الصفحات

الأربعاء، ٢٧ شباط ٢٠١٣

(في حمص، التمرد يتجمد في حالة خمود زائف)


صحيفة الفيغارو 27 شباط 2013  بقلم مراسلها الخاص في حمص جورج مالبرونو Georges Malbrunot

     كان طريق دمشق ـ حمص شبه خال هذا الصباح بعد عبور حاجز الجيش النظامي في ضاحية القابون المتمردة التي تتعرض إلى قصف منتظم بالطائرات، ويشهد على ذلك الأبنية المهدمة على جانبي الطريق. تتكرر مناظر الدمار نفسها بعد عدة كيلومترات في دوما وعدرا. ثم يمتد الطريق لمسافة 160 كم في الصحراء وتختفي الحواجز على الطريق باستثناء مدينة النبك التي انطلق منها المتمردون قبل عدة أيام لمهاجمة الجيش وقطع الطريق. تقع هذه المدينة ومآذنها التي نراها على يمين الطريق تحت سيطرة المتمردين. في يبرود، تم التوصل إلى هدنة بين المتمردين الذين يُديرون المدينة وبين الجيش الذي يراقب من بعيد. قالت (رندا) التي ترافقنا في سيارة الأجرة: "ستستغربون عند الوصول إلى حمص، إن هذه المدينة أكثر هدوءاً من دمشق". تجاوزت سيارة الأجرة إحدى الشاحنات المتجهة إلى ميناء طرطوس على البحر المتوسط الذي يقوم بتموين دمشق والمناطق الداخلية. هناك بعض الحافلات الصغيرة وسيارات المرسيدس السوداء التابعة للشرطة السرية في طريقها إلى حمص. ما زالت صور بشار الأسد مُعلّقة على هذا الطريق الواصل بين دمشق وحمص، ويحرص النظام على السيطرة على هذا المحور الإستراتيجي الهام الذي يصل بين دمشق ومعقله في المنطقة العلوية.
     عادت الحياة إلى حمص بعد أن تعرض التمرد فيها إلى أعنف قصف قبل عام، إن ثلثي أحياءها على الأقل تحت سيطرة الجيش، وفتحت المحلات والمؤسسات أبوابها. لا تتعرض "عاصمة الثورة" سابقاً إلى الحصار بعكس دمشق، ولكن أصوات القصف تُسمع فيها من وقت لآخر. لا تبدو العصبية على الجنود في الحواجز، وكان أحد هذه الحواجز بإدارة فتيات شابات مسلحات بثيابهن الشبيهة بجلد الفهد. يُطلق أنصار النظام عليهن بـ "لبوات الأسد" اللواتي يُشكلن جزءاً من "جيش الدفاع الوطني" الذي يسعى النظام إلى تشكيله عبر تنظيم الميليشيات. قالت إحداهن: "إنهن بنات أو أمهات الشهداء". تنتمي معظمهن إلى الطائفة العلوية. هل هو استفزاز للمتمردين السنة أم تحدي للرجولة الشرقية؟ لا شك أنه القليل من الإثنين معاً.
     يقع مكتب المحافظ بعد مسافة قصيرة من هذا الحاجز على طريق تدمر. أقام أحمد منير محمد، عسكري سابق، مكاتبه في بناء كان مخصصاً عادة إلى الخدمات الفنية للمدينة. في اليوم الذي وصلنا فيه إلى المدينة، كان المحافظ يترأس اجتماعاً موسعاً يضم 300 شخص من وجهاء المدينة والمعارضين في منطقة حمص في إطار برنامج "المصالحة الوطنية" الذي أطلقه النظام. إنه ذر للرماد في العيون بالنسبة للمتمردين المسلحين الذين يرفضون المشاركة فيه. ولكنه أيضاً بالتأكيد محاولة لإعادة اللحمة للنسيج الاجتماعي الممزق بعد سنتين من أعمال العنف الدامية. أكد الخور أسقف الروم الكاثوليك ميشيل نعمان الذي درس في جامعة السوربون قائلاً: "يجب علينا القيام بكل شيء لوقف تدمير بلدنا حتى ولو كان احتمال نجاح هذه المصالحة لا يتجاوز الـ 10 %. يجب على العالم أن يساعدنا، ولكن بدون إرسال السلاح إلى الحكومة ولا إلى المعارضة".
     استمر الاجتماع خمس ساعات، وكان صاخباً ولاسيما عند التطرق إلى مسألة السجناء. أشار المحافظ إلى أنه تم الإفراج عن 600 سجين. ولكن ما زال هناك أكثر من 1500 وراء القضبان. أكد أحمد منير محمد أنه على اتصال مع رؤساء المجموعات المسلحة الذين وافق بعضهم في الأشهر الأخيرة على إلقاء السلاح والمشاركة في برنامج المصالحة، ولكنهم لا يمثلون إلا قطرة ماء في المحيط. أكد لنا وزير المصالحة علي حيدر في اليوم التالي بمكتبه في دمشق أن "الاجتماع لم يكن مثمراً"، واعترفت هذه الشخصية التي لا تنتمي إلى حزب البعث الحاكم قائلة: "المحافظ يمثل الدولة، هذه هي المشكلة. إن المعارضين بحاجة إلى رؤية أشخاص أخرين أمامهم عندما نُحدّثهم عن المصالحة".
