صحيفة اللوموند
28 أيار 2013 بقلم مراسليها الخاصين في جوبر جان فيليب ريمي Jean-Philippe
Rémy ولوران فان دير
ستوكت Laurent Van der Stockt اللذان دخلا إلى سورية وبقيا لمدة شهرين مع المتمردين في دمشق
والمناطق المحيطة بها (الحلقة الأولى)
لا
يُشبه الهجوم الكيميائي على جبهة جوبر أي شيء يلفت الانتباه، أو شيء يمكن اكتشافه.
هذا هو الهدف المنشود: عندما يُدرك مقاتلو الجيش السوري الحر في المواقع الأمامية
بدمشق أنهم تعرضوا إلى مواد كيميائية من قبل القوات الحكومية، سيكون ذلك بعد فوات
الأوان. في البداية، يُسمع صوت ضجة معدنية بسيطة تشبه القرقعة. لم يُثر هذا الصوت
انتباه مقاتلي الفترة الصباحية في كتيبة تحرير الشام ضمن قطاع "البحرة
1" في حي جوبر. قال مسؤول العمليات في الكتيبة عمر حيدر
المسؤول عن هذا القطاع المتقدم على بعد 500 متر عن ساحة العباسيين: "اعتقدنا
أنها قذيفة هاون لم تنفجر، ولم يعرها أحد الانتباه".
لم تنبعث أية رائحة أو دخان أو حتى مجرد صافرة
للإشارة إلى إطلاق غاز سام بعد سماع هذا الصوت. ثم تظهر الأعراض عندما يسعل الرجال
بشدة ويشعرون بالحرقة في عيونهم وينكمش بؤبؤ العين إلى أقصى حد وتصبح الرؤيا
باهتة. وبعد فترة قصيرة، تظهر أعراض ضيق التنفس الحادة أحياناً بالإضافة إلى الإقياء
والدوخة. يجب إخلاء المقاتلين المصابين بأقصى سرعة قبل أن يختنقوا.
كان
المراسلان الصحفيان الخاصان لصحيفة اللوموند شهوداً خلال عدة أيام متتالية في هذا
الحي الذي اخترقته المعارضة في شهر كانون الأول. استطعنا خلال التحقيق الذي
أجريناه خلال فترة شهرين في محيط العاصمة السورية، جمع عناصر شبيهة في محيط أوسع
بكثير. إن خطورة الحالات وتعددها والتكتيك المستخدم لمثل هذه الأسلحة يُظهر أنها
ليست مجرد استخدام غازات مسيلة للدموع على الجبهات، ولكنها مواد من فئة أخرى أكثر
سميّة بكثير.
تقترب خطوط العدو في جبهة جوبر كثيراً لدرجة يمكن
توجيه الشتائم أحياناً. بدأت مشاهد الهجوم بالغاز بالظهور في هذا الحي بشكل متفرق
خلال شهر نيسان. لا يوجد استخدام واسع
للغازات على مسافة عدة كيلومترات، بل يتم استخدامها عند الحاجة من أجل استهداف
نقاط المواجهة الأكثر صعوبة مع العدو المتمرد الأكثر قرباً. هذا القطاع هو نقطة
الدخول الأكثر عمقاً داخل دمشق بالنسبة لمجموعات الجيش السوري الحر.
قطاع
"البحرة 1" هو الأكثر تقدماً باتجاه ساحة
العباسيين الإستراتيجية. واجه رجال أبو جهاد المُلقب بـ "الأركيلة"
أول هجوم من هذا النوع مساء يوم الخميس 11 نيسان. تفاجأ الجميع في البداية. لقد
سمعوا عن استخدام الغازات في الجبهات والمناطق الأخرى في سورية (ولاسيما في حمص
ومنطقة حلب) خلال الأشهر السابقة، ولكن ما العمل عندما يواجهون هذه الظاهرة؟ كيف
يمكن الوقاية بدون التخلي عن مواقعهم وإعطاء انتصار سهل للعدو؟ قال أحد المقاتلين:
"تم إخلاء بعض الرجال، وبقي البعض الآخر مشلولاً من الرعب. ولكن لم
يتم التخلي عن الموقع. أمرنا الجنود في المواقع الأمامية للجبهة أن يضعوا أقمشة
مبللة لحماية وجوههم". بعد هذا الحادث فوراً، تم توزيع بعض
كمامات الغاز على الرجال الذين يحرسون المواقع الثابتة بشكل خاص. ويكتفي البعض
الآخر بوقاية بسيطة جداً مثل الكمامات الطبية.
