الصفحات

الاثنين، ٣ آب ٢٠١٥

(مايكل هايدن: "العراق لم يعد موجوداً، وكذلك سورية")

 صحيفة الفيغارو 6 تموز 2015 ـ مقابلة مع المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA ووكالة الأمن القومي NSA مايكل هايدن Michael Hayden ـ أجرت المقابلة مراسلتها في واشنطن لور ماندفيل Laure Mandeville

     كان مايكل هايدن جنرالاً في سلاح الجو الأمريكي، وكان في مركز أجهزة الاستخبارات الأمريكية خلال رئاسة بوش. كان رئيس وكالة الأمن القومي NSA (1999 ـ 2005)، ونائب رئيس لجنة تنسيق الاستخبارات في إدارة الاستخبارات الوطنية DNI (2005 ـ 2006)، ورئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية (2006 ـ 2009)، ويعمل حالياً مستشاراً في شركة Chertoff الخاصة التي تعمل في مجال الأمن الصناعي.

سؤال: تسلمتم رئاسة وكالة الأمن القومي ووكالة الاستخبارات الأمريكية خلال فترة مضطربة بين عامي 1999 و2009. هل أصبح عالم اليوم أكثر خطورة؟
مايكل هايدن: رأيت عالماً أكثر خطورة خلال عملي العسكري مثل: أزمة الصواريخ في كوبا، والمواجهة بين الجيوش الأمريكية والسوفييتية في معبر شارلي، وقواتنا النووية المتأهبة خلال أزمة عام 1973 في الشرق الأوسط... ولكنني لم أشاهد إطلاقاً عالماً أكثر تعقيداً من عالم اليوم، ولاسيما في الشرق الأوسط وفي الدولتين اللتين كان اسمهما في الماضي العراق وسورية. هناك الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة والأكراد والسنة والشيعة والعلويون. عندما تبدأون بمعالجة مشكلة تنظيم القاعدة، وتحققون بعض التقدم، فإن بقية الأمور تتفاقم...
سؤال: هل النفوذ الأمريكي في طور التراجع في الشرق الأوسط؟
مايكل هايدن: من الصعب جداً أن تكون هناك سياسة محددة. لننظر إلى الحقيقة أمامنا: لم يعد العراق موجوداً، وكذلك سورية. لبنان شبه مهزوم، وكذلك ليبيا. إن اتفاقيات سايكس بيكو التي وضعت هذه الدول على الخارطة عام 1916 لم تكن تُعبّر إطلاقاً عن الوقائع على الأرض، وتعود هذه الوقائع اليوم لتذكرنا بنفسها بشكل عنيف جداً. ستبقى المنطقة في حالة عدم الاستقرار خلال السنوات العشرين أو الثلاثين القادمة. لا أعرف إلى أين نذهب، ولكنني أعتقد أن السياسة الهادفة إلى إعادة إحياء هذه الدول لن تنجح.
سؤال: لكن إدارة أوباما ما زالت تحاول الحفاظ على العراق موحداً...
مايكل هايدن: في الحقيقة، إنها السياسة الرسمية لهذه الإدارة. وهذا الأمر يؤثر على قراراتنا حول إعطاء السلاح إلى الأكراد على سبيل المثال. برأيي، الأكراد هم أفضل حلفائنا في المنطقة، وسيبقون أفضل حلفائنا مهما حصل لأن مصلحتهم تقتضي هذا التحالف مع الغرب. لكن إذا حرمنا أنفسنا من بعض الخيارات لأننا نعتقد بأننا قادرون على إعادة إحياء العراق أو سورية، فسنكون السبب في تفاقم المشكلة. هل ترون جيشاً عراقياً على وشك استعادة محافظة الأنبار؟ أنا لا أرى ذلك! هل ترون جيشاً عراقياً قادراً على استعادة الموصل؟ لن يحصل ذلك. إن الجيش الذي استعاد تكريت هو الميليشيا الشيعية المدعومة بالضباط الإيرانيين. فيما يتعلق بسورية، هل تتصورون مستقبلاً يمكنها أن تستعيد فيه توازنها؟ ربما يوجد مقعد سوري أو عراقي في الأمم المتحدة، ولكن هذه الدول تلاشت...
سؤال: هل يمكن تصور دولة عراقية فيدرالية لا مركزية. يعتقد بعض المراقبين أنه هذا هو الحل، لأن القوى الإقليمية مثل إيران والعراق لن تقبل أبداً بكردستان مستقل... من يستطيع دعم هذا المشروع باستثناء الولايات المتحدة؟
مايكل هايدن: الدعم الأمريكي، هذا كثير! أنا أفهم معارضة التفتت... ولكن إذا عدنا للتاريخ، سترون أن العراق كان يتألف من ثلاث ولايات عثمانية هي: ولاية الموصل الكردية وولاية بغداد السنية وولاية بصرى الشيعية. إن ما نسميه اليوم بالعراق لم يكن موجوداً. إن هذه الحقائق القديمة هامة. أكرر مرة أخرى: لا أعتقد أن العراق وسورية سينبعثان من جديد. يجب البحث عن بدائل أخرى. لهذا السبب، أنا أطالب بتسليح الأكراد مباشرة.
سؤال: يستطيع الأكراد الدفاع عن كردستان، ولكنهم غير قادرين على تدمير الدولة الإسلامية. كيف يمكن مكافحتها؟
مايكل هايدن: أولاً، يجب علينا قصفها وإضعافها، لأنها يحق لنا الدفاع عن أنفسنا! يجب استخدام القوة الجوية وقصف المواقع اللوجستيكية ومراكز القيادة والقادة. ثانياً، يجب علينا احتواء توسعها لأن القلق من رؤية الدولة الإسلامية تتقدم باتجاه سيناء أكبر بكثير من القلق الناجم عن سيطرتها على الرقة. يجب علينا حماية حلفائنا المصريين والسعوديين والأتراك والإماراتيين... ثالثاً، يجب علينا مساعدة المسلمين الذين يستطيعون مكافحة الدولة الإسلامية دينياً، لأن هذه المعركة تتعلق بالإسلام في الحقيقة.
سؤال: ماذا تقصدون؟
مايكل هايدن: إن المعركة الدائرة داخل الإسلام حالياً يمكن مقارنتها بالمعركة التي شهدتها المسيحية في القرن السابع عشر خلال حرب الثلاثين عاماً. يعتبر المؤرخون أن تاريخ الحداثة الأوروبية يعود إلى معاهدة وستفاليا Westphalie عام 1648، وظهر حينها مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة. لم يتوصل الإسلام إلى هذه التسوية، وربما لن يتوصل إليها أبداً. لا يمكننا معرفة ذلك. لكننا نُخطئ عندما نقول أن هذه المعركة لا علاقة لها بالإسلام. لنكن واضحين: تتعلق هذه المعركة بالإسلام حتى لو كانت لا تتعلق بالإسلام بأكمله أو بجميع المسلمين! يجب علينا مساعدة المعتدلين.
سؤال: لكن أين توجد هذه القوة المعتدلة في الإسلام؟
مايكل هايدن: إنها موجودة على الهامش. يمثل الرئيس المصري السيسي بديلاً مهما كانت إدارته السياسية قاسية وسيئة. لقد ألقى كلمة هامة في جامعة الأزهر، ودعا فيها إلى ثورة في الإسلام. من المحتمل أنه هذا هو السبب في استئناف مساعدتنا العسكرية إلى القاهرة.
سؤال: هل غياب الحلفاء الموثوقين فعلاً لدى السنة يُفسّر أن إدارة أوباما يبدو أنها تراهن على التقارب مع إيران في حال الاتفاق على الملف النووي؟
مايكل هايدن: يجب طرح هذا السؤال على حكومتنا. برأيي الشخصي، إن عام 1979 بالنسبة لتنظيم القاعدة ولإيران في آن معاً يُكرس المقاربة الإيديولوجية التي تجعل من النزاع مع الغرب قاعدة لا يمكن تجاوزها.
سؤال: لكن إيران دولة لها مصالح قومية على المدى الطويل بشكل يتجاوز  الإيديولوجية...
مايكل هايدن: تساءل كيسنجر في أحد الأيام: هل إيران دولة أم مشروع؟ لست متأكداً بأن النظام الإيراني أجاب على هذا السؤال بشكل قاطع...
سؤال: هل يعني ذلك أنكم قلقون من الاتفاق النووي الذي ربما يتم توقيعه مع طهران؟
مايكل هايدن: أنا قلق جداً. حتى التوقيع على اتفاق جيد سيعطي الشرعية إلى إيران كدولة صناعية نووية قادرة على صناعة السلاح النووي خلال 12 شهراً. وسيسمح باستقبالها ضمن عائلة الأمم، ويرفع العقوبات عنها دون معرفة فيما إذا كان الإيرانيون ينوون فعلاً تغيير سياستهم في الهيمنة وزعزعة استقرار المنطقة...
سؤال: لنتحدث عن أوروبا: هل أدرك الأمريكيون أخيراً أن الإسلام أصبح مشكلة وجودية بالنسبة للأوروبيين، وليس فقط مشكلة إرهاب؟
مايكل هايدن: عندما كنت رئيساً لوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، كان المحللون العاملون معي يفكرون بالسيناريوهات المستقبلية في أوروبا. أتذكر أنه تم طرح سيناريوهين متطرفين: يتصور الأول أن أوروبا أصبحت نوعاً من مدينة الملاهي، وخسرت نفوذها، ولكن من الممتع زيارتها؛ كان اسم السيناريو الثاني: أوروبستان، ويؤكد على الأخطار الناجمة عن أسلمة أوروبا، وهي مشكلة لم يعطها الأمريكيون الاهتمام الكافي.
سؤال: هل أنتم قلقون من النزعة العدوانية الروسية في أوروبا؟
مايكل هايدن: يتصرف بوتين بثقة، ولكنه لا يملك الأوراق اللازمة في رهانه. تمثل هذه النزعة العدوانية مشكلة جدية على المدى القصير وليس على المدى الطويل، لأن روسيا قوة في طور الانحطاط. إن جميع صفات القوة العظمى الروسية في خطر مثل: الصناعة المزدهرة ورجال الأعمال والديموقراطية وحتى الغاز والنفط. إن الوسائل الوحيدة للقوة الروسية تعود إلى العصر السوفييتي أي: الفيتو في الأمم المتحدة وما تبقى من القوة العسكرية والنووية...
سؤال: ذهب بعض النواب الروس إلى درجة التساؤل فيما إذا كان اعتراف روسيا قانونياً باستقلال دول البلطيق...؟
مايكل هايدن: من الصعب القول فيما إذا كان التهديد ضد دول البلطيق حتمياً. هناك شيء يدعو للشفقة في عودة النزعة العدوانية الروسية على حدود الحلف الأطلسي ومحاولة الرهان مرة أخرى على الماضي المجيد. لكنني أعترف بأن العملية العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم كانت تتصف بالحرفية العالية، وهذا يعني أنه يجب أن نكون حذرين جداً ولاسيما على المدى القصير. أريد رؤية مقاربة أمريكية أكثر حزماً في أوكرانيا من أجل منع بوتين من القيام بشيء غبي بسبب مبالغته بقوته.  أنا سأقوم بتسليح الأوكرانيين!
سؤال: هل أصبحت الصين في طور التحول إلى عدو الولايات المتحدة مع سياستها الجديدة في بحر الصين الجنوبي أو على جبهة الحرب على الأنترنت؟
مايكل هايدن: الصين ليست عدواً للولايات المتحدة. لا شك أن العلاقة ستكون تنافسية وربما تكون تنازعية. بالتأكيد، أنا قلق من التحرك العسكري الصيني في بحر الصين ومن تجسسها الإلكتروني على الولايات المتحدة. ولكن يجب عليكم معرفة أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تمضي الكثير من الوقت أيضاً في القلق حول المشاكل الهيكلية للصين وفي تقدير قوتها... لتلخيص التحديات التي تنتظرنا، يمكنني القول أن الخطر الفوري هو الدولة الإسلامية، وهو خطر جدي ولكنه ليس حيوياً بالنسبة للولايات المتحدة. تمثل إيران ومسألة انتشار السلاح النووي تهديداً أكثر جدية، ولكن ما زال أمامنا القليل من الوقت. تمثل الصين التهديد الأكثر جدية، ولكن ما زال أمامنا وقت أطول. إن الصين ليست عدونا، ولكنها السؤال الأكثر أهمية من أجل مستقبل السلام الشامل.



الخميس، ٢٣ تموز ٢٠١٥

(طريق إيران نحو الغرب يمر عبر جنوب القوقاز)

يتراجع الاهتمام أكثر فأكثر بالشرق الأوسط وحروبه ونزاعاته المستمرة لصالح جنوب غرب آسيا، ولم يعد النفط العربي يحظى بالاهتمام الذي كان يحظى به سابقاً، واصبح النفط في إيران والقوقاز أكثر أهمية وأماناً بالمقارنة مع النزاعات المستمرة في الشرق الأوسط. يعني ذلك أن انتظار الحلول الخارجية لهذه النزاعات سيطول كثيراً.

(طريق إيران نحو الغرب يمر عبر جنوب القوقاز)
صحيفة اللوموند 9 تموز 2015 بقلم  غايدز ميناسيان Gaïdz Minassian

     في الوقت الذي دخلت فيه المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني مرحلتها الأخيرة بهدف التوصل إلى اتفاق، تتساءل الأطراف المعنية حول العوائد الجيو ـ اقتصادية التي يمكن أن تجنيها من إعادة طهران إلى الرهان الدولي. إذا نجحت إيران في تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي، فإن مسألة توزيع ثرواتها النفطية والغازية ستحتل المرتبة الأولى في أولويات جميع المستثمرين. تحتل إيران المرتبة الرابعة في احتياطي النفط العالمي والمرتبة الثانية في احتياطي الغاز العالمي.
     ما العمل بهذا الاحتياطي الهائل في المصادر الطبيعية في حال رفع العقوبات الدولية؟ أصبحت البنى التحتية الصناعية في إيران بالية، ويجب أن تقوم طهران بتحديثها وإيجاد أسواق التصريف ولاسيما في الغرب. لكن يبدو أن جميع الطرق مغلقة في هذا الاتجاه باستثناء جنوب القوقاز (أرمينيا وأذربيجان وجورجيا). من الغرب، هناك المناطق الخاضعة للدولة الإسلامية التي تمنع أي مشروع واسع النطاق لأسباب أمنية. من الشمال الغربي، هناك مشكلة التنافس مع تركيا، وهي مشكلة تتعلق بالحصول على صفة القوة الإقليمية. من الجنوب (قناة السويس ورأس الرجاء الصالح)، إن التكاليف مرتفعة جداً.
      إذاً، لم يبق إلا جنوب القوقاز الذي يمكن أن يمر عبره النفط والغاز الإيراني وبقية مشاريع الاتصالات باتجاه أوروبا الغربية والشمالية. إن هذا الممر من الجنوب إلى الشمال يقترح طريقين: الأول، أرمينيا ـ جورجيا ـ البحر الأسود، والثاني، أذربيجان ـ جورجيا ـ البحر الأسود. لكن هذا الممر يصطدم بالنزاع حول مرتفعات كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان من جهة، وبالتوتر بين إيران وأذربيجان (هناك ما بين 14 إلى 17 مليون إيراني من أصول أذرية في شمال إيران، ولم يتحدد وضع بحر قزوين). تميل إيران باتجاه الطريق الأرمني ـ الجورجي، وألمح العديد من مسؤولي النظام الأصولي إلى ذلك مُعتبرين أن هذا الطريق "المسيحي" سيكون أكثر أماناً لأنه أقل كلفة وسيسمح بالحفاظ على الورقة الرسمية المتمثلة بـ "الحوار بين الحضارات". إن أرمينيا هي الدولة المسيحية الوحيدة المجاورة لإيران.
     لم يتقرر أي شيء في طهران حتى الآن على الرغم من النوايا الإيرانية الحسنة وترحيب الدول الغربية، كما أن فرضية كسر العزلة الاقتصادية عبر الممر من الجنوب إلى الشمال تصطدم بالارتياب الروسي. في هذا الخصوص، ليست هناك إلا قلة نادرة من المراقبين الذين ربطوا بين المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني ومفاوضات الشراكة الشرقية بين الاتحاد الأوروبي والدول الناجمة عن تفكك الاتحاد السوفييتي (روسيا البيضاء وأوكرانيا ومولدافيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان). إلى حد ما، إن التوقيع على اتفاق الشراكة بين هذه الدول ذات السيادة والاتحاد الأوروبي يستبق الخارطة العالمية الجديدة في حال تطبيع العلاقات بين إيران ومجموعة الست. انتبهت روسيا إلى هذا الأمر، وبذلت كل ما بوسعها لمنع أرمينيا وأوكرانيا من التوقيع على هذا الاتفاق الجديد للتعاون بين الاتحاد الأوروبي وهذه الدول التي تعيش مرحلة ديموقراطية انتقالية. من المعروف أن روسيا فشلت في أوكرانيا، ووقعت كييف على اتفاق مع بروكسل. لكن فيما يتعلق بأرمينيا الحليف التقليدي لروسيا، مارست موسكو الضغوط على نظام سيرج ساركيسيان لكي ينضم إلى الاتحاد الأوراسي، وحصلت من أريفان عام 2013 على اتفاق ينص على سيطرة شركة غازبروم على جميع مستوردات أرمينيا من الغاز حتى عام 2043.
      لم تغلق موسكو الباب أمام مشروع مرور النفط والغاز الإيراني عبر أرمينيا بشرط أن تستفيد منه. تريد موسكو أيضاً تجنب أن تسبقها الدول الغربية كما حصل خلال سنوات حكم الرئيس يلتسين (1991 ـ 2000) أثناء التوقيع على اتفاقات بناء الأنابيب بين الشركات الغربية وأذربيجان. بالنسبة لموسكو، إنها لا تريد بأي شكل من الأشكال أن تعيش مرة آخرى كابوس الممر من الجنوب إلى الشمال كما حصل مع الممر بين الشرق والغرب.
      فيما يتعلق بالغرب، إن مصالحة ثلاثية الأبعاد. أولاً، الاستفادة من الثروات الإيرانية عبر تطوير الممر من الجنوب إلى الشمال. ثانياً، تنويع مصادره في الحصول على الطاقة من أجل الأسواق الأوروبية. ثالثاً، السماح لجنوب القوقاز بأن يكون مفترق طرق حقيقي. إن هذا الوضع كمفترق طرق أكثر أهمية بالنسبة للدول الثلاثة في جنوب القوقاز لأنه سيسمح لها على المدى الطويل بالارتباط مع آسيا ولاسيما مع الصين التي تتزايد مشاريعها التنموية في دول آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية وإيران. إن طهران من الشركاء المميزين للصين، وتهتم بمشروع "طريق الحرير الجديد" الذي أطلقه الصينيون بعيداً عن أية تبعية للولايات المتحدة.
      من وجهة النظر هذه، إذا نفذ الصينيون جميع مشاريعهم الكبيرة باتجاه آسيا الوسطى والباكستان وإيران، فإنهم سيصلون إلى جنوب القوقاز الذي يتواجد فيه المستثمرون الصينيون حالياً. وبهذه الطريقة، سيختزل الصينيون المسافة الجغرافية التي تفصلهم عن الأسواق الأوروبية. سيسمح ذلك للصينيين أيضاً بتجنب منطقة القراصنة على السواحل الصومالية والمناطق الصعبة في مضيق باب المندب وقناة السويس أو حتى الطريق المُكلف عبر جنوب أفريقيا. إن افتتاح هذا الممر من الجنوب إلى الشمال عبر جنوب القوقاز يعتمد على تسوية الملف النووي الإيراني، وهو الأفق الذي سيرسم ملامح عالم أصبح صينياً ـ أمريكياً.

          

الجمعة، ١٠ تموز ٢٠١٥

(هنري لورانس: جذور المأساة الحالية في العالم العربي)

مجلة اللوبوان الأسبوعية 28 أيار 2015 ـ مقابلة مع هنري لورانس Henry Laurens، الباحث المتخصص في الشرق الأوسط ورئيس قسم التاريخ المعاصر للعالم العربي في الكوليج دوفرانس. أجرى المقابلة فرانسوا غيوم لوران François-Guillaume Lorrain ورومان غوبير Romain Gubert

سؤال: من أي جاء العرب؟
هنري لورانس: بالمعنى الحرفي للكلمة، العرب هم الذين يتحدر نسبهم من شبه الجزيرة العربية. إنه نظام سلالة النسب الذي نجده في التوراة. إن جدهم الأول المشترك هو إسماعيل ابن ابراهيم. دخل العرب في الإسلام مع النبي محمد، وبدأوا بغزو الهلال الخصيب بأكمله من فلسطين حتى العراق. أدت هذه الفتوحات منذ القرن السابع حتى القرن الحادي عشر إلى ظهور ظاهرة التعريب، حتى لو كان هناك بعض العرب في الهلال الخصيب قبل الفتوحات. كانوا تجاراً وبدو، وهذه الكلمة الأخيرة كانت تشير إلى العرب خلال فترة طويلة. كانت الهوية العربية تتعارض مع هوية الشعب الفارسي خلال القرون الأولى من الفتوحات، ولكن هذه الهوية العربية ذابت في نهاية الفتوحات، وأصبحت تتحدد بالدين والمهنة ومكان الإقامة وليس بالهوية العربية.
سؤال: هل أدرك الأوروبيون خلال الحروب الصليبية أنهم يقاتلون ضد العرب؟
هنري لورانس: لا. كانوا يحددون أعداءهم عبر كلمة (ساراسين) Saracène التي كان الروم يستخدمونها لوصف البدو في الصحراء. ثم تحولت كلمة (ساراسين) إلى سارازان Sarasin.
سؤال: ماذا عن اللغة العربية؟
هنري لورانس: إنها لغة القرآن. شهدت هذه اللغة تطور مذهلاً مع انتشار هذا الدين، ووصلت إلى المغرب وتخوم الهند. الأمر الذي يسمح اليوم للمسلم الأندونيسي أن يفهم المسلم المغربي. كانت هناك أيضاً لغة التجار والبحارة السائدة حول البحر المتوسط Lingua franca، وهي لغة شفهية فقط، ولم يبق منها إلا القليل من الشهادات باستثناء ما نقله موليير عن تركيا في كتابه (البورجوازي النبيل) Bourgeois gentilhomme.
سؤال: كيف تنتشر الثقافة العربية في أوروبا؟
هنري لورانس: قام المسيحيون العرب بدور أساسي. أدت محاولة روما للسيطرة على المسيحية الشرقية إلى بروز المارونيين، أي هؤلاء المسيحيين اللبنانيين الذين ذهبوا إلى كل مكان، وأصبحوا ناقلي الثقافة العربية. كان المارونيون أول أساتذة اللغة العربية في الكوليج دوفرانس عام 1650. إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من المبادلات التجارية، لا يجب إهمال دور المسيحية الكاثوليكية. إن أوروبا الكاثوليكية هي أوروبا الجنوب، وكانت على اتصال دائم مع العرب.
سؤال: تحدثتم عن القرن السابع عشر. ما هي النظرة التي كان يحملها الأوروبيون آنذاك عن العرب بعد أربعة قرون من نهاية الحروب الصليبية؟
هنري لورانس: إنها نظرة تاريخية. شهد القرن السابع عشر والثامن عشر ولادة التاريخ العالمي الذي يرتكز على نزعة المقارنة بين الحضارات. يرتكز التصور العام أيضاً على الغزوات. شكلت الغزوات الجرمانية في أوروبا خلال القرنين الرابع والخامس بداية الحداثة، ولكنها أدت أيضاً إلى تدمير المعارف القديمة القادمة من روما واليونان ومصر. بالمقابل، استعادت غزوات العرب في الجنوب هذه المعارف القديمة، وحملت معها الثقافة. لكن العرب اختنقوا تدريجياً بسبب المماليك في مصر أولاً، ثم العثمانيين الذين هيمنوا على حوض المتوسط والبلقان ابتداء من القرن الخامس عشر. يمكن تلخيص ذلك بأن العرب يُعتبرون كشعب كبير قبل بروز أوروبا، ولكنهم خرجوا من التاريخ. على العكس من ذلك، كان يُنظر إلى العثمانيين وامبراطوريتهم المستبدة كآلة فعالة جداً سحقت العرب وتهدد أوروبا آنذاك.
سؤال: ما هو الحدث الذي أدى إلى ولادة الوعي العربي؟
هنري لورانس: دعا نابليون بونابرت إلى هذا الوعي أثناء حملته إلى مصر من أجل إثارة التمرد ضد الإمبراطورية العثمانية، ولكن دون جدوى. لم يكن هناك أي شخص يعتبر نفسه عربياً في بداية القرن التاسع عشر، وكان لا بد من انتظار التفكك البطيء للامبراطورية العثمانية ابتداء من عام 1820. هناك عدة أسباب لهذا التفكك هي: الضربات العنيفة التي وجهتها أوروبا، والتوسع الروسي باتجاه الجنوب، ودخول بريطانيا في الرهان، ودول البلقان التي تستعيد حريتها. كان يجب على الإمبراطورية العثمانية أن تتبنى هياكل الدولة المعاصرة على النمط الغربي من أجل البقاء على قيد الحياة. اختفت البنية الاجتماعية القديمة القائمة على السلطة الهرمية التي يجد فيها كل شخص مكانه سواء كان جيداً أم سيئاً، وحل مكانها مجتمع أكثر مساواة ويبحث فيه كل شخص عن مكانه. إذاً، تمت إعادة تحديد الهويات الذاتية. تسارعت هذه التغيرات عبر انتشار الأفكار والاستدراك المذهل للتأخر.
سؤال: ماذا حصل؟
هنري لورانس: تم استدراك أكثر من ثلاثة قرون خلال عدة عقود في بداية القرن التاسع عشر. أخفق العالم العربي والإسلامي في اللحاق بثورة الطباعة. أصبحت بعض المناطق مثل تونس ومصر شبه مستقلة ذاتياً. اندلعت الثورة في مصر عام 1880، وكان شعارها "مصر للمصريين". كانت هذه الحركات الوطنية مبنية على العداء ضد الأجانب والعثمانيين. استدركت هذه المنطقة أربعة آلاف عام بين عامي 1820 و1880. تم فك رموز اللغة الهيروغليفية عام 1820، ثم رموز اللغة المسمارية الآشورية عام 1840 ثم اللغة السومرية عام 1880. ساهم هذا التقدم أيضاً في إعادة تحديد الهويات في سورية التي اكتشفت بعلبك وتدمير والماضي المجيد بأكمله. يُضاف إلى ذلك الدور الكبير للمستشرقين الأوروبيين الذين ركزوا على هذا الماضي. إذا كان الماضي مجيداً، فإن المستقبل يمكن أن يكون كذلك أيضاً. وهكذا بدأت أجيال المثقفين القوميين العرب الفرانكوفونيين بقراءة "الحضارة العربية" للباحث العبقري غوستاف لوبون Gustanve Le Bon. إن النهضة الأدبية المرتبطة بتبسيط اللغة العربية سبقت النهضة السياسية.
سؤال: ماذا عن الإسلام في ذلك الوقت؟
هنري لورانس: كان في ذروة الأزمة. لأن العرب المسلمين كانوا يتساءلون كيف يمكن أن يكونوا خاضعين للآخرين على الرغم من امتلاكهم لأفضل دين في العالم؟ اكتشفوا الفكر الغربي والفكر البروتستانتي التي كان يبدو أنه قمة الحداثة في نهاية القرن التاسع عشر. تم تبني النموذج البروتستانتي الذي لم ننته من دفع ثمنه حتى اليوم. عاد البروتستانت إلى زمن المسيحيين الأوائل لاستعادة النصوص الحرفية. بهذه الطريقة، بدأت أولى الحركات السلفية.
سؤال: تحقق هذا الوعي في ذلك الوقت، ولكن متى أخذ شكله السياسي على نطاق واسع؟
هنري لورانس: تسارع هذا الوعي مع وصول "الشباب الأتراك" إلى قمة السلطة في الإمبراطورية العثمانية عام 1908. ذهبت المساومات باتجاه إعطاء المزيد من الحكم الذاتي العربي، وبدأ التفكير بامبراطورية تركية ـ عربية على النموذج النمساوي ـ الهنغاري. حاول الجميع تحريض السكان خلال الحرب العالمية الأولى. حاول الألمان تحريض الجزائريين والمغاربة، وحاولت فرنسا وبريطانيا تحريض العرب ضد العثمانيين المتحالفين مع ألمانيا. ظهر في تلك الحقبة لورانس العربي الذي أيقظ المملكة العربية. وفجأة بدأ القبول بحق الشعوب في تقرير مصيرها لدى غير المسيحيين. عندما تمرد الشريف حسين في مكة عام 1916، كان خطابه إسلامياً بالدرجة الأولى. ولكن الفرنسيين والبريطانيين شرحوا له أنه يجب إعطاء صبغة قومية وعربية لقناعاته. أصبح التمرد عربياً عندما وصل إلى دمشق عام 1918. توجه الأمير فيصل بحديثه إلى العرب سواء كانوا يؤمنون بالمسيح أو بمحمد. كان يجب الظهور كعربي من أجل دخول دمشق. عندما وصل فيصل إلى دمشق مع مستشاريه البريطانيين، توجه بالحديث إلى الأمة العربية السورية. تشكل العرب الفلسطينيون عام 1920. ولدت العروبة العراقية عندما وصل فيصل إلى السلطة في العراق عام 1921. وهكذا تشكل ما أسميه بصيغة (العربي +): تأخذون الهوية الإقليمية وتُضيفون عليها الهوية العربية. تبنت جميع الدول التي ستولد هذه الصيغة. يتشكل العالم العربي من الشعوب: المصرية والعراقية والسورية... وهذه الشعوب تشكل الأمة العربية.
سؤال: ماذا عن مصر؟
هنري لورانس: تحرر جهاز الدولة منذ عام 1850، ودعم الهوية المصرية. إنها النزعة الفرعونية. استقلت مصر عام 1922، ولكنها أدركت أنه يجب عليها التمتع بهوية عربية من أجل ممارسة النفوذ على جيرانها. قال المثقفون المصريون عام 1930 أن مصر دولة ذات ثقافة عربية، ولكنهم صححوا مقولتهم بعد عشرة سنوات وقالوا أنها دولة عربية. دخل المثقفون المصريون في العروبة في الوقت الذي كانت تتطور فيه حركات الإخوان المسلمين الذين كانت نظرتهم عربية في البداية. عندما دخلت مصر في العروبة، لحقتها أفريقيا الشمالية في نهاية سنوات الثلاثينيات. كان الفرنسيون يأملون بأن تنحصر القومية العربية داخل الشرق الأوسط، ولكن النخبة المثقفة المغاربية تبنتها أيضاً. أخذت الحركات الوطنية مع علماء الدين الجزائريين صبغة عربية.
سؤال: متى وصلت القومية العربية إلى ذروتها؟
هنري لورانس: ساد شعار "من المحيط إلى الخليج" خلال سنوات الخميسينيات. تأسست الجامعة العربية عام 1945، وقامت بدور هام جداً في استقلال المغرب. كانت القضيتان الجزائرية والفلسطينية أكبر قضيتين عربيتين حتى عام 1962، وأصبحت الثانية هي القضية الوحيدة بعد ذلك. لكن بعض الدول تأسست حوالي عام 1920 تحت رعاية الفرنسيين والبريطانيين، ونجم عن ذلك مشكلة أساسية أخرى. بنت هذه الدول نفسها مع الإيديولوجيات العربية التي تنفي مشروعية الدولة. إذا أرادت هذه الدول أن تكون أكثر قوة، فيجب عليها إلغاء الحدود الموروثة من الاستعمار. يتفق الجميع على المبدأ، ولا أحد يُطبقه. لا ترغب الدول النفطية بتقاسم النفط مع الدول الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، هناك الأنظمة المتسلطة. أثار جمال عبد الناصر الجماهير، ولكنه لم يشجع المصريين على أن يصبحوا مواطنين، ولم يشجع المجتمعات المدنية على التعبير عن نفسها. هناك خمسون مشروع اندماجي بالإضافة إلى التوقيع على خمسين اتفاق، ولم ينجح أي منها باستثناء الاتحاد لمدة ثلاث سنوات بين مصر وسورية (1958 ـ 1963)، لكن سورية أرادت التحرر بسرعة من الهيمنة المصرية. هيمن الخطاب القومي العربي حتى عام 1970، ولكنه لم يتمكن تحقيق نفسه بسبب الاختلافات في مستوى الغنى وغياب الديموقراطية. استقر العالم العربي بعد عام 1970، ولم تعد هناك ثورات. أصبحت الدول متسلطة، وظهر التعارض بين القومية العربية والإسلاموية. إن جمال عبد الناصر هو الذي خلق الانشقاق بين العروبيين والإسلاميين.
سؤال: لماذا حصل هذا التغير الاستبدادي؟
هنري لورانس: أدى التأخر عن الحداثة الغربية إلى الاستعاضة عنها بالنزعة الاستبدادية واللجوء إلى القوة. هذا هو الحال بالنسبة لإيران الشاه وتركيا الكمالية ومصر عبد الناصر وسورية والعراق البعثيتان. حذت بعض هذه الدول نموذج الثورات الشعبية في أوروبا الشرقية. هناك سبب آخر يكمن في أن التدخل الخارجي هيمن على التاريخ. إذا كنت طرفاً محلياً، فسأعتمد على القوى الخارجية التي ستقسم البلد. إن النظام الدكتاتوري هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الاستقلال الوطني. هذا ما قاله عبد الناصر إلى نهرو: إذا كان لديك أحزاب برلمانية، فإنهم جميعاً عملاء للخارج، وتمولهم عدة دول. السبب الأخير، هو الريع النفطي. إذا قامت الدولة بإعادة توزيع هذا الريع، فإنها تشتري المجتمع والهدوء السياسي.
سؤال: هل لعب العامل الديني دوراً أيضاً؟
هنري لورانس: احترم الزعماء القوميون العرب الدين الإسلامي دوماً. كانوا يدركون أنهم غير قادرين على مكافحة المعتقدات الشعبية حتى لو أرادوا محو أمية الجماهير. يجب معرفة حجم الصدمة التي فرضها هؤلاء الزعماء القوميون على شعوبهم القروية وغير المتعلمة بأغلبيتها: إنه سير حثيث وصدمة ثقافية مذهلة. إنها قفزة تبلغ ثلاثة قرون في الزمن.
سؤال: ماذا تعنون بذلك؟
هنري لورانس: يطلب من هذه الشعوب منذ سنوات الستينيات أن تطيع الدولة، لكن هذه الشعوب تعتبر أن العشائر والشبكات العائلية فيها هي الصلة الاجتماعية الوحيدة التي يجب إطاعتها. ينطبق الأمر نفسه على الشعوب العربية التي هاجرت إلى أوروبا في الحقبة نفسها. هناك حديث عن "الاندماج". ولكن الأوروبيين احتاجوا إلى ثلاثة قرون للخروج من الجهل، ونحن نطلب من هؤلاء الناس الذين يعيشون منذ مئات السنين مع قيم ريفية أن يتأقلموا فوراً مع قيمنا.
سؤال: كيف تفسرون نجاح الإخوان المسلمين والسلفية؟
هنري لورانس: إن رجال الدين السنة غير مؤهلين أو مؤهلين بشكل سيء، وذلك بعكس رجال الدين الشيعة المؤهلين بعناية قبل ممارستهم لمسؤولياتهم. هل الأنظمة استبدادية؟ إن الدين هو المجال الوحيد التي تمتع بالحرية، نظراً لحذر الدولة تجاهه. أدى تحرر رجال الدين إلى تصور برنامج إسلامي يريد القطيعة مع السياسة. يعتبر السلفيون أن القانون الديني كامل. يرتكز هذا القانون على الطوباوية المثالية  للسنوات الأولى من الإسلام، وعلى إلغاء السياسة وإزاحتها وفرض نموذج أصلي مكانها.
سؤال: وماذا عن نجاح الجهاد؟
هنري لورانس: هناك مشكلة اجتماعية أكثر من كونها مشكلة دينية لدى الذين يتبنون الجهاد. إن دور المرأة والمشاكل الاجتماعية في الدول العربية تمنع زواج الشباب. هناك كبت جنسي هائل لأن الجنس خارج الزواج ممنوع، ولاسيما أن هؤلاء الشباب يطلعون بسهولة على الثقافة والصور الغربية. يمثل الجهاد أيضاً ثورة جنسية بالإضافة إلى البحث عن المغامرة والاحتجاج الاجتماعي تجاه الغرب. نشاهد ذلك في الخطاب الذي يتبناه داعش في التجنيد، وهذا أمر ثابت.
سؤال: هناك تركيز على الجهاديين. هل هو العامل الوحيد الذي يجذب الأجيال الجديدة؟
هنري لورانس: لا إطلاقاً. تُخفي الحركات الإرهابية حقيقة أخرى. هناك ثورة في الوعي منذ ظهور تلفزيون الجزيرة عام 1995، ثم تلفزيون العربية لاحقاً، ثم ظهور المدونات ووسائل التواصل الاجتماعية حالياً. كان من المستحيل في الدول العربية قبل منتصف التسعينيات سماع أي شيء آخر غير الأصوات الرسمية التي تسيطر الدول عليها إلى حد ما. كان هناك فقر في النقاشات، وكانت وسائل الإعلام تمنع أي تفكير لدى الشباب. أصبح الجميع الآن قادراً على تكوين فكرة عما يحصل في سورية دون أن يكون متعلقاً بما تقوله وسائل الإعلام الرسمية. هناك وعي جماعي في طور التشكل في العالم العربي. ألاحظ أيضاً أن جزءاً من الشباب يطالبون بقيم الإلحاد ويرفضون الإملاءات الدينية والقيم التقليدية. هناك بعض الناس في مصر وتونس لا يقدموا أنفسهم بالمقارنة مع المشروع الديني. إنه بروز النزعة الفردية العربية.


الثلاثاء، ٧ تموز ٢٠١٥

(المملكة التي تغذي الجهاد العالمي)

صحيفة اللوموند بتاريخ 13 حزيران 2015  بقلم الباحث المتخصص بالمسائل الاستراتيجية الدولية بيير كونيسا Pierre Conesa

      في الواقع، الرياض هي إحدى العوامل الرئيسية في زعزعة استقرار الشرق الأوسط والداعم الأول للأصولية الإسلامية، وذلك على الرغم من الحملة الدعائية المضللة المدعومة بأموال النفط. من الممكن أن نضحك من رجال الدين السعوديين الذين يعتبرون أن الأرض مسطحة (مفتي السعودية عبد العزيز بن باز)، أو أنها لا تدور حول الشمس (الشيخ بندر الخيبري)، أو من جهود رابطة الإسلام العالمي للاعتراف بالنظرة القرآنية القائلة بخلق الأرض، ومن الممكن الاستغراب أن القضاة لا يأخذوا بعين الاعتبار شهادة غير المسلمين. إن قائمة الحماقات السعودية طويلة مثل قائمة الممنوعات المتعلقة بالنساء. لكن الضحك سيكون أقل حول الحكم على رئيف البدوي بالسجن لمدة عشر سنوات، وربما لن يتسن له إنهاءها لأنه سيموت بالتأكيد قبل نهاية تنفيذ حكم الألف جلدة.
     إن السلفية التي تواجهها فرنسا هي ثمرة تصدير الوهابية السعودية التي لم تقم شبكتنا الدبلوماسية بتحليل نفوذها إلا نادراً. أصبحت الدبلوماسية الدينية منذ عدة عقود أكثر نشاطاُ من الدبلوماسية العلمانية والتسامح، وقام الحليف والزبون السعودي بدور هام فيها. يتراوح الإنفاق السعودي من أجل "القضية الدينية" في الخارج ما بين ملياري وثلاثة مليارات جنيه استرليني سنوياً منذ عام 1975، أي ما يعادل ضعفي أو ثلاثة أضعاف موازنة الدعاية السوفييتية المضللة. تستقبل الجامعات الدينية السعودية آلاف الطلاب المسلمين سنوياً، وتصدر رجال الدين والكتب ووسائل الإعلام والمنح الدراسية والمدارس والمراكز الإسلامية. تم تمويل بناء أكثر من ألف وخمسمائة جامع خلال خمسين عاماً في أوروبا وأفريقيا وآسيا وروسيا.
     قامت المنظمة الأمريكية غير الحكومية Freedom House بدراسة كتب التعليم الوهابية في المساجد، ونقلت بعض النصوص الموجودة فيها مثل: "لا يجب على المسلمين الاكتفاء بالوقوف في وجه الكفار، بل أيضاً كرههم وقتالهم"، أو "إن الأنظمة الديموقراطية بالتعاون مع الشيعة مسؤولة عن جميع الحروب". كما لاحظ تقرير بريطاني صدر عام 2014 عن Office for Standards in Education Children's and Skills وجود الانحرافات نفسها في بريطانيا. هل من المعقول أن تقوم السعودية عام 2014 بإصدار قانون جديد لمكافحة الإرهاب يعتبر الملحدين والمتظاهرين السلميين كـ "إرهابيين". إن عقوبة الكفر والتجديف تصل إلى الإعدام.
     هناك بعض التساؤلات التي تبعث على المزيد من القلق. لماذا لم تستقبل السعودية أي لاجئ من الحروب في سورية والعراق، بل على العكس، بنت جداراً طوله ثمانمائة كيلومتر لمنع دخول اللاجئين غير الشرعيين إلى أراضيها؟ إنها تدفع الأموال، ولكنها ترفض استقبال اللاجئين في المخيمات! تطرد الرياض اللاجئين مراراً وبشكل عنيف كما هو الحال بالنسبة للصوماليين.
     ماذا عن النزعة الجهادية؟ طغت هذه النسخة الإسلامية الجديدة لمكافحة الإمبريالية على النزعات التحررية في العالم الثالث خلال الثمانينيات والتسعينيات. شارك ما بين خمسة عشرة ألف وخمسة وعشرين ألف سعودي في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان ما بين عامي 1982 و1989، وقام الأمير تركي بتمويل 75 % من المساعدات المقدمة إلى المقاتلين ضد الاتحاد السوفييتي، وفرض على الباكستان أثناء حكم الجنرال ضياء الحق بناء المدارس الإسلامية الحنبلية (السلفية) التي خرجت منها حركة الطالبان.
     كانت هناك حوالي أربعين مجموعة إرهابية تتدرب في مخيمات منظمة التحرير الفلسطينية خلال الثمانينيات. هناك اليوم حوالي مئة جنسية في سورية، ومن بينهم أكثر من ألفين وثلاثمائة سعودي. طورت الشبكات الجهادية في سورية تقنيات التجنيد داخل المجموعات التي تؤمن بالقيامة ومجيء المهدي. إذا كانت السعودية ترسل القليل من الطائرات لمكافحة داعش (ما يعادل القوات الدانماركية والهولندية معاً، أو نصف عدد القوات الفرنسية)، فإنها ترسل الضعف ضد التمرد الحوثي في اليمن، لأن العدو الحقيقي للوهابية هو الشيعة. بالمقابل، من الواضح للعيان وجود تعاطف داخلي في السعودية تجاه السلفية الجهادية، ولن ينظر الداخل السعودي بعين الرضى إلى عمل عسكري عدواني جداً ضد الدولة الإسلامية، بل وربما سيهدد استقرار السعودية.
     هل تكفي الثروة السعودية المذهلة لكي تجعل منها حليفاً؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، ضد من؟ هل ستصوت فرنسا بالموافقة على طلب الترشيح السعودي في لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة؟



(التفكك في مكافحة الجهاد)

     يبدو أن صحيفة اللوموند بدأت تدرك خطورة انزلاقها مع "المحور السني" العربي، وتأثير ذلك على مصداقيتها كصحيفة تدافع عن الديموقراطية حقوق الإنسان والمرأة. يظهر هذا التغير من خلال بعض المقالات التي نشرتها خلال الأسابيع الماضية ولاسيما افتتاحية العدد المؤرخ بـ 3 حزيران 2015. هل السبب هو عدم وجود رئيس تحرير رسمي للصحيفة منذ استقالة آخر رئيسة تحرير ناتالي نوغايرد في شهر أيار 2014  وحتى تعيين جيروم فينوغليو Jérôme Fenoglio رئيساً لتحرير  الصحيفة بتاريخ 30 حزيران 2015؟ أم أنه تغير داخل الصحيفة؟ أم أنه محاولة للابتعاد قليلاً عن السياسة الخارجية الفرنسية الرسمية التي ترتكز بشكل كامل على ممالك الخليج؟ بانتظار الأيام والمقالات القادمة...

(التفكك في مكافحة الجهاد)
افتتاحية صحيفة اللوموند 3 حزيران 2015

     إنه ليس تحالفاً الذي يجتمع في باريس يوم الثلاثاء 2 حزيران باسم مكافحة الدولة الإسلامية، بل هو مجموعة غريبة تختلط فيها المصالح المتعارضة ولا تملك استراتيجية مشتركة، الأمر الذي يضمن أياماً مشرقة أخرى للجهاديين في العراق وليبيا وسورية ومناطق أخرى. تدّعي اثنتان وعشرون دولة برعاية الولايات المتحدة أنها نقطة انطلاق المعركة الجارية ضد الدولة الإسلامية، ولكنهم يتداعون تحت وطأة التناقضات والكثير من اللا واقعية والنفاق.
     ولدت الدولة الإسلامية من انهيار الدولة العراقية، هدية جورج بوش الابن، ثم سيطرت الأغلبية الشيعية العربية على ما تبقى من البلد. تقوم الفصائل الشيعية في السلطة ببغداد بتعذيب الأقلية السنية العربية. تزدهر الدولة الإسلامية على أرضية هذه المعركة الطائفية، وتقدم نفسها بنجاح كمدافع عن السنة، وتستفيد من الدعم الأساسي وكفاءات الأطر المدنية والعسكرية للنظام السابق. إن الدولة الإسلامية هي الجهاد بالإضافة إلى البعث. ما زالت حرب عام 2003 مستمرة.
     شنت الولايات المتحدة منذ عشرة أشهر أكثر من أربع آلاف غارة جوية ضد الدولة الإسلامية. حققت هذه الغارات بعض النجاح، ولكنها لم تنجح في إضعاف هذه المجموعة التي استولت مؤخراً على مدينة الرمادي في العراق ومدينة تدمر في سورية. إن المشكلة سياسية أكثر منها عسكرية. يمكن استعادة السيطرة بسرعة على المدن التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية عبر القصف المكثف، ولكن ما دام نظام بغداد يرفض تقاسم السلطة مع السنة، فإن تهميش السنة سيُبقي على تمرد الجهاديين وسينبثق في مكان آخر.
     تملك الدولة الإسلامية احتياطياً لا ينفذ من المقاتلين الذين يأتي جزء منهم بفضل السعودية التي تتحالف مع فرنسا وتدعي أنها في طليعة المعركة ضد الجهاديين. التفسير: تشير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من نصف أعضائها ـ أي مئة وعشرة بلدان ـ يزودون الدولة الإسلامية بالمقاتلين (إن عدد الدول التي تزود القبعات الزرق أقل بكثير). من هم؟ إنهم شباب جاؤوا من أفريقيا وآسيا والعالم العربي وأوروبا، واعتنقوا جميعهم العقيدة السلفية التي تمثل النسخة الفاسدة من الإسلام الذي تنشره السعودية في جميع أنحاء العالم منذ عدة سنوات.
     هناك تناقضات أخرى: على الصعيد الميداني في العراق، إن أكثر الذين ساهموا في كبح تقدم الدولة الإسلامية هم إيران والميلشيات الشيعية التابعة لها والأكراد. إنهم ليسوا في باريس، لماذا؟ لأنه قبل مكافحة الدولة الإسلامية، تريد السعودية وبقية دول الخليج إعطاء الأولوية إلى كبح التوسع الإيراني. إن الدولة الإسلامية أمر ثانوي بالنسبة لهم. في سورية، ليس نظام دمشق الذي يقف في المقدمة لمكافحة الدولة الإسلامية، بل تحالف بين عدة مجموعات تسيطر عليها جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة!
     الأمر الوحيد الواضح هو أن وسائل تدخل الدول الغربية محدودة، لأنها لا تتمتع بالشعبية في هذه المنطقة بشكل عام، ولأن مجرد وجودهم العسكري يملؤ صفوف الجهاديين بالمقاتلين. لا يتم اتخاذ قرار مكافحة الدولة الإسلامية في باريس أو واشنطن بقدر ما يتم بين النظامين الدينيين الذين يتواجهان في الشرق الأوسط: إيران والسعودية. يجب أن يتركز الجزء الأساسي من الجهود الدبلوماسية على دفعهما باتجاه فتح حوار سياسي ـ استراتيجي. بانتظار ذلك، يجب العيش على وتيرة حرب استنزاف طويلة ضد الجهاديين.


الاثنين، ٢٩ حزيران ٢٠١٥

(خطة فابيوس لا يمكنها إرضاء الفلسطينيين)

كان الهدف من المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية في الماضي أن يقدم كل طرف بعض التنازلات من أجل التوصل إلى تسوية. تريد المبادرة الفرنسية الجديدة اليوم الحصول على تنازلات فلسطينية حول القدس واللاجئين والحدود والاعتراف بيهودية دولة إسرائيل مقابل وعد فرنسي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. السؤال الذي يطرح نفسه: ما الفائدة من الاعتراف بالدولة الفلسطينية على الورق بعد تقديم هذه التنازلات؟ وربما تتحول مثل هذه التنازلات إلى معايير مستقبلية لأية مفاوضات قادمة في حال فشل المبادرة الفرنسية اليوم. بمعنى آخر، إنها مبادرة للحصول على تنازلات فلسطينية وعربية بدون حصول الفلسطينيين على أي شيء مقابل هذه التنازلات، لأن الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية سيتم في حال قبول الفلسطينيين بالمبادرة الفرنسية أولاً، ثم فشل هذه المبادرة في مجلس الأمن عند التصويت عليها ثانياً.

 (خطة فابيوس لا يمكنها إرضاء الفلسطينيين)
صحيفة الفيغارو 22 حزيران 2015 بقلم مراسلها في إسرائيل سيريل لوي Cyrille Louis

     رد بنيامين نتنياهو بجفاء على مبادرة السلام التي أطلقها لوران فابيوس، وأدان "الإملاءات الدولية" يوم الأحد 21 حزيران. كما لم يُعبّر الفلسطينيون عن حماسهم تجاه هذه المبادرة. ينوي وزير الخارجية الفرنسي طرح مشروع قرار على مجلس الأمن بحلول فصل الخريف القادم، ويمثل هذا المشروع توازناً دقيقاً بين مواقف الطرفين. يتضمن مشروع القرار عدة جوانب من الصعب أن يقبلها قادة منظمة التحرير الفلسطينية الذين امتنعوا حتى الآن عن التعبير علناً عن شكوكهم، لأنهم ينظرون بإيجابية إلى "عودة الانخراط" الفرنسي في الشرق الأوسط، ويأملون أن تعترف باريس بدولة فلسطين في حال فشل هذه المحاولة الجديدة. ولكن من المحتمل أنهم سيخرجون من غموضهم عاجلاً أم آجلاً لكي يقولوا فيما إذا كانوا موافقين على المعايير المحددة في مشروع القرار، وفيما إذا كانوا مستعدين لتحمل مسؤولية التنازلات التي يتضمنها أمام الرأي العام الفلسطيني.
     يمثل موضوع القدس إحدى المواضيع الأكثر إشكالية. يطالب الفلسطينيون بأن تكون القدس الشرقية مع المدينة القديمة و الأماكن المقدسة عاصمة لدولتهم المستقبلية. لكن الذين كتبوا نص المشروع الفرنسي يدركون جيداً بأن هذا المطلب غير مقبول لدى الجزء الأساسي من الطبقة السياسية الإسرائيلية، واختاروا صيغة غامضة بشكل متعمد. تطرق النص الفرنسي إلى ضرورة جعل القدس "العاصمة المستقبلية للدولتين" مع الحفاظ في الوقت نفسه على وضعها كمركز روحي مفتوح أمام "شعوب العالم". قال أحد المسؤولين الفلسطينيين: "يطرح هذا الغموض إشكالية كبيرة. سيغتنم الإسرائيليون هذا الغموض بالتأكيد لكي يقترحوا علينا سيادة محدودة، وسيتهموننا بإفشال العملية إذا رفضنا هذا العرض...".
     لم يرض المفاوضون الفلسطينيون أيضاً عن المقاربة "الوسطية" المتعلقة بمسألة اللاجئين. امتنع كاتبوا النص الفرنسي عن الإشارة إلى أية إشارة واضحة للقرار رقم 194 الذي أقر حق عودة مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين المهجرين خلال حرب عام 1948، وعودة أحفادهم أيضاً. دعا النص الفرنسي إلى تبني "حل عادل ومتوازن وواقعي" يعتمد على "آلية لإعادة التوطين، والإقامة في مكان آخر، أو التعويض". تهدف هذه الصيغة بوضوح إلى طمأنة الإسرائيليين الذين يعتبرون أن عودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين سيؤدي إلى إنهاء الدولة العبرية. أعرب المسؤول الفلسطيني المشار إليه أعلاه عن قلقه بالقول: "تؤكد الصيغة الفرنسية المعتمدة أنه يجب على اللاجئين التخلي عن العودة إلى أرضهم قبل البدء بالمفاوضات، وأنه يجب على الغالبية العظمى منهم الاكتفاء بتعويضات غامضة".
     لا شك أن السلطة الفلسطينية غير قادرة على فرض مثل هذه التنازلات. لهذا السبب، لم يحاول لوران فابيوس إطلاع محمود عباس على تفاصيل مشروع القرار، واختار إشراك أعضاء الجامعة العربية في مشروع القرار الفرنسي، وذلك على أمل أن تعتبر الدول العربية هذا المسعى يتطابق بما فيه الكفاية مع مصالحها لكي تشارك فيه. في هذه الحالة، سيقع على عاتق الدول العربية مهمة التأثير على الإدارة الفلسطينية من أجل إقناعها بالموافقة على بعض التسويات. وإذا حصلت المعجزة ونجحت المبادرة، سيقع على عاتق الدول العربية تقديم المساعدة إلى الإدارة الفلسطينية في الدفاع عن صحة هذه المبادرة أمام الشعب الفلسطيني.




الاثنين، ٢٢ حزيران ٢٠١٥

(كيف تفكر الإدارة الأمريكية وتتعامل مع روسيا)

صحيفة الفيغارو 1 حزيران 2015 بقلم مراسلتها في واشنطن لور ماندفيل Laure Mandeville

     يواجه الغرب تحديين استراتيجيين هامين هما: النزعة العدوانية الروسية مع ضم شبه جزيرة القرم وزعزعة الاستقرار في شرق أوكرانيا من جهة، والدولة الإسلامية التي تتقدم على الأرض في الشرق الأوسط وتمثل تهديداً إرهابياً متزايداً على القارة الأوروبية والولايات المتحدة عبر الجهاديين الذين تستقطبهم من جميع أنحاء العالم من جهة ثانية.
     أصبح التعامل مع روسيا بوتين اهتماماً مركزياً لدى المحللين الاستراتيجيين لدى إدارة أوباما في مواجهة هاتين المعضلتين الشائكتين. كيف يمكن دفع الزعيم الروسي إلى إيقاف اعتدائه في أوكرانيا، والاستفادة في الوقت نفسه من مساعدته في الشرق الأوسط من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي مع إيران وتحقيق الاستقرار في العراق وسورية عبر تنظيم عملية انتقالية سياسية في سورية؟ كيف يمكن احتواء بوتين مع الاعتراف في الوقت نفسه بالحاجة إليه؟ هذه هي المعادلة المستحيلة الحل. سيُطرح هذا الموضوع على خلفية النقاشات التي ستجري في باريس يوم الثلاثاء 2 حزيران مع أعضاء التحالف ضد داعش على الرغم من عدم حضور روسيا.
     تحاول الدبلوماسية الأمريكية منذ عدة أسابيع أن تضع فلاديمير بوتين أمام مسؤولياته في أوكرانيا والشرق الأوسط، ويزداد قلقها أكثر فأكثر تجاه التشنج الروسي. اجتمع وزير الخارجية الأمريكية جون كيري قبل عدة أيام مع فلاديمير بوتين في سوتشي، ثم أرسل معاونته فيكتوريا نولاند إلى موسكو لمواصلة النقاشات. أسرّ مسؤول رفيع المستوى في إدارة أوباما إلى صحيفة الفيغارو قائلاً: "في الوقت الذي تتركز فيه عملية اتخاذ القرار في روسيا أكثر فأكثر بشخص واحد، اعتبر وزير الخارجية أنه من المهم الاجتماع مع بوتين في غرفة واحدة من أجل مناقشة ثلاثة مواضيع هامة هي: إيران وسورية وأوكراينا. فيما يتعلق بإيران، كانت رسالة وزير الخارجية واضحة: إن المفاوضات حول الملف النووي الإيراني هي نموذج لما نفعله معاً بشكل جيد، ويجب إنهاء هذا العمل". فيما يتعلق بسورية، قال كيري إلى بوتين أنه يقوم بـ "رهان سيء"، وأضاف الدبلوماسي الأمريكي قائلاً: "قلنا أن الوضع اليوم وصل إلى درجة أنه يمكن أن نستيقظ غداً مع دولة إسلامية تسيطر على البلد، مع إمكانية انهيار نظام الأسد... إذا كنتم صادقين حول حقيقة أن أولويتكم هي الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ومنع انتصار المتطرفين، وأنكم لستم متمسكين بالأسد شخصياً، ففي هذه الحالة، استخدموا نفوذكم من أجل العمل حول عملية انتقالية".
     فيما يتعلق بأوكرانيا، قال المصدرنفسه أن النقاشات مع بوتين تتعلق "بإفهامه أننا جادون جداً حول فكرة إنهاء العقوبات في حال تنفيذ اتفاق مينسك بأكمله. وفي الوقت نفسه، نحن مستعدون لإبقاء العقوبات الحالية وحتى تشديدها بالتنسيق مع أوروبا في حال قيام بوتين وعملائه بالاستيلاء على أراضي جديدة".
     في الوقت الحالي، لم تعط هذه النقاشات نتائج ملموسة. يبدو أن بوتين ليس مستعجلاً للتحالف مع الأمريكيين من أجل عملية انتقالية في سورية، ما دامت إيران لم تنضم إلى هذا المسعى. فيما يتعلق بأوكرانيا، ما زال بوتين ينفي الوجود العسكري الروسي (المتزايد) على الأرض على الرغم من الأدلة القاطعة.
     لكن الهاجس الأكبر بالنسبة لواشنطن هو تفتت الموقف الأوروبي الموحد الذي ما زال مستمراً حتى الآن تجاه أوكرانيا بفضل الزعامة الألمانية. يعرف بوتين نقاط الضعف الأوروبية، ويعمل على استغلالها. تتفاوض اليونان حالياً مع دائنيها في الدول الغربية، واقترحت عليها موسكو في الوقت نفسه حلاً لمشاكلها المتعلقة بالطاقة عبر إقتراح ببناء خط أنابيب لنقل الغاز بشكل يجعلها تابعة للكريملين، ويهدد استراتيجية الاتحاد الأوروبي في تنويع مصادر الطاقة. كما تراقب واشنطن بقلق العلاقات التي ينسجها بوتين مع بعض أحزاب اليمين الأوروبية ولاسيما الفرنسية منها، عبر تقديم نفسه كحصن ضد الإسلام الراديكالي، ويراهن بوتين على أن قلق بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا من داعش أكبر بكثير من التهديد الروسي في أوكرانيا، هذا التهديد الذي تعتبره ألمانيا تهديداً وجودياً لها بسبب قربها الجغرافي.
     تعتبر واشنطن أن المشكلة تكمن في التوفيق بين الأولويات، والحفاظ على الموقف الموحد بين جانبي الأطلسي حتى يظهر الضعف داخل النظام الروسي. أشار المسؤول الأمريكي المذكور أعلاه إلى أن بوتين يعتقد نفسه قوياً، ولكن "هناك الكثير من التذمر في روسيا. لا نعتقد أن بوتين سيكون قادراً على إطعام الروس إلى الأبد عبر النزعة القومية".