     ما زال هناك ما بين ثلاثة وأربعة آلاف متمرد محاصرين في المدينة القديمة بحمص. من المستحيل الاقتراب من أحيائهم في الخالدية والحميدية. هناك بعض المدنيين بينهم، ومنهم ثمانين مسيحياً لا يستطيعون الخروج إلا عبر الممرات الكثيرة الموجودة تحت الأرض في حمص. تذكّر الأب ميشيل نعمان قائلاً: "خرجت في شهر أيار بقميص وبنطال". إن الوضع الإنساني داخل هذه الأحياء كارثي. إن آخر مرة وصلت إليها مساعدات غذائية وطبية، كانت قبل  حوالي أربعة أشهر. قام الجيش بقصف المناطق المحيطة بالخالدية بعنف لكي يجعلها منطقة خالية من السلاح، وشدد الخناق حول هؤلاء المتمردين في الأسابيع الأخيرة. من المحتمل إثارة غضب عائلات المتمردين في حي باب عمرو بعد إسكانهم في حي الوعر في غرب حمص. حذّر أحد سكان الحي والحقد يطفح منه قائلاً: "إن الوضع قابل للانفجار في هذا الحي، تكفي مجرد شرارة صغيرة لإشعال النيران من جديد". لقد ترك الكثير من المتمردين مدينة حمص بعد سحق حي باب عمرو قبل عام، ولكن بعضهم انضم إلى المجموعات المسلحة سواء في حمص أو في المدن التي وصلها التمرد.
     أكد المحافظ في مكتبه، تحت صورة الرئيس الحتمية، على أهمية الاجتماعات التي ينظمها بين الشباب السنة في حي باب عمرو وحي الإنشاءات وبين جيرانهم العلويين في حي عكرمة. ولكن ما هي النتائج؟ حتى ولو كان السكان متعبين بسبب النزاع المستمر منذ سنتين، فإن الثقة لم تعد موجودة. قالت إحدى طبيبات الأسنان المسيحيات في حي المحطة (سميرة) متأسفة: "يخرج المتمردون أحياناً من مخابئهم لمهاجمة مواقع الجيش أو الأبنية الحكومية. جيراننا المسلمون يؤيدون المعارضة، ولكننا لا نتحدث بالسياسة معهم". لا يوجد طوابير طويلة أمام محطة البنزين بالقرب من منزلها، وذلك بعكس الوضع بالنسبة لمحطات البنزين في دمشق. لقد عادت المصفاة إلى العمل، لأنها تقع في أحد الأحياء الذي عاد إلى سيطرة الجيش النظامي. عادت مئات العائلات إلى منازلها مستفيدة من الهدوء السائد خلال الأشهر الأخيرة. وجاءت بعض العائلات من حلب أو دير الزور للجوء إلى حمص، لأن المعارك ما زالت محتدمة في هاتين المدينتين.
     شاهدنا بعض هذه العائلات في شارع الكرامة بحي باب عمرو، وهناك صورة كبيرة للأسد مُعلّقة لإخفاء أحد الأبنية المهدمة. هناك سجادات وألبسة مُعلّقة على شرفات الأبنية المهدمة، وكانت هناك إمرأة مُحجبة تنتظر مع ابنتها التي وضعتها في عربة للأطفال. ولكن الألسن تجد صعوبة في التحدث، والمظاهر مُضللة. بمجرد الدخول في الشوارع الضيقة، نتذكر تدمير برلين بعد الحرب العالمية الثانية. قالت إحدى الشابات العلويات: "إذا كان الهدوء يعمّ اليوم، فلأن الجيش قام بتطهير جميع أماكن الإرهابيين". ما زال الحقد مستمراً بين أقلية الرئيس والسنة. لم يتردد العلويون في إحدى أحيائهم بافتتاح "سوق السنة" الذي نجد فيه المواد المسروقة التي سرقتها الميليشيات المؤيدة للنظام من الأحياء المتمردة وبسعر رخيص. ما زال حي الحمرا بالقرب من جامع عمر عبد العزيز تحت الرقابة الشديدة منذ انفجار السيارة المفخخة. قالت (سميرة) التي كانت تريد الاعتقاد بعودة التعايش: "كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لنا". لقد عاد زوجها (عامر ـ موظف في مصرف) قبل يوم واحد من دمشق بشكل عاجل بسبب مكالمة هاتفية مُرعبة، وقال متأسفاً: "اتصل بي رجل لكي يقول لي بأنه استولى مع أربعة مقاتلين على مزرعتي التي تقع على بعد خمسة كيلومترات من حمص. وقال لي أنه إذا قمت بتبليغ الجيش، فإنهم سيقومون بتفجير منزلي. ما هذه الثورة؟".
     يُسيطر المتمردون على المدن المحيطة بحمص مثل الرستن وتلبيسة، وهم بحاجة إلى مثل هذه القواعد الخلفية لكي يأملوا باستعادة السيطرة على حمص. يبدو أن الحوار مستحيل بينهم وبين النظام. ولكن المحافظ قلل من أهمية ذلك قائلاً: "نعم، ولكن الرستن وتلبيسة حالتان خاصتان. لقد نجحت الهدنة في تلكلخ بالقرب من الحدود اللبنانية. ولكن الرستن تضم الكثير من الضباط الذين هربوا من الجيش، وهم من الميؤوس منهم". يجب أن نكون ساذجين لكي نؤمن مع الأب ميشيل نعمان بوجود "بصيص أمل" منذ الدعوة التي وجهها رئيس الإئتلاف الوطني معاذ الخطيب للتفاوض مع النظام من أجل إيقاف المجازر. قال ميشيل نعمان بمرارة: "ضاع كل شيء. الجميع ضعفاء. لا يهم إذا كان الحوار مع أو بدون شروط، ولكن يجب إنقاذ سورية". الشعب مُنهك. يُعارض المتمردون بشكل واضح الحوار مع نظام يبدو أنه لا يريد الحوار أيضاً. في حمص، ربما لا يستمر الهدوء الزائف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق