الصفحات

الثلاثاء، ١٠ حزيران ٢٠١٤

(من أجل إعادة ابتكار السياسة)

صحيفة اللوموند 8 ـ 9 حزيران 2014 بقلم الباحث في علم الاجتماع آلان تورين Alain Touraine

     أظهرت الانتخابات الأخيرة في فرنسا انهيار نظامنا السياسي. لقد أثار الصعود السريع لحزب الجبهة الوطنية الشعور بالصدمة لدى الرأي العام. عشنا خلال القرن الماضي في مجتمع صناعي تتوافق فيه الأحزاب السياسية مع الأطراف الاجتماعية الأكثر أهمية، ولكننا خرجنا اليوم من هذا المجتمع الصناعي. لم يعد ممكناً فهم الظواهر السياسية والثقافية عبر المصطلحات الاجتماعية، بل يجب فهمها أولاُ عبر العولمة.
     انقسمت فرنسا بين أولئك الذين يعيشون في المناطق القادرة على التواصل مع العولمة من جهة، وأولئك الذين تم إقصائهم خارجها، ويعتقدون أن الحياة الريفية تجذبهم بشكل أكبر، ثم وجدوا أنفسهم معزولين في مناطق بدون فرص عمل وبدون خدمات عامة من جهة أخرى. إنه تحول كبير. لم تعد هذه الفئات الشعبية تكافح ضد الأغنياء، بل أصبحت تكافح من أجل بقائها وهويتها.
     أصبح الليبراليون يُسيطرون أكثر من أي وقت مضى على اليمين في البرلمان الفرنسي. كان الديغوليون يسيطرون على اليمين، ولكن اليمين الفرنسي حالياً لا يعمل من أجل النمو الاقتصادي في بلد يقول فيه الباحث الاقتصادي الفرنسي توما بيكيتي Thomas Piketty أن الإرث وليس العمل أو تأسيس الشركات أصبح الطريق الأكثر أماناً نحو الغنى. يتشكل اليمين من وجهاء المناطق الفرنسية، وذلك في الوقت الذي تنتقل فيه النواة المركزية للاقتصاد إلى أيدي الأسواق المالية الدولية. حاول نيكولا ساركوزي الاقتراب من ناخبي حزب الجبهة الوطنية في نهاية ولايته، ولكن هذا الاقتراب أدى إلى تعريض حزبه للخطر لأن حزب الجبهة الوطنية أكثر ديناميكية ووحدة من التيارات المتنافسة داخل حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية.
     وصل اليسار إلى الحكم عام 1981 مع فرانسوا ميتران الذي حمل معه برنامجاً ثورياً للتأميم، ولكن هذا الحلم اصطدم بالواقع سريعاً، وانهار الاقتصاد الذي كان تحت إدارة فرانسوا ميتران. تمكن جاك دولور Jacques Delors من إنقاذ الاقتصاد الفرنسي من الكارثة آنذاك. أدرك رئيس الوزراء الفرنسي في ذلك الوقت ميشيل روكار Michel Rocard أنه يجب ربط السياسة الاقتصادية مع السياسة الاجتماعية، وألا تكون هاتان السياستان في حالة حرب فيما بينهما. ما زال اليسار منذ ذلك الوقت بدون برنامج وبدون نقاش داخلي.
     إن انهيار نظام سياسي ليس كارثة بحد ذاته، وليس أمراً غريباً في عالم يتغير كل شيء فيه، ولكن يجب على الفئات السياسية أن تتغير أيضاً. أعطت فرنسا الأولوية دوماً إلى المشاكل السياسية على حساب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وما زالت فرنسا أكثر اهتماماً بتراث ثوراتها من اهتمامها بالمشاكل الداخلية للمجتمع الصناعي.
     إن الصعود القوي لحزب الجبهة الوطنية لا يعني أنه لا يمكن مقاومة هذا الصعود. تكمن المشكلة المركزية في عدم وجود توجه عام لدى اليسار كما هو الحال لدى اليمين، ويبقى السؤال التالي: هل اليسار قادر على الخروج من ضياعه في العالم الخيالي، وهل يستطيع النجاح في تحقيق قفزة كبيرة تمنحه الحياة مرة أخرى وتعيده إلى الواقع كما نعيشه اليوم في بداية القرن الواحد والعشرين؟ لم يكن تصحيح مسار الاقتصاد الفرنسي ممكناً بعد الحرب العالمية الثانية إلا بفضل ربط موضوع التحديث مع موضوع العدالة الاجتماعية. يعرف الجميع أن جميع الحكومات القادمة سيتم الحكم عليها عبر قدرتها في تحقيق النمو والتغلب على البطالة.
     دخلنا في عالم انتشرت فيه الرأسمالية في كل مكان، وازدادت فيه النزعة الاستهلاكية الفردية. لا أحد يفكر اليوم بكيل المديح للفقر، ولكن النزعة الفردية التي تجذب الشباب اليساري بشكل خاص ليست موجهة نحو الاستهلاك بل نحو المزيد من الكرامة، هذه الكلمة التي تحمل برأيي قوة في التغيير تعادل قوة كلمتي التضامن أو الإخاء، وهنا يوجد المكان الأساسي لكفاح الفكر الديموقراطي اليوم. لقد فرضنا حقوق الأغلبية، ولكن يجب علينا الآن فرض احترام حقوق الأقليات.
     نشاهد في كل مكان بروز هاجس الهوية والخوف من الآخر واغتيال الأقليات. لا يمكن مواجهة هذا الانتصار المرعب للموت والتحريم إلا عبر التعلق بالتنوع، ولكن التنوع المبني على عالمية الحقوق الأساسية، بشكل يمكننا فيه من اختيار الانفتاح بدلاً من الانغلاق، واختيار التجديد بدلاً من الرفض.
     إن الخطأ الأكبر الذي يمكن أن نرتكبه في مواجهة صعود حزب الجبهة الوطنية هو تسليح الشرطة. أحس الجميع خلال الانتخابات الفرنسية الأخيرة بالضعف الموجود داخل النظام السياسي وبالفراغ الفكري فيه وبالتصرفات التي دفعت بالبعض إلى الامتناع عن التصويت وبالبعض الآخر إلى التصويت لصالح حزب الجبهة الوطنية. إن التعامل مع جزء هام من الناخبين باعتبارهم أقل مكانة لن يسمح بإعادة الحياة إلى مطلبي الحرية والكرامة. نحن بحاجة إلى قرارات وإصلاحات وتجديد بالإضافة، وبشكل عاجل، إلى الإرادة والقدرة على التحرك لمنع العنف والانشقاقات، ولكي نتعلم كيف نعيش معاً من جديد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق