صحيفة اللوموند 2 أيلول 2014 ـ
مقابلة مع الأستاذ في معهد العلوم السياسية والمتخصص بالإسلام والعالم العربي جيل
كيبيل Gilles Kepel الذي عاد مؤخراً من جولة في
عدة دول بالشرق الأوسط ـ أجرى المقابلة غايدز ميناسيان Gaïdz Minassian ونيكولا في Nicolas Veill
سؤال:
كان فصل الصيف دامياً في غزة والعراق وسورية بالشرق الأوسط، لماذا؟
جيل
كيبيل: نشهد اليوم إعادة التشكيك بالشرق الأوسط الناجم عن
اتفاقيات سايكس ـ بيكو بعد الحرب العالمية الأولى. كانت الحدود التي رسمها
البريطانيون والفرنسيون بعد تقسيم الإمبراطورية العثمانية عاملاً للتوازن. إن هذه
الحدود التي احتج عليها القوميون العرب ساعدت على قيام أنظمة متوازنة وعلى الحفاظ
على الدكتاتوريات وغياب الديموقراطية، ولكنها منعت أيضاً الفوضى السائدة حالياً.
إن الولادة التي ما زالت هشة لكردستان هي علامة واضحة لانعدام التوازن الناجم عن
اتفاقيات سايكس ـ بيكو التي استبعدت هذه الولادة في الماضي.
سؤال:
من هي القوة الجديدة التي يمكن أن تبرز من هذه الفوضى؟
جيل
كيبيل: إن ما يجري في العراق وغزة وسورية يندرج في سياق عملية
إعادة دمج أو عدم دمج إيران في استراتيجية الشرق الأوسط. يمكن فهم الهجوم
الإسرائيلي على غزة وهجوم الدولة الإسلامية على العراق انطلاقاً من هذا السياق.
إذا عادت إيران إلى المجتمع الدولي بعد انتهاء المفاوضات على الملف النووي،
وقادتها إدارة يمكن التعامل معها، فهذا يعني أن طهران سيكون بإمكانها أن تصبح شرطي
الشرق الأوسط، كما كان عليه الحال قبل عام 1979. يبلغ عدد سكان هذا البلد ثمانين
مليون نسمة، ويملك البيروقراطية الحكومية اللازمة بالإضافة إلى طبقة وسطى قاومت
محن النظام. إذا دخلت إيران في الرهان، فإن التوازن الإقليمي سيتغير، ولاسيما
العلاقات المميزة التي بنتها دول الخليج مع الولايات المتحدة، ويتعرض هذا التوازن
الإقليمي للمصاعب منذ أحداث 11 أيلول. إذا عادت إيران، فإن التآزر الأمريكي ـ
الإسرائيلي لن يكون بالنوعية نفسها.
سؤال:
ولكن هل سيحافظ الشرق الأوسط على الأهمية نفسها؟
جيل
كيبيل: لا. يجب الأخذ بعين الاعتبار فقدان محوريته في انتاج
الطاقة العالمي. أصبحت الولايات المتحدة من الآن فصاعداً دولة مصدرة لغاز الأردواز
Gaz de Schiste، ولم تعد
بحاجة إلى الطاقة القادمة من الشرق الأوسط. إن إسرائيل دولة منتجة للغاز في البحر
المتوسط، ومن المفترض أن تصبح دولة مصدرة أيضاً. بالنسبة لاستراتيجية الولايات
المتحدة على المدى الطويل الذي ستتراجع فيه حصة الشرق الأوسط من انتاج الطاقة
العالمي، إن السؤال المطروح هو معرفة فيما إذا كان الوجود العسكري الأمريكي الكبير
في هذه المنطقة يستحق كل هذا العناء. ألن يكون من الأفضل العودة إلى سياسة حكم
المنطقة عبر دول تقوم بدور الشرطي؟ كما أن الهيمنة الغربية على الصعيد العسكري
تواجه المصاعب في العراق وغزة. كما لم تنجح إسرائيل أيضاً في تدمير ترسانة حماس
بشكل حاسم، ولاسيما أن حماس نجحت، كما نجح حزب الله سابقاً، في العثور على نقطة
الضعف المتمثلة بحفر الإنفاق وقتل الجنود وإرسال الصواريخ. إن الحل القائم على
الاعتماد الكامل على التكنولوجيا التي كانت تضمن التفوق الغربي أظهر بعض التصدعات
التي يغتنمها أعداء الغرب.
سؤال:
هل تندرج عملية "الجرف الصامد" التي شنتها إسرائيل ضد غزة ضمن
هذا المشهد الجديد؟
جيل كيبيل: بالتأكيد.
أكد لي بعض المقربين من الدوائر العسكرية الإسرائيلية أنهم حثوا بنيامين نتنياهو
على القبول بحكومة التحالف الفلسطينية بين فتح وحماس، مُعتبرين أنها تمثل طرفاً
محاوراً مقبولاً. رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي ذلك لأسباب انتخابية. أشار معارضو
الاعتراف بهذه الحكومة إلى أن حماس، مثل حزب الله، ستحافظ على جيشها، وأن الحركة
الإسلامية الحاكمة في غزة ستربح على جميع المستويات. إن حماس مثل حزب الله
يُعتبران كذراعين مسلحين لإيران في المنطقة. لهذا السبب، كان لا بد من تدمير
ترسانة حماس بشكل مسبق وإضعاف المحور الإيراني في الوقت نفسه. ولكن النتائج لم تكن
على مستوى توقعاته.
سؤال: لماذا يدخل
هجوم الدولة الإسلامية في العراق ضمن إطار العداوة بين إيران وبقية الدول في
المنطقة؟
جيل كيبيل: بالنسبة
للعرب في الخليج، إن هيمنة طهران هو سيناريو شبيه بالكابوس. شاهد الأتراك
والقطريون والسعوديون في الدولة الإسلامية وسيلة ستسمح لهم بالقضاء على بشار الأسد
حليف إيران. إن هذا الوحش الذي احتضنوه بدأ بإخافتهم الآن. الأمر الأكثر مدعاة
للقلق هو أن هذه الظاهرة أصبحت نوعاً من التصورات الهامة والمُهيمنة في العالم
السني. إن الأغلبية الساحقة من السنة تعارض الدولة الإسلامية، ولكنها تجد صعوبة في
مواجهتها عبر تصور آخر قادر على التعبئة بالدرجة نفسها.
سؤال: ما الذي
يُميز الدولة الإسلامية عن تنظيم القاعدة؟
جيل كيبيل: يعمل تنظيم
القاعدة وفق نموذج هرمي يتم فيه التضحية بالمُنفذين بدون تفكير، وتم تمويل كل ذلك
عبر بن لادن وورثته. تُفضل الدولة الإسلامية تحميل المسؤولية واستبدال الهرم الذي
يمكن أن يدمره العدو بنموذج الشبكة، وتقوم بأدلجة الأفراد وتدريبهم عسكرياً، مع
إعطاء الأولوية لأوروبا الغربية والسعي لتأجيج أوضاع الحرب الأهلية فيها. ولكن هذا
الإرهاب الذي يفتقد للهيكلية من الممكن اختراقه والتلاعب به من قبل الأجهزة
السرية. اخترقت الأجهزة السورية بشكل مبكر جداً الدولة الإسلامية بالاعتماد على
الأسلوب الروسي للتجسس المضاد الذي يتضمن حقن الجهاد داخل التمرد من أجل تفجيره من
الداخل. استفادت الدولة الإسلامية من تساهل نظام دمشق الذي لم يهاجم مواقعها
أبداً. سمح ذلك لبشار الأسد بإظهار أنه إذا كانت حصيلة عمل النظام السوري ليست
باهرة، فإنه يواجه وحوشاً في الطرف المقابل. بالمحصلة، إن الدولة الإسلامية هي
نتاج تحالف هجين بين عدوين اثنين.
سؤال: ألم تستقل
الدولة الإسلامية ذاتياً بالنسبة لعرابيها؟
جيل كيبيل: لا نعرف
جيداً أسلوب عمل الدولة الإسلامية. يبدو أحياناً أن الاعتبارات الإيديولوجية هي
التي تغلب، كما هو الحال بالنسبة لاضطهاد المسيحيين واليزيديين بشكل يهدد بتعبئة
الغرب، على الرغم من أن هذه الأقليات لا تمثل أي خطر جدي. على أي حال، لقد أجبر ذلك
القطريين والسعوديين على الابتعاد من الدولة الإسلامية دون أن يكونوا مُقنعين.
سؤال: ما هي
العواقب الممكنة لهذه الفوضى على أوروبا؟
جيل كيبيل: يبدو لي أنه
من المستحيل التفكير بالمشاكل الاجتماعية التي تهز المجتمع الفرنسي بمعزل عن هذا
الاضطرابات. يجب الأخذ بعين الاعتبار هذه الظاهرة الجديدة والمُقلقة للشباب
الجهاديين الفرنسيين الذين غادروا إلى الجبهة العراقية والسورية ثم عادوا إلى
أوروبا. إن محمد المراح ومهدي نيموش هما المثالان الفرنسيان. ولكن عازف الراب
الشاب البريطاني الذي قطع رأس الصحفي جيمس فولي يمثل أيضاً نظرة مُرعبة. إن تاريخ
الامبراطورية الاستعمارية هو جزء من تاريخنا، كما هو الحال بالنسبة للمغرب الغربي.
إن النخب المغاربية التي وصلت إلى السلطة بعد الاستقلال، كما هو الحال بالنسبة للنخب
الديغولية، عاشت على الوهم بأن كل طرف يستطيع العيش بشكل منعزل. هذا خاطئ! ما زال
هناك تداخل متبادل فيما بيننا. يجب الوصول إلى التفكير بهذا التداخل المتبادل،
وإلا فإنه سيعود على شكل "عودة المكبوت" السلفي.
سؤال:
في كتابكم "الألم العربي" (Passion Arabe)
ثم في "الألم الفرنسي" (Passion française)،
اتجهت نظرتكم الإستشراقية إلى الضواحي الفرنسية والسكان الذين يتحدرون من أصول
عربية. ما هي قراءتكم للمظاهرات التي خرجت هذا الصيف تضامناً مع غزة ولأحداث الشغب
التي رافقتها؟
جيل
كيبيل: اتصفت هذه المظاهرات بالخلط بين الأمور. تقليدياً، كانت
هذه المظاهرات حكراً على اليسار المتطرف. للمرة الأولى، طغت بعض المجموعات
الإسلاموية على اليسار المتطرف، وكان بعضها مؤيداً للتيار الجهادي. سمعنا في
المظاهرة التي خرجت في باريس بتاريخ 9 آب شعارات تتراوح من "جان مولان،
مقاومة" (ملاحظة: جان مولان هو ثائر فرنسي ضد الاحتلال الألماني أثناء
الحرب العالمية الثانية) إلى "حماس، مقاومة" حتى "جهاد،
مقاومة". هناك أخطار بأن يأخذ هذا التغير بعداً اجتماعياً. إن التعبير
عن التضامن مع الفلسطينيين أمر مشروع،
وكذلك من المشروع أيضاً في النظام الديموقراطي أن يقوم الآخرون بالتعبير عن
تضامنهم مع إسرائيل. ولكن الجديد في الأمر هو أننا شاهدنا جمعيات إسلاموية محلية
تمشي إلى جانب المجموعات المنبثقة عن شبكة اليمين المتطرف لألان سورال Alain Soral وديودونيه Dieudonné:
البرهان على ذلك هو صواريخ القسام الكرتونية التي لوح بها متظاهرون كانوا يقلدون
الإشارات النازية. نرى بوضوح كيف تقوم هذه الإيديولوجية اليمينية المتطرفة بالخلط
بين العداء التقليدي للسامية وكره اليهود المنبثق عن نظرة سلفية للعالم. إن هذا
الخلط وهذا الغموض الشعبوي هو أيضاً تعبير عن معاناة اجتماعية، ويُشكل اليوم مشكلة
أساسية.
