الصفحات

الثلاثاء، ٢٨ نيسان ٢٠١٥

(عندما يحقق التوتر بين بروكسل وأثينا رهان موسكو)

صحيفة اللوموند 19 شباط 2015، بقلم أستاذ التاريخ في جامعة برنستون Princeton جيريمي أدلمان Jeremy Adelman والباحثة في المركز الوطني للدراسات العلمية CNRS آن لور دولات Anne-Laure Delatte

     تلاقى أخيراً أسوأ كابوسين أوروبيين. انتقد رئيس الوزراء اليوناني الجديد ألكسيس تسيبراس Alexis Tsipras في الشهر الماضي العقوبات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا بسبب ضمها غير الشرعي لشبه جزيرة القرم. عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعاوناً اقتصادياً مع تسيبراس، ودعاه إلى زيارة موسكو للاحتفال بالذكرى السبعين للانتصار على النظام النازي بشكل يربط فيه بين ذكرى الاضطهاد الألماني والأزمة الحالية في أوروبا. هناك أيضاً بعض الاشاعات حول بناء خط أنابيب لنقل الغاز عبر الحدود التركية ـ اليونانية بشكل يسمح لروسيا بتجنب أوكرانيا لبيع الغاز الروسي.
     تدهورت المفاوضات حول الديون الحكومية اليونانية بعد الانتخابات التشريعية في شهر كانون الثاني، وتبنت فرنسا وألمانيا موقفاً متشدداً حول سندات الخزينة اليونانية، والتزمت مجموعة العملة الأوروبية Eurogroupe في بروكسل بهذا الموقف يوم الاثنين 16 شباط. أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن إعادة جدولة الدين الحكومي اليوناني مرة أخرى سيؤدي إلى تأخير الإصلاحات الهيكلية، وسيخلق مخاطر أخلاقية لدى بقية أعضاء منطقة العملة الأوروبية. حان الوقت لكي نحب منطقة العملة الأوروبية أو أن نغادرها. لكن هذا الموقف يهمل الأضرار الجانبية الهامة التي يمكن أن تنجم عن خروج اليونان من منطقة العملة الأوروبية. سيوفر خروجها الفرصة أمام روسيا لكي تقدم مساعدتها إلى دولة وصلت إلى طريق مسدود، وبالتالي سيمنح موسكو وسيلة لزيادة نفوذها في أوروبا الغربية.
     تزامن النزاع الأوكراني مع أزمة العملة الأوروبية. تحتاج اليونان إلى تخفيض الديون العامة، وتستخدم هذا العامل في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لإعادة جدولة ديونها. فيما يتعلق بروسيا، إنها تسعى إلى إضعاف خصومها، وتعتبر أن إفلاس اليونان ونتائجه السلبية على بقية الدول الأوروبية بمثابة الفرصة الوحيدة لفرض نفسها. يمثل الاقتصاد الروسي ثمانية أضعاف الاقتصاد اليوناني، وبالتالي، إن موسكو قادرة على مساعدة أثينا على الرغم من انخفاض أسعار النفط.
     يُظهر تاريخ الأجنتين الحديث وأسباب الفوضى السائدة فيها حالياً ما يمكن حصوله في حال قيام موسكو بتقديم المساعدة إلى اليونان. أعلنت الأرجنتين عام 2001 أنها ستتوقف عن سداد ديونها بعد تخليها عن المساواة بين عملتها والدولار. انهارت مدخرات الأرجنتينيين، وكانت الحكومات تستمر لعدة أيام، وتفاقم الوضع لدرجة اندلاع تمرد الجوع في بلد معروف عالمياً بانتاج القمح والحبوب. منحت المشاكل الاقتصادية الأرجنتينية فرصة سياسية لخصوم الولايات المتحدة. عندما أصبحت الأرجنتين غير قادرة على الاستدانة من الأسواق المالية العالمية، جاء الزعيم الفنزويلي هوغو شافيز لنجدتها بفضل الثروة المالية الناجمة عن الارتفاع المفاجئ لأسعار النفط.
     طلب هوغو شافيز من الخزينة الفنزويلية شراء السندات الحكومية الأرجنتينية بمبلغ 4.4 مليار دولار متحدياً حكومة جورج بوش الابن، واقترح بناء خط أنابيب لنقل النفط إلى بوليفيا والباراغواي والبرازيل والأرجنتين، كما أسس "مصرف الجنوب" Banque du Sud لاستبعاد المصرف الدولي Banque Mondiale. موّل النفط الفنزويلي الحملات الانتخابية لأصدقاء شافيز. بالمقابل، أصبح الرئيس الأرجنتيني نيستور كيرشنر ثم زوجته الرئيسة كريستينا فيرنانديز كيرشنر من المؤيدين المخلصين لحملة شافيز ضد واشنطن. انضمت الإكوادور وبوليفيا إلى محور فنزويلا ـ الأرجنتين. أعلنت الأرجنتين الحداد  الوطني ثلاثة أيام عندما توفي هوغو شافيز بالسرطان في شهر آذار 2013. ما زالت علاقات واشنطن مع هذه الدول غير مستقرة حتى اليوم.
     عندما بدأ الاقتصاد الفنزويلي بالتراجع، جاءت إيران الخصم الأكثر نذيراً بالشؤم لواشنطن لكي تملئ الفراغ. تضاعفت المبادلات التجارية بين الأرجنتين وإيران ثلاثة أضعاف، ووجد القمح والذرة والوقود النووي الأرجنتيني أسواقاً جديدة له في بلاد الرافدين بشكل يستخف بالعقوبات الدولية. تحتل الأرجنتين اليوم المرتبة السابعة بين الشركاء التجاريين لإيران. سافر وزير الخارجية الأرجنتيني هيكتور تيمرمان Hector Timerman في بداية عام 2011 إلى حلب لإجراء مباحثات سرية مع نظيره الإيراني علي أكبر صالحي. كما تقوم الأرجنتين بدعم إيران في الأمم المتحدة.
     أعلنت الرئيس الأرجنتينية كريستينا كيرشنر في شهر كانون الثاني 2013 عن تشكيل لجنة مشتركة مع إيران لـ "تقصي الحقائق" بهدف التحقيق بعملية تفجير السيارة المفخخة أمام جمعية يهودية عام 1994، وأدى إلى مقتل خمسة وثمانين شخصاً وجرح ثلاثمائة آخرين. عرض النائب العام ألبيرتو نيسمان Alberto Nisman تقريراً خطيراً أمام الكونغرس الأرجنتيني قبل شهر واحد، وزعم فيه أن الحكومتين الأرجنتينية والإيرانية وقعتا اتفاقات تجارية للتعتيم على عملية التفجير عام 1994. أدى موته الغامض بتاريخ 18 كانون الثاني 2015 إلى شل الأرجنتين التي وقعت فريسة العديد من نظريات المؤامرة.
     تمثل الحالة الأرجنتينية العديد من الدروس بالنسبة للزعماء الذين يتفاوضون مع الدول التي وصلت إلى حافة الإفلاس. في هذا العالم المليء بالأصدقاء والخصوم والأعداء، إن ضعف بلد ما يمثل فرصة مواتية لبلد آخر.  الدرس الأول، تجنب هوس الخصوم بين الدائنين والمدينين، والنظر إلى الأطراف المعنية. لم تتنبأ واشنطن بأن فنزويلا ستستفيد من الارتباك الأرجنتيني، وبالطريقة نفسها، تخاطر السياسة الألمانية المتشددة بدفع أثينا إلى أحضان بوتين. من الضروري أن تكون هناك نظرة تحيط بجميع الأمور الجانبية.
     الدرس الثاني، تمثل الدول الخاضعة بعض الأخطار التي تتجاوز خطر إفلاسها. في عالمنا القائم على الاتصالات والاعتماد المتبادل، إن الحلقات الضعيفة تزعزع النظام بأسره وليس فقط العناصر الوسيطة. عندما أصبحت الأرجنتين في طريق مسدود، اندلعت موجة شعبية في تشيلي والأورغواي. إن خروج اليونان من العملة الأوروبية ربما ستنتقل عدواه إلى خارج الاتحاد الأوروبي، ويُعرقل  الدعم الدبلوماسي والمالي إلى أوكرانيا.
     الدرس الثالث، لا يجب الاكتفاء بالاعتبارات الاقتصادية فقط. إن الدول التي تواجه صعوبات مالية تمثل مخاطر سياسية. إن الديون وعمليات الانقاذ المالي تخلق بعض التحالفات، وتشجع النزاعات الإيديولوجية. أدت المشاكل المالية في الأرجنتين إلى تأجيج طموحات هوغو شافيز في تحديه للتوجه الاقتصادي الليبرالي في واشنطن. ولكن فلاديمير بوتين يمثل خطراً أكبر بكثير من هوغو شافيز. وبالتأكيد، استفادت إيران من جميع الفرص المتاحة أمامها لكي تتقدم داخل الشرق الأوسط وخارجه.

     يجب على حكومات منطقة العملة الأوروبية أن تدرك بأن الأوضاع التي لا يمكن معالجتها ينجم عنها بعض النتائج التي تتجاوز الأمور المالية المعقدة والمباشرة. يجب على هذه الحكومات التفكير بشكل شامل، وليس فقط بشكل إقليمي.

الثلاثاء، ٢١ نيسان ٢٠١٥

(رعب في ساحة الدول العظمى)

صحيفة اللوموند 13 نيسان 2015 بقلم سيلفي كوفمان Sylvie Kauffmann

      تجمع الولايات المتحدة حولها بعض الدول التي تجد مصالحها في الاحتماء تحت الجناح الأمريكي. استطاع البعض منها تنظيم نفسه في تجمعات فرعية ويشكلون وزناً مضاداً في بعض الأحيان كما هو الحال بالنسبة للاتحاد الأوروبي. إن المناخ السائد في ساحة هذه الدول العظمى جيد على الأغلب، وتحصل بعض التجاذبات فيها أحياناً، ولكنها لا تستمر لفترة طويلة أبداً. تُرحب هذه الدول العظمى ببعض الدول الأخرى أحياناً، ولكن بشرط أن تتمتع بالمستوى اللائق وأن تحترم القواعد. جاءت دولتان للاعتراض على هذه القواعد، ويسود الرعب في ساحة الدول العظمى.
      هذا ما يجري حالياً تحت أنظارنا. تعمل روسيا والصين، كل بطريقته الخاصة، على تحدي النظام الدولي للانتقال من موقع القوة الصاعدة، أو الصاعدة من جديد بالنسبة لهاتين الدولتين، إلى موقع القوة القائمة. إنهما تقومان بذلك بطريقتين مختلفتين، ولكنهما تعارضان معاً "أحادية القطب". يشعر النادي الغربي بالحيرة، ويجد صعوبة كبيرة في إدارة هذا التحدي المزدوج إلى درجة أن مسؤولاً ألمانياً رفيع المستوى أطلق على روسيا اسم "تحدي الخاسر" وعلى الصين اسم "تحدي الرابح".
      إن التحدي الروسي هو نتيجة خمسة عشرة عاماً من حكم فلاديمير بوتين بشكل أساسي على بلد خسر الحرب الباردة، وخسر الفكرة السياسية القائمة على نضوج "العالم الروسي". يعمل فلاديمير بوتين منذ انتخابه رئيساً للمرة الثالثة عام 2012 على تنفيذ استراتيجية إعادة القوة الروسية إلى فضاء لا يتوافق مع الفضاء الذي أعطاه إياه نظام ما بعد الحرب الباردة وتحرير دول أوروبا الوسطى عام 1989 وتوحيد ألمانيا وانهيار الاتحاد السوفييتي في شهر كانون الأول 1991.
      تعتبر الدول الغربية أن هذا النظام الجديد أصبح بمثابة المقبول من قبل الجميع، وذلك بعد مرور عقدين على انهيار الاتحاد السوفييتي. لكن فلاديمير بوتين صرخ قائلاً: "توقفوا، لم أعد أريد الاستمرار"، وعارض انضمام بلد إضافي هو أوكرانيا إلى المعسكر الغربي. يعتبر بوتين أن أوكرانيا تشكل جزءاً من "العالم الروسي". يُلخص الباحث المتخصص بروسيا في معهد كارنيجي في موسكو ديمتري ترينين Dmitri Trenin الوضع قائلاً: "في عام 2014، قطعت روسيا العلاقة مع نظام ما بعد الحرب الباردة". تُهدد روسيا بقيادة فلاديمير بوتين الدعامة الأوروبية للنظام الدولي، وتلجأ إلى القوة عبر تغيير الحدود وفرض وحدة أوراسية على بعض الدول المجاورة مثل روسيا البيضاء وكازاخستان اللتين توافقان طوعاً على المكاسب الاقتصادية ولكنهما تعرقلان البعد السياسي بقوة.
      تتعامل الصين مع الوضع بشكل مختلف. تتمثل استراتيجيتها أيضاً بتأكيد قوتها، ولكنها تفكر بشكل جيواقتصادي في الوقت الذي تفكر فيه روسيا بشكل جيوسياسي. في البداية، لم يكن يبدو أن الاستراتيجية الصينية تهدد النظام الدولي، بل على العكس، أعطت جميع المؤشرات على أنها تريد الانضمام إليه. ولكن إذا أرادت الصين الانضمام إليه، فلكي تطالب بجميع الاعتبارات والامتيازات التي تتلاءم مع مرتبتها التي ترتفع باستمرار على الصعيد الاقتصادي: إنه منطق لا يمكن تفاديه. كلما ازداد غنى الدولة، لكما ازدادت قوتها، وكلما أرادت الاعتراف بها بهذه الصفة.
     لا يدّعي الرئيس الصيني زي جينبينغ Xi Jinping بوجود "عالم صيني" بل بـ "حلم صيني"، إنها نسخة ناعمة لامبراطورية الوسط التي كانت تمارس نوعاً من الجذب الطبيعي داخل الفضاء الكونفوشوسي وفي آسيا بشكل عام. تكمن المشكلة في أن الصين تهدد الزعامة الاقتصادية الأمريكية بعكس روسيا التي لا يمكن مقارنة وزنها الاقتصادي بالوزن الاقتصادي الأمريكي أو الأوروبي. كما أن شعار "الحلم الصيني" يترافق مع إدارة خفية وبناء قوة عسكرية عظمى وارتفاع حرارة المواجهات في بحر الصين بشكل يُرعب بقية الدول الآسيوية. هناك حذر في ساحة الدول العظمى من وصول هذا القادم الجديد بجيوبه المليئة، إنه يأتي مبتسماً ولكن يُخفي رهانه.
     ماذا تفعل الصين؟ سئمت الصين من الرفض المستمر لإعطائها مفاتيح النادي، وقررت الاعتراض على عمله، بل وحتى افتتاح نادي آخر. لا يقتصر التهديد الصيني على عالم ما بعد الحرب الباردة، بل يشمل أيضاً النظام الاقتصادي الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقيات بروتون وودز عام 1944، والذي تُهيمن عليه الدول الغربية بشكل كبير. باعتبار أنه لا أحد يريد إعطاء الصين مكاناً يتلاءم مع وزنها في المؤسسات المالية الدولية مثل المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي أو المصرف الآسيوي للتنمية، قامت الصين بافتتاح مؤسساتها الخاصة بها، وانفتحت على بقية الدول. هذا هو ما قامت به الصين مؤخراً مع تأسيس المصرف الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية Banque asiatique d'investissement pour les infrastructures، وتريد إكماله بمصرف البريك BRIC (البرازيل، روسيا، الهند، الصين).
     ردّ النادي الغربي بشكل مختلف على هذا التحدي المزدوج الذي يطرحه نظامان يشتركان في أنهما استبداديان. ما زال النادي الغربي موحداً تجاه التحدي الروسي: تلتزم هذه الدول بموقف واحد في اللحظة الحاسمة على الرغم من وجود بعض الاختلافات المعلنة. بالمقابل، تواجه الدول الغربية التحدي الصيني بشكل مشتت. أسرع حلفاء الولايات المتحدة واحداً بعد الآخر إلى الانضمام إلى المصرف الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية الذي أسسته الصين، وذلك بخلاف الرأي الأمريكي وعلى الرغم من التحفظ على إدارة المصرف المستقبلي. انضم الأوروبيون بشكل متفرق إليه، ثم انضمت استراليا ثم اليابان وتايوان، نظراً لأن الجميع مهتم بالامكانيات الاقتصادية للتنمية الآسيوية. بقيت الولايات المتحدة بمفردها تجتر فشلها الكبير. إنها ضربة بارعة بالنسبة للصين، واكتشاف مؤلم بالنسبة للدول الغربية التي لم يعد لديها استراتيجية تجاه "الحلم الصيني" ولا تجاه "العالم الروسي".


الثلاثاء، ١٤ نيسان ٢٠١٥

(صحيفة اللوموند: "لماذا نحن مع السنة؟")


صحيفة اللوموند 3 نيسان 2015 بقلم آلان فراشون Alain Franchon
 
     طرح أحد رؤساء هيئة التحرير في صحيفة اللوموند السؤال التالي: لماذا نحن مع السنة؟ لماذا تقف الدول الغربية إلى جانب معسكر العرب السنة ضد إيران الشيعية في المعركة الإستراتيجية ـ الدينية الكبيرة  التي تعصف بالشرق الأوسط؟ إن هذا السؤال هو محور المفاوضات الجارية حول الملف النووي في لوزان. نطمئن رئيس أحد أقسام هيئة التحرير الذي طرح هذا السؤال أن خيار تحالفاتنا لا يحكمه أي تحيز ديني. إن الدول الغربية حيادية في هذا النزاع المعقد، ولم تعبر الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن موقفها تجاه الخلاف الذي يعيشه الإسلام: أي قضية خلافة النبي محمد. إن خيارهم لا تحكمه فقط حقيقة ان السنة يشكلون تسعين بالمئة من المسلمين ولاسيما العرب منهم. كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية يحبون الجميع قبل الثورة الإيرانية عام 1979 لأن هذه المنطقة غنية بالموارد النفطية.
      أقامت الثورة الإيرانية نظاماً دينياً متسلطاً يمزج بين النزعة القومية والنزعة المعادية للإمبريالية والتبشير بالشيعية. بدأت الثورة الإيرانية ضد الغرب الذي كان يدعم النظام السابق، وتسعى إلى زعزعة استقرار جيرانها العرب الذين خافوا منها. هاجمها عراق صدام حسين فور ولادتها بدعم من الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وجزء كبير من العالم العربي. عززت الثورة الإيرانية نفسها خلال الحرب مع العراق (1980 ـ 1988)، وأصبحت راديكالية، وخطفت بعض الدبلوماسيين الأمريكيين في طهران، واستخدمت بعض الميليشيات لخطف بعض الفرنسيين والأمريكيين في لبنان، وطورت بعض الشبكات الإرهابية التي كانت فرنسا إحدى ضحاياها، وتدعو إلى اختفاء إسرائيل، واستهانت بالحريات العامة داخل إيران.
     استأنفت إيران العمل في البرنامج النووي في منتصف سنوات الثمانينيات بعد تعرضها للهجمات الكيميائية من قبل العراق. أحس النظام بأن موقعه تعزز عام 2003 عندما خلصه جورج بوش الابن من عدوه اللدود صدام حسين. ترتكز طهران على الشيعة في العالم العربي، وحولتهم إلى ميليشيات مسلحة في لبنان والعراق. تهيمن إيران على حليفها القديم في سورية. تستطيع إيران الاعتماد على رغبة الانتقام لدى العرب الشيعة الذي عذبهم السنة لفترة طويلة. يعيش الشرق الأوسط حالياً ساعة الانتقام الشيعي.
     هذه هي الخطوط العريضة لكون إيران "عدونا". لهذه الأسباب وطدت الولايات المتحدة تحالفاتها التقليدية في العالم العربي ولاسيما مع السعودية. لهذا الأسباب أرادت بعض الأنظمة العربية والخليجية مواجهة التوسع الإيراني الذي يستغل أحد أمراض الإسلاموية السنية الراديكالية: أي الجهادية التي تهدد اليوم بالانقلاب عليهم. كيف يمكن الخروج من هذه الفوضى الدامية؟ يعتبر باراك أوباما أن ذلك يتم عبر تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران. لماذا؟ لأنه لا يمكن اختزال إيران بنظامها، ولأنها ليست أحادية البعد كبقية الدكتاتوريات التقليدية. إنها توفر بعض المجال للحريات السياسية، ويوجد فيها تيار إصلاحي يؤيد توثيق العلاقات مع الغرب، وهذا التيار يتوافق مع جزء كبير من الرأي العام الإيراني الذي يؤيد الغرب.
     إن المقارنة بين نظامين دينيين لا يحترما الحريات العامة كثيراً ليست في مصلحة السنة. في إيران، الكنائس مفتوحة، والنساء يعملن، ووصلن إلى المناصب في الحكومة والبرلمان. تؤهل الجامعات الإيرانية نوعية عالية من الخريجين، ولاسيما المهندسين، ولن يسمح أي شيء ولا حتى العقوبات والقصف بالقضاء على المعرفة النووية فيها. في طهران، هناك مهندسين معماريين ومثقفيين وسينمائيين مشهورين عالمياً. إن إيران مجتمع مدني متنوع ومُطلع وفخور بنفسه.
     وجه باراك أوباما رسالة تلفزيونية إلى الإيرانيين بمناسبة السنة الفارسية الجديدة بتاريخ 20 آذار، وقال ما يلي: سيكون التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي فرصة تاريخية لاستئناف العلاقات الوثيقة بين البلدين. إنه يراهن بكل منطقي على اعتدال النظام الإيراني تحت صدمة الانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي. ولكن تحالفاً غريباً يضم السعوديين والمصريين والإسرائيليين والجمهوريين الأمريكيين يعتبرونه ساذجاً. يراهن باراك أوباما على أن الاتفاق حول الملف النووي سيُطلق ديناميكية التهدئة التي ستطمئن الدول العربية، وتخفف من حدة المواجهة بين السنة والشيعة. يكافح باراك أوباما ضد الجهادية السنية، ويريد استئناف العلاقة مع إيران الشيعية. ولكن هذا التحالف الغريب الذي يعارضه يعتقد على العكس أن مثل هذا الاتفاق سيحرر إيران من العقوبات المفروضة عليه، وسيعزز ميوله التوسعية. إن هذا التحالف لا يقترح شيئاً آخراً غير معركة طويلة وغير مضمونة. على الأقل، أوباما له الفضل بأنه لديه سياسة.
 
 
 

الجمعة، ١٣ شباط ٢٠١٥

(موت مسيحيي الشرق يعني الانتحار الأخلاقي للغرب)

يعرف الجميع التعاطف الغربي مع مسيحيي الشرق منذ عدة قرون على الرغم من أن هذا التعاطف لم يقدم خدمة كبيرة للمسيحيين ولم يمنع رحيلهم البطيء من العالم العربي بعد حقبة الاستقلال حتى بداية تهجيرهم من العراق بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وحتى تسارع رحيل بعضهم من سورية منذ عام 2011. ولكن فيما يتعلق بالنظرة الغربية إلى الإسلام، بدأت آثار الانقسام السني ـ الشيعي في العالم العربي ـ الإسلامي تصل إلى الأوساط الثقافية والصحفية الفرنسية إلى درجة يمكن الحديث فيها عن مثقفين يؤيدون الشيعة مثل ريجيس دوبري وجان فرانسوا كولوسيمو وأخرين يؤيدون السنة مثل الطاهر بن جلون، أو عن صحف تؤيد السنة مثل اللوموند (كريستوف عياد) وأخرى تؤيد الشيعة مثل الفيغارو (رونو جيرار). يُلاحظ المؤيدون أن الإسلام الشيعي أكثر انفتاحاً وتقبلا للحوار، أما المؤيدون للإسلام السني فيعتبرون أن أصل مصائب الشرق الأوسط بدأ مع انتصار الثورة الإيرانية وما قاله آية الله الخميني بأن الإسلام إما أن يكون سياسياً أو لا يكون. تتطرق هذه المقابلة إلى دور المسيحيين في العالم العربي والرهان الشيعي ـ السني داخل العالم العربي ومواضيع أخرى.

مجلة الفيغارو ماغازين الأسبوعية 26 كانون الأول 2014 ـ مقابلة مع الكاتب المختص بالمسيحية جان فرانسوا كولوسيمو Jean-François Colosimo ـ أجرى المقابلة باتريس ميريتانس Patrice De Méritens ـ أصدر الكاتب جان فرانسوا كولوسيمو مؤخراً كتاباً بعنوان: (رجال فائضون عن الحاجة ـ لعنة مسيحيي الشرق) عن دار نشر Fayard


سؤال: ما الذي تسبب بتسريع مأساة مسيحيي الشرق؟
جان فرانسوا كولوسيمو: عاش مسيحو الشرق منذ القرن السابع تحت سلطة الإسلام، وخضعوا لوضع "الذمي" الذي يجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية. ولكن المسيحيين استطاعوا البقاء والاستمرار بفضل هذا التمييز العنصري الديني المشروط بضريبة خاصة، ولم يكن هناك أية مصلحة للخلفاء الإسلاميين اللاحقين بإبادتهم أو باعتناقهم للإسلام. إن سمعة التسامح المنسوبة للإمبراطورية العثمانية ناجمة عن هذه البراغماتية. لم تبدأ المأساة إلا مع بداية القرن العشرين وظهور حركة الجنسيات، عندما حاول المسيحيون استعادة سيادتهم الإقليمية والسياسية التي حُرموا منها منذ عدة قرون. ستُشجعهم القوى العظمى الأوروبية على ذلك، ثم ستتخلى عنهم: تخلى الروس عن الأرمن، ونجم عن ذلك إبادة الأرمن عام 1915؛ تخلى الفرنسيون والبريطانيون عن اليونانيين عام 1923، ونجم عن ذلك التطهير العرقي الذي صادقت عليه عصبة الأمم باعتبار أن مليون ونصف يوناني من آسيا الصغرى تم تهجيرهم إلى اليونان مقابل نصف مليون تركي عثماني في تركيا الجديدة لمصطفى كمال. فيما يتعلق بالآشوريين الذين نسيتهم لندن، تعرضوا للمذابح عام 1932 من قبل العائلة الهاشمية الحاكمة في العراق آنذاك.
     سيتشبث المسيحيون على الرغم من ذلك بإرادتهم في ضمان مستقبل أكثر حرية بعد الحرب العالمية الثانية. في المشرق، أصبحوا الناشطين الرئيسيين في الحركة المنادية بالعروبة Panarabe عبر تشجيعهم لإقامة فضاء علماني كبير عابر للقوميات وديموقراطي وعصري واشتراكي، ولم يعد العامل الطائفي موجوداً. وهكذا قام رجل مسيحي هو ميشيل عفلق بتأسيس حزب البعث الذي حكم سورية والعراق لاحقاً. كما ستعرف القضية الفلسطينية أسسها النظرية عبر إدوارد سعيد، وراديكاليتها عبر جورج حبش. في الحقيقة، إن المسيحيين مجبرون على المزاودة الناشطة مع ظهور المواجهة بين الشرق والغرب، ووجدوا أنفسهم في وضع الأقلية من جديد. حصلت القطيعة الحقيقية مع حرب لبنان بين عامي 1975 و1990: انطلق المارونيون في مغامرة التحالف مع الغرب، وتعرضت الحركة المنادية بالعروبة للإدانة بشكل تلقائي من الحركة المنادية بالإسلام Panislamisme بصفتها حصان طروادة للعلمانية. وهكذا بدأت المأساة.
سؤال: كيف تفسرون بروز الحركة المنادية بالإسلام؟
جان فرانسوا كولوسيمو: انتصرت هذه الحركة ليس فقط لأسباب سكانية بل أيضاً لأسباب إيديولوجية. لقد فرضت نفسها عبر التعويض عن انهيار الشيوعية. انتهى أمل المسيحيين في الشرق ابتداء من عام 2003 مع الغزو الأمريكي للعراق. يريد المحافظون الجدد إيجاد "فوضى خلاقة"، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير ليس فقط عبر تصدير الديموقراطية، بل أيضاً عبر عدد كبير من التبشيريين القساوسة الإنجيليين لدرجة أن المسيحيين سيُشار إليهم سريعاً بصفتهم الطابور الخامس للغزاة. لقد كانوا وسطاء بالولادة، وأصبحوا غير مرغوب بهم، ثم أصبحوا موعودين بالرحيل أو القتل. إنهم رجال فائضون عن الحاجة، وفضلا عن ذلك، أصبحوا رهائن وكبش الفداء للحرب الأزلية بين السنة والشيعة في العراق وسورية.
سؤال: ما هي هوامش المناورة أمام الأمريكيين في الوقت القادم؟
جان فرانسوا كولوسيمو: تراجعت مصالحهم النفطية في المنطقة بسبب تزايد استقلالهم الذاتي على صعيد الطاقة، والناجم عن استثمار زيت الأردواز في الأراضي الأمريكية. إذاً، من الممكن تخيل أنهم ينوون الانسحاب تدريجياً على الرغم من تورطهم تحت ضغط الرأي العام. ولكن ذلك سيعني تفتت المنطقة بين كيانات طائفية صغيرة جداً. قامت أوروبا سابقاً بترسيم الحدود الرسمية خلال اتفاقيات سايكس ـ بيكو عام 1916، وبعد مرور قرن من الزمن، نحن أمام الموزاييك العشائري في زمن الصليبيين، وتظهر الإمارات المرتجلة مرة أخرى في ظل الدول ـ القومية. تكمن مشكلة المسيحيين في أنه ليست لديهم أية إمكانية لكي يقوموا بأنفسهم بتشكيل كيانات إقليمية مستقلة ذاتياً. في الوقت الحالي، هناك أمران ضروريان بالنسبة للولايات المتحدة: الأول هو أمن إسرائيل في هذه الفترة الانتقالية على صعيد الطاقة، والثاني هو استقرار السعودية. تمثل السعودية البلد السني الرئيسي في طليعة الإسلاموية الراديكالية، ولكن يجب دعمها ضد إيران الشيعية بشكل خاص. إنه تناقض صعب لم تتمكن واشنطن من الخروج منه. كما هو الحال بالنسبة للكاتب البريطاني المشهور في بداية القرن العشرين جيلبيرت كيث شيسترتون Gilbert Keith Chesterton الذي كان يعتبر بريطانيا أول قوة إسلامية عظمى في بداية القرن العشرين، من الممكن قول الشيء نفسه عن الولايات المتحدة اليوم. لم تتأثر الولايات المتحدة كثيراً بالإسلام على أرضها بسبب سياسة الحصص (الكوتا) المتبعة، ولكنها تجد نفسها اليوم حليفة للقوى السنية الأكثر تخلفاً من أجل السيطرة على طرق الطاقة والتجارة. إذا كانت السياسة الأمريكية مُعتبرة بعدوانية كسياسة غربية في المنطقة، فإنها ليست حامية بالضرورة لكل هذا الجمود وهذه التناقضات في العالم العربي ـ الإسلامي.
سؤال: ماذا كان رهان المسيحيين بين الشيعة والسنة؟
جان فرانسوا كولوسيمو: لننظر إلى القوى الموجودة على الأرض: يحظى التحالف الدولي في العراق بدعم السعودية والإمارات وتركيا، وجميع هذه الدول تُمول أو تسهل عمل الإسلاموية السنية؛ في حين أنه على صعيد العمل الدبلوماسي، كانت فرنسا في طليعة السياسة القائمة على عزل إيران، وهو موقف لا يتحلى بالمسؤولية على المدى الطويل الأجل إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الإسلام الشيعي الفارسي والعربي حقق حلماً كان بعيد المنال بفضل تدخل الولايات المتحدة، وتمكن من بناء هلاله من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي. يُسيطر حزب الله على لبنان، ويحكم العلويون سورية، والشيعة هم أغلبية في العراق والبحرين واليمن وبالتأكيد في إيران. يمثل الإسلام الشيعي أفضل عامل في تطور العالم الإسلامي، وذلك مهما كانت الشكوك حول الغموض الحالي في العلاقة بين الإسلام الشيعي والسياسة الإيرانية. يقبل الإسلام الشيعي إعادة فتح التاريخ بعكس الإسلام السني. هناك انتظار للإمام المختفي. يمكن تفسير القانون بشكل مجازي. تحظى زوجة الرسول بالتبجيل، وتقوم النساء بدور في المجتمع، وهذا أمر ممنوع عليهن كلياً لدى السنة. إنه إسلام الصورة، ويشهد على ذلك المنمنمات الفارسية والسينما الإيرانية، إنه إسلام الثقافة التي تقبل التاريخانية (كون الشيء تاريخياً وواقعاً)، ويمكن أن يكون عاملاً للمصالحة مع الحداثة. على صعيد التحالف، إذا كان مسيحيو لبنان منقسمين بين تيارين، فإن السلطة الدينية المسيحية في سورية اختارت دعم نظام بشار الأسد لكي تتجنب وقوعها، لكي لا نقول قتلها، تحت نظام إسلامي يفرض الشريعة الإسلامية. فيما يتعلق بالماريشال السيسي، إنه يندرج في سياق التقاليد المصرية للإسلام الصوفي  الذي يقبل اللقاء مع الآخر والتاريخ، وهي ضمانات للبقاء على قيد الحياة بالنسبة للأقباط. الخلاصة: تتموضع القوى الحية في العالم المسيحي المشرقي على النقيض من التحالف السياسي ـ العسكري الغربي...
سؤال: كيف تُعرّفون الضمير الغربي في مواجهة المأساة الجارية حالياً؟
جان فرانسوا كولوسيمو: إنه ضمير لا يُدرك الرهانات في أغلب الأحيان، وذلك بسبب الجهل بالمسيحية التي تمثل ديناً شرقياً أولاً: إن مسيحيي آسيا الصغرى ليسوا بعض الإخوة الصغار الضائعين، بل آباؤنا في تدرج الإيمان والحضارة. النقطة الثانية هي إنكار تاريخنا الخاص: وبذلك حذفنا بيريكليس Périclès (رجل دولة في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد) من مقدمة الدستور الأوروبي بحجة أن أثينا كانت مهد النفي والإبعاد. إن إنكار أوروبا بصفتها كحلم طوباوي للمستقبل يدل على وجود انزعاج أكيد من الارتباك بالمسيحيين على الرغم من أنهم مؤسسو سلالتنا. النقطة الثالثة هي ملاحظة أخطاءنا التاريخية الأخيرة: في كل مرة تقوم فيها الحكومات الغربية بتحريض المسيحيين على التحرك، ينقلب ذلك ضدهم مع ما ينجم عن ذلك بخصوص التخلي الممنهج عنهم. أخيراً، هناك تخل فرنسا التي أرادت حماية المسيحيين منذ الملك سان لوي حتى الجمهورية الثالثة (التي انتهت حقبتها الزمنية باحتلال النازيين لفرنسا). لقد تخلينا عن كل شيء منذ اغتيال سفيرنا لوي دولامار Louis Delamarre عام 1981 وقضايا رهائننا في لبنان، وذلك بخلاف روسيا التي بقيت مدركة لمصالحها. علاوة على ذلك، لقد ارتكبنا خطأ مزدوجاً: الأول هو إبعاد إيران بناء على طلب السعودية، وذلك على الرغم من أن الإيرانيين هم الوحيدون القادرون في هذه المنطقة على قتال داعش بفعالية على الأرض بالنظر للتأثير المحدود للقصف. الخطأ الثاني هو إبعاد روسيا بسبب القضية الأوكرانية. ما زال عدد من المسيحيين الأورثوذوكس في الشرق يعتمدون على روسيا بسبب قربهم الطبيعي منها. فيما يتعلق بالكاثوليكيين الذين اعتادوا المجيء إلى باريس، أصبحوا يفضلون ركوب الطائرة إلى موسكو. من الممكن، على الأقل، الأمل بأن تتوقف باريس عن الإرادة بإبعاد موسكو عن المسألة الجديدة في الشرق لكي لا تخون قضية المسيحيين بشكل أعمى.
سؤال: في هذا السياق القائم على التخلي، ما الذي يمكن انتظاره من فرنسا حتى الآن؟
جان فرانسوا كولوسيمو: ما زالت فرنسا تتميز بتعبئة المسيحيين الكاثوليك بشكل خاص، ولكن من المؤسف أن حكومتها لا تنوي القيام بأعمال أخرى غير الأعمال الخيرية. إن منح تأشيرات الدخول إلى مسيحيي العراق الآشوريين والكلدانيين لكي يكتشفوا أنه من الممكن البقاء مادياً في فرنسا دون ضمان بقاءهم الروحي فيها، لا يُشكل سياسة. كانت عبقرية فرنسا تتمثل في معرفتها الوثيقة بالعالم العربي ـ الإسلامي مع مقاربة تاريخية وسياسية وثقافية للشأن الديني، ثم اختفت فرنسا حامية مسيحيي الشرق. فرنسا هي المعقل الأخير للمحافظين الجدد في العالم، وانطوت على نفسها، والتزمت سياستها بالسياسة الأمريكية بشكل يتصف بقصر مذهل للنظر. يشبه الوضع مع فرانسوا هولاند كما لو أن شبح غي موليه Guy Mollet (رئيس مجلس الوزراء الفرنسي من شباط 1956 حتى حزيران 1957) حل مكان شارل ديغول في قصر الإليزيه.
سؤال: هل تطرح علمانيتنا بعض الممنوعات على الصعيد السياسي؟
جان فرانسوا كولوسيمو: إن العمل الإنساني مُشتق من العمق المسيحي، ولكن مع توجه إيديولوجي يميل إلى اعتبار أن الاهتمام بالمسيحيين سيكون تصرفاً مبالغاً بالطائفية، كما لو أنهم ضحايا أقل من الآخرين... ينظر إليهم الاتحاد الأوروبي الذي يرفض بعناد منذ عدة سنوات الحديث عن مسيحيي الشرق، ولا يتحدث إلا عن مصير الأقليات بشكل عام. مرة أخرى، كما لو أن الموقف الديني يُلوث الكلام، وكما لو أنه يجب أن يتوافق الموقف الإنساني مع موقف عمومي مجرد. يدفع مسيحيو الشرق هنا ثمن موقفهم كوسيط بين الشرق والغرب، وهي كارثة أخلاقية بالمحصلة: تعتبرهم الإسلاموية كمتعاونين مع العدو، في حين أننا لسنا بعيدين عن النظر إليهم كجزء تكميلي. عندما تُقرع طبول الحروب، من المعروف ماذا سيحصل بهم: يتم التخلي عنهم. إذاً، من الصواب أن يلتقي قداسة البابا فرانسيس مع البطريرك بارتولومي، ويعلنان أثناء لقائهما في استانبول الكلمات التالية: "لا يمكننا القبول بنهاية المسيحية في المكان الذي ولدت فيه". بالنتيجة، لا بد من تدخل دولي عسكري حقيقي ضمن نطاق قانون الحرب العادلة. إن قيام هذين الرجلين من دعاة السلام بالحديث عن هذا الوضع العاجل هو أمر ذو دلالة: يجب على الحكومات الاعتراف بوجود مسيحيي الشرق، وأنهم ليسوا عاملاً متغيراً حسب الظروف.
سؤال: لماذا ستُدخلنا مجزرة مسيحيي الشرق في شكل من أشكال ما بعد التاريخ؟
جان فرانسوا كولوسيمو: إذا استسلم الغرب أمام هذا الأمر، فسوف يكون ذلك منعطفاً في تاريخ الإنسانية ليس فقط لأنهم صلة أساسية مع الحضارات السابقة للكتابة في بلاد ما بين النهرين أو مصر (إنهم يحملون الثقافة في شعائرهم الدينية)، وليس فقط لأنهم الحلقة التي لا غنى عنها بين أوروبا وآسيا، بل أيضاً لأن حياتهم بأكملها متعلقة بالتدين، أي الشعائر الدينية والصلاة والتصوف والنظام الهرمي العمودي. لقد تعرضوا للاضطهاد والنبذ والترحيل والقتل، ولكنهم ما زالوا على قيد الحياة بفضل هذا البعد الرمزي. إن القبول بإبادتهم يعني القبول بأن الإنسانية الشاملة للعولمة أصبحت محرومة من جذورها. إن الموافقة على اختفائهم سيؤدي في الحقيقة إلى الإعلان عن أننا نتجه نحو عالم من الإلحاد.



الاثنين، ٢٦ كانون الثاني ٢٠١٥

رواية فرنسية عن انتخاب رئيس مسلم في فرنساعام 2022

  هل يمكن انتخاب رئيس مسلم في فرنسا؟ على أي حال، هذا هو موضوع رواية نزلت إلى المكتبات الفرنسية يوم الأربعاء 7 كانون الثاني 2015، أي في اليوم نفسه الذي حصل فيه الاعتداء الإرهابي على مجلة شارلي إيبدو. كاتب هذه الرواية هو ميشيل ويلبيك Michel Houellebecq، وعنوان الرواية: (خضوع) Soumission. تدخل هذه الرواية ضمن نطاق الخيال السياسي، كما هو الحال بالنسبة لكتب الخيال العلمي المعروفة للجميع. حظيت هذه الرواية بتغطية إعلامية واسعة قبل صدورها بأسبوع واحد إلى درجة استضافته في نشرة الأخبار المسائية في القناة الثانية للتلفزيون الفرنسي، ولكن هذه التغطية الإعلامية تضاءلت كثيراً منذ الاعتداء الإرهابي، وتحاول وسائل الإعلام الحكومية والخاصة التعامل مع الإسلام في فرنسا بصفته الضحية الأولى للإرهاب بدلاً من كونه تهديداً يمكن أن يصل إلى السلطة حسب الرواية المذكورة.
     تتحدث الرواية عن فوز رئيس مسلم اسمه محمد بن عبس بالانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2022 ضد فرانسوا هولاند، وذلك بفضل تحالف اليمين واليسار مع الحزب الإسلامي "الإخوة الإسلامية" ضد رئيسة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبين. يوافق الحزب الإسلامي على إعطاء الوزارات السيادية إلى حلفائه، ويكتفي بالحصول على وزارة التربية، ويحترم الحريات العامة، ويلتزم بخطاب معتدل. يهتم هذا الحزب بإنعاش الوضع الاقتصادي والإشعاع الحضاري الفرنسي بشكل خاص، ويفاوض على انضمام الدول الإسلامية إلى الاتحاد الأوروبي. بالمقابل، يقوم حزب "الإخوة الإسلامية" بأسلمة الجامعات عبر رؤوس الأموال السعودية والقطرية، ويُلغي المساواة بين الرجل والمرأة عبر تشجيع عودة المرأة إلى المنزل والسماح بتعدد الزوجات وتعميم ارتداء الحجاب الإسلامي. يمثل بطل الرواية أستاذ جامعي مختص بالكاتب هوسمانز J-K Huysmans (عاش بين عامي 1848 و1907 واعتنق الديانة الكاثوليكية هرباً من "انحطاط القيم في المجتمع الأوروبي")، وهو شخصية مكتئبة جداً، وعاش تجارب عاطفية حزينة أو مدفوعة الأجر. تعتنق هذه الشخصية الإسلام لأنها تريد العودة إلى منصبها الجامعي في جامعة السوربون، ولأنها تجد أن الزواج بإمرأتين شابتين ومطيعتين أو ثلاثة أمراً ملائماً.
     لا يمكن معرفة رأي الكاتب من خلال الرواية، وهل يؤيد وصول رئيس مسلم إلى الحكم أم أنه يخشاه؟ الأمر الذي دفع ببعض النقاد إلى اعتبار أن أنصار حزب الجبهة الوطنية وأنصار الإسلام السياسي معاً سيُعجبون بهذه الرواية. تضمنت الرواية  أسماء بعض الشخصيات السياسية والإعلامية والفكرية مثل نيكولا ساركوزي وفرانسوا بايرو وغيرهم، وكانت نظرتها إليهم سلبية. يبحث ميشيل ويلبيك في رواياته بشكل عام عن عيوب المجتمع الفرنسي، ويحاول إيجاد الحلول لها، ويعتبر أن المجتمع الغربي لا يمكنه البقاء على قيد الحياة بدون العودة إلى دين ما. على سبيل المثال، يعتبر الكاتب في روايته أن تعدد الزوجات يمكن أن يكون حلاً للمشاكل الجنسية، وأن إخراج المرأة من سوق العمل يمكن أن يكون حلاً لمشكلة البطالة.
     تمثل هذه الرواية صدى لأصحاب بعض الفرضيات التي تظهر في أوروبا، وتتنبأ بتحول أوروبا إلى أرض إسلامية مثل كتاب Eurabia للكاتب البريطاني بات يعور Bat Ye’or (ورد اسمه في الرواية)، أو الكاتب الفرنسي رونو كامو Renaud Camus الذي يدين "الاستبدال الكبير" للمسيحيين في القارة العجوز بشعب إسلامي شاب.

مقابلة مع ميشيل ويلبيك Michel Houellebecq ـ صحيفة لوبس (النوفيل أوبسرفاتور سابقاً) 8 كانون الثاني 2015 ـ العنوان: (ماتت الجمهورية) ـ أجرت المقابلة أود لانسلان Aude Lancelan
سؤال: تُجسد روايتكم الجديدة (خضوع) النظرات الأكثر تشاؤماً لأحزاب اليمين المتطرف حول أسلمة مجتمعاتنا. هل هذه هي رؤيتكم للمستقبل الأوروبي؟ هل هو تغير ممكن برأيكم؟
ميشيل ويلبيك: إنها "خيال سياسي"، خيال محتمل. ولكنني أقوم بتسريع الأحداث قليلاً، إن عام 2022 مبكر جداً. لا أعرف بالضبط ما الذي تخشاه أحزاب اليمين المتطرف، ولكن من المحتمل أنها لا تخش أبداً ما هو مكتوب في هذه الرواية، أي: بناء قوة عظمى إسلامية غربية ومتوسطية ومعتدلة على نمط الإمبراطورية الرومانية، وأن تقوم فرنسا والفرانكوفونية بدور المحرك فيها. إن هذه السياسة للتحالف مع الدول العربية ربما لن تزعج بالضرورة ديغول.
سؤال: أتذكر أنني سمعتكم تقولون في ذكرى تأسيس مجلة "Art Press" بنهاية عام 2012 أنكم كنتم متأثرون جداً بما شاهدتمونه في بروكسل آنذاك حول انتشار الحجاب والإسلام الراديكالي في بروكسل. هل مثل هذه الأمور ساعدت في صياغة هذه الرواية؟
ميشيل ويلبيك: في الحقيقة، لا أبداً. إن نقطة البداية هي إحدى الشخصيات في الرواية التي كان يفترض بها أن تعتنق الكاثوليكية، وسنعود إليها لاحقاً. نعم، لقد تأثرت جداً في بروكسل، ولكن لدي أيضاً بعض الاتصالات في مدينة سان دوني Saint Denis وأرجانتوي Argenteuil  (مدينتان في ضواحي باريس ينتشر فيهما الحجاب والإسلام الراديكالي أيضاً). وفيما يتعلق بعلاقات بعض المنظمات الإسلامية مع الدول الخارجية، قدمت لي كتب جيل كيبيل Gilles Kepel (باحث فرنسي متخصص بالإسلام) مساعدة لا غنى عنها.
سؤال: مرة أخرى كما هو الحال دوماً منذ روايتكم "الجزئيات الأولية" (Les Particules élémentaires)، هناك شعور عميق بأن روايتكم تكشف عيوب مجتمعاتنا بشكل صارخ، وأنها تعمل على تعميقها ومفاقمتها... هناك انزعاج حول الإسلام في فرنسا لدى جزء من السكان على الأقل، وهناك العديد من الديماغوجيين يستغلون هذه الانزعاج. هل تدركون أن البعض يخشون من التأثير الضار الذي قد ينجم عن روايتكم؟
ميشيل ويلبيك: لا. أنا قمت بالتقاط وضع ما، هذا كل شيء. أنا أنجح في الالتقاط لأنه ليست لدي أفكار مسبقة، أنا حيادي. أنا أعمل كما لو أن السياسة التي تلتزم بالمواقف المقبولة من الأغلبية "Politiquement correct" لم تكن موجودة أبداً. أنا لست مثقفاً ينتمي إلى يسار الوسط (ويضحك). ليس لدي أي شيء لأعطيه غير رؤيا للعالم، ولكنني متمسك بإعطائها.
سؤال: إنها رؤيا للعالم يمكن أن تكون مؤثرة، ولاسيما عندما يتم التعبير عنها بقوة...
ميشيل ويلبيك: لا أعتقد. إن الذي يُغيّر العالم هو النصوص الإيديولوجية البحتة بدون شخصيات وبدون تعقيدات من هذا النوع، وبشكل خاص عبر أشياء مختصرة. غيّر المسيح العالم، وكان يُعبّر عن رأيه باختصار. كما أن جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau أيضاً كان يتحدث بقوة من وقت لآخر. ويعرف ماركس أحياناً كيف يفعل ذلك. إن الرواية ليست عملاً ناجزاً "Performatif".
سؤال: ولكن رواياتكم يمكن أن تكون ناجزة، ونحن من الكثيرين الذين يعتقدون ذلك. إن النظرة الويلبيكية (كلمة مشتقة من كنية الكاتب) للعالم تشعبت داخل التيارات المعاصرة، وأحياناً بشكل سيء.
ميشيل ويلبيك: يحث الفن الروائي نفسه على الغموض. إن الشخصية الرئيسية في هذه الرواية ـ وبالتالي كاتب الرواية ـ تغرق في دوامة من النظرة النسبوية "Relativisme" الشاملة؛ إن تأثر هذه الشخصية بالكاتب هوسمانز Huysmans (1848 ـ 1907) لم يساعد في حل الأشياء. بالتأكيد، لا يمكن تغيير العالم بهذا الشكل. يمكن تغيير العالم مع القناعات البسيطة والعنيفة والمُصاغة بوضوح.
سؤال: أنتم تثقون بذكاء الناس...
ميشيل ويلبيك: على أي حال، أنا أثق بذكاء الطبقات الشعبية أكثر من ثقتي بالنخب. أنا هادئ: ربما ستحرض هذه الرواية على الجدل لدى أولئك الذين يكسبون حياتهم عبر الجدل، ولكن الجمهور سيستقبلها باعتبارها كتاباً استباقياً يتوقع المستقبل دون أية علاقة حقيقة مع الواقع.
سؤال: ولكنهم سيكتشفون أيضاً بعض الأفكار الصاعدة. يعتبر الكاتب رونو كامو Renaud Camus، الذي جعلتمونه في الرواية أحد الذين يكتبون كلمات مارين لوبين، أن "الاستبدال الكبير" Grand Remplacement (المقصود بهذا التعبير استبدال سكان أوروبا المسيحيين بالسكان المسلمين) هو: "الصدمة الأكثر خطورة التي عرفها وطننا منذ بداية تاريخه باعتبار أنه إذا استمر تغيّر الشعب حتى نهايته، فإن التاريخ الذي سيعقبه لن يكون تاريخ الوطن ولا تاريخنا". ما هو رأيكم؟
ميشيل ويلبيك: لا أعتقد أن المشكلة هنا. لم يتطرق كتابي إلى مسألة الهجرة إلا بشكل محدود جداً. الهجرة هي عامل مُسرّع، ولكن الأسلمة تحصل من الداخل.
سؤال: ماذا تقصدون بذلك؟
ميشيل ويلبيك: تستطيع مارين لوبين إيقاف الهجرة، ولكنها لا تستطيع إيقاف الأسلمة: إنها عملية روحانية، وتغير في الموازين، وعودة إلى العامل الديني. لا يتعلق الأمر بالتركيبة العرقية للشعب، بل يتعلق بنظام قيمه ومعتقداته.
سؤال: في روايتكم (خضوع)، يقوم العميد الجديد لجامعة السوربون باعتناق الإسلام، ويقول أنه التقى بعدد قليل جداً من الملحدين خلال حياته. هل تعتقدون حقاً أن الوضع اليوم يمكن أن يرتد لصالح الدين، وأن العودة الحقيقية للعامل الديني ممكنة تحت شكل آخر غير الخيال أو مجرد ردة فعل بحتة؟
ميشيل ويلبيك: نعم، وأرى جيداً أنكم لا تأخذوا هذه الفرضية على محمل الجد، ولكنني أؤمن بها جداً. كان أوغست كونت Auguste Comte (فليسوف فرنسي عاش بين عامي 1798 و1857) قد تنبأ بذلك قبلي. ولكنه كان يعتقد بدين جديد، وأنه هو صانع هذا الدين الجديد. إن الفشل المُضحك لـ "الدين الإيجابي" أنسى الرسالة الأولى لأوغست كونت وهي: استحالة بقاء أي مجتمع بدون دين ما. يبدو لي أنه من الصعب اليوم إنكار العودة القوية للعامل الديني. لقد وُلِد تيار فكري مع البروتستانية، ووصل إلى أوجه خلال عصر التنوير، وأنتج الثورة الفرنسية التي أصبحت اليوم في طور الاحتضار. لم يكن كل ذلك إلا فترة خارجة عن الإطار العام للتاريخ الإنساني. اليوم، مات الإلحاد، وماتت العلمانية، وماتت الجمهورية. في البداية، كان يُفترض أن يكون اسم الرواية "الاعتناق" la Conversion، وكان يُفترض أن يتأثر بطل الرواية بالنعمة الكاثوليكية كما حصل مع هوسمانز قبل قرن من الزمن. يمكن أن يكون ذلك جيداً جداً ومسلياً جداً، كان من الممكن أن يلتقي مع كاثوليكيين اعتنقوا البروتستانتية، وربما كان سينفر من ذلك.
سؤال: في أية لحظة قررتم إدخال الإسلام في الرواية؟
ميشيل ويلبيك: بدا لي ذلك طريقاً مستحيلاً عندما وصلت إلى مشاهد العذراء السوداء La Vierge noire التي تجري في روكامادور Rocamadour  (مدينة في جنوب ـ غرب فرنسا). ولكنني لا أستطيع أن أقول لكم لماذا: أحسست عندها أنني عاجز عن سرد اعتناق الكاثوليكية، وأحسست في الوقت نفسه بمأزق الإلحاد بشكل عنيف.
سؤال: ظاهرياً، يواصل حزب الجبة الوطنية إبراز العلمانية من أجل مواجهة الإسلام إلى درجة جعل فيها المسلمين العاديين أهدافاً حقيقية. ولكن هذا الحزب هو الذي يبرز ويجذب الناس بدلاً من الإسلام الذي تتنبأ روايتكم بانتصاره في مستقبل ما بعد الغد...
ميشيل ويلبيك: لستم مخطئين. ولهذا السبب نحن في وضع لا يمكن تنبؤه بسهولة وفصامي Schizophrène. لأن حزب الجبهة الوطنية أقرب بكثير من قيم المسلمين في العديد من الجوانب بالمقارنة مع قرب الاشتراكيين من المسلمين.
سؤال: يبدو أن أنصار حزب الجبهة الوطنية لا يعرفوا ذلك أبداً.
ميشيل ويلبيك: لا، ولهذا السبب إن الوضع غريب جداً. على صعيد المجتمع، إن المسلمين كما يقال حالياً هم أقرب إلى اليمين أو حتى إلى أقصى اليمين الذي يرفضهم بعنف. إذاً، إن المسلمين في وضع مزعزع. ماذا يمكن لمسلمي فرنسا أن يصوتوا؟ لا يمكنهم التصويت لصالح الاشتراكيين الذي أقروا الزواج المثلي، ولا يمكنهم أيضاً التصويت لصالح أحزاب اليمين التي تريد طردهم. بالتأكيد، سيكون الحل الوحيد بالنسبة لهم تشكيل حزب إسلامي.
سؤال: نحن بعيدون عن ذلك...
ميشيل ويلبيك: هذا مؤسف جداً برأيي. بشكل عام، ينقص الإسلام ممثلين مسموح بهم. على سبيل المثال، من المؤسف أنه ليست هناك سلطة روحية إسلامية لكي تقوم شبيه بدور البابا في الفاتيكان.
سؤال: ولكن هل تم السماح ببروز مثل هؤلاء الممثلين؟ على الصعيد الفرنسي، إن شخصية مثل طارق رمضان (حفيد حسن البنا) تتمتع بشعبية كبيرة لدى المسلمين خلال سنوات عام 2000، ولكن وسائل الإعلام والسلطة حطمتها...
ميشيل ويلبيك: لا يقع على عاتقنا السماح أو عدم السماح ببروزهم. يقع على عاتق الإسلام أن يُنظم نفسه. في الوقت الحالي، انظروا إلى أية عملية تفجير أو اغتيال، ستجدون أن رجال الدين السعوديين يقولون عنها: هذا جيد جداً. يقول لكم البعض الآخر: لا، إنه أمر مناقض كلياً للإسلام. كيف تريدون أن يجد المسلم العادي طريقه هنا؟ ولكنني كنت أتحدث عن سلطات روحية جدية وليس عن أحد المثقفين مثل طارق رمضان. إن مشكلته الحقيقية هو أنه اختار اليسار، وهو موقف خاسر. لو أنه تعاطف مع الأفكار الليبرالية لدى أحزاب اليمين، سيكون اليوم سعيداً مع وسائل الإعلام.
سؤال: في رواية (خضوع)، هل من الصحيح الإشارة إلى تفسير راهن جداً ما بين السطور مع نيتشه؟
ميشيل ويلبيك: بالنسبة لي، نيتشه هو أحد الأشخاص الرئيسيين منذ وقت طويل جداً. أنا معجب به جداً، ولكنه يُزعجني في الوقت نفسه. لقد قرأته كثيراً لدرجة أنه لم يعد يسليني. أنا معجب بفقرة في الكتاب الذي أتحدث فيه عن "ذكاء المومس العجوز"، عندما يرى في المسيحية ديناً أنثوياً.
سؤال: النساء غير مسرورات أبداً في عملكم... إذا لم يكنّ عجائز مذهولات يمتن بسرطان الرحم في روايتكم (الجزيئات الأولية)، فإنهم عاهرات في روايتكم (الرصيف) Plateforme، أو يهتدون إلى نظام تعدد الزوجات في روايتكم (خضوع). كيف تفسرون ذلك؟
ميشيل ويلبيك: أنا لست مقتنعاً أبداً بأن النساء قادرات على الوقوف تحت راية واحدة. من الممكن أن تكتفي بعضهن بمثل هذا النظام. إن مشهد القطار السريع بين مدينتي بواتييه وباريس يتسم بالغموض: هل هناك رغبة بأن نأخذ مكان رجل الأعمال المُرهق أو زوجاته الشابات المتمردات اللواتي يفتقدن للتحلي بالمسؤولية؟ ما الفائدة من الاستقلال الذاتي؟ أنا لا أتمسك بخطاب أنثوي، بل أتمسك بخطاب واقعي. على أي حال، تتصف النقاشات الإيديولوجية بالغموض باعتبار أن النظام الأبوي سينتصر في النهاية من جهة النظر السكانية. عشت لحظة حقيقية من الشك بعد موت فيليب موري Philippe Muray (كاتب وروائي فرنسي عاش بين عام 1945 و2006): كنا في تعارض شبه دائم عندما كان على قيد الحياة، وكنت أشعر بالضيق لأنني كنت معجب جدأً بكتاباته، ولكنني كنت مقتنعاً بأن النظام الأبوي سينتصر على المدى الطويل. أكدت الأحداث بعد موته مباشرة، وبالتحديد بعد انتخاب فرانسوا هولاند، جميع نظرياته بسرعة وباتساع لم يكن ليحلم بها؛ إذاً، نعم، قلت لنفسي أن فيليب موري كان على حق، وأنني كنت مخطئاً تماماً. كنت حزيناً لأنه مات قبل أن يعرف نجاة فالو بلقاسم Najat Vallaud-Belkacem (المدونة: وزيرة التربية والتعليم في فرنسا حالياً). يبدو لي الآن، وهذا لا يقلل من احترامي له، أنه أنا الذي كنت على حق في نهاية المطاف. اختفى الفكر الاشتراكي شيئاً فشيئاً، كما لو أنه لم يكن موجوداً إطلاقاً. لم يكن هناك فكر يميني على الإطلاق، ولكن اليمين وجد نفسه منتصراً دون أن يحارب. في الوقت الذي كان فيه التقدميون يحاولون نشر الخطابات التقدمية ويمارسون الجنس الجماعي بشكل غامض، كان المحافظون يُنجبون بكثرة، وينقلون قيمهم إلى أطفالهم. أصبح هؤلاء الأطفال موجودين الآن، وهم كثيرون ومتنورون بشكل مخيف، ويلبسون القمصان الرياضية، ووصلوا إلى العمر الذي يسمح له بالنشاط على الصعيد الاجتماعي والسياسي. في الحقيقة، أنا لا أقول إلا الأشياء التي يعرفها الناس أصلاً.
سؤال: فيما يتعلق بالسؤال حول مكانة المرأة، إن الرهان لا يتعلق فقط بمصير اليسار بل بالثقافة الغربية بأكلمها. إن نظام الزواج بشريك واحد فقط هو من اختراع  المسيحية إلى حد ما، كما يقول دوني دوروجمون Denis de Rougemont (فيلسوف سويسري عاش بين عامي 1906 و1985)...
ميشيل ويلبيك: لحسن الحظ، تمكنت الكاثوليكية من السيطرة بسرعة على هذا الجانب المزعج من المسيحية. (يضحك). وهكذا عدنا إلى نظام بطريركي صلب. في الحقيقة، أنا لا أحب المسيح إطلاقاً. إنه شخصية كريهة بالنسبة لي، ولكنني معجب في بوذا.
سؤال: هل تصلبه هو الشيء الذي لا تحبه؟
ميشيل ويلبيك: لقد خرّب المجتمع الذي يعيش فيه بدون جدوى. إنه ثوري قليلاً بأحد المعاني. أنا لا أحب هؤلاء الأشخاص.
سؤال: ولكنكم أنتم أيضاً شخصية محافظة غريبة... في عملكم على أي حال، أنتم تبحثون دوماً عن حلول طوباوية مستوحاة من أفكار رجعية.
ميشيل ويلبيك: ولكن نعم، أنا محافظ! عندما ينجح شيء ما، أتمنى الحفاظ عليه. إنه ليس موقف سياسي، إنه أكثر عمومية من ذلك. الشخص المحافظ هو الذي يحاول تقليل الجهد. إذا نجح شيء ما، نتركه على حاله دون تعديل. عندما ينجح زواج ما بنسبة 50 %، نتركه دون تعديل، وهذه معجزة بحد ذاتها. إن النزعة المحافظة مشتقة من الكسل والتشاؤم. ولكن إذا لم ينجح شيء ما، أو لم يعد ناجحاً، فإن الشخصية المحافظة تتحول إلى شخصية ثورية، وتصبح مستعدة لتغيير كل شيء والمضي إلى ما هو أبعد بكثير من التقدمي. أنا أدرك أنني أضجرت الجميع اليوم مع الديموقراطية المباشرة، ولكنني أؤمن بها حقاً: أصبح نظام الأحزاب والديموقراطية التمثيلية مُتعباً، ونحن بحاجة إلى تغيير النظام. من الخطأ الاعتقاد بأن الديموقراطية المباشرة هي طوباوية بعيدة المنال. أمضيت مؤخراً ليلة السنة الجديدة عند صديق اسباني، وهو الذي أهديته روايتي (إمكانية جزيرة) La Possibilité d’une île، واندهشت جداً عندما أدركت أنه أصبح أحد الدعاة الإيديولوجيين للحركة اليسارية بودوموس Podemos. أنا موافق على الكثير من الأشياء التي يؤيدها مثل: اللجوء إلى الاستفتاء، إمكانية إبعاد المسؤولين السياسيين... لم يمض على وجود هذه الحركة إلا عام واحد، وهي اليوم القوة السياسية الأولى في اسبانيا في استطلاعات الرأي! عندما تصل الأمور إلى هذه الدرجة من الفساد، يمكن أن تبدأ التحولات بسرعة.
سؤال: رحّب بكتابكم قبل صدوره كل من الفيلسوف آلان فانكيلكرو Alain Fenkielkraut، والموقع الإلكتروني العلماني المقرب من اليمين المتطرف Riposte laïque ومن الفرنسيين من أصول فرنسية، وبعض المواقع الإلكترونية الفاشية الأخرى. ألا تخشون أن تكون روايتكم (خضوع) عرضة للاستخدام من قبل بعض الأشخاص الذين تختلف أهدافهم السياسية عن هدفكم؟
ميشيل ويلبيك: قرأت قبل قليل المقابلة التي أجراها ألان فانكيلكرو حول روايتي، ووجدتها ممتازة. إنه ليس متفائلاً جداً حول إمكانية استخدامي لغايات أخرى. إن روايتي غامضة بشكل أساسي، ويمكن النظر إليها ككتاب يائس أو ككتاب متفائل. على أي حال، يبدو أنه من الممكن إعادة بناء بعض الأشياء الودية تماماً مع المسلمين. إن التسوية ممكنة بين الكاثوليكية الصاعدة والإسلام. ولكن يجب أن ينكسر شيء ما من أجل تحقيق ذلك، وهذا الشيء هو الجمهورية.
سؤال: ولكن هناك سوء تفاهم منذ البداية حول تلقي أعمالكم. لقد احتفى بها اليسار وبعض أجهزته الشبابية لفترة طويلة، ولكن أعمالكم أشاعت احتقاراً حقيقياً للنزعة التقدمية المبالغ بها Progressisme إلى درجة التمني بموت اليسار بأكمله. كيف تفسرون ذلك؟

ميشيل ويلبيك: من المحتمل أنها موهبتي التي جعلت من المستحيل اعتباري عدواً ممكناً. كما أنني لا أشبه العدو الكلاسيكي لليسار. أنا لا أنتهك السياسة التي تلتزم بها الأغلبية؛ وأعالجها كظاهرة غريبة وشاذة أراها من بعيد جداً كما لو أنها لا تتعلق بي فعلاً. يسمح لي ذلك بمعالجة الأمور بدعابة وجدية في آن معاً. أنا أطرح بعض الأسئلة التي لا يستطيع اليسار الإجابة عليها، ولا حتى اليمين. إن الذي يهمني حقأً هو السؤال المتعلق بمعرفة فيما إذا كان العالم مُنظم أو لا. أنا أتعامل مع الدين بجدية. أنا أتعامل مع النزعة المادية بجدية. إن هذا المزيج بين الدعابة والجدية هو الذي جعلني أتجاوز جميع المصاعب والانتقادات.

الأحد، ٢٨ كانون الأول ٢٠١٤

(كيف تتحول السجون الخاصة إلى معامل)

عنوان الكتاب: (خلّصني من هذا الشحم! جولة صغيرة في الكابوس الأمريكي) ـ الكاتب: المخرج السينمائي الأمريكي  المعروف مايكل مور Michael Moore. صدرت الطبعة الانكليزية عام 1996 ـ 1997 وصدرت الطبعة الفرنسية عام 2000 عن دار نشر La découverte & Syros.

"الفصل 17
منشور إعلاني من شركة مايك بينال Mike’s Penal, INC
قال بوب تيسلر Bob Tessler رئيس شركة تعمل مع المساجين: "إن اليد العاملة في السجون متحمسة جداً، إنهم أشخاص يريدون العمل فعلاً. هذا ما يجعلها صفقة مربحة".

منشور إعلاني بعنوان: (عرض لا يجب تفويته)

    تطرح شركة مايك بينال مليون سهم للبيع بسعر خمسة وعشرين دولار للسهم الواحد، وتعرض عليكم فرصة المشاركة في مغامرة داخل قطاع تتصف آفاق نموه وربحيته بأنها الأكثر إثارة في الاقتصاد الأمريكي، أي قطاع السجون الخاصة!
     بشرائكم لأسهمنا تصبحون شريكاً لشركة مايك بينال، وهي شركة فريدة من نوعها لخدمة الناس والمساهمين في الشركة. لا تكتف شركة مايك بينال ببناء وإدارة السجون الخاصة. كما هو الحال بالنسبة لبقية السجون الحكومية والخاصة في بلدنا، توفر شركة مايك بينال اليد العاملة المسجونة لصالح بعض الشركات الرائدة في مجال عملها والقادرة على إنتاج السلع والخدمات بكلفة فائقة التنافسية.
     بالإضافة إلى ذلك، نعرض عليكم فرصة استثمارية بدون مخاطر تقريباً. في الحقيقة، لا شيء يسمح بالتوقع بنقص الأيدي العاملة المسجونة في الولايات المتحدة في المستقبل القريب.

قطاع في أوج نموه
     تضاعف عدد المساجين في الولايات المتحدة ثلاث مرات خلال السنوات الخمسة عشرة الماضية. توفر السجون الأمريكية حالياً مليون ونصف مكان للمساجين، وكل معتقل يُكلف الحكومة خمسة عشرة ألف دولار سنوياً.
     بدأت بعض الشركات الخاصة منذ بعض الوقت باقتراح تقديم الخدمات نفسها إلى السلطات بكلفة أقل، بالإضافة إلى تحقيق أرباح كبيرة. تستقبل السجون الخاصة حالياً أكثر من خمسة وستين ألف سجن. حصلت بعض الشركات مثل American Express وSmith Barney على جميع الامتيازات المتعلقة بالاستثمار في صناعة السجون. قال أحد هؤلاء المستثمرين: "كنت أستثمر أموالي في الفنادق سابقاً، ولكنني متأكد أن معدل امتلاء السجون يبلغ 100 % يومياً!".
     لا يكتفي مساجين السجون الخاصة بالبقاء في زنزاناتهم ومشاهدة التلفاز أو ممارسة العادة السرية. إنهم يعملون لصالح أكبر الشركات الأمريكية مقابل 20 % من الحد الأدنى للأجور!
     نقلاً عن جيسي جاكسون Jesse Jackson، بلغت قيمة السلع والخدمات المنتجة من قبل مصلحة السجون الحكومية والخاصة تسعة مليارات دولار عام 1996. إن هذا التوفير في كلفة الأجور من المفترض أن يسمح للشركات الأمريكية بالتخلص من حوالي أربعمائة ألف عامل!

سوق واعدة
     إن السوق الكامن غير محدود. سيؤدي المعدل الكبير لإغلاق المعامل الذي تشهده الولايات المتحدة إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل الذين سينجرون في دوامة جهنمية من الانحطاط والبؤس. عندما سيخسرون منازلهم وسياراتهم ومدخراتهم، فإن الكثيرين منهم سيغرقون في الجريمة بشكل طبيعي، ومن هنا تأتي ضرورة توسيع نظام السجون.
     مع تآكل الدخول الضريبية للمؤسسات المحلية والمناطقية بسبب رحيل الشركات الأمريكية، لم يعد أمام هذه المؤسسات أي خيار باستثناء الاعتماد على السجون الخاصة لكي تتحمل كلفة المساجين الذين يزداد عددهم أكثر فأكثر. ما دامت البطالة تزداد بالوتيرة نفسها، فإن آفاق هذا القطاع لا يمكن أن تكون إلا مزدهرة.

شركاء من الدرجة الأولى
     صدرت مؤخراً بعض المقالات في المجلات الأسبوعية مثل The Nation وBusiness Week مؤكدة هذا التشخيص المُشجع. يكفي ذكر أسماء الشركات التي أصبحت تستعين باليد العاملة في السجون لتخفيض كلفة انتاجها:
ـ شركة AWA للطيران: تم تكليف جزء من إدارة حجوزات هذه الشركة إلى بعض المعتقلين في Ventura في كاليفورنيا. عندما تتصلون بهذه الشركة لحجز مكان على إحدى طائراتها، ربما يرد عليكم مجرم محنك!
ـ شركات IBM وTexas Instruments وDell Comuters: تعمل هذه الشركات العملاقة في مجال المعلوميات مع شركة تعهدات Lockhart في تكساس التي تقوم بصنع المدارات المطبوعة Circuits Imprimés بواسطة المساجين.
ـ شركة AT&T: تلجأ هذه الشركة إلى بعض السجون في كولورادو للحصول على خدمات التسويق الهاتفية.
ـ شركة ميكروسوفت Microsoft: يقوم المساجين في ولاية واشنطن بتوضيب مختلف أنواع المنتجات المعلوماتية لحساب شركة Exmark التي تزود شركة ميكروسوفت وثلاثين شركة أخرى.
ـ شركة Eddie Bauer: هناك مساجين آخرون في الولاية نفسها يصنعون البطانات القماشية لشركة Redwood Outdoor للألبسة التي تقوم بتزويد بعض الماركات التجارية مثل Eddie Bauer وUnion Bay.
ـ شركة Spalding: استعانت هذه الشركة ببعض المساجين في هاييتي للقيام بتعليب وإرسال كرات الغولف.
     وهذا ليس كل شيء. من الممكن أيضاً ذكر شركات Starbucks Coffee وBank of America وشركة Chevron. هناك إقبال كبير من قبل الشركات المهتمة بالأيدي العمالة في السجون، وهذا مفهوم. هل تجدون أنه من المجدي دفع رواتب العمال في النقابات بمعدل عشرين دولار للساعة بالإضافة إلى الأعباء الاجتماعية والرسوم وضرورة احترام جميع الأنظمة المتعلقة بعمل العمال غير المسجونين، وكل ذلك من أجل تعليب كرات الغولف؟ لا، بالتأكيد!
     إذا اخترتم الاستثمار في شركة مايك بينال، نحن نضمن لكم علاوة على ذلك أن المساجين سيكونون مؤهلين لتنفيذ المهمات التي نطلبها منهم: في الحقيقة، سيتم اختيارهم من قبلنا للقيام بالعمل نفسه الذي كانوا يقومون به قبل دخولهم السجن، وذلك مقابل 10 % من راتبهم السابق!

من هم منافسونا؟
     لا حاجة تقريباً للإشارة إلى أن بعض المقاولين الأكثر ابتكاراً لم يترددوا في دخول سوق السجون الخاصة. ولكن فرص النمو غير محدودة على الرغم من المنافسة. لنرى من هم هؤلاء المنافسون:
ـ شركة Corrections Corporation of America: إنها شركة رائدة في سوق صناعة السجون (لا يجب الخلط بين هذه الشركة مع وكالات هوليوود التي تحمل الاسم نفسه CCA)، وتسيطر على 48.3 % من هذا القطاع. تأسست هذه الشركة عام 1983 من قبل المستثمرين الذين يملكون جزءاً هاماً من شركة Kentucky Fried Chicken وبعض الشركات الأخرى، وشهدت نمواً منتظماً، وتدير اليوم سبعة وأربعين سجناً في أحد عشرة ولاية وفي بورتوريكو وأوستراليا وبريطانيا. كانت هذه الشركة الأكثر نجاحاً عام 1995 من بين الشركات الموجودة في تينيسي Tennessee. ارتفعت قيمة أسهمها بنسبة 360.5 %، وأصبحت تحتل المرتبة الرابعة بين الشركات التي شهدت النمو الأكبر في بورصة نيويورك.
ـ شركة Wackenhut: إنها من الأسماء الكبيرة في صناعة السجون! أسسها أحد الأعضاء السابقين في مكتب التحقيق الفيدرالي FBI اسمه George Wackenhut، ثم تحولت هذه الشركة  المختصة بالحماية الشخصية إلى إدارة السجون لاحقاً. تملك هذه الشركة حالياً أربعة وعشرين سجناً في الولايات المتحدة وبريطانيا وبورتوريكو واستراليا، وتستقبل هذه السجون ستة عشرة ألف سجين.
ـ شركة Esmor: تتخصص هذه الشركة بالسجناء ذي النوعية المنخفضة، وتستقبل السجناء الذين لا يريد أحد استقبالهم، ولاسيما عدد كبير من الأشخاص المحكومين بجرائم جنسية. تقوم هذه الشركة بإدارة ألفين وخمسمائة سجين، وتشهد نمواً سريعاً ومتعمداً. وصفتها مجلة Forbes في شهر كانون الثاني 1995 بأنها "الشركة الصاعدة".
ـ شركات أخرى: لنذكر من بينها شركة Management and Training Corporation وشركة US Corrections Corporation، وهي شركات من الحجم الصغير مثل شركة مارك بينال.

مواقع إنتاج مناسبة
     قررت شركة مارك بينال استهداف المناطق الأكثر تضرراً في الولايات المتحدة على الصعيد الاقتصادي. ستكون شركتنا موجودة في كل مكان انهارت فيه مداخن المعامل. إن جميع هذه المناطق المتضررة وسكانها اليائسين ومعدلات الجرائم القياسية فيها يمثلون الزبائن المثاليين لشركة مارك بينال. إن الحياة ليست مسلية دوماً في بعض المدن مثل: Gary وIndiana وEest Saint Louis وIllinois وPennsylvanie، ستكون شركة مارك بينال حاضرة هنا لطمأنة المواطنين الشرفاء عبر إخلاء الشوارع من جميع الأوباش المجرمين.
     في العام الماضي، كان ترتيب المدن الأكثر ارتفاعاً في نسبة الجريمة كما يلي: Atlanta، Flint، Saint Louis، Tampa، Detroit، Kansas City، Newark، Little Rock، Baltimore، Bimingham. تنوي شركة مارك بينال اختراق جميع هذه الأسواق خلال السنوات الثلاثة الأولى من نشاطها. إن توفر المساجين سيكون غير محدود تقريباً.
    لن تتوان السلطات المحلية عن فرش السجاد الأحمر أمامنا عبر: تقديم الأراضي مجاناً، والإعفاءات الضريبية بنسبة 100 % والكثير من المساعدات الفيدرالية. ستأخذ الإدارة المحلية على عاتقها نفقات الإعمار والتجهيزات وستبني طرقاً جديدة وتمديدات الصرف الصحي والكابلات اللازمة لمؤسساتنا. سيتم تدريب جميع حراس السجن عبر البرامج الفيدرالية أو المحلية.
     يُضاف إلى ذلك الامتياز الخاص الذي نتمتع به وهو أن مديرنا العام هو مايكل مور Michael Moor الذي يتحدر من مدينة Flint، إحدى المدن العشرة في لائحة المدن الأكثر ارتفاعاً في معدلات الجريمة. إن معرفته المباشرة بهذا النوع من البيئة سيُعزز فرص نجاحنا كثيراً.

المباني والبنى التحتية
     لا تنوي شركة مارك بينال بناء سجون جديدة إطلاقاً بعكس بقية الشركات في قطاع السجون. قررنا عدم استخدام إلا الأبنية الموجودة أصلاً وتغييرها لهذه الغاية. يوجد في جميع المدن التي تنوي شركة مارك بينال التمركز فيها بعض الأبنية الصناعية التي توفر الإطار المثالي لاستقبال المساجين (بعد إدخال بعض التغييرات البسيطة)، ويوجد فيها أيضاً البنية التحتية اللازمة للإنتاج. من جهة أخرى، سيكون أغلب السجناء معتادين على هذه الأمكنة نظراً لأنهم أمضوا عدة سنوات فيها كعمال في أغلب الأحيان.

خدمات لا يمكن الاستغناء عنها
    لا تنوي شركة مارك بينال تركيز جهدها على نمط الإنتاج "الخفيف" الذي تفضله بعض الشركات الأخرى. نحن أكثر طموحاً: لماذا إنتاج القمصان عندما تستطيعون إنتاج السيارات؟ تنوي شركة مارك بينال الاتصال مع أضخم الصناعات في البلد لكي تقترح عليهم الخدمات التالية:
ـ تجميع الشاحنات: نحن نستطيع الحصول على المصنع والعمال الذين يعملون فيه في آن معاً. ما الذي يمنعنا من صناعة الشاحنات؟
ـ استوديوهات السينما: تحتاج هوليوود إلى استديوهات ضخمة وفرق تصوير كبيرة. يستطيع السجناء بناء الديكور والمشاركة بدور الكومبارس.
ـ التحاليل الطبية: السجناء هم عيّنات ممتازة وحقول تجارب مُحابية في أغلب الأحيان. فكروا فقط بالاكتشافات التي يمكن أن تكون ثمرة التجارب الطبية المتسلسلة! لنقضي على الإيدز بفضل شركة مارك بينال!
ـ الخدمات خارج السجون: إن السجناء المثاليين وأولئك الذين على وشك الاستفادة من الحرية المشروطة (وعد القضاة المحليون بإعطائها وفق الحدود الدنيا ما أمكن) يستطيعون العمل في سلسلة محلات ألعاب الأطفال Toys « R » Us (تتباهى هذه المحلات في Aurora التابعة لـ Illinois بالعمل الليلي الذي يقوم به المساجين لتزويد محلاتهم).

آفاق دولية
     تنوي شركة مارك بينال العمل مع بعض الدول التي لم تعد تستطيع إدارة سجنائهم بشكل صحيح. نحن نقصد الصين ونيجيريا بشكل خاص. نحن نستطيع استيراد سجنائهم وتحسين ميزاننا التجاري بفضل اليد العاملة المجانية تقريباً! فيما يتعلق بالدول التي لا توفر مثل هذه التسهيلات لأنه من غير القانوني فيها حالياً تسويق المنتجات المصنوعة من قبل السجناء، يجب ألا ننسى أننا نعيش في عالم يتغير فيه كل شيء بسرعة كبيرة.
     فيما يتعلق بالمجرمين الأمريكيين الأكثر خطورة على المجتمع، ستبني شركة مارك بينال سجوناً خاصة لهم في غواتيمالا والأورغواي والأردن. من الممكن تكليف هؤلاء المعتقلين عديمي التأهيل والكفاءة بأنواع مختلفة من الأعمال المنتجة التي لا يسمح قانون العمل الأمريكي بإنجازها على أراضي الولايات المتحدة.
     هناك ملاحظة إيجابية: أغلقت شركة DPAS الكاليفورنية مؤخراً أحد معاملها في المكسيك، وأعادت توطين كامل بنيته التحتية في معالجة المعطيات داخل سجن San Quentin في سان فرانسيسكو، وتقول الشركة أن "كلفتهم أقل بكثير"! يبرهن ذلك على أن شركة مثل مارك بينال يمكنها المساهمة في إستعادة فرص العمل الضائعة بسبب اتفاق حرية التجارة في أمريكا الشمالية إلى الولايات المتحدة.

     للحصول على المزيد من المعلومات حول مشاريعنا، راسلونا إلى عنوان شركة مارك بينال التالي: PO Box 831, Radio City Station, Newyork, Newyork 10101".