الصفحات

الخميس، ١٠ تشرين الأول ٢٠١٣

(تركيبة التمرد السوري)

مجلة النوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية 10 تشرين الأول 2013 بقلم كريستوف بولتانسكي Christophe Boltanski

     يشعر الدبلوماسيون والعناصر الأمنية الفرنسية المكلفون بالملف السوري باليأس منذ عدة أشهر. تتمثل إحدى مهماتهم بإحصاء مختلف المجموعات المتمردة وتصنيفها حسب إتجاهاتها السياسية ومعرفة حجمها الحقيقي والتمييز بين المعتدلين والعلمانيين الذين من المناسب مساعدتهم وبين المتطرفين المتدينين. اعترف أحدهم قائلاً: "إن إعداد خارطة لهم أمر معقد جداً". لإظهار صعوبة مهمته، روى هذا الرجل الحادثة التالية: تفاجأ خلال إحدى زياراته الأخيرة إلى سورية باكتشاف رزمة من الدولارات على طاولة رئيس المتمردين الذي قال له: "طلب مني السعوديون عدم الذهاب لرؤية القطريين". هناك معلومة هامة: تدعم قطر الإخوان المسلمين الذين يمثلون العدو اللدود للملكة الوهابية التي تدعم السلفيين والقوميين. ثم أضاف رئيس المتمردين مقهقهاً: "أخذت المال، وأرسلت مساعدي إلى الدوحة". تحصل عصابته المسلحة على التمويل من الدولتين المتنافستين في الخليج.
     هل يكافح المتمردون من أجل دولة ديموقراطية منفتحة على جميع  الطوائف، أم من أجل عودة الخلافة الإسلامية القائمة على الشريعة؟ هل يخضعون لسلطة أم أنهم يفعلون ما يريدون؟ كم هو عدد الجهاديين الأجانب الذين يقاتلون في صفوفهم؟ ما هو النفوذ الذي يتمتع به تنظيم القاعدة على الأرض؟ هناك الكثير من الأسئلة المشابهة لدى الحكومات الغربية والرأي العام الغربي. من الصعب أو حتى من المستحيل معرفة جميع الكتائب التي تدعي الانتماء إلى الثورة ويبلغ عددها ما بين 1500 و2000 كتيبة. تواجه هذه الكتائب انشقاقات وإعادة تجمع مستمرة، ويتغير عددها باستمرار وكذلك الأمر بالنسبة لولاءاتها. وحتى مظاهرها الخارجية يمكن أن تكون خادعة. كتبت الباحثة بسمة قضماني والباحث فيليكس لوغراند Félix Legrand في تقرير صدر في شهر أيلول بعنوان: (تعزيز المقاومة الديموقراطية في سورية): تختار المجموعات الإسلامية أسماء إسلامية أكثر فأكثر، وتتبنى مصطلحات دينية من أجل إرضاء الجهات العربية الغنية التي تمولهم.
     بدأ الجيش السوري الحر بالإزدهار في خريف عام 2011 بعد عدة أشهر من المظاهرات السلمية التي تم قمعها بشكل دامي. إن أول من حمل السلاح هم الجنود والضباط المنشقون والشباب المحتجون الذين يريدون الانتقام من مقتل أحد أقاربهم برصاص النظام. تجمعوا حسب العائلات والقبائل والقرى. إنهم في أغلب الأحيان من سكان القرى المحافظين والسنة كما هو الحال بالنسبة لثمانين بالمئة من السكان. تأسست بعض هذه المجموعات على أساس متعدد الطوائف، وتضم كتائب الوحدة الوطنية في إدلب بعض العلويين. في عام 2012،  قامت العديد من الدول الراعية للجيش السوري الحر وفي مقدمتها الدول الغربية بتأسيس مجلس عسكري أعلى برئاسة جنرال سابق هو سليم إدريس الذي كان يجب عليه الإشراف على الحرب ومراقبة توزيع المال والسلاح.
     انهار هذا الأساس بكامله بعد مضي عام واحد. قال ضابط سابق في الخارج متأسفاً: "تعمل الكتائب داخل الجيش السوري الحر بشكل مستقل عن بعضها البعض. لا توجد قيادة موحدة ولا إستراتيجية". لم ينجح سليم إدريس في فرض نفسه، وهو لا يُدير إلا جزءاً ضئيلاً من التمرد المنقسم أكثر فأكثر، واعترف الناطق  الرسمي باسم الجيش السوري الحر في باريس فهد المصري قائلاً: "إنه لا يسيطر على أكثر من 5 %". تم تهميش المعسكر العلماني في المناطق المحررة، وهيمن الإسلاميون بمختلف انتماءاتهم. أعلن الإسلاميون مؤخراً عن قطع علاقاتهم مع الإئتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة التي تمثل المعارضة في الخارج. والأمر الأكثر خطورة هو أن الجهاديين التابعين لتنظيم القاعدة يتقدمون على الأرض باستمرار. تأسست جبهة النصرة من قبل بعض المعتقلين السابقين الذين أفرج عنهم بشار الأسد عمداً، ثم نشرت نفوذها إلى المناطق الحدودية مع تركيا والحقول النفطية في دير الزور التي تستثمرها بالتعاون مع النظام أحياناً. ثم أزاحتها مجموعة أخرى أكثر راديكالية منذ فصل الربيع هي الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام التي تضم المنشقين والمقاتلين العراقيين. حذر فهد المصري قائلاً: "إن ثورتنا مهددة بخطر الغرق بالفوضى".
     إن خطأ الغرب هو عدم تقديم المساعدات الموعودة إلى حلفائه إلا بالقطارة. قال أحد الخبراء الفرنسيين غاضباً: "قمنا بتعميد سليم إدريس، ولكن لم نقم بأي شيء آخر بعد ذلك. إن دعمنا هو ذر للرماد في العيون! نعطي بعض الأشياء، ثم نشاهد". قال الباحث السياسي في جامعة باريس الأولى جيل دورونسورو Gilles Dorronsoro الذي أجرى تحقيقاً في منطقة حلب مؤخراً (أعده بالتعاون مع أرتور كيسني Arthur Quesnay وآدام بازكو Adam Baczko لصالح مؤسسة كارنيجي): "إن بروز أو انحطاط أية مجموعة إسلامية أو علمانية يتعلق بالدعم الخارجي الذي تحصل عليه. حالما تحصل بعض المجموعات المتطرفة على دعم أكثر من غيرها، فإنها تقوم بتجنيد عدد أكبر من الرجال". من جهته، بذل الدكتاتور السوري كل ما بوسعه لزيادة راديكالية النزاع "لكي يكون الخيار في اللحظة المناسبة بينه وبين تنظيم القاعدة" كما يقول جيل دورونسورو. تستهدف قواته المعتدلين وتتساهل مع الجهاديين، ولاسيما في الرقة التي أصبحت معقل الجهاديين. قال أحد الضباط المنشقين: "كأنها جاءت بالصدفة: إنها آخر مدينة تمردت، وأول مدينة سقطت".
     تعمل السلطة أيضاً بنجاح على الإيقاع بين الطوائف. إن المجزرة التي ارتكبها الشبيحة ضد مئات السنة في بانياس ـ يتحدث البعض عن 1500 قتيل ـ ، أو قصف الغوطة بغاز الساران بتاريخ 21 آب، يدفع بالمتطرفين في الجهة الأخرى إلى إرتكاب أعمال انتقامية تقوم الدعاية الرسمية باستغلالها والترويج لها. عندما عادت الانتقادات تتسع ضد بشار الأسد داخل الطائفة العلوية في بداية شهر آب، قام الجيش النظامي فجأة بإزالة حواجزه في شمال اللاذقية وسمح للمتمردين بالاستيلاء على 11 قرية علوية. ربما تعرض 300 شخص من سكانها للقتل، وهم من الرجال وليسوا نساء أو أطفالاً كما تدعي دمشق. قالت إحدى الشخصيات في الخارج، وهي كانت تنتمي إلى الدائرة الأولى في النظام: "وقع سليم إدريس بالفخ عندما ذهب إلى هناك للإشادة بهذا الانتصار. استطاع بشار بهذه الطريقة توجيه تحذير إلى طائفته وبقية العالم بأن الجيش السوري الحر يشن حرباً طائفية".
     ولكن تنظيم القاعدة لا يُسيطر على التمرد. أشار تشارلز ليستر Charles Lister الذي أعد تحقيقاً لصالح المعهد البريطاني IHS Jane’s، الذي يُستشهد به غالباً لتأكيد انحراف التمرد السوري نحو التطرف، إلى أن عدد عناصر جبهة النصرة والدولة الإسلامية معاً "يتراوح بين سبعة آلاف وعشرة آلاف رجل". أي أقل من 10 % من اجمالي عدد المتمردين. إذا أضفنا إلى هاتين المجموعتين شريحة واسعة من الكتائب السلفية مثل لواء الإسلام، فسوف يصل عددهم إلى الثلث أو حتى 40 % من عدد المتمردين. ولكن العديد من هذه المجموعات مثل أحرار الشام أو صقور الشام ما زالت تتعاون مع الجيش السوري الحر وسليم إدريس. أكد أحد الدبلوماسيين قائلاً: "إن الصورة ليس لها قيمة كبيرة. إنها عملية ديناميكية. يذهب المقاتلون إلى الأكثر عطاء وإلى الذين لديهم السلاح والمال. تجدون داخل الجهة نفسها بعض الراديكاليين والمعتدلين. يتأرجح موقف كل شخص حسب الأمكنة والزعماء".

     هناك نقطة هامة أخرى: لم تغرق المناطق التي يُسيطر عليها التمرد في الفوضى على الرغم من التصرفات السيئة لبعض العصابات المجرمة، وأكد جيل دورونسورو قائلاً: "يقوم الناس بتنظيم أنفسهم، وتعمل البلدية في حلب بشكل جيد، نحن أيضاً في مرحلة إعادة الأمور إلى طبيعتها". يُشاركه في هذا الرأي الأستاذ في معهد العلوم السياسية جان بيير فيليو Jean-Pierre Filiu الذي أقام بدوره في شمال سورية خلال شهر تموز، وعاد منها بكتاب سيصدر قريباً عن دار نشر Denoël بعنوان: (أكتب لكم من حلب). يقول جان بيير فيليو: "وصل الجهاديون إلى ذروتهم خلال فصل الربيع. إنهم يعانون منذ ذلك الوقت بسبب القذائف التي أطلقوها على السكان. تفاجأت في حلب من شدة الرفض الذي يواجهه الجهاديون".

(باريس في مواجهة تحدي خطف الرهائن)

صحيفة الليبراسيون 10 تشرين الأول 2013 بقلم جان بيير بيران Jean-Pierre Perrin

     قررت عائلتا الصحفيين الفرنسيين المختطفين في سورية والحكومة الفرنسية التوقف عن الصمت والإعلان عن خطف صحفيين اثنين آخرين بعد أكثر من مئة يوم من الانتظار وعدم التوصل إلى حل سريع. إنهما الصحفي نيكولا هينان Nicolas Hénin (37 عاماً) والمصور بيير توريز Pierre Torrès (29 عاماً)، لقد اختفيا بتاريخ 22 حزيران في الرقة، ولكن أقاربهما أكد في بيان لهم أنه لم يتم تبني اختطافهما حتى الآن.
     أصبح عدد الصحفيين الفرنسيين المختطفين في سورية أربعة صحفيين، فقد تعرض للاختطاف قبلهما الصحفي ديدييه فرانسوا Didier François من إذاعة أوروبا الأولى والمصور المستقل إدوار إلياس Edouard Elias بتاريخ 6 حزيران بالقرب من الحدود التركية. تشير تقديرات صحيفة الليبراسيون إلى وجود ما بين 20 و25 رهينة غربية في سورية، وهناك بعض عمليات الخطف التي لم يتم الإعلان عنها.
     إن أغلب الرهائن الغربيين هم من الصحفيين، ولكن يوجد بينهم أيضاً العديد من العاملين في المجال الإنساني ورجل الدين اليسوعي الإيطالي باولو دالوغليو الذي اختفى في منطقة الرقة في نهاية شهر تموز. بالإضافة إلى الصحفيين الفرنسيين الأربعة، هناك أربعة إيطاليين وثلاثة إسبانيين والعديد من الأمريكيين، مثل أوستن تايس Austin Tice وجيمس فولي James Foly اللذين اختفيا في شهر آب وتشرين الثاني 2012 على التوالي، وعدد مجهول من البريطانيين وعدة ألمان ومصور بولوني. من بين هؤلاء الصحفيين، هناك صحفيون جدد ومراسلو حرب متمرسون مثل ديدييه فرانسوا، وبعض الخبراء بالعالم العربي مثل نيكولا هينان الذي زار سورية خمس مرات منذ بداية النزاع عام 2011.
     قال أقارب الصحفيين الفرنسيين: "نحن نعرف فقط أن نيكولا وبيير على قيد الحياة" بناء على المعلومات التي حصلوا عليها من السلطات الفرنسية، وأضافوا قائلين: "لا يوجد شيء يدل على مكان وجودهما وظروف اعتقالهما. ومن غير المؤكد فيما إذا كانا ما في الرقة حتى الآن". كان من المفترض أن يتوقف صمت العائلات الفرنسية يوم السبت 12 تشرين الأول بمناسبة اللقاء بين المراسلين الحربيين في مدينة Bayeux الفرنسية، ولكن رئيس الوزراء الفرنسي جان مارك إيرولت كشف عن اختطاف الصحفيين الفرنسيين البارحة 9 تشرين الأول في مقابلة مع إذاعة أوروبا الأولى، ويبدو أنه قام بذلك بشكل سابق لأوانه. تحدث رئيس الحكومة في هذه المقابلة عن "براهين حديثة" تدل على أن ديدييه فرانسوا وإدوار إلياس ما زالا على قيد الحياة.
     نادراً ما يتم تحديد هوية مرتكبي عمليات الخطف بشكل أكيد. ولكن يبدو أن أغلب الرهائن هم بأيدي الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام ـ الجناح العراقي لتنظيم القاعدة، التي لم تكتف بخطف الصحفيين والعاملين في المجال الإنساني بل "حصلت" على بعض الرهائن المعتقلين من قبل المجموعات المافيوية. حصلت عملية نقل الرهائن عندما قامت الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام بإقصاء هذه المجموعات من بعض المناطق في شمال سورية. ولكن بالإضافة إلى العصابات التي تلاحق الأجانب في سورية بدافع السرقة، هناك أيضاً الأجهزة السرية للنظام، ولا يمكن استبعاد أنها تتلاعب ببعض المجموعات الإسلامية الراديكالية، وربما وقع الأمريكي جيمس فولي بأيدي هذه المجموعات. من جهة أخرى، أصبحت عمليات خطف الرهائن مستفحلة. فقد أشار الصحفي الإيطالي دومينيكو كويريكو Domennico Quirico الذي تم الإفراج عنه في شهر أيلول بعد خمسة أشهر من الاعتقال إلى أن خاطفيه كانوا من أعضاء كتيبة الفاروق التي تمثل إحدى الوحدات الرئيسية في الجيش السوري الحر الذي يُعتبر كمؤيد للغرب. وصف الصحفي الإيطالي في صحيفته Stampa شروط اعتقاله بأنها غير إنسانية إطلاقاً، وقارن سورية بـ "بلد الشر".
     في نهاية شهر تموز، ذهب الأب باولو دالوغليو الذي انخرط بحماس من أجل خدمة التمرد إلى الرقة بشكل سري من أجل القيام بوساطة في النزاع المفتوح بين الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام والقوات الكردية السورية. يبدو أنه كان يتمنى أيضاً الحصول على الإفراج عن العديد من الرهائن الغربيين أو السوريين بأيدي الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام. ليست هناك أية معلومات عنه منذ ذلك التاريخ.




(الأخطاء المستمرة للدبلوماسية الفرنسية)

صحيفة الفيغارو 10 تشرين الأول 2013 بقلم بيير روسلان Pierre Rousselin

     هل ستكون القضية السورية والتقارب المعلن بين الولايات المتحدة وإيران علامة على تراجع الدبلوماسية الفرنسية بعد تراجع الاقتصاد الفرنسي؟ إن الأمرين مرتبطان. أخذت العلاقات الاقتصادية طابعاً متميزاً في العولمة، ولن تتمكن فرنسا من الحفاظ على "مكانتها" في العالم إلا عن طريق إيقاف تراجع تنافسيتها الاقتصادية. أعطت فرنسا نفسها دوماً دوراً أكبر من وزنها الحقيقي. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون تكون هناك عقيدة محددة بشكل جيد. ولكن مثل هذه العقيدة لم تعد موجودة الآن.
     كانت الأمور تسير بشكل جيد خلال الحرب الباردة، وكانت نظرة الجنرال ديغول واضحة جداً للمصالح الفرنسية، وبالتالي حدد هدفاً يتمثل بالقيام بدور الحكم بين المعسكرين. تفاجأ فرانسوا ميتران بإنهيار الاتحاد السوفييتي وتوحيد ألمانيا وانفجار يوغسلافيا، وذلك كما هو الحال عندما فاجأتنا حركات التمرد العربية. تتصرف فرنسا دوماً كقوة للحفاظ على الوضع القائم بسبب المصاعب الكبيرة في التأقلم مع تغير كان حتمياً.
     كانت فرنسا في مقدمة الذين تبنوا مواقف حازمة في القضية الإيرانية وفي الملف السوري، بسبب مخاطر انتشار أسلحة الدمار الشامل في حال امتلاك إيران للسلاح النووي، ولكن أيضاً لأسباب لا تتعلق كثيراً بمصالحنا الوطنية. أراد البعض إزالة الانطباع السلبي لدى الأمريكيين بعد معارضتنا للحرب في العراق. جرّنا هذا التفكير إلى أفغانستان في حرب لا يمكن الانتصار بها، والتي قمنا بها بدون أن نتمكن من السيطرة على مجرياتها وبدون أن نتساءل عن مصلحتنا فيها، باستثناء أن نكون إلى جانب حلفائنا.
     إذا كان اللقاء بين فرانسوا هولاند وحسن روحاني في نيويورك يمثل منعطفاً في معالجة المسألة الإيرانية، فإن النظرة إلى سورية ما زال يحكمها العامل الأخلاقي أكثر من الدبلوماسية الواقعية. إن المبدأ الذي يُعتمد عليه هو مبدأ "مسؤولية حماية" السكان المدنيين، هذا المفهوم الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 2005 لتجنب مآسي جديدة كما حصل في رواندا. تم تطبيق هذا الحق في التدخل الإنساني في ليبيا بتفويض من الأمم المتحدة. ولكنه اصطدم فيما يتعلق بسورية بالفيتو الروسي والصيني، وتعتبر موسكو وبكين بحق أن هذا الحق تم استخدامه في ليبيا لتبرير تغيير النظام.
     تريد الدبلوماسية الفرنسية منذ بداية حركات التمرد العربية التعويض عن الدعم الذي قدمته إلى الأنظمة المتسلطة في المنطقة خلال فترة طويلة. بالتأكيد، يجب دعم نشر الديموقراطية. ولكن دون أن يفرض تأنيب الضمير مواعظ "حقوق الإنسان" التي تغلبت على جميع الاعتبارات الأخرى. إن فرانسوا هولاند هو الوحيد الذي يريد حقاً "معاقبة" بشار الأسد بعد المجزرة الكيميائية بتاريخ 21 آب، ولكنه اضطر إلى التراجع عندما استبعد الاتفاق الروسي ـ الأمريكي أي "عقاب" وقام بأمر معاكس تماماً أي: ترقية الزعيم السوري إلى مستوى الشريك المعترف به في عملية إزالة ترسانته الكيميائية.
     هناك حدود لـ "مسؤولية الحماية". إنها عنصر في شرعية الأمم المتحدة، ولكن لا يمكنها الحلول مكانها. إن اللجوء إلى القوة ليس مشروعاً إلا إذا تطابق مع القانون الدولي، وإلا سيتعرض نظام الأمم المتحدة بأكمله للمساءلة، هذا النظام الذي تتمسك به فرنسا بسبب مقعدها كعضو دائم. يريد لوران فابيوس الخروج من هذا التناقض عن طريق اقتراحه في مجلس الأمن بالتخلي عن حق الفيتو في حالة "الجرائم الواسعة النطاق". ليست هناك فرصة لقبول فكرته، وسيكون من الأفضل العودة إلى أسس عقيدة التدخل الفرنسية. إن ذلك سيُجنبنا الضياع والظهور بمظهر الشرطي الذي لا يحظى بالمصداقية على المسرح الدولي.

     في الوقت الذي تخلت فيه واشنطن عن النزعة التدخلية لجورج بوش الابن، وتسعى إلى التخلص من الشرق الأوسط، تتمسك فرنسا بنزعة متطرفة تجاوزها الزمن. إن العودة إلى الدبلوماسية الروسية في الملف السوري، وآفاق المفاوضات الجوهرية مع إيران، يجب أن تكون فرصة لفرنسا من أجل مراجعة مواقفها تحت طائلة خطر تهميشها. إن القيام بدور المحامي عن حقوق الإنسان هو جزء أساسي من العمل الفرنسي. ولكن هذا الأمر الضروري لا يجب أن يدفعنا إلى دعم أية معارضة للأنظمة الدكتاتورية. تفرض الواقعية أن نشر قيمنا لا يجب أن يكون بديلاً عن الدفاع عن مصالحنا الوطنية التي يبدو فجأة أننا نجد صعوبة كبيرة في تحديدها في الشرق الأوسط.

(بداية المناورات الكبرى قبل افتتاح المفاوضات في جنيف)

صحيفة اللوموند 10 تشرين الأول 2013 بقلم كريستوف عياد Christophe Ayad

     بدأت المناورات الكبرى قبل أسبوع من استئناف المفاوضات بين إيران ومجموعة الستة حول البرنامج النووي الإيراني يومي 15 و16 تشرين الأول. على صعيد الحرب السرية المستمرة دون هوادة، عرفنا في الأسبوع الماضي اغتيال رئيس الوحدة المكلفة بالحرب على الأنترنت في حرس الثورة الإيراني مجتبى أحمدي Mojatba Ahmadi بالقرب من طهران. تم العثور على جثته في غابة مع رصاصتين برأسه. ثم أعلنت السلطات عن اعتقال أربعة أشخاص متهمين بالإعداد لعمليات تفجير ضد المواقع النووية الإيرانية دون الكشف عن هوياتهم.
     على الصعيد الدبلوماسي، صرح وزير الخارجية الإيراني يوم الاثنين 7 تشرين الأول أن "امتلاك التكنولوجيا النووية المدنية، ولاسيما تخصيب اليورانيوم على الأرض الإيرانية، هو حق مطلق لإيران"، ودعا مجموعة الستة إلى تقديم اقتراح آخر غير الاقتراح الذي قدمته في الاجتماع الأخير في كازاخستان الربيع الماضي، وقال أنه "يجب على الدول العظمى البدء بالمفاوضات بوجهة نظر جديدة". كانت مجموعة الستة قد اقترحت قيام إيران بتعليق تخصيب اليورانيوم حتى نسبة 20 % وتجميد العمل في موقع فوردو تحت الأرض، والتخلص من مخزونها من اليورانيوم المخصب مقابل تخفيف بعض العقوبات. تأمل إيران حالياً بما هو أفضل من ذلك بكثير، ويمكن تفسير تصريح وزير الخارجية الإيراني كاقتراح بـ "مساومة" أكثر اتساعاً، وتتضمن رفعاً كاملاً للعقوبات أو حتى تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.

     لا تريد الدول الغربية إضعاف التغيير في اللهجة الإيرانية، ولكن بدون التخفيف من الرقابة بسبب مشاعر القلق التي عبرت عنها إسرائيل. طلبت الدول الغربية من طهران تقديم اقتراحات ملموسة، وقال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أنه ينتظر اقتراحات جديدة من نظيره الإيراني، وألمح إلى "مكافأة" محتملة في حال تحقيق تقدم جوهري: أي مشاركة إيران في مؤتمر جنيف 2 حول مستقبل سورية الذي يفترض انعقاده في شهر تشرين الثاني، الأمر الذي يعني اعترافاُ بالدور الإقليمي لطهران. بشكل موازي، فتحت لندن الطريق نحو بداية تطبيع العلاقات مع طهران عندما أعلنت يوم الثلاثاء 8 تشرين الأول عن تبادل التمثيل الدبلوماسي على مستوى القائمين بالأعمال.

الأربعاء، ٩ تشرين الأول ٢٠١٣

(أوروبا تتراخى تجاه إسرائيل بخصوص تجميد الاستثمارات)

صحيفة الليبراسيون 26 أيلول 2013 بقلم مراسلتها في إسرائيل أود ماركوفيتش Aude Marcovitch

     أعربت خمسون شخصية أوروبية، رؤساء حكومات سابقون ووزراء خارجية سابقون مثل: هوبير فيدرين Hubert Védrine وخافيير سولانا Javier Solana وبينيتا فيريرو ـ فالدنر Benita Ferrero-Valdner وجون بيرتون John Burton، عن استيائها في رسالة وجهتها إلى بروكسل. تهدف هذه الرسالة إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي للإبقاء على جدول أعماله بإدانة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.
     أعلن الاتحاد الأوروبي في شهر تموز عن قرار يتضمن أن "جميع الاتفاقات بين دولة إسرائيل والاتحاد الأوروبي يجب أن تُشير بوضوح وبشكل قاطع إلى عدم إمكانية تطبيقها في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967". يعني ذلك أن جميع مشاريع التعاون والبحث العلمي والتنمية الأوروبية لن يكون بإلإمكان تنفيذها مع المؤسسات الإسرائيلية العاملة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان وغزة. أثارت هذه الإجراءات القابلة للتطبيق اعتباراً من شهر كانون الثاني 2014 ضجة كبيرة عند نشرها. ولكن بروكسل بدأت تتراجع عن هذا الموقف، وهذا ما تعتقده على الأقل الشخصيات المسؤولة عن الرسالة الموجهة إلى وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي. قال الموقعون على هذه الرسالة: "لاحظنا بقلق شديد وجود نداءات لتأخير وتعديل أو حتى تعليق إجراءات المفوضية الأوروبية. يجب على أوروبا احترام تعهدها بدعم هذه الإجراءات وتطبيقها بشكل كامل من قبل المؤسسات الأوروبية".
     أدان المسؤولون الإسرائيليون القرار الأوروبي واعتبرها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كـ "إملاءات خارجية على حدودنا"، كما اقترح وزير التجارة نفتالي بينيت Naftali Bennett مؤخراً أن تنسحب إسرائيل من البرنامج الأوروبي للتعاون العلمي والتكنولوجي. يتم تمويل هذا البرنامج بفضل صندوق مشترك للدول المساهمة التي تدفع مساهماتها عن مدة سبع سنوات. إسرائيل هي الدولة الوحيدة غير الأوروبية في هذا البرنامج، ودفعت مبلغ 600 مليون يورو عن الفترة 2006 ـ 2013، وكانت تفكر برفع مساهمتها المالية حوالي مئة مليون يورو العام القادم. من المفترض أن يصل إجمالي المساهمات الأوروبية في هذا البرنامج إلى ثمانين مليار يورو عن السنوات السبع القادمة التي تبدأ عام 2014.
     أصبحت المشاركة الإسرائيلية أكثر تعقيداً في هذا البرنامج بعد الإعلان عن القرار الأوروبي. أكد أحد الموظفين الرسميين في إسرائيل: "يهدد هذا القرار بتسميم أجواء جميع الاستثمارات الأوروبية في قطاعات التكنولوجيا والبحث العلمي والتنمية. على سبيل المثال، تمتلك شركتا Teva وIntel عدة مراكز للبحث العلمي في المنطقة الصناعية Har Hotzvim في القدس، وتمتد هذه المنطقة على جانبي الخط الأخضر (الذي يفصل إسرائيل عن الأراضي المحتلة). إن تطبيق الإجراءات الأوروبية الجديدة سيؤدي إلى استبعاد شركة هامة مثل Teva من مشاريع التعاون مع الاتحاد الأوروبي بشكل أوتوماتيكي". الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لإسرائيل، وبالتالي تأتي إسرائيل على رأس أولوياتها الاقتصادية. من جهة أخرى، تستفيد دول الاتحاد الأوروبي من النشاط الكبير في قطاعات البحث العلمي والتنمية في الدول العبرية.
     انعقدت عدة اجتماعات بين كبار المسؤولين الأوروبيين والإسرائيليين في القدس وبروكسل من أجل التوصل إلى أرضية للتفاهم. ظهر انطباع عام بعد هذه الاجتماعات بأن المطالب الأوروبية من إسرائيل أصبحت أكثر ليونة. وهذا ما أظهرته العبارة الغامضة لرئيسة الدبلوماسية الأوروبية كاترين أشتون التي صرحت مؤخراً أن بروكسل ستقوم بتنفيذ الإجراءات الجديدة "بشكل محسوس". ولكن الممثلية الأوروبية في إسرائيل قالت: "إن ذلك لا يشير إطلاقاً إلى أن الإجراءات تغيرت جوهرياً".

     لم يكن الأمريكيون بعيدين عن هذا التغير في الموقف الأوروبي. ربما طلب الأمريكيون من الجانب الأوروبي تخفيف مطالبهم في إطاراستئناف محادثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين بنهاية شهر تموز، الأمر الذي شجع إسرائيل على القيام ببعض مبادرات حسن النية مثل الإفراج عن المعتقلين وزيادة عدد رخص العمل التي يحصل عليها الفلسطينيون. بالمقابل، تقول الشخصيات الأوروبية في رسالتها إلى ممثلي الاتحاد الأوروبي: "إن تأجيل أو تعليق هذه الإجراءات يهدد بإفشال المفاوضات عبر التخلي عن الفلسطينيين ودعم التصلب الإسرائيلي"، واعتبروا أن التراجع عن هذه الإجراءات "يسيء إلى مصداقية الاتحاد الأوروبي".

الثلاثاء، ٨ تشرين الأول ٢٠١٣

(لماذا تريد إيران التفاوض)

مجلة النوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية 3 تشرين الأول 2013 ـ مقابلة مع بيير رازو Pierre Razoux، الباحث في معهد الأبحاث الإستراتيجية بالمدرسة العسكرية (IRSEM) ـ أجرى المقابلة جيل أنكيتيل Gilles Anquetil

سؤال: صدر لكم مؤخراً كتاب بعنوان: الحرب بين إيران والعراق ـ حرب الخليج الأولى 1980 ـ 1988. فيما يتعلق بهذه الحرب الطويلة التي كان صدام حسين يحلم بالبداية أن تكون "خاطفة"، هل تحولت إلى "أم" بقية الحروب في الخليج مثل حربي عام 1990 وعام 2003؟
بيير رازو: إن الحرب بين إيران والعراق هي فعلاً "أم" جميع الحروب في الخليج. كانت أطول الحروب في القرن العشرين وأكثرها دموية في الشرق الأوسط مع مقتل واختفاء 680.000 شخص (180.000 من الجانب العراقي، و500.000 من الجانب الإيراني) وأكثر من 1.8 مليون جريح ومُعاق. أدت هذه الحرب إلى بروز معطيات جيوسياسية جديدة كانت السبب في أغلب الأزمات في المنطقة. بعد نهاية هذه الحرب، عادت الدول الغربية إلى الخليج بعد أن انسحبت منها سابقاً. وسنشاهد عودة الاتحاد السوفييتي (ثم روسيا) والصين، بالإضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الغربي والأمريكي بشكل خاص. خرج العراق من هذه الحرب معزولاً وضعيفاً جداً، حتى ولو كان العراق هو الذي انتصر رسمياً في هذه الحرب. كانت إيران معزولة تماماً على الساحة الدولية، وبدأت الممالك النفطية تحلم بالقيام بدور إقليمي كبير.
سؤال: يتحدث الإيرانيون دوماً عن حرب "مفروضة"، ولكنكم تشيرون أيضاً إلى أنها كانت حرباً تجاوزت كل التوقعات بالنسبة للنظام الإسلامي الشاب.
بيير رازو: نعم، لم يخطىء آية الله الخميني عندما صرح بأن "هذه الحرب نعمة غير متوقعة"، لأنها ستسمح للنظام الإسلامي بإعداد نفسه لمواجهة الاعتداء الخارجي، وبتبني إيديولوجية راديكالية وبإبعاد جميع خصومه السياسيين في الداخل سواء كانوا علمانيين أم ماركسيين أم ليبراليين أو حتى رجال الدين المعتدلين. اضطرت السلطة الخمينية  الجديدة منذ بداية الحرب إلى مواجهة ثلاثة حروب بشكل مباشر. كانت الحرب الأكثر أهمية بنظرها هي بقاء النظام في مواجهة مجاهدي الشعب الذين ارتكبوا الكثير من عمليات التفجير وقتلوا الكثير من قادته. كانت الحرب الثانية تستهدف الأقليات في أطراف البلد مثل: الأذريين والبالوتش والعرب وبشكل خاص الأكراد الذين استفادوا من الفوضى التي أعقبت الثورة لكي يحاولوا الحصول على المزيد من الحكم الذاتي أو حتى على الاستقلال. بالنسبة للخميني، إن الحرب الحاسمة كانت ضد المعارضين في الداخل وليس ضد العراق. لقد انتظر الخميني تحقيق الانتصار أولاً في المعركة الداخلية ثم في المعركة ضد الأكراد الإيرانيين، لكي يبذل قصارى جهده بمساعدة خامنئي ورافسنجاني من أجل معاقبة صدام وصد هجماته.
سؤال: سمحت هذه الحرب ضد العراق للنظام بإبراز حرس الثورة وميليشيات الباسيدجي من أجل التعويض عن دور الجيش النظامي الذي تم تشكيله في عصر الشاه، ولم يكن الخميني يثق بالجيش النظامي.
بيير رازو: ولكن الجيش النظامي هو الذي سمح للنظام بالصمود تجاه العراق وتجاه الاستقلاليين الأكراد. تم استخدام حرس الثورة والباسيدجي في الهجمات الكبيرة الدامية جداً دون أن تحقق في النهاية إلا تقدماً بسيطاً على الأرض بالنسبة لإيران. إن الجيش النظامي هو الذي تحمل صدمة جميع المعارك الدفاعية، ولكن التاريخ الرسمي يقول أن حرس الثورة هو الذي انتصر في الحرب. إن أي مؤرخ إيراني يكتب عكس ذلك، يمكن أن يتعرض للاعتقال.
سؤال: هل يمكن القول أن النزاع بين إيران والعراق كان الحرب الأولى بين الشيعة والسنة، هذه الحرب التي تحتدم اليوم في العراق وسورية؟
بيير رازو: لا أعتقد ذلك، حتى ولو كان الخميني يتمنى بشدة أن يقف الشيعة العراقيون في وجه صدام الذي كان يأمل من السنة العرب في جنوب إيران أن يستقبلوا جنوده كالفاتحين. ولكن ذلك لم يحصل. كان نصف جيش صدام حسين يتألف من الشيعة، ومنهم عدد كبير من الضباط والجنرالات. لقد ساد المنطق القومي وليس الديني لدى الجانبين على خلفية النزاع القديم بين العرب والفرس.
سؤال: إن الوحشية التي اتصفت بها هذه الحرب هي استخدام العراقيين للأسلحة الكيميائية، وليس فقط ضد الأكراد.
بيير رازو: استخدم العراقيون السلاح الكيميائي على الجبهة اعتباراً من عام 1983 ضد الإيرانيين بشكل أساسي والأكراد بشكل متقطع لمعاقبتهم على دورهم في تسهيل تقدم القوات الإيرانية في كردستان العراق. استخدم صدام حسين الأسلحة الكيميائية على الجبهة بشكل واسع حتى عام 1988 في ظل عدم مبالاة المجتمع الدولي الذي أغلق عيونه. كان الأمريكيون والأوروبيون يعرفون ذلك!
سؤال: هل كان انتصار صدام انتصاراً باهظ التكاليف دون تحقيق النتائج المرجوة؟
بيير رازو: نعم. خرج صدام حسين ضعيفاً جداً من هذه الحرب التي "انتصر" بها. إن هذا "الانتصار" وطموحه الجنوني سيجعلانه أعمى البصيرة، ودفعاه إلى غزو الكويت عام 1990 بشكل أكد فيه بداية نهايته. من سخرية القدر أن جورج بوش الابن سيمنح الإيرانيين على طبق من فضة، بفضل حرب الخليج الثالثة، الانتصار الذي كانوا يحلمون به خلال ثماني سنوات. وهكذا، شاهد رجال الدين الإيرانيين إقامة دولة عراقية ضعيفة ومقسمة وخاضعة لسيطرة الطائفة الشيعية الخاضعة لنفوذ الجمهورية الإسلامية.
سؤال: كان زعيما الحرب الإيرانية آنذاك علي خامنئي وهاشمي رفسنجاني. إنهما في السلطة اليوم.
بيير رازو: إن التنافس الشديد بين هذين الرجلين كان المحور الأساسي لكتابي، ويسمح بفهم عمل السلطة الإيرانية على صعيد السياسة الخارجية بشكل خاص. كان هذان الرجلان من المرشحين لخلافة المرشد الأعلى الذي كان مريضاً وكبيراً بالسن. منذ نهاية عام 1981، كان خامنئي ورفسنجاني ينظران إلى الحرب بين إيران والعراق كوسيلة لكي يفرض كل منهما زعامته. كان بإمكان رفسنجاني إيقاف الحرب عدة مرات، ولكنه بذل كل ما بوسعه لاستمرارها من أجل تعزيزسلطته. الأمر الأكثر غرابة هو استمرار هذا الصراع بين الرجلين حتى الآن. إن انتخاب حسن روحاني ليس إلا حلقة جديدة في هذه المواجهة بينهما. إنها تسوية تسمح للرجلين بإنقاذ ماء الوجه عبر انتخاب رجل دين مُقرّب من المرشد الأعلى ومن رفسنجاني. تسمح هذه الرعاية المزدوجة لروحاني بالحفاظ على ما هو أساسي في النظام بالإضافة إلى الانفتاح على العالم الخارجي مع احتمال القيام بتقديم تنازلات حول الملف النووي. لأنه يبدو أن السلطة الإيرانية مقتنعة اليوم بأن الوقت لا يمضي لصالحها، وأنه يجب عليها تطبيع علاقاتها مع الغرب من أجل الحصول على رفع العقوبات وجذب رؤوس الأموال الأجنبية. تعلم المرشد الأعلى خامنئي الدرس من الحرب بين إيران والعراق، إنه يفضل التفاوض مع الدول الغربية قبل أن تُصبح نتائج العقوبات الاقتصادية قاضية على النظام. هذا هو معنى سياسة الانفتاح للرئيس روحاني.
سؤال: إذاً، هل يمكن فهم نتائج الحرب بين إيران والعراق عبر ما يحصل اليوم؟

بيير رازو: بالتأكيد. يكفي التذكير بتهميش العراق وبعزلة وراديكالية إيران التي دفعت طهران نحو استئناف برنامجها النووي منذ عام 1980. تسمح دراسة هذه الحرب بإظهار أن السلطة الإيرانية عقلانية، وأنها لا تقبل التسوية إلا إذا كانت تحقق مصلحتها وعندما تكون صناديق الدولة فارغة ـ كما كان عليه الحال عام 1988 ـ ، أو أن تدرك وجود تهديد حقيقي بتدخل عسكري خارجي. في الوضع الحالي، أدركت السلطة الإيرانية أنه من مصلحتها التفاوض مع الدول الغربية من أجل إنقاذ اقتصادها وتجنب الاضطرابات الاجتماعية. تعرف السلطة الإيرانية أيضاً أن العقوبات الاقتصادية أضرتها جداً، وأن التدخل العسكري ما زال ممكناً. في هذا الخصوص، من المحتمل أن الملف السوري سيكون بالنسبة للقادة الإيرانيين امتحاناً لمعرفة تصميم الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

الاثنين، ٧ تشرين الأول ٢٠١٣

(المجاعة تقتل سكان معضمية الشام)

صحيفة اللوموند 6 ـ 7 تشرين الأول 2013 بقلم بنجامات بارت Benjamin Barthe

     لم ينته عذاب معضمية الشام معقل التمرد السوري في جنوب ـ غرب دمشق. تعرضت هذه المدينة للقصف الكيميائي بتاريخ 21 آب، وتخضع لحصار قاسي لدرجة أن سكانها بدؤوا يموتون من الجوع. أشارت بعض المصادر المحلية مؤخراً إلى مقتل سبعة أطفال وإمرأتين بسبب نقص الطعام، بالإضافة إلى تسعين طفلاً آخراً في حالة فقدان للوعي تحت المراقبة في أحد المستشفيات الميدانية بقبو أحد الأبنية.
     اتهم الإئتلاف الوطني السوري نظام بشار الأسد بـ "تجويع" 12000 شخصاً بشكل متعمد ما زالوا مختبئين في المدينة، كما دعا المجتمع الدولي إلى منع "كارثة إنسانية". قال الناطق الرسمي باسم المجلس الثوري المحلي قصي زكريا (اسم مستعار) الذي تم الاتصال به عبر السكايب: "لم يعد لدينا أي شيء تقريباً للأكل. نفذت مؤننا منذ حوالي الشهرين. نحن نعيش على الزيتون وبعض الخضار التي نتمكن من زرعها. إن الأطفال على وشك الموت جوعاً أمام أبائهم". قال أحد قادة الإئتلاف الوطني السوري في تركيا عماد الدين رشيد، وهو من معضمية الشام: "لم يحصل الناس على الخبز منذ خمسة أشهر. يضطر بعض السكان الذين يعيشون في الأحياء الواقعة تحت سيطرة الجيش إلى أكل الأعشاب وأغصان الأشجار. قتل القناصون أغلب الذين حاولوا الهرب".
     بدأت قوات النظام بمحاصرة هذه المدينة في شهر كانون الأول 2012، لأنها من المناطق الهامة مع داريا في إستراتيجية المتمردين الهادفة إلى استنزاف العاصمة. تعلمت السلطات السورية من دروس عدم قدرتها على طرد المتمردين عبر الغارات وعمليات التمشيط، واختارت أسلوب المحاصرة والإنهاك بهدف منع المجموعات المسلحة المتمردة من الإقتراب من دمشق ولاسيما من مطار المزة العسكري الذي يمثل الحلقة الرئيسية في الدفاع عن العاصمة.
     إن النظام غير مستعد لتخفيف ضغطه عن هذه المدينة لأنه يعرف بأن المقاتلين المحليين يملكون ترسانة متطورة جداً استطاعوا الإستيلاء عليها خلال صيف عام 2012 من إحدى القواعد العسكرية المحيطة. أكد عماد الدين رشيد قائلاً: "إن المدافعين عن المدينة مسلحون بشكل جيد جداً. يبلغ عددهم بالمئات، ويملكون بعض الراجمات. إن الكتيبتين الرئيسيتين في المدينة هما: كتيبة الفجر بقيادة طبيب أسنان من التوجه الناصري عمره 55 عاماً، وكتيبة الفتح التي يقودها أحد المهندسين"، واعتبر أن المقاومة أعلنت انتماءها إلى الجيش السوري الحر، الجناح العسكري للإئتلاف الوطني السوري، الذي يتبنى توجهاً قومياً وإسلامياً معتدلاً.
     شدد الجيش السوري حصاره شيئاً فشيئاً، وقصف أولاً مستشفيات المدينة التي كان يبلغ عدد سكانها ستين ألف نسمة قبل الثورة، ثم قصف الأفران والبقاليات والجوامع. كما قطع التيار الكهربائي والهاتف والمياه. أصبح وصول المؤن أكثر فأكثر صعوبة حتى أصبح مستحيلاً. قال قصي زكريا الذي لم يخرج من المدينة منذ سنتين: "نستخدم الأغطية في المستشفى كضمادات. نجحنا في شحن حواسيبنا وهواتفنا الجوالة بفضل مولدات بدائية تعمل على الزيت. إنها وسائلنا الأخيرة للاتصال بالعالم الخارجي".

     حاول الجيش التوغل في المدينة بعد الهجوم الكيميائي في شهر آب فوراً، ولكن مقاتلي الجيش السوي الحر منعوه من الدخول. لا يعرف سكان المدينة كيف يمكن أن تقبل السلطة السورية برفع حصارها في ظل عدم وجود ضغوط دولية حقيقية، قال عماد الدين رشيد: "كما حصل في حمص في شتاء 2012، يريد النظام الضغط على السكان حتى الوصول إلى درجة القطيعة. ولكن الاختلاف هو أن حمص مدينة كبيرة، واستطاع المتمردون فيها الهروب عبر الأنفاق. أما المعضمية فهي صغيرة جداً بالمقارنة مع حمص، ولا أحد يستطيع الهرب. إنه إعداد للمجزرة"