سؤال:
برأيكم، لماذا تنعكس المعاناة الاجتماعية عبر التصلب الطائفي؟
جيل
كيبيل: تتعزز المجموعات السلفية في الأحياء عندما تنظر إلى
نفسها عبر مرآة الحركات اليهودية الأكثر تشدداً. تظهر القطيعة الطائفية في عقل
السلفيين مع التيار اليهودي المتصلب جداً، ويتصورون أن هذا التصلب هو الذي يسمح
لليهود بأن يكونوا أقوياء ومحترمين، ويعتقدون أن "العرب" الذين
راهنوا على رهان الانصهار في المجتمع الفرنسي كانوا أكبر الخاسرين. إن التشدد فيما
يتعلق بلحم "الحلال" لدى المسلمين، يتم بناؤه على نموذج طعام
الكاشير Casher لدى اليهود.
سؤال:
ما العمل من أجل نزع الألغام المتفجرة من هذا الخلط الذي تصفونه؟
جيل
كيبيل: نستطيع الاعتقاد بأنه من الممكن تجنب بلقنة المجتمع
الفرنسي على الأقل. من الخطأ الاستعانة بممثلي الطوائف الإسلامية واليهودية بمجرد
وقوع بعض الأحداث، لأنه يوجد لدينا في مؤسسات الجمهورية آلاف الأشخاص المُنتخبين
من الديانة الإسلامية. لا شك أن هؤلاء المسلمين المنتخبين تربطهم علاقات متنوعة مع
إيمانهم تتراوح من التصلب إلى اللامبالاة. كما يوجد أيضاً بعض الأشخاص المنتخبين
من أصل يهودي. إن هؤلاء الأشخاص المنتخبين يتحدرون من هذا التنوع الطائفي حتى لو
لم يتم انتخابهم على هذا الأساس. لماذا لا نستعين بهم؟ إن جميع المجالس البلدية
للمدن الشعبية تتضمن بعض الشخصيات التمثيلية لهذا التنوع، وهي تهتم بتطلعات البيئة
التي جاءت منها، ولكنها جزء لا يتجزأ من الميثاق الجمهوري ومن الآلة السياسية الفرنسية.
بالتأكيد، يحق للديانة أن تعبّر عن نفسها، ولكن التمثيل الوطني يعطي صورة أكثر
إخلاصاً لـ "البلد الحقيقي".
سؤال:
ألا يوجد أيضاً نماذج بديلة عن السلفية المنبثقة عن العالم العربي نفسه؟
جيل
كيبيل: يكمن الرهان الأساسي لفرنسا في دول المغرب العربي. إن
عشر سكان تونس يعيشون في فرنسا (من ستمائة ألف حتى مليون نسمة)، ويوجد في البرلمان
التونسي عشرة نواب منتخبين من التونسيين الذين يعيشون في فرنسا. إنها المرة الأولى
التي تعتمد بها شرعية الحكومة في إحدى دول المغرب العربي على أساس مكافحة النظام
الدكتاتوري الذي جاء بعد الاستقلال، وليس على مكافحة الاستعمار الفرنسي. يسمح ذلك
للتونسيين بإقامة علاقة أكثر هدوءاً بكثير مع فرنسا، لأنها تأخذ بعين الاعتبار
التبادلات الاقتصادية والهجرة. وبالتالي، تحمل هذه العلاقة آفاقاً أكثر أملأً
بالمستقبل. يُفسّر ذلك أيضاً السبب الذي جعل من تونس الدولة الوحيدة التي لم تشهد
الفوضى كما هو الحال بالنسبة لجميع الدول التي هزتها الثورات العربية. ظهرت طبقة
وسطى على جانبي البحر المتوسط، ونجحت في التحكم بمصير البلد حتى داخل الأحزاب
الإسلامية مثل حزب النهضة. يجب تشجيع النموذج التونسي بسبب ندرته وإيجابياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق