الصفحات

الاثنين، ١٨ أيار ٢٠١٥

(السلام البارد بين الغرب وروسيا؟)

صحيفة اللوموند 30 أيلول 2014 ـ حوار بين مدير التطوير الاستراتيجي في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية توما غومار Thomas Gomart والباحثة السياسية في المركز الوطني للدراسات العلمية CNRS ماري ميندراس Marie Mendras ـ أجرى الحوار غايدز ميناسيان Gaïdz Minassian

سؤال: هل تتحمل الدول الغربية جزءاً من مسؤولية الأزمة في أوكرانيا؟
توما غومار: بدون أي شك، كما تتحمل موسكو المسؤولية أيضاً. أولاً، تشعر الدول الغربية بالثقة بعد انتصارها على الاتحاد السوفييتي، وأنكرت وجود الفضاء ما بعد السوفييتي لصالح التقسيم الإقليمي. ولكن سقوط الإمبراطوريات يحتاج إلى عدة عقود. ثانياً، اتصفت سياسة الدول الأوروبية بالتناقض تجاه جيرانهم في الشرق: لقد شجعوا عملية الاندماج الإقليمي في العالم باستثناء الفضاء ما بعد السوفييتي. بالتأكيد، ازدادت حدة هذه النزعة مع انضمام بعض الدول التي تريد التخلص من النفوذ الروسي إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. ثالثاً، لم تنتبه الدول الغربية بما فيه الكفاية إلى النظرة الروسية للعالم، ولاسيما علاقتها مع الشرق الأوسط والراديكالية السنية.
     بدأ الخلاف الأساسي في كوسوفو ثم العراق. إن ضم شبه جزيرة القرم والعمليات في شرق أوكرانيا تمثل النتائج المتأخرة للقصف الذي قام به الحلف الأطلسي ضد صربيا وإنشاء كوسوفو. عارضت باريس وبرلين وموسكو التدخل البريطاني ـ الأمريكي في العراق عام 2003. وبعد مضي عشرة سنوات، تدعم موسكو سورية بشار الأسد معتبرة أنها تواصل تحليلها الثابت حول الإسلام الراديكالي بخلاف واشنطن ولندن وباريس. تعتبر موسكو أن الدول الغربية تلعب بالنار وأنها تهدد الاستقرار. دفع ذلك بروسيا إلى ربط المسرح السوري بالأوكراني في تحليل الدور المشؤوم للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. تعتبر موسكو أن هذين المسرحين يدلان على تهديدين منفصلين هما: النزعة العسكرية الغربية والراديكالية السنية، ويجب الوقاية منهما في وقت واحد عن طريق إقامة منطقة عازلة على حدودها الغربية في أوكرانيا التي تحتل موقعاً مركزياً في الثقافة الاستراتيجية الروسية، وعبر إقامة خط دفاعي على الجبهة الجنوبية التي تمتد من اليونان إلى إيران مروراً بقبرص وسورية وإسرائيل.
ماري ميندراس: لماذا يتم التعامل حرفياً مع خطاب الكريملين الذي يخلط بين الأزمات؟ يجب مواجهة هذا السرد  الذي يقدمه فلاديمير بوتين، ويتهمنا فيه بـ "تدبير" الثورات العربية عام 2011 وبزعزعة استقرار ليبيا ومصر، وذلك في الوقت الذي يقوم فيه بتسليح ودعم نظام بشار الأسد في دمشق المسؤول عن قتل المدنيين بشكل أدى إلى الراديكالية الإسلامية. لا يجب السماح لبوتين أن يقول بأنه يعمل من أجل السلام! هناك انخراط روسي قوي ميدانياً في سورية وأوكرانيا، ويرسل أسلحة متطورة وضباط وفنيين روس. بالنسبة لنا نحن الأوروبيين، إذا كانت هناك صلة مشتركة بين موقف روسيا في سورية وتدخلها في أوكرانيا، فهي قدرة نظام فلاديمير بوتين على استخدام العنف المسلح بدون رقابة ديموقراطية وبدون نقاش برلماني.
سؤال: اجتمع الحلف الأطلسي يومي 5 و6 أيلول 2014 في مدينة نيوبورت البريطانية، هل ذهب الحلف الأطلسي بعيداً، أم أنه لم يفعل ما فيه الكفاية تجاه روسيا؟
ماري ميندراس: لم يكن الحلف الأطلسي واضحاً بما فيه الكفاية، على الرغم من أنه كان له الفضل في إدانة الاعتداء الروسي دون مواربة منذ شهر حزيران 2014. عندم أسقط صاروخ روسي أرض ـ جو بالخطأ طائرة ركاب ماليزية في أوكرانيا الشرقية بتاريخ 17 تموز، أظهر الحلف الأطلسي الأخطار القصوى للتدخل الروسي. آمل بأننا سنرى قريباً إعادة تقويم جدية لسياسات الحلف الأطلسي تجاه "الدول الواقعة بين حدين"، أي الدول الواقعة بيننا وبين روسيا مثل أوكرانيا ومولدافيا وجورجيا الذين وقعوا مؤخراً اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. يجب على الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي تنسيق أعماله، نظراً لأن أوروبا لا تتمتع بسياسة عسكرية مشتركة. بالطبع، تعتمد الكثير من الأمور على الموقف الأمريكي.
توما غومار: تعتبر موسكو أن الحلف الأطلسي ما زال يمثل الخطر الرئيسي على حدودها الغربية. يجب على الحلف الأطلسي طمأنة الدول التي تشعر بأنها مهددة من روسيا والمحمية بموجب المادة الخامسة من ميثاق الحلف. أخذ الحلف الأطلسي علماً بعودة التوتر مع روسيا في قمة نيوبورت، ولكن دون أن يوهم كييف باحتمال تقديم الدعم العسكري لها. إن هذا النزاع سيُعيد توجهات الحلف الأطلسي نحو القيام بمهمته الأساسية المتمثلة بالدفاع عن الأراضي، وذلك بعد مرور عقدين من التدخلات خارج مناطقه، هذه التدخلات التي تصفها موسكو بالمتهورة. يبقى السؤال المتعلق بالدول الواقعة بين روسيا والغرب.
سؤال: ماذا يريد فلاديمير بوتين؟
ماري ميندراس: لا يرغب فلاديمير بوتين بعد مرور ستة أعوام على الحرب في جورجيا أن تصبح الدول الواقعة بين روسيا والغرب دولاً ذات سيادة ومزدهرة. إنه يبذل كل ما بوسعه لمنع هذه الدول من الانضمام إلى منظمة متعددة الأطراف إذا لم تكن روسيا عضواً فيها، ولاسيما الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. إنه يريد أن يكون زعيم القوى العظمى الثانية في مواجهة القوى العظمى الأمريكية، ولكنه أمر مستحيل. لا أعرف كيف يمكن لروسيا أن تتحول إلى قوة عظمى مثل الاتحاد السوفييتي في موازين القوى مع الولايات المتحدة، وذلك حتى لو استعادت روسيا السيطرة على بعض الأجزاء الصغيرة في أوكرانيا وجورجيا. هناك خيبة أمل عميقة وعقلية الانتقام التي تتأجج في روسيا منذ قيام الحلف الأطلسي بقصف صربيا عام 1999 و"الثورة البرتقالية" في أوكرانيا عام 2004. تعمل السياسة الروسية على منع الدول الغربية من جذب دول الاتحاد السوفييتي سابقاً إليها، لأن امتداد أوروبا إلى دولة مثل أوكرانيا يعني نشر الديموقراطية ودولة القانون. أنا مقتنعة بأن فلاديمير بوتين يعتبر بأن الخطر الأكبر هو نهوض بعض المجتمعات بالقرب من حدوده ورفضها إملاءات الأنظمة الاستبدادية والفاسدة. يخشى النظام الروسي أن يخسر هذه "الدولة العازلة" التي يعتقد بأنه يحميها من النفوذ الخارجي والعولمة.
توما غومار: تعتبر روسيا مثل بقية الأنظمة الاستبدادية أن العالم يشهد انحساراً لموجة الديموقراطية الشاملة بعد ثلاثة أعوام من "الربيع العربي". كما يعتبرون أن الأنظمة الأوروبية ربما تشهد أيضاً "لحظتها الاستبدادية". هذه هي قراءة المجموعة الحاكمة التي لا تهتم بالتحرر الفردي. في هذا السياق، يُعزز فلاديمير بوتين سلطته الشخصية. من أجل القيام بذلك، إنه يستخدم النزاع الأوكراني لتعزيز شعبيته، ويحشد المجتمع حول الأفكار القومية الراهنة في الوقت الذي يعاني فيه النموذج الاقتصادي الروسي من الركود. إنه يريد أن يجعل من المستحيل حصول أي تقارب بين الحلف الأطلسي وأوكرانيا، وأن يجعل روسيا قوة عسكرية تقليدية عظمى وتهيمن على منطقة نفوذها، وأن يبقى في الوقت نفسه قوة عظمى عالمية بفضل السلاح النووي، وأن يمتحن مدى الانسجام الغربي.
سؤال: هل نحن على مشارف حرب باردة جديدة بين الدول الغربية وروسيا؟
توما غومار: تبرز مواجهة إيديولوجية في قراءة العالم والقضايا الدولية. توصلت روسيا إلى انتاج مصل مضاد لمقاومة العقيدة الجيوسياسية الغربية. إن فلاديمير بوتين مُشبع بالتاريخ الروسي، واختار تجسيد نزع الصفة الغربية Désoccidentalisation عن العالم. يبدو أن النخبة الروسية مقتنعة بالطابع الحتمي للانحطاط الغربي، وتنظر بتعالي تجاه "الطابع الريفي" Provincialisme الغربي. من المفترض منطقياً أن يدفع ذلك بالكريملين إلى المراهنة على العلاقة الأطلسية عبر مقاربتين مُحتملتين. تعتقد المقاربة الأولى أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تتجهان معاً نحو انحطاط حتمي، وتريد المقاربة الثانية استباق عودة القوة العظمى الأمريكية على المدى الطويل. في الواقع، من المفترض أن يكون نمو الاقتصاد الأمريكي واعتماده الذاتي على الطاقة وفوائد الانسحاب الأمريكي من العالم تدشيناً لمرحلة جديدة بالنسبة لواشنطن خلال الفترة الممتدة بين عامي 2016 ـ 2018، وهي فترة حاسمة بالنسبة لفلاديمير بوتين. من الممكن أن يكون عام 2013 هو ذروة عودة القوة الروسية التي بدأت عام 1999.
ماري ميندراس: إذا كان المحللون الإستراتيجيون الروس يعتقدون بذلك، فإنهم مخطئون بشكل كامل تقريباً. ويجب أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار. لديهم نظرتهم الخاصة للوقائع والتوجهات المستقبلية. نحن في مواجهة بعض الأشخاص في روسيا ـ إنهم قليلون جداً حول الرئيس ـ الذين لا يريدوا تغيير نظرتهم للأمور، وهم مقتنعون بنوايانا السيئة تجاههم عندما نفكر بمنطق مختلف عنهم. عندما ننظر إلى الاقتصاد الروسي خلال عشرة أو عشرين عاماً، فإن روسيا تراجعت على الخارطة العالمية. إذا كان هناك بلد مهدد بأن يصبح ريفياً Provincial، فإنه روسيا وليس أوروبا  التي تبقى المنطقة الأغنى في العالم. أخيراً، أين الصين من كل ذلك؟ إذا كان هناك بلد يجب على روسيا أن تقارن نفسها به، فإنه الصين!
سؤال: هل يجب الاكتفاء بحوار بين الدول العظمى، أم يجب إفهام روسيا بأن عصر مناطق النفوذ قد انتهى؟
توما غومار: نحن نتجه نحو عالم من العلاقات الهجينة. في أوروبا، تريد روسيا العودة إلى الانسجام الأوروبي بين كبرى العواصم الأوروبية بدلاً من الاتحاد الأوروبي. خارج أوروبا، تريد روسيا الظهور كقوة عظمى تقليدية وصاعدة. ولكن هناك مشكلة على صعيد المستوى الروسي: لا تمثل روسيا إلا خُمس الاقتصاد الصيني ونصف الاقتصاد الفرنسي ـ الألماني. في الوقت نفسه، استأنفت روسيا انفاقها العسكري على غرار الدول الآسيوية. يعني ذلك أنه يجب على الأوروبيين متابعة هذه التغيرات عن كثب، والتخلي عن فكرة انتقال روسيا إلى المعايير الأوروبية الطبيعية، والاستمرار في الوقت نفسه بجهودهم في الإصلاحات الاقتصادية.
ماري ميندراس: إن صورة الحرب الباردة مفيدة ومضللة. أولاً، إنها مفيدة لأنه ما زالت هناك في موسكو نظرة متخلفة ومعادية للولايات المتحدة حول الفترة الماضية. في المحصلة، شاهدت روسيا خلال السنوات العشرين الماضية كيف تطورت أوروبا بشكل مختلف عما كانت تتصوره موسكو. إن اندماج بلد مثل بولونيا في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي يمثل هزيمة بالنسبة لفلاديمير بوتين. ثانياً، إنها صورة مضللة لأنه لم تعد هناك مواجهة بين قطبين. أصبحت روسيا وحيدة استراتيجياً، ولم تعد تتزعم قطباً مثل حلف فارصوفيا، وحتى الحكام المستبدين في روسيا البيضاء وكازاخستان يشعرون بالقلق من الطموحات الروسية! تختبئ الصين وراء روسيا عندما يتعلق الأمر بمواجهة الدول الغربية في الأمم المتحدة، وتستخدم بذكاء المواقف الروسية العدائية. إنها الوسيلة التي تسمح للصين بتأجيل المواجهة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. يضع الروس أنفسهم في موقف "الشريك الصغير"، ولا يتطرقوا بصراحة إلى الطموحات الصينية. لم تستعد أوروبا للنزاعات المحلية والساخنة، وتواجه تحدياً عاجلاً هو: هل سنستطيع مستقبلاً ضمان أمن القارة الأوروبية مع السماح بوجود نزاعات محدودة التوتر في الدول المحيطة بالاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي؟.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق