الصفحات

الجمعة، ١٠ تموز ٢٠١٥

(هنري لورانس: جذور المأساة الحالية في العالم العربي)

مجلة اللوبوان الأسبوعية 28 أيار 2015 ـ مقابلة مع هنري لورانس Henry Laurens، الباحث المتخصص في الشرق الأوسط ورئيس قسم التاريخ المعاصر للعالم العربي في الكوليج دوفرانس. أجرى المقابلة فرانسوا غيوم لوران François-Guillaume Lorrain ورومان غوبير Romain Gubert

سؤال: من أي جاء العرب؟
هنري لورانس: بالمعنى الحرفي للكلمة، العرب هم الذين يتحدر نسبهم من شبه الجزيرة العربية. إنه نظام سلالة النسب الذي نجده في التوراة. إن جدهم الأول المشترك هو إسماعيل ابن ابراهيم. دخل العرب في الإسلام مع النبي محمد، وبدأوا بغزو الهلال الخصيب بأكمله من فلسطين حتى العراق. أدت هذه الفتوحات منذ القرن السابع حتى القرن الحادي عشر إلى ظهور ظاهرة التعريب، حتى لو كان هناك بعض العرب في الهلال الخصيب قبل الفتوحات. كانوا تجاراً وبدو، وهذه الكلمة الأخيرة كانت تشير إلى العرب خلال فترة طويلة. كانت الهوية العربية تتعارض مع هوية الشعب الفارسي خلال القرون الأولى من الفتوحات، ولكن هذه الهوية العربية ذابت في نهاية الفتوحات، وأصبحت تتحدد بالدين والمهنة ومكان الإقامة وليس بالهوية العربية.
سؤال: هل أدرك الأوروبيون خلال الحروب الصليبية أنهم يقاتلون ضد العرب؟
هنري لورانس: لا. كانوا يحددون أعداءهم عبر كلمة (ساراسين) Saracène التي كان الروم يستخدمونها لوصف البدو في الصحراء. ثم تحولت كلمة (ساراسين) إلى سارازان Sarasin.
سؤال: ماذا عن اللغة العربية؟
هنري لورانس: إنها لغة القرآن. شهدت هذه اللغة تطور مذهلاً مع انتشار هذا الدين، ووصلت إلى المغرب وتخوم الهند. الأمر الذي يسمح اليوم للمسلم الأندونيسي أن يفهم المسلم المغربي. كانت هناك أيضاً لغة التجار والبحارة السائدة حول البحر المتوسط Lingua franca، وهي لغة شفهية فقط، ولم يبق منها إلا القليل من الشهادات باستثناء ما نقله موليير عن تركيا في كتابه (البورجوازي النبيل) Bourgeois gentilhomme.
سؤال: كيف تنتشر الثقافة العربية في أوروبا؟
هنري لورانس: قام المسيحيون العرب بدور أساسي. أدت محاولة روما للسيطرة على المسيحية الشرقية إلى بروز المارونيين، أي هؤلاء المسيحيين اللبنانيين الذين ذهبوا إلى كل مكان، وأصبحوا ناقلي الثقافة العربية. كان المارونيون أول أساتذة اللغة العربية في الكوليج دوفرانس عام 1650. إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من المبادلات التجارية، لا يجب إهمال دور المسيحية الكاثوليكية. إن أوروبا الكاثوليكية هي أوروبا الجنوب، وكانت على اتصال دائم مع العرب.
سؤال: تحدثتم عن القرن السابع عشر. ما هي النظرة التي كان يحملها الأوروبيون آنذاك عن العرب بعد أربعة قرون من نهاية الحروب الصليبية؟
هنري لورانس: إنها نظرة تاريخية. شهد القرن السابع عشر والثامن عشر ولادة التاريخ العالمي الذي يرتكز على نزعة المقارنة بين الحضارات. يرتكز التصور العام أيضاً على الغزوات. شكلت الغزوات الجرمانية في أوروبا خلال القرنين الرابع والخامس بداية الحداثة، ولكنها أدت أيضاً إلى تدمير المعارف القديمة القادمة من روما واليونان ومصر. بالمقابل، استعادت غزوات العرب في الجنوب هذه المعارف القديمة، وحملت معها الثقافة. لكن العرب اختنقوا تدريجياً بسبب المماليك في مصر أولاً، ثم العثمانيين الذين هيمنوا على حوض المتوسط والبلقان ابتداء من القرن الخامس عشر. يمكن تلخيص ذلك بأن العرب يُعتبرون كشعب كبير قبل بروز أوروبا، ولكنهم خرجوا من التاريخ. على العكس من ذلك، كان يُنظر إلى العثمانيين وامبراطوريتهم المستبدة كآلة فعالة جداً سحقت العرب وتهدد أوروبا آنذاك.
سؤال: ما هو الحدث الذي أدى إلى ولادة الوعي العربي؟
هنري لورانس: دعا نابليون بونابرت إلى هذا الوعي أثناء حملته إلى مصر من أجل إثارة التمرد ضد الإمبراطورية العثمانية، ولكن دون جدوى. لم يكن هناك أي شخص يعتبر نفسه عربياً في بداية القرن التاسع عشر، وكان لا بد من انتظار التفكك البطيء للامبراطورية العثمانية ابتداء من عام 1820. هناك عدة أسباب لهذا التفكك هي: الضربات العنيفة التي وجهتها أوروبا، والتوسع الروسي باتجاه الجنوب، ودخول بريطانيا في الرهان، ودول البلقان التي تستعيد حريتها. كان يجب على الإمبراطورية العثمانية أن تتبنى هياكل الدولة المعاصرة على النمط الغربي من أجل البقاء على قيد الحياة. اختفت البنية الاجتماعية القديمة القائمة على السلطة الهرمية التي يجد فيها كل شخص مكانه سواء كان جيداً أم سيئاً، وحل مكانها مجتمع أكثر مساواة ويبحث فيه كل شخص عن مكانه. إذاً، تمت إعادة تحديد الهويات الذاتية. تسارعت هذه التغيرات عبر انتشار الأفكار والاستدراك المذهل للتأخر.
سؤال: ماذا حصل؟
هنري لورانس: تم استدراك أكثر من ثلاثة قرون خلال عدة عقود في بداية القرن التاسع عشر. أخفق العالم العربي والإسلامي في اللحاق بثورة الطباعة. أصبحت بعض المناطق مثل تونس ومصر شبه مستقلة ذاتياً. اندلعت الثورة في مصر عام 1880، وكان شعارها "مصر للمصريين". كانت هذه الحركات الوطنية مبنية على العداء ضد الأجانب والعثمانيين. استدركت هذه المنطقة أربعة آلاف عام بين عامي 1820 و1880. تم فك رموز اللغة الهيروغليفية عام 1820، ثم رموز اللغة المسمارية الآشورية عام 1840 ثم اللغة السومرية عام 1880. ساهم هذا التقدم أيضاً في إعادة تحديد الهويات في سورية التي اكتشفت بعلبك وتدمير والماضي المجيد بأكمله. يُضاف إلى ذلك الدور الكبير للمستشرقين الأوروبيين الذين ركزوا على هذا الماضي. إذا كان الماضي مجيداً، فإن المستقبل يمكن أن يكون كذلك أيضاً. وهكذا بدأت أجيال المثقفين القوميين العرب الفرانكوفونيين بقراءة "الحضارة العربية" للباحث العبقري غوستاف لوبون Gustanve Le Bon. إن النهضة الأدبية المرتبطة بتبسيط اللغة العربية سبقت النهضة السياسية.
سؤال: ماذا عن الإسلام في ذلك الوقت؟
هنري لورانس: كان في ذروة الأزمة. لأن العرب المسلمين كانوا يتساءلون كيف يمكن أن يكونوا خاضعين للآخرين على الرغم من امتلاكهم لأفضل دين في العالم؟ اكتشفوا الفكر الغربي والفكر البروتستانتي التي كان يبدو أنه قمة الحداثة في نهاية القرن التاسع عشر. تم تبني النموذج البروتستانتي الذي لم ننته من دفع ثمنه حتى اليوم. عاد البروتستانت إلى زمن المسيحيين الأوائل لاستعادة النصوص الحرفية. بهذه الطريقة، بدأت أولى الحركات السلفية.
سؤال: تحقق هذا الوعي في ذلك الوقت، ولكن متى أخذ شكله السياسي على نطاق واسع؟
هنري لورانس: تسارع هذا الوعي مع وصول "الشباب الأتراك" إلى قمة السلطة في الإمبراطورية العثمانية عام 1908. ذهبت المساومات باتجاه إعطاء المزيد من الحكم الذاتي العربي، وبدأ التفكير بامبراطورية تركية ـ عربية على النموذج النمساوي ـ الهنغاري. حاول الجميع تحريض السكان خلال الحرب العالمية الأولى. حاول الألمان تحريض الجزائريين والمغاربة، وحاولت فرنسا وبريطانيا تحريض العرب ضد العثمانيين المتحالفين مع ألمانيا. ظهر في تلك الحقبة لورانس العربي الذي أيقظ المملكة العربية. وفجأة بدأ القبول بحق الشعوب في تقرير مصيرها لدى غير المسيحيين. عندما تمرد الشريف حسين في مكة عام 1916، كان خطابه إسلامياً بالدرجة الأولى. ولكن الفرنسيين والبريطانيين شرحوا له أنه يجب إعطاء صبغة قومية وعربية لقناعاته. أصبح التمرد عربياً عندما وصل إلى دمشق عام 1918. توجه الأمير فيصل بحديثه إلى العرب سواء كانوا يؤمنون بالمسيح أو بمحمد. كان يجب الظهور كعربي من أجل دخول دمشق. عندما وصل فيصل إلى دمشق مع مستشاريه البريطانيين، توجه بالحديث إلى الأمة العربية السورية. تشكل العرب الفلسطينيون عام 1920. ولدت العروبة العراقية عندما وصل فيصل إلى السلطة في العراق عام 1921. وهكذا تشكل ما أسميه بصيغة (العربي +): تأخذون الهوية الإقليمية وتُضيفون عليها الهوية العربية. تبنت جميع الدول التي ستولد هذه الصيغة. يتشكل العالم العربي من الشعوب: المصرية والعراقية والسورية... وهذه الشعوب تشكل الأمة العربية.
سؤال: ماذا عن مصر؟
هنري لورانس: تحرر جهاز الدولة منذ عام 1850، ودعم الهوية المصرية. إنها النزعة الفرعونية. استقلت مصر عام 1922، ولكنها أدركت أنه يجب عليها التمتع بهوية عربية من أجل ممارسة النفوذ على جيرانها. قال المثقفون المصريون عام 1930 أن مصر دولة ذات ثقافة عربية، ولكنهم صححوا مقولتهم بعد عشرة سنوات وقالوا أنها دولة عربية. دخل المثقفون المصريون في العروبة في الوقت الذي كانت تتطور فيه حركات الإخوان المسلمين الذين كانت نظرتهم عربية في البداية. عندما دخلت مصر في العروبة، لحقتها أفريقيا الشمالية في نهاية سنوات الثلاثينيات. كان الفرنسيون يأملون بأن تنحصر القومية العربية داخل الشرق الأوسط، ولكن النخبة المثقفة المغاربية تبنتها أيضاً. أخذت الحركات الوطنية مع علماء الدين الجزائريين صبغة عربية.
سؤال: متى وصلت القومية العربية إلى ذروتها؟
هنري لورانس: ساد شعار "من المحيط إلى الخليج" خلال سنوات الخميسينيات. تأسست الجامعة العربية عام 1945، وقامت بدور هام جداً في استقلال المغرب. كانت القضيتان الجزائرية والفلسطينية أكبر قضيتين عربيتين حتى عام 1962، وأصبحت الثانية هي القضية الوحيدة بعد ذلك. لكن بعض الدول تأسست حوالي عام 1920 تحت رعاية الفرنسيين والبريطانيين، ونجم عن ذلك مشكلة أساسية أخرى. بنت هذه الدول نفسها مع الإيديولوجيات العربية التي تنفي مشروعية الدولة. إذا أرادت هذه الدول أن تكون أكثر قوة، فيجب عليها إلغاء الحدود الموروثة من الاستعمار. يتفق الجميع على المبدأ، ولا أحد يُطبقه. لا ترغب الدول النفطية بتقاسم النفط مع الدول الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، هناك الأنظمة المتسلطة. أثار جمال عبد الناصر الجماهير، ولكنه لم يشجع المصريين على أن يصبحوا مواطنين، ولم يشجع المجتمعات المدنية على التعبير عن نفسها. هناك خمسون مشروع اندماجي بالإضافة إلى التوقيع على خمسين اتفاق، ولم ينجح أي منها باستثناء الاتحاد لمدة ثلاث سنوات بين مصر وسورية (1958 ـ 1963)، لكن سورية أرادت التحرر بسرعة من الهيمنة المصرية. هيمن الخطاب القومي العربي حتى عام 1970، ولكنه لم يتمكن تحقيق نفسه بسبب الاختلافات في مستوى الغنى وغياب الديموقراطية. استقر العالم العربي بعد عام 1970، ولم تعد هناك ثورات. أصبحت الدول متسلطة، وظهر التعارض بين القومية العربية والإسلاموية. إن جمال عبد الناصر هو الذي خلق الانشقاق بين العروبيين والإسلاميين.
سؤال: لماذا حصل هذا التغير الاستبدادي؟
هنري لورانس: أدى التأخر عن الحداثة الغربية إلى الاستعاضة عنها بالنزعة الاستبدادية واللجوء إلى القوة. هذا هو الحال بالنسبة لإيران الشاه وتركيا الكمالية ومصر عبد الناصر وسورية والعراق البعثيتان. حذت بعض هذه الدول نموذج الثورات الشعبية في أوروبا الشرقية. هناك سبب آخر يكمن في أن التدخل الخارجي هيمن على التاريخ. إذا كنت طرفاً محلياً، فسأعتمد على القوى الخارجية التي ستقسم البلد. إن النظام الدكتاتوري هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الاستقلال الوطني. هذا ما قاله عبد الناصر إلى نهرو: إذا كان لديك أحزاب برلمانية، فإنهم جميعاً عملاء للخارج، وتمولهم عدة دول. السبب الأخير، هو الريع النفطي. إذا قامت الدولة بإعادة توزيع هذا الريع، فإنها تشتري المجتمع والهدوء السياسي.
سؤال: هل لعب العامل الديني دوراً أيضاً؟
هنري لورانس: احترم الزعماء القوميون العرب الدين الإسلامي دوماً. كانوا يدركون أنهم غير قادرين على مكافحة المعتقدات الشعبية حتى لو أرادوا محو أمية الجماهير. يجب معرفة حجم الصدمة التي فرضها هؤلاء الزعماء القوميون على شعوبهم القروية وغير المتعلمة بأغلبيتها: إنه سير حثيث وصدمة ثقافية مذهلة. إنها قفزة تبلغ ثلاثة قرون في الزمن.
سؤال: ماذا تعنون بذلك؟
هنري لورانس: يطلب من هذه الشعوب منذ سنوات الستينيات أن تطيع الدولة، لكن هذه الشعوب تعتبر أن العشائر والشبكات العائلية فيها هي الصلة الاجتماعية الوحيدة التي يجب إطاعتها. ينطبق الأمر نفسه على الشعوب العربية التي هاجرت إلى أوروبا في الحقبة نفسها. هناك حديث عن "الاندماج". ولكن الأوروبيين احتاجوا إلى ثلاثة قرون للخروج من الجهل، ونحن نطلب من هؤلاء الناس الذين يعيشون منذ مئات السنين مع قيم ريفية أن يتأقلموا فوراً مع قيمنا.
سؤال: كيف تفسرون نجاح الإخوان المسلمين والسلفية؟
هنري لورانس: إن رجال الدين السنة غير مؤهلين أو مؤهلين بشكل سيء، وذلك بعكس رجال الدين الشيعة المؤهلين بعناية قبل ممارستهم لمسؤولياتهم. هل الأنظمة استبدادية؟ إن الدين هو المجال الوحيد التي تمتع بالحرية، نظراً لحذر الدولة تجاهه. أدى تحرر رجال الدين إلى تصور برنامج إسلامي يريد القطيعة مع السياسة. يعتبر السلفيون أن القانون الديني كامل. يرتكز هذا القانون على الطوباوية المثالية  للسنوات الأولى من الإسلام، وعلى إلغاء السياسة وإزاحتها وفرض نموذج أصلي مكانها.
سؤال: وماذا عن نجاح الجهاد؟
هنري لورانس: هناك مشكلة اجتماعية أكثر من كونها مشكلة دينية لدى الذين يتبنون الجهاد. إن دور المرأة والمشاكل الاجتماعية في الدول العربية تمنع زواج الشباب. هناك كبت جنسي هائل لأن الجنس خارج الزواج ممنوع، ولاسيما أن هؤلاء الشباب يطلعون بسهولة على الثقافة والصور الغربية. يمثل الجهاد أيضاً ثورة جنسية بالإضافة إلى البحث عن المغامرة والاحتجاج الاجتماعي تجاه الغرب. نشاهد ذلك في الخطاب الذي يتبناه داعش في التجنيد، وهذا أمر ثابت.
سؤال: هناك تركيز على الجهاديين. هل هو العامل الوحيد الذي يجذب الأجيال الجديدة؟
هنري لورانس: لا إطلاقاً. تُخفي الحركات الإرهابية حقيقة أخرى. هناك ثورة في الوعي منذ ظهور تلفزيون الجزيرة عام 1995، ثم تلفزيون العربية لاحقاً، ثم ظهور المدونات ووسائل التواصل الاجتماعية حالياً. كان من المستحيل في الدول العربية قبل منتصف التسعينيات سماع أي شيء آخر غير الأصوات الرسمية التي تسيطر الدول عليها إلى حد ما. كان هناك فقر في النقاشات، وكانت وسائل الإعلام تمنع أي تفكير لدى الشباب. أصبح الجميع الآن قادراً على تكوين فكرة عما يحصل في سورية دون أن يكون متعلقاً بما تقوله وسائل الإعلام الرسمية. هناك وعي جماعي في طور التشكل في العالم العربي. ألاحظ أيضاً أن جزءاً من الشباب يطالبون بقيم الإلحاد ويرفضون الإملاءات الدينية والقيم التقليدية. هناك بعض الناس في مصر وتونس لا يقدموا أنفسهم بالمقارنة مع المشروع الديني. إنه بروز النزعة الفردية العربية.


الثلاثاء، ٧ تموز ٢٠١٥

(المملكة التي تغذي الجهاد العالمي)

صحيفة اللوموند بتاريخ 13 حزيران 2015  بقلم الباحث المتخصص بالمسائل الاستراتيجية الدولية بيير كونيسا Pierre Conesa

      في الواقع، الرياض هي إحدى العوامل الرئيسية في زعزعة استقرار الشرق الأوسط والداعم الأول للأصولية الإسلامية، وذلك على الرغم من الحملة الدعائية المضللة المدعومة بأموال النفط. من الممكن أن نضحك من رجال الدين السعوديين الذين يعتبرون أن الأرض مسطحة (مفتي السعودية عبد العزيز بن باز)، أو أنها لا تدور حول الشمس (الشيخ بندر الخيبري)، أو من جهود رابطة الإسلام العالمي للاعتراف بالنظرة القرآنية القائلة بخلق الأرض، ومن الممكن الاستغراب أن القضاة لا يأخذوا بعين الاعتبار شهادة غير المسلمين. إن قائمة الحماقات السعودية طويلة مثل قائمة الممنوعات المتعلقة بالنساء. لكن الضحك سيكون أقل حول الحكم على رئيف البدوي بالسجن لمدة عشر سنوات، وربما لن يتسن له إنهاءها لأنه سيموت بالتأكيد قبل نهاية تنفيذ حكم الألف جلدة.
     إن السلفية التي تواجهها فرنسا هي ثمرة تصدير الوهابية السعودية التي لم تقم شبكتنا الدبلوماسية بتحليل نفوذها إلا نادراً. أصبحت الدبلوماسية الدينية منذ عدة عقود أكثر نشاطاُ من الدبلوماسية العلمانية والتسامح، وقام الحليف والزبون السعودي بدور هام فيها. يتراوح الإنفاق السعودي من أجل "القضية الدينية" في الخارج ما بين ملياري وثلاثة مليارات جنيه استرليني سنوياً منذ عام 1975، أي ما يعادل ضعفي أو ثلاثة أضعاف موازنة الدعاية السوفييتية المضللة. تستقبل الجامعات الدينية السعودية آلاف الطلاب المسلمين سنوياً، وتصدر رجال الدين والكتب ووسائل الإعلام والمنح الدراسية والمدارس والمراكز الإسلامية. تم تمويل بناء أكثر من ألف وخمسمائة جامع خلال خمسين عاماً في أوروبا وأفريقيا وآسيا وروسيا.
     قامت المنظمة الأمريكية غير الحكومية Freedom House بدراسة كتب التعليم الوهابية في المساجد، ونقلت بعض النصوص الموجودة فيها مثل: "لا يجب على المسلمين الاكتفاء بالوقوف في وجه الكفار، بل أيضاً كرههم وقتالهم"، أو "إن الأنظمة الديموقراطية بالتعاون مع الشيعة مسؤولة عن جميع الحروب". كما لاحظ تقرير بريطاني صدر عام 2014 عن Office for Standards in Education Children's and Skills وجود الانحرافات نفسها في بريطانيا. هل من المعقول أن تقوم السعودية عام 2014 بإصدار قانون جديد لمكافحة الإرهاب يعتبر الملحدين والمتظاهرين السلميين كـ "إرهابيين". إن عقوبة الكفر والتجديف تصل إلى الإعدام.
     هناك بعض التساؤلات التي تبعث على المزيد من القلق. لماذا لم تستقبل السعودية أي لاجئ من الحروب في سورية والعراق، بل على العكس، بنت جداراً طوله ثمانمائة كيلومتر لمنع دخول اللاجئين غير الشرعيين إلى أراضيها؟ إنها تدفع الأموال، ولكنها ترفض استقبال اللاجئين في المخيمات! تطرد الرياض اللاجئين مراراً وبشكل عنيف كما هو الحال بالنسبة للصوماليين.
     ماذا عن النزعة الجهادية؟ طغت هذه النسخة الإسلامية الجديدة لمكافحة الإمبريالية على النزعات التحررية في العالم الثالث خلال الثمانينيات والتسعينيات. شارك ما بين خمسة عشرة ألف وخمسة وعشرين ألف سعودي في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان ما بين عامي 1982 و1989، وقام الأمير تركي بتمويل 75 % من المساعدات المقدمة إلى المقاتلين ضد الاتحاد السوفييتي، وفرض على الباكستان أثناء حكم الجنرال ضياء الحق بناء المدارس الإسلامية الحنبلية (السلفية) التي خرجت منها حركة الطالبان.
     كانت هناك حوالي أربعين مجموعة إرهابية تتدرب في مخيمات منظمة التحرير الفلسطينية خلال الثمانينيات. هناك اليوم حوالي مئة جنسية في سورية، ومن بينهم أكثر من ألفين وثلاثمائة سعودي. طورت الشبكات الجهادية في سورية تقنيات التجنيد داخل المجموعات التي تؤمن بالقيامة ومجيء المهدي. إذا كانت السعودية ترسل القليل من الطائرات لمكافحة داعش (ما يعادل القوات الدانماركية والهولندية معاً، أو نصف عدد القوات الفرنسية)، فإنها ترسل الضعف ضد التمرد الحوثي في اليمن، لأن العدو الحقيقي للوهابية هو الشيعة. بالمقابل، من الواضح للعيان وجود تعاطف داخلي في السعودية تجاه السلفية الجهادية، ولن ينظر الداخل السعودي بعين الرضى إلى عمل عسكري عدواني جداً ضد الدولة الإسلامية، بل وربما سيهدد استقرار السعودية.
     هل تكفي الثروة السعودية المذهلة لكي تجعل منها حليفاً؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، ضد من؟ هل ستصوت فرنسا بالموافقة على طلب الترشيح السعودي في لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة؟



(التفكك في مكافحة الجهاد)

     يبدو أن صحيفة اللوموند بدأت تدرك خطورة انزلاقها مع "المحور السني" العربي، وتأثير ذلك على مصداقيتها كصحيفة تدافع عن الديموقراطية حقوق الإنسان والمرأة. يظهر هذا التغير من خلال بعض المقالات التي نشرتها خلال الأسابيع الماضية ولاسيما افتتاحية العدد المؤرخ بـ 3 حزيران 2015. هل السبب هو عدم وجود رئيس تحرير رسمي للصحيفة منذ استقالة آخر رئيسة تحرير ناتالي نوغايرد في شهر أيار 2014  وحتى تعيين جيروم فينوغليو Jérôme Fenoglio رئيساً لتحرير  الصحيفة بتاريخ 30 حزيران 2015؟ أم أنه تغير داخل الصحيفة؟ أم أنه محاولة للابتعاد قليلاً عن السياسة الخارجية الفرنسية الرسمية التي ترتكز بشكل كامل على ممالك الخليج؟ بانتظار الأيام والمقالات القادمة...

(التفكك في مكافحة الجهاد)
افتتاحية صحيفة اللوموند 3 حزيران 2015

     إنه ليس تحالفاً الذي يجتمع في باريس يوم الثلاثاء 2 حزيران باسم مكافحة الدولة الإسلامية، بل هو مجموعة غريبة تختلط فيها المصالح المتعارضة ولا تملك استراتيجية مشتركة، الأمر الذي يضمن أياماً مشرقة أخرى للجهاديين في العراق وليبيا وسورية ومناطق أخرى. تدّعي اثنتان وعشرون دولة برعاية الولايات المتحدة أنها نقطة انطلاق المعركة الجارية ضد الدولة الإسلامية، ولكنهم يتداعون تحت وطأة التناقضات والكثير من اللا واقعية والنفاق.
     ولدت الدولة الإسلامية من انهيار الدولة العراقية، هدية جورج بوش الابن، ثم سيطرت الأغلبية الشيعية العربية على ما تبقى من البلد. تقوم الفصائل الشيعية في السلطة ببغداد بتعذيب الأقلية السنية العربية. تزدهر الدولة الإسلامية على أرضية هذه المعركة الطائفية، وتقدم نفسها بنجاح كمدافع عن السنة، وتستفيد من الدعم الأساسي وكفاءات الأطر المدنية والعسكرية للنظام السابق. إن الدولة الإسلامية هي الجهاد بالإضافة إلى البعث. ما زالت حرب عام 2003 مستمرة.
     شنت الولايات المتحدة منذ عشرة أشهر أكثر من أربع آلاف غارة جوية ضد الدولة الإسلامية. حققت هذه الغارات بعض النجاح، ولكنها لم تنجح في إضعاف هذه المجموعة التي استولت مؤخراً على مدينة الرمادي في العراق ومدينة تدمر في سورية. إن المشكلة سياسية أكثر منها عسكرية. يمكن استعادة السيطرة بسرعة على المدن التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية عبر القصف المكثف، ولكن ما دام نظام بغداد يرفض تقاسم السلطة مع السنة، فإن تهميش السنة سيُبقي على تمرد الجهاديين وسينبثق في مكان آخر.
     تملك الدولة الإسلامية احتياطياً لا ينفذ من المقاتلين الذين يأتي جزء منهم بفضل السعودية التي تتحالف مع فرنسا وتدعي أنها في طليعة المعركة ضد الجهاديين. التفسير: تشير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من نصف أعضائها ـ أي مئة وعشرة بلدان ـ يزودون الدولة الإسلامية بالمقاتلين (إن عدد الدول التي تزود القبعات الزرق أقل بكثير). من هم؟ إنهم شباب جاؤوا من أفريقيا وآسيا والعالم العربي وأوروبا، واعتنقوا جميعهم العقيدة السلفية التي تمثل النسخة الفاسدة من الإسلام الذي تنشره السعودية في جميع أنحاء العالم منذ عدة سنوات.
     هناك تناقضات أخرى: على الصعيد الميداني في العراق، إن أكثر الذين ساهموا في كبح تقدم الدولة الإسلامية هم إيران والميلشيات الشيعية التابعة لها والأكراد. إنهم ليسوا في باريس، لماذا؟ لأنه قبل مكافحة الدولة الإسلامية، تريد السعودية وبقية دول الخليج إعطاء الأولوية إلى كبح التوسع الإيراني. إن الدولة الإسلامية أمر ثانوي بالنسبة لهم. في سورية، ليس نظام دمشق الذي يقف في المقدمة لمكافحة الدولة الإسلامية، بل تحالف بين عدة مجموعات تسيطر عليها جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة!
     الأمر الوحيد الواضح هو أن وسائل تدخل الدول الغربية محدودة، لأنها لا تتمتع بالشعبية في هذه المنطقة بشكل عام، ولأن مجرد وجودهم العسكري يملؤ صفوف الجهاديين بالمقاتلين. لا يتم اتخاذ قرار مكافحة الدولة الإسلامية في باريس أو واشنطن بقدر ما يتم بين النظامين الدينيين الذين يتواجهان في الشرق الأوسط: إيران والسعودية. يجب أن يتركز الجزء الأساسي من الجهود الدبلوماسية على دفعهما باتجاه فتح حوار سياسي ـ استراتيجي. بانتظار ذلك، يجب العيش على وتيرة حرب استنزاف طويلة ضد الجهاديين.


الاثنين، ٢٩ حزيران ٢٠١٥

(خطة فابيوس لا يمكنها إرضاء الفلسطينيين)

كان الهدف من المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية في الماضي أن يقدم كل طرف بعض التنازلات من أجل التوصل إلى تسوية. تريد المبادرة الفرنسية الجديدة اليوم الحصول على تنازلات فلسطينية حول القدس واللاجئين والحدود والاعتراف بيهودية دولة إسرائيل مقابل وعد فرنسي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. السؤال الذي يطرح نفسه: ما الفائدة من الاعتراف بالدولة الفلسطينية على الورق بعد تقديم هذه التنازلات؟ وربما تتحول مثل هذه التنازلات إلى معايير مستقبلية لأية مفاوضات قادمة في حال فشل المبادرة الفرنسية اليوم. بمعنى آخر، إنها مبادرة للحصول على تنازلات فلسطينية وعربية بدون حصول الفلسطينيين على أي شيء مقابل هذه التنازلات، لأن الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية سيتم في حال قبول الفلسطينيين بالمبادرة الفرنسية أولاً، ثم فشل هذه المبادرة في مجلس الأمن عند التصويت عليها ثانياً.

 (خطة فابيوس لا يمكنها إرضاء الفلسطينيين)
صحيفة الفيغارو 22 حزيران 2015 بقلم مراسلها في إسرائيل سيريل لوي Cyrille Louis

     رد بنيامين نتنياهو بجفاء على مبادرة السلام التي أطلقها لوران فابيوس، وأدان "الإملاءات الدولية" يوم الأحد 21 حزيران. كما لم يُعبّر الفلسطينيون عن حماسهم تجاه هذه المبادرة. ينوي وزير الخارجية الفرنسي طرح مشروع قرار على مجلس الأمن بحلول فصل الخريف القادم، ويمثل هذا المشروع توازناً دقيقاً بين مواقف الطرفين. يتضمن مشروع القرار عدة جوانب من الصعب أن يقبلها قادة منظمة التحرير الفلسطينية الذين امتنعوا حتى الآن عن التعبير علناً عن شكوكهم، لأنهم ينظرون بإيجابية إلى "عودة الانخراط" الفرنسي في الشرق الأوسط، ويأملون أن تعترف باريس بدولة فلسطين في حال فشل هذه المحاولة الجديدة. ولكن من المحتمل أنهم سيخرجون من غموضهم عاجلاً أم آجلاً لكي يقولوا فيما إذا كانوا موافقين على المعايير المحددة في مشروع القرار، وفيما إذا كانوا مستعدين لتحمل مسؤولية التنازلات التي يتضمنها أمام الرأي العام الفلسطيني.
     يمثل موضوع القدس إحدى المواضيع الأكثر إشكالية. يطالب الفلسطينيون بأن تكون القدس الشرقية مع المدينة القديمة و الأماكن المقدسة عاصمة لدولتهم المستقبلية. لكن الذين كتبوا نص المشروع الفرنسي يدركون جيداً بأن هذا المطلب غير مقبول لدى الجزء الأساسي من الطبقة السياسية الإسرائيلية، واختاروا صيغة غامضة بشكل متعمد. تطرق النص الفرنسي إلى ضرورة جعل القدس "العاصمة المستقبلية للدولتين" مع الحفاظ في الوقت نفسه على وضعها كمركز روحي مفتوح أمام "شعوب العالم". قال أحد المسؤولين الفلسطينيين: "يطرح هذا الغموض إشكالية كبيرة. سيغتنم الإسرائيليون هذا الغموض بالتأكيد لكي يقترحوا علينا سيادة محدودة، وسيتهموننا بإفشال العملية إذا رفضنا هذا العرض...".
     لم يرض المفاوضون الفلسطينيون أيضاً عن المقاربة "الوسطية" المتعلقة بمسألة اللاجئين. امتنع كاتبوا النص الفرنسي عن الإشارة إلى أية إشارة واضحة للقرار رقم 194 الذي أقر حق عودة مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين المهجرين خلال حرب عام 1948، وعودة أحفادهم أيضاً. دعا النص الفرنسي إلى تبني "حل عادل ومتوازن وواقعي" يعتمد على "آلية لإعادة التوطين، والإقامة في مكان آخر، أو التعويض". تهدف هذه الصيغة بوضوح إلى طمأنة الإسرائيليين الذين يعتبرون أن عودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين سيؤدي إلى إنهاء الدولة العبرية. أعرب المسؤول الفلسطيني المشار إليه أعلاه عن قلقه بالقول: "تؤكد الصيغة الفرنسية المعتمدة أنه يجب على اللاجئين التخلي عن العودة إلى أرضهم قبل البدء بالمفاوضات، وأنه يجب على الغالبية العظمى منهم الاكتفاء بتعويضات غامضة".
     لا شك أن السلطة الفلسطينية غير قادرة على فرض مثل هذه التنازلات. لهذا السبب، لم يحاول لوران فابيوس إطلاع محمود عباس على تفاصيل مشروع القرار، واختار إشراك أعضاء الجامعة العربية في مشروع القرار الفرنسي، وذلك على أمل أن تعتبر الدول العربية هذا المسعى يتطابق بما فيه الكفاية مع مصالحها لكي تشارك فيه. في هذه الحالة، سيقع على عاتق الدول العربية مهمة التأثير على الإدارة الفلسطينية من أجل إقناعها بالموافقة على بعض التسويات. وإذا حصلت المعجزة ونجحت المبادرة، سيقع على عاتق الدول العربية تقديم المساعدة إلى الإدارة الفلسطينية في الدفاع عن صحة هذه المبادرة أمام الشعب الفلسطيني.




الاثنين، ٢٢ حزيران ٢٠١٥

(كيف تفكر الإدارة الأمريكية وتتعامل مع روسيا)

صحيفة الفيغارو 1 حزيران 2015 بقلم مراسلتها في واشنطن لور ماندفيل Laure Mandeville

     يواجه الغرب تحديين استراتيجيين هامين هما: النزعة العدوانية الروسية مع ضم شبه جزيرة القرم وزعزعة الاستقرار في شرق أوكرانيا من جهة، والدولة الإسلامية التي تتقدم على الأرض في الشرق الأوسط وتمثل تهديداً إرهابياً متزايداً على القارة الأوروبية والولايات المتحدة عبر الجهاديين الذين تستقطبهم من جميع أنحاء العالم من جهة ثانية.
     أصبح التعامل مع روسيا بوتين اهتماماً مركزياً لدى المحللين الاستراتيجيين لدى إدارة أوباما في مواجهة هاتين المعضلتين الشائكتين. كيف يمكن دفع الزعيم الروسي إلى إيقاف اعتدائه في أوكرانيا، والاستفادة في الوقت نفسه من مساعدته في الشرق الأوسط من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي مع إيران وتحقيق الاستقرار في العراق وسورية عبر تنظيم عملية انتقالية سياسية في سورية؟ كيف يمكن احتواء بوتين مع الاعتراف في الوقت نفسه بالحاجة إليه؟ هذه هي المعادلة المستحيلة الحل. سيُطرح هذا الموضوع على خلفية النقاشات التي ستجري في باريس يوم الثلاثاء 2 حزيران مع أعضاء التحالف ضد داعش على الرغم من عدم حضور روسيا.
     تحاول الدبلوماسية الأمريكية منذ عدة أسابيع أن تضع فلاديمير بوتين أمام مسؤولياته في أوكرانيا والشرق الأوسط، ويزداد قلقها أكثر فأكثر تجاه التشنج الروسي. اجتمع وزير الخارجية الأمريكية جون كيري قبل عدة أيام مع فلاديمير بوتين في سوتشي، ثم أرسل معاونته فيكتوريا نولاند إلى موسكو لمواصلة النقاشات. أسرّ مسؤول رفيع المستوى في إدارة أوباما إلى صحيفة الفيغارو قائلاً: "في الوقت الذي تتركز فيه عملية اتخاذ القرار في روسيا أكثر فأكثر بشخص واحد، اعتبر وزير الخارجية أنه من المهم الاجتماع مع بوتين في غرفة واحدة من أجل مناقشة ثلاثة مواضيع هامة هي: إيران وسورية وأوكراينا. فيما يتعلق بإيران، كانت رسالة وزير الخارجية واضحة: إن المفاوضات حول الملف النووي الإيراني هي نموذج لما نفعله معاً بشكل جيد، ويجب إنهاء هذا العمل". فيما يتعلق بسورية، قال كيري إلى بوتين أنه يقوم بـ "رهان سيء"، وأضاف الدبلوماسي الأمريكي قائلاً: "قلنا أن الوضع اليوم وصل إلى درجة أنه يمكن أن نستيقظ غداً مع دولة إسلامية تسيطر على البلد، مع إمكانية انهيار نظام الأسد... إذا كنتم صادقين حول حقيقة أن أولويتكم هي الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ومنع انتصار المتطرفين، وأنكم لستم متمسكين بالأسد شخصياً، ففي هذه الحالة، استخدموا نفوذكم من أجل العمل حول عملية انتقالية".
     فيما يتعلق بأوكرانيا، قال المصدرنفسه أن النقاشات مع بوتين تتعلق "بإفهامه أننا جادون جداً حول فكرة إنهاء العقوبات في حال تنفيذ اتفاق مينسك بأكمله. وفي الوقت نفسه، نحن مستعدون لإبقاء العقوبات الحالية وحتى تشديدها بالتنسيق مع أوروبا في حال قيام بوتين وعملائه بالاستيلاء على أراضي جديدة".
     في الوقت الحالي، لم تعط هذه النقاشات نتائج ملموسة. يبدو أن بوتين ليس مستعجلاً للتحالف مع الأمريكيين من أجل عملية انتقالية في سورية، ما دامت إيران لم تنضم إلى هذا المسعى. فيما يتعلق بأوكرانيا، ما زال بوتين ينفي الوجود العسكري الروسي (المتزايد) على الأرض على الرغم من الأدلة القاطعة.
     لكن الهاجس الأكبر بالنسبة لواشنطن هو تفتت الموقف الأوروبي الموحد الذي ما زال مستمراً حتى الآن تجاه أوكرانيا بفضل الزعامة الألمانية. يعرف بوتين نقاط الضعف الأوروبية، ويعمل على استغلالها. تتفاوض اليونان حالياً مع دائنيها في الدول الغربية، واقترحت عليها موسكو في الوقت نفسه حلاً لمشاكلها المتعلقة بالطاقة عبر إقتراح ببناء خط أنابيب لنقل الغاز بشكل يجعلها تابعة للكريملين، ويهدد استراتيجية الاتحاد الأوروبي في تنويع مصادر الطاقة. كما تراقب واشنطن بقلق العلاقات التي ينسجها بوتين مع بعض أحزاب اليمين الأوروبية ولاسيما الفرنسية منها، عبر تقديم نفسه كحصن ضد الإسلام الراديكالي، ويراهن بوتين على أن قلق بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا من داعش أكبر بكثير من التهديد الروسي في أوكرانيا، هذا التهديد الذي تعتبره ألمانيا تهديداً وجودياً لها بسبب قربها الجغرافي.
     تعتبر واشنطن أن المشكلة تكمن في التوفيق بين الأولويات، والحفاظ على الموقف الموحد بين جانبي الأطلسي حتى يظهر الضعف داخل النظام الروسي. أشار المسؤول الأمريكي المذكور أعلاه إلى أن بوتين يعتقد نفسه قوياً، ولكن "هناك الكثير من التذمر في روسيا. لا نعتقد أن بوتين سيكون قادراً على إطعام الروس إلى الأبد عبر النزعة القومية".



الاثنين، ١٥ حزيران ٢٠١٥

(لندن ـ واشنطن: علاقة لم تعد "خاصة" جداً)

صحيفة الفيغارو 18 أيار 2015 بقلم مراسلتها في واشنطن لور ماندفيل Laure Mandeville

     لم تعد علاقة خاصة جداً. هذه هي العبارة التي تتكرر دوماً في الصحافة البريطانية والأمريكية حول العلاقة بين بريطانيا والولايات المتحدة. كتبت الديلي تلغراف في شهر كانون الثاني: "حقيقة غريبة: تتراجع سمعة بريطانيا بشكل كبير منذ عدة سنوات... وتهتم واشنطن بأنجيلا ميركل أكثر فأكثر". لكن ما زال هناك بالتأكيد الإرث التاريخي والمرجعيات الفكرية والثقافية واللغوية بالإضافة إلى العلاقة الوثيقة والفريدة بين أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية منذ الحرب العالمية الثانية.
     لا يمكن مقارنة التفاهم الحالي بين دافيد كاميرون وباراك أوباما مع النظرة الموحدة بين تاتشر وريغان حول كيفية الخروج من الحرب الباردة، أو بين بلير وكلينتون حول إيرلندا والبوسنة، أو بين بلير وبوش الابن خلال حرب العراق. أكد الباحث في معهد بروكنغز فيليب لوكور Philippe Le Corre أن التصريحات الرسمية حول هذه العلاقة "الخاصة" ما زالت مستمرة، ولكنها "تُخفي ابتعاداً في المواقف بين الحليفين". أشار هذا الباحث إلى أن المثال الأوضح على ذلك هو تركيز دافيد كاميرون اهتمامه بشكل كامل على إنعاش الاقتصاد، وعدم انزعاجه من كونه أول حلفاء الولايات المتحدة الذين ينضمون إلى المصرف الآسيوي للاستثمار دون استشارة العم سام بشكل مسبق. حذت بقية الدول الأوروبية حذوه بالانضمام إلى هذا المصرف، واضطرت واشنطن للانضمام إليه أيضاً، نظراً للزلزال الجيوسياسي الذي قد ينجم عن هذا الحدث بالنسبة للنظام الموروث عن اتفاقيات بريتون وودز. قال الباحث فيليب لوكور: "تسبب ذلك بفضيحة صغيرة في البيت الأبيض الذي ينتابه الشعور بأن البريطانيين مستعدين لتقديم جميع التنازلات من أجل جذب الاستثمارات الصينية".
     تركت الأحداث في سورية خلال صيف عام 2013 بعض الآثار عندما قرر باراك أوباما في نهاية المطاف عدم التدخل في سورية، وذلك بعد فشل دافيد كاميرون بإقناع مجلس العموم في الانضمام إلى العملية العسكرية. استنتج الأمريكيون أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد بشكل فعلي على الحليف البريطاني الذي كان في الماضي مستعداً لإرسال جيوشه إلى جميع أنحاء العالم إلى جانب الأخ الأمريكي الأكبر، ولكن هذا الحليف تنتابه اليوم الرغبة بالانكفاء وتقليص موازنته العسكرية بشكل ملموس. قال السفير البريطاني السابق في واشنطن كريستوفر ماير Christopher Mayer في صحيفة الديلي تلغراف: "ينتاب الأمريكيون قلق متزايد حول موثوقية بريطانيا كحليف أساسي".
     يجب القول أن النظرة الأمريكية إلى أوروبا تغيرت مع مرور السنين. كانت الولايات المتحدة تشعر بالريبة خلال فترة طويلة تجاه التطلعات الفيدرالية للاتحاد الأوروبي، وكانت ترتكز على بريطانيا بشكل أساسي لمواجهة مثل هذه التطلعات. لكن واشنطن لم تعد تشعر اليوم بالفائدة من بريطانيا التي أصبحت ترتاب بأوروبا أكثر من أي وقت مضى بعد أزمة اليورو وأزمة الهوية الأوروبية. إن الخوف الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة لم يعد أن تكون أوروبا منافسة لها، بل أن تنفجر تحت تأثير الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو، وألا تكون أوروبا قادرة على ضمان أمنها تجاه روسيا التي تعيش ذروة التشنج القومي.
     يبدو أن الولايات المتحدة أصبحت فجأة تراهن على برلين وباريس. إنها تراهن على أنجيلا ميركل في ألمانيا من أجل إدارة الأزمة الروسية، وتراهن على فرنسا التي أصبحت شريكاً أساسياً للولايات المتحدة في مواجهة التهديد الإرهابي في أفريقيا، وبرهنت على قدرتها في إرسال قواتها إلى مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى ومجمل منطقة الصحراء الأفريقية (الساحل). سألت صحيفة الفيغارو باراك أوباما خلال الزيارة الرسمية التي قام بها فرانسوا هولاند إلى واشنطن في شهر شباط 2014 فيما إذا كانت فرنسا قد حلّت مكان بريطانيا كأفضل حليف للولايات المتحدة، أجاب الرئيس الأمريكي عبر مزحة حول "ابنتيه الرائعتين" وأنه "يحب الاثنتين معاً". إذا كان المسؤولون الأمريكيون يشعرون بالقلق من الصعوبات البنيوية التي يواجهها الاقتصاد الفرنسي في إصلاح نفسه، فإنهم يؤكدون أيضاً قلقهم تجاه الاستفتاء الذي أعلنه دافيد كاميرون حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ويعتبرون التردد البريطاني سبباً في تراجع نفوذ لندن داخل أوروبا. قال رئيس مجموعة أوراسيا Eurasia إيان بريمر Ian Bremmer: "وهكذا أصبحت بريطانيا شريكاً أقل أهمية بكثير بالنسبة للولايات المتحدة". وأضاف الباحث فيليب لوكور: "إذا أضفنا إلى هذا القلق مسألة إمكانية انفصال اسكتلندا عن بريطانيا، من الممكن فهم الذعر الأمريكي تجاه الفترة القادمة في بريطانيا".



(الكسوف الدبلوماسي البريطاني يُقلق فرنسا وأوروبا)

صحيفة الفيغارو 18 أيار 2015 بقلم إيزابيل لاسير Isabelle Lasserre

     لم تستيقظ السياسية الخارجية البريطانية أبداً من هذا الانفجار، عندما رفض مجلس العموم البريطاني السماح لدافيد كاميرون بالتدخل ضد النظام السوري في شهر آب 2013، ويبدو أن الدبلوماسية البريطانية انسحبت من شؤون العالم. لم تشارك بريطانيا في المواجهة بين باريس وواشنطن حول الملف النووي الإيراني، واختبأت خلف فرنسا وألمانيا في الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، ولم تقل أي كلمة حول التغيرات الاستراتيجية الجارية في الشرق الأوسط. يبدو أنها لا تهتم بمصير ليبيا والفوضى الناجمة عن التدخل الفرنسي ـ البريطاني ضد القذافي عام 2011. في العراق، تعمل طائرات التورنادو ضمن الحدود الدنيا لكي لا تُثير غضب الأمريكيين.
     إن أسباب الكسوف الدبلوماسي البريطاني معروفة. تعيش بريطانيا هاجس الفشل في العراق وأفغانستان، وبذلت جهوداً تفوق طاقتها في العمليات العسكرية، ووقع الجيش البريطاني ضحية العمل فوق طاقته (Burn Out). قررت وزارة الخارجية البريطانية بعد سنوات عام 2000 التوسعية أن تأخذ فترة من الراحة. اختارت لندن تفضيل الإنعاش الاقتصادي ودعم السوق المالية في لندن بعد الأزمة المالية. كما أن عقيدة عدم التدخل لإدارة أوباما عززت تواري بريطانيا عن الأنظار. تربط بريطانيا "علاقة خاصة" مع الولايات المتحدة، ويتقدمان عادة جنبأً إلى جنب في الملفات الدولية الهامة. على الصعيد الداخلي، إن النفق الانتخابي ـ المتمثل بالاستفتاء على استقلال اسكتلندا والاستفتاء على بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي والانتخابات التشريعية ـ عرقل أي تعبير حول مواضيع السياسة الخارجية. قال النائب الفرنسي في البرلمان الأوروبي عن حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية أرنو دانجان Arnaud Danjean: "تم اعتبار كل ما عدا ذلك كتسلية بالمقارنة مع الأولوية المطلقة للسياسة الداخلية".
     هل يمكن أن تتغير هذه النزعة بالاتجاه المعاكس؟ هل سيستفيد رئيس الوزراء البريطاني بعد انتخابه بفارق مريح من ولايته الثانية من أجل إعادة إعطاء بريطانيا مكانتها في العالم واستئناف سياستها التدخلية التقليدية؟ يأمل أرنو دانجان أن يكون الجواب بالإيجاب، وينتظر "عودة" نشاط الدبلوماسية البريطانية إلى حد ما، وقال: "بذلت بريطانيا الجزء الأكبر من الجهود الاقتصادية المطلوبة. ينظر دافيد كاميرون إلى نهاية النفق الانتخابي، وبإمكانه القيام بدور دولي من جديد لكي يُظهر أن بريطانيا ما زالت طرفاً أوروبياً لا غنى عنه قبل الاستفتاء على بقائها داخل الاتحاد الأوروبي". لكن بقاء وزيري الدفاع والخارجية في الحكومة البريطانية الجديدة ربما يكون إعلاناً بأن لندن لا تنوي التخلي عن تحفظها. قال رئيس مؤسسة شومان Schuman جان دومينيك جولياني Jean-  Dominique Jiuliani متأسفاً: "أخشى ألا نجد البريطانيين قبل فترة طويلة"، ولاسيما فيما يتعلق بالمسائل الأوروبية.
     من الناحية الظاهرية، يبدو  أن باريس استفادت من التلاشي التدريجي لحليفها. لم يتمكن دافيد كاميرون وفرانسوا هولاند من التفاهم فيما بينهما إطلاقاً. قامت فرنسا بالدور الأول خلال شهر تشرين الثاني 2013 عندما عارضت التسوية الأمريكية حول الملف النووي الإيراني. كما دافعت فرنسا لوحدها عن الموقف المعارض ضد بشار الأسد وضد داعش، ولكن مع دعم المعارضة المعتدلة ـ التي يعتبرها البعض شجاعة والبعض الآخر غير واقعية ـ في الحرب السورية. وقفت فرنسا في الخط الأول إلى جانب ألمانيا في محاولة لإيجاد مخرج دبلوماسي للأزمة الروسية ـ الأوكرانية.
     يتفق الخبراء على أن باريس لن تستطيع "التصرف بمفردها" إلى الأبد، واعترف أحد الدبلوماسيين قائلاً: "تحتاج فرنسا إلى بريطانيا. يصوت البلدان بالطريقة نفسها دوماً في مجلس الأمن". إنهما قوتان نوويتان، ولديهما ثقافة سياسية وعسكرية متشابهة وردة فعل واحدة ومصالح استراتيجية مشتركة. حذر أحد الضباط قائلاً: "عَمِلَ الجيشان الأكبر في أوروبا يداً بيد دوماً. لن تستطيع فرنسا التصرف لوحدها لفترة طويلة". حلّ الثنائي الفرنسي ـ الألماني مكان الثنائي الفرنسي ـ البريطاني منذ تلاشي الدور البريطاني، وكانت فرنسا ملتحمة مع ألمانيا خلال رئاسة نيكولا ساركوزي حول الأزمات الدولية الكبرى مثل الحرب في شرق أوكرانيا. ولكن فيما يتعلق بالشؤون العسكرية، إن باريس وبرلين لا تتحدثان اللغة نفسها. قال الضابط المذكور أعلاه مؤكداً: "إن ألمانيا لا تُحارب. فيما يتعلق بالتوافق بين فرنسا والولايات المتحدة، إنه خداع بصري. ليس هناك شريك بديل لبريطانيا". كما أعرب هذا الضابط عن قلقه من استمرار التخفيض المعلن للموازنة العسكرية البريطانية، الأمر الذي سيلقي بعبئه على مستقبل قوة التدخل الفرنسية ـ البريطانية التي يفترض أن تصبح جاهزة للعمل عام 2016.
     إن "الانسحاب" البريطاني ليس فقط خبراً سيئاً بالنسبة لفرنسا، بل بالنسبة لأوروبا والعالم أيضاً. يعتقد البعض أنه لو صوت مجلس العموم البريطاني في شهر آب 2013 لصالح التدخل في سورية، فإنه ذلك ربما كان سيُقنع باراك أوباما بالتدخل أيضاً، وأن مجرى الحرب ربما كان سيتغير أيضاً. لكن لا يمكن إعادة صنع التاريخ.