرب بعض الأسلحة، وأدى ذلك إلى تغيير موازين القوى على الأرض، فإن بوتين سيختار التصعيد بلا شك. إنه مصمم على عدم التعرض للهزيمة في الدول المحيطة به. يجب على الغرب تحديد استراتيجية تجاه أوكرانيا قبل اتخاذ الإجراءات.
سؤال: إن رهان بوتين هو أن الغرب سيتراجع...
وولتر راسل ميد: لا يريد الرئيس أوباما حرباً مع روسيا، وكذلك الأمر بالنسبة للمستشارة الالمانية أنجيلا ميركل. إذا بدأتم تصعيداً في الوقت الذي يعرف فيه خصمكم بأنكم ستتراجعون في اللحظة الحرجة، فماذا تفعلون الآن؟ لهذا السبب، يحتاج الغرب إلى استراتيجية! لا يجب إرسال الأسلحة فقط لأننا نريد "القيام بشيء ما". يجب علينا أولاً الإجابة على بعض الأسئلة الجدية: هل نحن مستعدون للقيام بما يجب من أجل حماية أوكرانيا وضمها إلى أوروبا والغرب؟ هل نحن مستعدون لدفع انفاقها للتزود بالطاقة وتقديم الأموال لها لكي تحارب؟ هل نحن مستعدون لكي تشملها مظلتنا النووية؟ حان الوقت لكي نتخذ القرار.
سؤال: ولكن يجب علينا التفكير بعواقب عدم القيام بأي شيء...
وولتر راسل ميد: نعم! لأنه إذا لم نفعل شيئاً، سيستمر بوتين في التقدم والاستفادة من نقاط ضعفنا. سيكون من المهم رؤية كيف سيتصرف مع اليونان وقبرص في حال عدم توصل هذان البلدان إلى تسوية مع الاتحاد الأوروبي حول الأزمة الاقتصادية فيهما. هناك أزمة خطيرة جداً أمامنا، ولكن ذلك سيُجبرنا على إعادة تحديد معنى الغرب ودلالاته الجانبية.



الاثنين، ٤ أيار ٢٠١٥

(بكين تهز النظام المصرفي العالمي مع مصرفها الجديد)

صحيفة الفيغارو 18 نيسان 2015 بقلم سيباستيان فاليتي Sébastien Falletti

     يُخيم الظل الصيني المتزايد على "اجتماعات الربيع" لصندوق النقد الدولي والمصرف الدولي في واشنطن، بشكل يهز النظام المالي الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. يتحدث الجميع عن انطلاقة المصرف الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية، ويعتبره البعض صفعة لإدارة أوباما التي تعارض تأسيس هذا المصرف الجديد على الرغم من انضمام حلفائها إلى هذا المصرف واحدا تلو الآخر مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا الذين قرروا الانضمام إلى هذا المصرف كأعضاء مؤسسين، بالإضافة إلى استراليا وكوريا الجنوبية وروسيا، كما تفكر اليابان بالانضمام إليه.
      إنه نجاح غير مسبوق للدبلوماسية الاقتصادية الصينية التي تندرج في سياق البرنامج الاستراتيجي الكبير للرئيس الصيني تحت اسم: الطريق الجديد للحرير الذي يهدف إلى وضع الصين في محور آسيا الصاعدة. يتمثل الهدف المعلن لهذا المصرف بالاستجابة للاحتياجات الهائلة في البنى التحتية في المنطقة عبر تمويل الشبكات التي تلتقي في الصين وتوسيع النفوذ الجيوسياسي الصيني. تشمل هذه المشاريع إقامة الطرق والسكك الحديدية وشبكات الاتصالات بشكل يسمح بتصدير المنتجات الصينية وكسب ولاء حكومات المنطقة الواقعة بين فكي كماشة المواجهة الصينية ـ الأمريكية. قال سون ليجيان Sun Lijian، الأستاذ في جامعة فيدان Fudan: "تعيش هذه الدول المرحلة الأولى في عملية تصنيعها. يمكننا أن نقدم لهم وصفة نجاحنا المبني على أربعين عاماً من الانفتاح الاقتصادي والتنمية. حان الوقت لكي تنشر الصين نموذجها".
     سيكون المصرف الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية الذراع المسلح لتنفيذ هذا الطموح إلى جانب الصندوق المالي لطريق الحرير الذي تبلغ موازنته أربعين مليار دولار، وذلك بالاضافة إلى مصرف البريكس BRICS (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) في شنغهاي. أشار مكتب الدراسات الأمريكي IHS إلى أن حجم القوة المالية لهذه المصارف الثلاث يتجاوز مئة مليار دولار، واعتبر مركز الأبحاث شاتام هاوس Chatham House في لندن أن هذا المبلغ يمكن أن يتضاعف مرتين بسرعة.
     يهدف هذا المصرف أيضاً إلى مساعدة شركات البناء الصينية المهددة بتباطؤ الاقتصاد الصيني. على الصعيد المالي، سيكون المصرف الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية وسيلة لتدويل العملة الصينية بصفته الأولوية الاستراتيجية للصين. إذا كان الدولار سيحافظ على دوره المركزي في هذا المصرف من أجل تخفيض كلفة الاعتمادات، فإن بكين يمكن تعمل على استخدام سلة من العملات تضم العملة الصينية.
     لكي تؤكد الصين نجاح هذا المصرف، يجب عليها تبديد قلق الدول الغربية تجاه هذا المصرف بخصوص شفافية عروض الأسعار أو المعايير البيئية والسياسية. إنه امتحان كبير بالنسبة للطموحات الصينية العالمية. دعت واشنطن حلفاءها إلى التأثير على المصرف من الداخل. تأمل الدول الغربية المشاركة بالحصول على مدخل إضافي إلى أسواق الدول الآسيوية الصاعدة ورؤوس الأموال الصينية.


الثلاثاء، ٢٨ نيسان ٢٠١٥

(عندما يحقق التوتر بين بروكسل وأثينا رهان موسكو)

صحيفة اللوموند 19 شباط 2015، بقلم أستاذ التاريخ في جامعة برنستون Princeton جيريمي أدلمان Jeremy Adelman والباحثة في المركز الوطني للدراسات العلمية CNRS آن لور دولات Anne-Laure Delatte

     تلاقى أخيراً أسوأ كابوسين أوروبيين. انتقد رئيس الوزراء اليوناني الجديد ألكسيس تسيبراس Alexis Tsipras في الشهر الماضي العقوبات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا بسبب ضمها غير الشرعي لشبه جزيرة القرم. عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعاوناً اقتصادياً مع تسيبراس، ودعاه إلى زيارة موسكو للاحتفال بالذكرى السبعين للانتصار على النظام النازي بشكل يربط فيه بين ذكرى الاضطهاد الألماني والأزمة الحالية في أوروبا. هناك أيضاً بعض الاشاعات حول بناء خط أنابيب لنقل الغاز عبر الحدود التركية ـ اليونانية بشكل يسمح لروسيا بتجنب أوكرانيا لبيع الغاز الروسي.
     تدهورت المفاوضات حول الديون الحكومية اليونانية بعد الانتخابات التشريعية في شهر كانون الثاني، وتبنت فرنسا وألمانيا موقفاً متشدداً حول سندات الخزينة اليونانية، والتزمت مجموعة العملة الأوروبية Eurogroupe في بروكسل بهذا الموقف يوم الاثنين 16 شباط. أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن إعادة جدولة الدين الحكومي اليوناني مرة أخرى سيؤدي إلى تأخير الإصلاحات الهيكلية، وسيخلق مخاطر أخلاقية لدى بقية أعضاء منطقة العملة الأوروبية. حان الوقت لكي نحب منطقة العملة الأوروبية أو أن نغادرها. لكن هذا الموقف يهمل الأضرار الجانبية الهامة التي يمكن أن تنجم عن خروج اليونان من منطقة العملة الأوروبية. سيوفر خروجها الفرصة أمام روسيا لكي تقدم مساعدتها إلى دولة وصلت إلى طريق مسدود، وبالتالي سيمنح موسكو وسيلة لزيادة نفوذها في أوروبا الغربية.
     تزامن النزاع الأوكراني مع أزمة العملة الأوروبية. تحتاج اليونان إلى تخفيض الديون العامة، وتستخدم هذا العامل في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لإعادة جدولة ديونها. فيما يتعلق بروسيا، إنها تسعى إلى إضعاف خصومها، وتعتبر أن إفلاس اليونان ونتائجه السلبية على بقية الدول الأوروبية بمثابة الفرصة الوحيدة لفرض نفسها. يمثل الاقتصاد الروسي ثمانية أضعاف الاقتصاد اليوناني، وبالتالي، إن موسكو قادرة على مساعدة أثينا على الرغم من انخفاض أسعار النفط.
     يُظهر تاريخ الأجنتين الحديث وأسباب الفوضى السائدة فيها حالياً ما يمكن حصوله في حال قيام موسكو بتقديم المساعدة إلى اليونان. أعلنت الأرجنتين عام 2001 أنها ستتوقف عن سداد ديونها بعد تخليها عن المساواة بين عملتها والدولار. انهارت مدخرات الأرجنتينيين، وكانت الحكومات تستمر لعدة أيام، وتفاقم الوضع لدرجة اندلاع تمرد الجوع في بلد معروف عالمياً بانتاج القمح والحبوب. منحت المشاكل الاقتصادية الأرجنتينية فرصة سياسية لخصوم الولايات المتحدة. عندما أصبحت الأرجنتين غير قادرة على الاستدانة من الأسواق المالية العالمية، جاء الزعيم الفنزويلي هوغو شافيز لنجدتها بفضل الثروة المالية الناجمة عن الارتفاع المفاجئ لأسعار النفط.
     طلب هوغو شافيز من الخزينة الفنزويلية شراء السندات الحكومية الأرجنتينية بمبلغ 4.4 مليار دولار متحدياً حكومة جورج بوش الابن، واقترح بناء خط أنابيب لنقل النفط إلى بوليفيا والباراغواي والبرازيل والأرجنتين، كما أسس "مصرف الجنوب" Banque du Sud لاستبعاد المصرف الدولي Banque Mondiale. موّل النفط الفنزويلي الحملات الانتخابية لأصدقاء شافيز. بالمقابل، أصبح الرئيس الأرجنتيني نيستور كيرشنر ثم زوجته الرئيسة كريستينا فيرنانديز كيرشنر من المؤيدين المخلصين لحملة شافيز ضد واشنطن. انضمت الإكوادور وبوليفيا إلى محور فنزويلا ـ الأرجنتين. أعلنت الأرجنتين الحداد  الوطني ثلاثة أيام عندما توفي هوغو شافيز بالسرطان في شهر آذار 2013. ما زالت علاقات واشنطن مع هذه الدول غير مستقرة حتى اليوم.
     عندما بدأ الاقتصاد الفنزويلي بالتراجع، جاءت إيران الخصم الأكثر نذيراً بالشؤم لواشنطن لكي تملئ الفراغ. تضاعفت المبادلات التجارية بين الأرجنتين وإيران ثلاثة أضعاف، ووجد القمح والذرة والوقود النووي الأرجنتيني أسواقاً جديدة له في بلاد الرافدين بشكل يستخف بالعقوبات الدولية. تحتل الأرجنتين اليوم المرتبة السابعة بين الشركاء التجاريين لإيران. سافر وزير الخارجية الأرجنتيني هيكتور تيمرمان Hector Timerman في بداية عام 2011 إلى حلب لإجراء مباحثات سرية مع نظيره الإيراني علي أكبر صالحي. كما تقوم الأرجنتين بدعم إيران في الأمم المتحدة.
     أعلنت الرئيس الأرجنتينية كريستينا كيرشنر في شهر كانون الثاني 2013 عن تشكيل لجنة مشتركة مع إيران لـ "تقصي الحقائق" بهدف التحقيق بعملية تفجير السيارة المفخخة أمام جمعية يهودية عام 1994، وأدى إلى مقتل خمسة وثمانين شخصاً وجرح ثلاثمائة آخرين. عرض النائب العام ألبيرتو نيسمان Alberto Nisman تقريراً خطيراً أمام الكونغرس الأرجنتيني قبل شهر واحد، وزعم فيه أن الحكومتين الأرجنتينية والإيرانية وقعتا اتفاقات تجارية للتعتيم على عملية التفجير عام 1994. أدى موته الغامض بتاريخ 18 كانون الثاني 2015 إلى شل الأرجنتين التي وقعت فريسة العديد من نظريات المؤامرة.
     تمثل الحالة الأرجنتينية العديد من الدروس بالنسبة للزعماء الذين يتفاوضون مع الدول التي وصلت إلى حافة الإفلاس. في هذا العالم المليء بالأصدقاء والخصوم والأعداء، إن ضعف بلد ما يمثل فرصة مواتية لبلد آخر.  الدرس الأول، تجنب هوس الخصوم بين الدائنين والمدينين، والنظر إلى الأطراف المعنية. لم تتنبأ واشنطن بأن فنزويلا ستستفيد من الارتباك الأرجنتيني، وبالطريقة نفسها، تخاطر السياسة الألمانية المتشددة بدفع أثينا إلى أحضان بوتين. من الضروري أن تكون هناك نظرة تحيط بجميع الأمور الجانبية.
     الدرس الثاني، تمثل الدول الخاضعة بعض الأخطار التي تتجاوز خطر إفلاسها. في عالمنا القائم على الاتصالات والاعتماد المتبادل، إن الحلقات الضعيفة تزعزع النظام بأسره وليس فقط العناصر الوسيطة. عندما أصبحت الأرجنتين في طريق مسدود، اندلعت موجة شعبية في تشيلي والأورغواي. إن خروج اليونان من العملة الأوروبية ربما ستنتقل عدواه إلى خارج الاتحاد الأوروبي، ويُعرقل  الدعم الدبلوماسي والمالي إلى أوكرانيا.
     الدرس الثالث، لا يجب الاكتفاء بالاعتبارات الاقتصادية فقط. إن الدول التي تواجه صعوبات مالية تمثل مخاطر سياسية. إن الديون وعمليات الانقاذ المالي تخلق بعض التحالفات، وتشجع النزاعات الإيديولوجية. أدت المشاكل المالية في الأرجنتين إلى تأجيج طموحات هوغو شافيز في تحديه للتوجه الاقتصادي الليبرالي في واشنطن. ولكن فلاديمير بوتين يمثل خطراً أكبر بكثير من هوغو شافيز. وبالتأكيد، استفادت إيران من جميع الفرص المتاحة أمامها لكي تتقدم داخل الشرق الأوسط وخارجه.

     يجب على حكومات منطقة العملة الأوروبية أن تدرك بأن الأوضاع التي لا يمكن معالجتها ينجم عنها بعض النتائج التي تتجاوز الأمور المالية المعقدة والمباشرة. يجب على هذه الحكومات التفكير بشكل شامل، وليس فقط بشكل إقليمي.

الثلاثاء، ٢١ نيسان ٢٠١٥

(رعب في ساحة الدول العظمى)

صحيفة اللوموند 13 نيسان 2015 بقلم سيلفي كوفمان Sylvie Kauffmann

      تجمع الولايات المتحدة حولها بعض الدول التي تجد مصالحها في الاحتماء تحت الجناح الأمريكي. استطاع البعض منها تنظيم نفسه في تجمعات فرعية ويشكلون وزناً مضاداً في بعض الأحيان كما هو الحال بالنسبة للاتحاد الأوروبي. إن المناخ السائد في ساحة هذه الدول العظمى جيد على الأغلب، وتحصل بعض التجاذبات فيها أحياناً، ولكنها لا تستمر لفترة طويلة أبداً. تُرحب هذه الدول العظمى ببعض الدول الأخرى أحياناً، ولكن بشرط أن تتمتع بالمستوى اللائق وأن تحترم القواعد. جاءت دولتان للاعتراض على هذه القواعد، ويسود الرعب في ساحة الدول العظمى.
      هذا ما يجري حالياً تحت أنظارنا. تعمل روسيا والصين، كل بطريقته الخاصة، على تحدي النظام الدولي للانتقال من موقع القوة الصاعدة، أو الصاعدة من جديد بالنسبة لهاتين الدولتين، إلى موقع القوة القائمة. إنهما تقومان بذلك بطريقتين مختلفتين، ولكنهما تعارضان معاً "أحادية القطب". يشعر النادي الغربي بالحيرة، ويجد صعوبة كبيرة في إدارة هذا التحدي المزدوج إلى درجة أن مسؤولاً ألمانياً رفيع المستوى أطلق على روسيا اسم "تحدي الخاسر" وعلى الصين اسم "تحدي الرابح".
      إن التحدي الروسي هو نتيجة خمسة عشرة عاماً من حكم فلاديمير بوتين بشكل أساسي على بلد خسر الحرب الباردة، وخسر الفكرة السياسية القائمة على نضوج "العالم الروسي". يعمل فلاديمير بوتين منذ انتخابه رئيساً للمرة الثالثة عام 2012 على تنفيذ استراتيجية إعادة القوة الروسية إلى فضاء لا يتوافق مع الفضاء الذي أعطاه إياه نظام ما بعد الحرب الباردة وتحرير دول أوروبا الوسطى عام 1989 وتوحيد ألمانيا وانهيار الاتحاد السوفييتي في شهر كانون الأول 1991.
      تعتبر الدول الغربية أن هذا النظام الجديد أصبح بمثابة المقبول من قبل الجميع، وذلك بعد مرور عقدين على انهيار الاتحاد السوفييتي. لكن فلاديمير بوتين صرخ قائلاً: "توقفوا، لم أعد أريد الاستمرار"، وعارض انضمام بلد إضافي هو أوكرانيا إلى المعسكر الغربي. يعتبر بوتين أن أوكرانيا تشكل جزءاً من "العالم الروسي". يُلخص الباحث المتخصص بروسيا في معهد كارنيجي في موسكو ديمتري ترينين Dmitri Trenin الوضع قائلاً: "في عام 2014، قطعت روسيا العلاقة مع نظام ما بعد الحرب الباردة". تُهدد روسيا بقيادة فلاديمير بوتين الدعامة الأوروبية للنظام الدولي، وتلجأ إلى القوة عبر تغيير الحدود وفرض وحدة أوراسية على بعض الدول المجاورة مثل روسيا البيضاء وكازاخستان اللتين توافقان طوعاً على المكاسب الاقتصادية ولكنهما تعرقلان البعد السياسي بقوة.
      تتعامل الصين مع الوضع بشكل مختلف. تتمثل استراتيجيتها أيضاً بتأكيد قوتها، ولكنها تفكر بشكل جيواقتصادي في الوقت الذي تفكر فيه روسيا بشكل جيوسياسي. في البداية، لم يكن يبدو أن الاستراتيجية الصينية تهدد النظام الدولي، بل على العكس، أعطت جميع المؤشرات على أنها تريد الانضمام إليه. ولكن إذا أرادت الصين الانضمام إليه، فلكي تطالب بجميع الاعتبارات والامتيازات التي تتلاءم مع مرتبتها التي ترتفع باستمرار على الصعيد الاقتصادي: إنه منطق لا يمكن تفاديه. كلما ازداد غنى الدولة، لكما ازدادت قوتها، وكلما أرادت الاعتراف بها بهذه الصفة.
     لا يدّعي الرئيس الصيني زي جينبينغ Xi Jinping بوجود "عالم صيني" بل بـ "حلم صيني"، إنها نسخة ناعمة لامبراطورية الوسط التي كانت تمارس نوعاً من الجذب الطبيعي داخل الفضاء الكونفوشوسي وفي آسيا بشكل عام. تكمن المشكلة في أن الصين تهدد الزعامة الاقتصادية الأمريكية بعكس روسيا التي لا يمكن مقارنة وزنها الاقتصادي بالوزن الاقتصادي الأمريكي أو الأوروبي. كما أن شعار "الحلم الصيني" يترافق مع إدارة خفية وبناء قوة عسكرية عظمى وارتفاع حرارة المواجهات في بحر الصين بشكل يُرعب بقية الدول الآسيوية. هناك حذر في ساحة الدول العظمى من وصول هذا القادم الجديد بجيوبه المليئة، إنه يأتي مبتسماً ولكن يُخفي رهانه.
     ماذا تفعل الصين؟ سئمت الصين من الرفض المستمر لإعطائها مفاتيح النادي، وقررت الاعتراض على عمله، بل وحتى افتتاح نادي آخر. لا يقتصر التهديد الصيني على عالم ما بعد الحرب الباردة، بل يشمل أيضاً النظام الاقتصادي الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقيات بروتون وودز عام 1944، والذي تُهيمن عليه الدول الغربية بشكل كبير. باعتبار أنه لا أحد يريد إعطاء الصين مكاناً يتلاءم مع وزنها في المؤسسات المالية الدولية مثل المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي أو المصرف الآسيوي للتنمية، قامت الصين بافتتاح مؤسساتها الخاصة بها، وانفتحت على بقية الدول. هذا هو ما قامت به الصين مؤخراً مع تأسيس المصرف الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية Banque asiatique d'investissement pour les infrastructures، وتريد إكماله بمصرف البريك BRIC (البرازيل، روسيا، الهند، الصين).
     ردّ النادي الغربي بشكل مختلف على هذا التحدي المزدوج الذي يطرحه نظامان يشتركان في أنهما استبداديان. ما زال النادي الغربي موحداً تجاه التحدي الروسي: تلتزم هذه الدول بموقف واحد في اللحظة الحاسمة على الرغم من وجود بعض الاختلافات المعلنة. بالمقابل، تواجه الدول الغربية التحدي الصيني بشكل مشتت. أسرع حلفاء الولايات المتحدة واحداً بعد الآخر إلى الانضمام إلى المصرف الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية الذي أسسته الصين، وذلك بخلاف الرأي الأمريكي وعلى الرغم من التحفظ على إدارة المصرف المستقبلي. انضم الأوروبيون بشكل متفرق إليه، ثم انضمت استراليا ثم اليابان وتايوان، نظراً لأن الجميع مهتم بالامكانيات الاقتصادية للتنمية الآسيوية. بقيت الولايات المتحدة بمفردها تجتر فشلها الكبير. إنها ضربة بارعة بالنسبة للصين، واكتشاف مؤلم بالنسبة للدول الغربية التي لم يعد لديها استراتيجية تجاه "الحلم الصيني" ولا تجاه "العالم الروسي".


الثلاثاء، ١٤ نيسان ٢٠١٥

(صحيفة اللوموند: "لماذا نحن مع السنة؟")


صحيفة اللوموند 3 نيسان 2015 بقلم آلان فراشون Alain Franchon
 
     طرح أحد رؤساء هيئة التحرير في صحيفة اللوموند السؤال التالي: لماذا نحن مع السنة؟ لماذا تقف الدول الغربية إلى جانب معسكر العرب السنة ضد إيران الشيعية في المعركة الإستراتيجية ـ الدينية الكبيرة  التي تعصف بالشرق الأوسط؟ إن هذا السؤال هو محور المفاوضات الجارية حول الملف النووي في لوزان. نطمئن رئيس أحد أقسام هيئة التحرير الذي طرح هذا السؤال أن خيار تحالفاتنا لا يحكمه أي تحيز ديني. إن الدول الغربية حيادية في هذا النزاع المعقد، ولم تعبر الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن موقفها تجاه الخلاف الذي يعيشه الإسلام: أي قضية خلافة النبي محمد. إن خيارهم لا تحكمه فقط حقيقة ان السنة يشكلون تسعين بالمئة من المسلمين ولاسيما العرب منهم. كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية يحبون الجميع قبل الثورة الإيرانية عام 1979 لأن هذه المنطقة غنية بالموارد النفطية.
      أقامت الثورة الإيرانية نظاماً دينياً متسلطاً يمزج بين النزعة القومية والنزعة المعادية للإمبريالية والتبشير بالشيعية. بدأت الثورة الإيرانية ضد الغرب الذي كان يدعم النظام السابق، وتسعى إلى زعزعة استقرار جيرانها العرب الذين خافوا منها. هاجمها عراق صدام حسين فور ولادتها بدعم من الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وجزء كبير من العالم العربي. عززت الثورة الإيرانية نفسها خلال الحرب مع العراق (1980 ـ 1988)، وأصبحت راديكالية، وخطفت بعض الدبلوماسيين الأمريكيين في طهران، واستخدمت بعض الميليشيات لخطف بعض الفرنسيين والأمريكيين في لبنان، وطورت بعض الشبكات الإرهابية التي كانت فرنسا إحدى ضحاياها، وتدعو إلى اختفاء إسرائيل، واستهانت بالحريات العامة داخل إيران.
     استأنفت إيران العمل في البرنامج النووي في منتصف سنوات الثمانينيات بعد تعرضها للهجمات الكيميائية من قبل العراق. أحس النظام بأن موقعه تعزز عام 2003 عندما خلصه جورج بوش الابن من عدوه اللدود صدام حسين. ترتكز طهران على الشيعة في العالم العربي، وحولتهم إلى ميليشيات مسلحة في لبنان والعراق. تهيمن إيران على حليفها القديم في سورية. تستطيع إيران الاعتماد على رغبة الانتقام لدى العرب الشيعة الذي عذبهم السنة لفترة طويلة. يعيش الشرق الأوسط حالياً ساعة الانتقام الشيعي.
     هذه هي الخطوط العريضة لكون إيران "عدونا". لهذه الأسباب وطدت الولايات المتحدة تحالفاتها التقليدية في العالم العربي ولاسيما مع السعودية. لهذا الأسباب أرادت بعض الأنظمة العربية والخليجية مواجهة التوسع الإيراني الذي يستغل أحد أمراض الإسلاموية السنية الراديكالية: أي الجهادية التي تهدد اليوم بالانقلاب عليهم. كيف يمكن الخروج من هذه الفوضى الدامية؟ يعتبر باراك أوباما أن ذلك يتم عبر تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران. لماذا؟ لأنه لا يمكن اختزال إيران بنظامها، ولأنها ليست أحادية البعد كبقية الدكتاتوريات التقليدية. إنها توفر بعض المجال للحريات السياسية، ويوجد فيها تيار إصلاحي يؤيد توثيق العلاقات مع الغرب، وهذا التيار يتوافق مع جزء كبير من الرأي العام الإيراني الذي يؤيد الغرب.
     إن المقارنة بين نظامين دينيين لا يحترما الحريات العامة كثيراً ليست في مصلحة السنة. في إيران، الكنائس مفتوحة، والنساء يعملن، ووصلن إلى المناصب في الحكومة والبرلمان. تؤهل الجامعات الإيرانية نوعية عالية من الخريجين، ولاسيما المهندسين، ولن يسمح أي شيء ولا حتى العقوبات والقصف بالقضاء على المعرفة النووية فيها. في طهران، هناك مهندسين معماريين ومثقفيين وسينمائيين مشهورين عالمياً. إن إيران مجتمع مدني متنوع ومُطلع وفخور بنفسه.
     وجه باراك أوباما رسالة تلفزيونية إلى الإيرانيين بمناسبة السنة الفارسية الجديدة بتاريخ 20 آذار، وقال ما يلي: سيكون التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي فرصة تاريخية لاستئناف العلاقات الوثيقة بين البلدين. إنه يراهن بكل منطقي على اعتدال النظام الإيراني تحت صدمة الانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي. ولكن تحالفاً غريباً يضم السعوديين والمصريين والإسرائيليين والجمهوريين الأمريكيين يعتبرونه ساذجاً. يراهن باراك أوباما على أن الاتفاق حول الملف النووي سيُطلق ديناميكية التهدئة التي ستطمئن الدول العربية، وتخفف من حدة المواجهة بين السنة والشيعة. يكافح باراك أوباما ضد الجهادية السنية، ويريد استئناف العلاقة مع إيران الشيعية. ولكن هذا التحالف الغريب الذي يعارضه يعتقد على العكس أن مثل هذا الاتفاق سيحرر إيران من العقوبات المفروضة عليه، وسيعزز ميوله التوسعية. إن هذا التحالف لا يقترح شيئاً آخراً غير معركة طويلة وغير مضمونة. على الأقل، أوباما له الفضل بأنه لديه سياسة.
 
 
 

الجمعة، ١٣ شباط ٢٠١٥

(موت مسيحيي الشرق يعني الانتحار الأخلاقي للغرب)

يعرف الجميع التعاطف الغربي مع مسيحيي الشرق منذ عدة قرون على الرغم من أن هذا التعاطف لم يقدم خدمة كبيرة للمسيحيين ولم يمنع رحيلهم البطيء من العالم العربي بعد حقبة الاستقلال حتى بداية تهجيرهم من العراق بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وحتى تسارع رحيل بعضهم من سورية منذ عام 2011. ولكن فيما يتعلق بالنظرة الغربية إلى الإسلام، بدأت آثار الانقسام السني ـ الشيعي في العالم العربي ـ الإسلامي تصل إلى الأوساط الثقافية والصحفية الفرنسية إلى درجة يمكن الحديث فيها عن مثقفين يؤيدون الشيعة مثل ريجيس دوبري وجان فرانسوا كولوسيمو وأخرين يؤيدون السنة مثل الطاهر بن جلون، أو عن صحف تؤيد السنة مثل اللوموند (كريستوف عياد) وأخرى تؤيد الشيعة مثل الفيغارو (رونو جيرار). يُلاحظ المؤيدون أن الإسلام الشيعي أكثر انفتاحاً وتقبلا للحوار، أما المؤيدون للإسلام السني فيعتبرون أن أصل مصائب الشرق الأوسط بدأ مع انتصار الثورة الإيرانية وما قاله آية الله الخميني بأن الإسلام إما أن يكون سياسياً أو لا يكون. تتطرق هذه المقابلة إلى دور المسيحيين في العالم العربي والرهان الشيعي ـ السني داخل العالم العربي ومواضيع أخرى.

مجلة الفيغارو ماغازين الأسبوعية 26 كانون الأول 2014 ـ مقابلة مع الكاتب المختص بالمسيحية جان فرانسوا كولوسيمو Jean-François Colosimo ـ أجرى المقابلة باتريس ميريتانس Patrice De Méritens ـ أصدر الكاتب جان فرانسوا كولوسيمو مؤخراً كتاباً بعنوان: (رجال فائضون عن الحاجة ـ لعنة مسيحيي الشرق) عن دار نشر Fayard


سؤال: ما الذي تسبب بتسريع مأساة مسيحيي الشرق؟
جان فرانسوا كولوسيمو: عاش مسيحو الشرق منذ القرن السابع تحت سلطة الإسلام، وخضعوا لوضع "الذمي" الذي يجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية. ولكن المسيحيين استطاعوا البقاء والاستمرار بفضل هذا التمييز العنصري الديني المشروط بضريبة خاصة، ولم يكن هناك أية مصلحة للخلفاء الإسلاميين اللاحقين بإبادتهم أو باعتناقهم للإسلام. إن سمعة التسامح المنسوبة للإمبراطورية العثمانية ناجمة عن هذه البراغماتية. لم تبدأ المأساة إلا مع بداية القرن العشرين وظهور حركة الجنسيات، عندما حاول المسيحيون استعادة سيادتهم الإقليمية والسياسية التي حُرموا منها منذ عدة قرون. ستُشجعهم القوى العظمى الأوروبية على ذلك، ثم ستتخلى عنهم: تخلى الروس عن الأرمن، ونجم عن ذلك إبادة الأرمن عام 1915؛ تخلى الفرنسيون والبريطانيون عن اليونانيين عام 1923، ونجم عن ذلك التطهير العرقي الذي صادقت عليه عصبة الأمم باعتبار أن مليون ونصف يوناني من آسيا الصغرى تم تهجيرهم إلى اليونان مقابل نصف مليون تركي عثماني في تركيا الجديدة لمصطفى كمال. فيما يتعلق بالآشوريين الذين نسيتهم لندن، تعرضوا للمذابح عام 1932 من قبل العائلة الهاشمية الحاكمة في العراق آنذاك.
     سيتشبث المسيحيون على الرغم من ذلك بإرادتهم في ضمان مستقبل أكثر حرية بعد الحرب العالمية الثانية. في المشرق، أصبحوا الناشطين الرئيسيين في الحركة المنادية بالعروبة Panarabe عبر تشجيعهم لإقامة فضاء علماني كبير عابر للقوميات وديموقراطي وعصري واشتراكي، ولم يعد العامل الطائفي موجوداً. وهكذا قام رجل مسيحي هو ميشيل عفلق بتأسيس حزب البعث الذي حكم سورية والعراق لاحقاً. كما ستعرف القضية الفلسطينية أسسها النظرية عبر إدوارد سعيد، وراديكاليتها عبر جورج حبش. في الحقيقة، إن المسيحيين مجبرون على المزاودة الناشطة مع ظهور المواجهة بين الشرق والغرب، ووجدوا أنفسهم في وضع الأقلية من جديد. حصلت القطيعة الحقيقية مع حرب لبنان بين عامي 1975 و1990: انطلق المارونيون في مغامرة التحالف مع الغرب، وتعرضت الحركة المنادية بالعروبة للإدانة بشكل تلقائي من الحركة المنادية بالإسلام Panislamisme بصفتها حصان طروادة للعلمانية. وهكذا بدأت المأساة.
سؤال: كيف تفسرون بروز الحركة المنادية بالإسلام؟
جان فرانسوا كولوسيمو: انتصرت هذه الحركة ليس فقط لأسباب سكانية بل أيضاً لأسباب إيديولوجية. لقد فرضت نفسها عبر التعويض عن انهيار الشيوعية. انتهى أمل المسيحيين في الشرق ابتداء من عام 2003 مع الغزو الأمريكي للعراق. يريد المحافظون الجدد إيجاد "فوضى خلاقة"، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير ليس فقط عبر تصدير الديموقراطية، بل أيضاً عبر عدد كبير من التبشيريين القساوسة الإنجيليين لدرجة أن المسيحيين سيُشار إليهم سريعاً بصفتهم الطابور الخامس للغزاة. لقد كانوا وسطاء بالولادة، وأصبحوا غير مرغوب بهم، ثم أصبحوا موعودين بالرحيل أو القتل. إنهم رجال فائضون عن الحاجة، وفضلا عن ذلك، أصبحوا رهائن وكبش الفداء للحرب الأزلية بين السنة والشيعة في العراق وسورية.
سؤال: ما هي هوامش المناورة أمام الأمريكيين في الوقت القادم؟
جان فرانسوا كولوسيمو: تراجعت مصالحهم النفطية في المنطقة بسبب تزايد استقلالهم الذاتي على صعيد الطاقة، والناجم عن استثمار زيت الأردواز في الأراضي الأمريكية. إذاً، من الممكن تخيل أنهم ينوون الانسحاب تدريجياً على الرغم من تورطهم تحت ضغط الرأي العام. ولكن ذلك سيعني تفتت المنطقة بين كيانات طائفية صغيرة جداً. قامت أوروبا سابقاً بترسيم الحدود الرسمية خلال اتفاقيات سايكس ـ بيكو عام 1916، وبعد مرور قرن من الزمن، نحن أمام الموزاييك العشائري في زمن الصليبيين، وتظهر الإمارات المرتجلة مرة أخرى في ظل الدول ـ القومية. تكمن مشكلة المسيحيين في أنه ليست لديهم أية إمكانية لكي يقوموا بأنفسهم بتشكيل كيانات إقليمية مستقلة ذاتياً. في الوقت الحالي، هناك أمران ضروريان بالنسبة للولايات المتحدة: الأول هو أمن إسرائيل في هذه الفترة الانتقالية على صعيد الطاقة، والثاني هو استقرار السعودية. تمثل السعودية البلد السني الرئيسي في طليعة الإسلاموية الراديكالية، ولكن يجب دعمها ضد إيران الشيعية بشكل خاص. إنه تناقض صعب لم تتمكن واشنطن من الخروج منه. كما هو الحال بالنسبة للكاتب البريطاني المشهور في بداية القرن العشرين جيلبيرت كيث شيسترتون Gilbert Keith Chesterton الذي كان يعتبر بريطانيا أول قوة إسلامية عظمى في بداية القرن العشرين، من الممكن قول الشيء نفسه عن الولايات المتحدة اليوم. لم تتأثر الولايات المتحدة كثيراً بالإسلام على أرضها بسبب سياسة الحصص (الكوتا) المتبعة، ولكنها تجد نفسها اليوم حليفة للقوى السنية الأكثر تخلفاً من أجل السيطرة على طرق الطاقة والتجارة. إذا كانت السياسة الأمريكية مُعتبرة بعدوانية كسياسة غربية في المنطقة، فإنها ليست حامية بالضرورة لكل هذا الجمود وهذه التناقضات في العالم العربي ـ الإسلامي.
سؤال: ماذا كان رهان المسيحيين بين الشيعة والسنة؟
جان فرانسوا كولوسيمو: لننظر إلى القوى الموجودة على الأرض: يحظى التحالف الدولي في العراق بدعم السعودية والإمارات وتركيا، وجميع هذه الدول تُمول أو تسهل عمل الإسلاموية السنية؛ في حين أنه على صعيد العمل الدبلوماسي، كانت فرنسا في طليعة السياسة القائمة على عزل إيران، وهو موقف لا يتحلى بالمسؤولية على المدى الطويل الأجل إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الإسلام الشيعي الفارسي والعربي حقق حلماً كان بعيد المنال بفضل تدخل الولايات المتحدة، وتمكن من بناء هلاله من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي. يُسيطر حزب الله على لبنان، ويحكم العلويون سورية، والشيعة هم أغلبية في العراق والبحرين واليمن وبالتأكيد في إيران. يمثل الإسلام الشيعي أفضل عامل في تطور العالم الإسلامي، وذلك مهما كانت الشكوك حول الغموض الحالي في العلاقة بين الإسلام الشيعي والسياسة الإيرانية. يقبل الإسلام الشيعي إعادة فتح التاريخ بعكس الإسلام السني. هناك انتظار للإمام المختفي. يمكن تفسير القانون بشكل مجازي. تحظى زوجة الرسول بالتبجيل، وتقوم النساء بدور في المجتمع، وهذا أمر ممنوع عليهن كلياً لدى السنة. إنه إسلام الصورة، ويشهد على ذلك المنمنمات الفارسية والسينما الإيرانية، إنه إسلام الثقافة التي تقبل التاريخانية (كون الشيء تاريخياً وواقعاً)، ويمكن أن يكون عاملاً للمصالحة مع الحداثة. على صعيد التحالف، إذا كان مسيحيو لبنان منقسمين بين تيارين، فإن السلطة الدينية المسيحية في سورية اختارت دعم نظام بشار الأسد لكي تتجنب وقوعها، لكي لا نقول قتلها، تحت نظام إسلامي يفرض الشريعة الإسلامية. فيما يتعلق بالماريشال السيسي، إنه يندرج في سياق التقاليد المصرية للإسلام الصوفي  الذي يقبل اللقاء مع الآخر والتاريخ، وهي ضمانات للبقاء على قيد الحياة بالنسبة للأقباط. الخلاصة: تتموضع القوى الحية في العالم المسيحي المشرقي على النقيض من التحالف السياسي ـ العسكري الغربي...
سؤال: كيف تُعرّفون الضمير الغربي في مواجهة المأساة الجارية حالياً؟
جان فرانسوا كولوسيمو: إنه ضمير لا يُدرك الرهانات في أغلب الأحيان، وذلك بسبب الجهل بالمسيحية التي تمثل ديناً شرقياً أولاً: إن مسيحيي آسيا الصغرى ليسوا بعض الإخوة الصغار الضائعين، بل آباؤنا في تدرج الإيمان والحضارة. النقطة الثانية هي إنكار تاريخنا الخاص: وبذلك حذفنا بيريكليس Périclès (رجل دولة في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد) من مقدمة الدستور الأوروبي بحجة أن أثينا كانت مهد النفي والإبعاد. إن إنكار أوروبا بصفتها كحلم طوباوي للمستقبل يدل على وجود انزعاج أكيد من الارتباك بالمسيحيين على الرغم من أنهم مؤسسو سلالتنا. النقطة الثالثة هي ملاحظة أخطاءنا التاريخية الأخيرة: في كل مرة تقوم فيها الحكومات الغربية بتحريض المسيحيين على التحرك، ينقلب ذلك ضدهم مع ما ينجم عن ذلك بخصوص التخلي الممنهج عنهم. أخيراً، هناك تخل فرنسا التي أرادت حماية المسيحيين منذ الملك سان لوي حتى الجمهورية الثالثة (التي انتهت حقبتها الزمنية باحتلال النازيين لفرنسا). لقد تخلينا عن كل شيء منذ اغتيال سفيرنا لوي دولامار Louis Delamarre عام 1981 وقضايا رهائننا في لبنان، وذلك بخلاف روسيا التي بقيت مدركة لمصالحها. علاوة على ذلك، لقد ارتكبنا خطأ مزدوجاً: الأول هو إبعاد إيران بناء على طلب السعودية، وذلك على الرغم من أن الإيرانيين هم الوحيدون القادرون في هذه المنطقة على قتال داعش بفعالية على الأرض بالنظر للتأثير المحدود للقصف. الخطأ الثاني هو إبعاد روسيا بسبب القضية الأوكرانية. ما زال عدد من المسيحيين الأورثوذوكس في الشرق يعتمدون على روسيا بسبب قربهم الطبيعي منها. فيما يتعلق بالكاثوليكيين الذين اعتادوا المجيء إلى باريس، أصبحوا يفضلون ركوب الطائرة إلى موسكو. من الممكن، على الأقل، الأمل بأن تتوقف باريس عن الإرادة بإبعاد موسكو عن المسألة الجديدة في الشرق لكي لا تخون قضية المسيحيين بشكل أعمى.
سؤال: في هذا السياق القائم على التخلي، ما الذي يمكن انتظاره من فرنسا حتى الآن؟
جان فرانسوا كولوسيمو: ما زالت فرنسا تتميز بتعبئة المسيحيين الكاثوليك بشكل خاص، ولكن من المؤسف أن حكومتها لا تنوي القيام بأعمال أخرى غير الأعمال الخيرية. إن منح تأشيرات الدخول إلى مسيحيي العراق الآشوريين والكلدانيين لكي يكتشفوا أنه من الممكن البقاء مادياً في فرنسا دون ضمان بقاءهم الروحي فيها، لا يُشكل سياسة. كانت عبقرية فرنسا تتمثل في معرفتها الوثيقة بالعالم العربي ـ الإسلامي مع مقاربة تاريخية وسياسية وثقافية للشأن الديني، ثم اختفت فرنسا حامية مسيحيي الشرق. فرنسا هي المعقل الأخير للمحافظين الجدد في العالم، وانطوت على نفسها، والتزمت سياستها بالسياسة الأمريكية بشكل يتصف بقصر مذهل للنظر. يشبه الوضع مع فرانسوا هولاند كما لو أن شبح غي موليه Guy Mollet (رئيس مجلس الوزراء الفرنسي من شباط 1956 حتى حزيران 1957) حل مكان شارل ديغول في قصر الإليزيه.
سؤال: هل تطرح علمانيتنا بعض الممنوعات على الصعيد السياسي؟
جان فرانسوا كولوسيمو: إن العمل الإنساني مُشتق من العمق المسيحي، ولكن مع توجه إيديولوجي يميل إلى اعتبار أن الاهتمام بالمسيحيين سيكون تصرفاً مبالغاً بالطائفية، كما لو أنهم ضحايا أقل من الآخرين... ينظر إليهم الاتحاد الأوروبي الذي يرفض بعناد منذ عدة سنوات الحديث عن مسيحيي الشرق، ولا يتحدث إلا عن مصير الأقليات بشكل عام. مرة أخرى، كما لو أن الموقف الديني يُلوث الكلام، وكما لو أنه يجب أن يتوافق الموقف الإنساني مع موقف عمومي مجرد. يدفع مسيحيو الشرق هنا ثمن موقفهم كوسيط بين الشرق والغرب، وهي كارثة أخلاقية بالمحصلة: تعتبرهم الإسلاموية كمتعاونين مع العدو، في حين أننا لسنا بعيدين عن النظر إليهم كجزء تكميلي. عندما تُقرع طبول الحروب، من المعروف ماذا سيحصل بهم: يتم التخلي عنهم. إذاً، من الصواب أن يلتقي قداسة البابا فرانسيس مع البطريرك بارتولومي، ويعلنان أثناء لقائهما في استانبول الكلمات التالية: "لا يمكننا القبول بنهاية المسيحية في المكان الذي ولدت فيه". بالنتيجة، لا بد من تدخل دولي عسكري حقيقي ضمن نطاق قانون الحرب العادلة. إن قيام هذين الرجلين من دعاة السلام بالحديث عن هذا الوضع العاجل هو أمر ذو دلالة: يجب على الحكومات الاعتراف بوجود مسيحيي الشرق، وأنهم ليسوا عاملاً متغيراً حسب الظروف.
سؤال: لماذا ستُدخلنا مجزرة مسيحيي الشرق في شكل من أشكال ما بعد التاريخ؟
جان فرانسوا كولوسيمو: إذا استسلم الغرب أمام هذا الأمر، فسوف يكون ذلك منعطفاً في تاريخ الإنسانية ليس فقط لأنهم صلة أساسية مع الحضارات السابقة للكتابة في بلاد ما بين النهرين أو مصر (إنهم يحملون الثقافة في شعائرهم الدينية)، وليس فقط لأنهم الحلقة التي لا غنى عنها بين أوروبا وآسيا، بل أيضاً لأن حياتهم بأكملها متعلقة بالتدين، أي الشعائر الدينية والصلاة والتصوف والنظام الهرمي العمودي. لقد تعرضوا للاضطهاد والنبذ والترحيل والقتل، ولكنهم ما زالوا على قيد الحياة بفضل هذا البعد الرمزي. إن القبول بإبادتهم يعني القبول بأن الإنسانية الشاملة للعولمة أصبحت محرومة من جذورها. إن الموافقة على اختفائهم سيؤدي في الحقيقة إلى الإعلان عن أننا نتجه نحو عالم من الإلحاد.