تعرضت أيضاً "القوات
الخاصة" للمتمردين في لواء مراوي (Marawi) الغوطة إلى مواد كيميائية أكثر
تركيزاً بالقرب من سوق اللحم الذي تتواجد فيه دبابات الحكومة، وذلك بالنظر إلى
آثارها على المقاتلين. لقد وجدناهم بعد عدة ساعات في المستشفيات وهم يعانون من أجل
البقاء على قيد الحياة. لم يترك المقاتلون في جوبر مواقعهم، ولكن الباقين منهم "شعروا
بالرعب وحاولوا تهدئة أنفسهم بالصلاة" كما اعترف
أبو عتال أحد مقاتلي "تحرير الشام". لقد مات رجل في كتيبة أخرى بالقطاع
المجاور اسمه إبراهيم درويش بتاريخ 18 نيسان.
تعرض
الجزء الشمالي من جوبر إلى هجوم مشابه أيضاً. أكد قائد الفرقة الأولى في الجيش
السوري الحر (تضم الفرقة خمسة كتائب) الجنرال أبو محمد الكردي أن رجاله شاهدوا
الجنود النظاميين يتركون مواقعهم، ثم ظهر رجال "يرتدون
ألبسة واقية من الأسلحة الكيميائية"، ثم وضع
هؤلاء الرجال على الأرض "نوعاً من القنابل الصغيرة التي تشبه الألغام"،
وانبعثت منها مادة كيميائية في الجو. وأضاف أن رجاله قتلوا ثلاثة من هؤلاء الرجال
المتخصصين. هل أخذوا الألبسة الواقية من الجثث؟ لا أحد يعرف... تحدث الجنود الذين
تعرضوا للغاز مساء ذلك اليوم عن رعب كبير وعن تراجع إلى الوراء. لن يستطيع
المدنيون أو المصادر المستقلة نفي أو تأكيد هذه المعلومات، لأنه لم يبق أحد في
جوبر باستثناء المقاتلين المنتشرين في مختلف جبهات الحي.
لم
يمنع ذلك من ملاحظة النتائج المدمرة للغاز المستخدم من قبل الحكومة السورية على
أبواب عاصمتها. وقع في أحد الأيام هجوم كيميائي على إحدى الجبهات في جوبر. شاهد
مصور صحيفة اللوموند بتاريخ 13 نيسان المقاتلين الذين يحاربون في الأبنية المهدمة
عندما بدؤوا بالسعال، ثم وضعوا كمامات الغاز بدون استعجال ظاهر، ولكن بعد أن
تعرضوا فعلاً للغازات. قرفص بعض الرجال مُختنقين وتقيأوا. يجب الهرب فوراً من
القطاع. لقد عانى مصور صحيفة اللوموند لمدة أربعة أيام من اضطرابات بالرؤيا
والتنفس، وذلك على الرغم من أن انبعاث الغاز كان مُتركزاً في القطاع المجاور.
بسبب
عدم وجود شهادات مستقلة، ما زالت هناك شكوك كثيرة تُخيّم على حقيقة استخدام
الأسلحة الكيميائية بشكل عام من قبل القوات الحكومية التي تمتلك مخزوناً كبيرة
منها، ولاسيما غازات الأعصاب مثل غاز الساران. أعلنت عدة دول مثل الولايات المتحدة
وتركيا وإسرائيل أنها تمتلك عناصر مادية تشير إلى استخدام أسلحة من هذا النوع،
ولكنها لم تكشف عن طبيعة براهينها بشكل دقيق، ولم تُقرر فيما إذا كانت استخدام مثل
هذه الأسلحة يُشكل تجاوزاً لـ "الخط الأحمر" بشكل
يؤدي إلى تدخل خارجي في سورية ضد النظام.
تتهم
السلطة من جانبها الجيش السوري الحر باستخدام الأسلحة الكيميائية أيضاً، الأمر
الذي يزيد من الغموض. من أجل الاقتناع بحقيقة استخدام هذه المكونات من قبل الجيش
السوري في بعض الجبهات، يجب استجواب الأطباء الذي يحاولون معالجة أو إنقاذ حياة
المقاتلين الذين تعرضوا للغاز. بتاريخ 8 نيسان، أظهر الأطباء في مستشفى كفر بطنا الذي
يُسيطر عليه المتمردون تسجيلات على الهواتف لمشاهد الاختناق وخروج بلغم مقزز من
بلعوم أحد الرجال. أشار أحد الأطباء إلى أن ذلك حدث بتاريخ 14 آذار بعد تعرّض أحد
الرجال للغاز في مدينة العتيبة شرق الغوطة التي تقوم القوات الحكومية بمحاصرتها
منذ منتصف آذار لقطع طريق الامدادات الرئيسي.
قام
الطبيب حسن بوصف أعراض هؤلاء المرضى بشكل دقيق قائلاً: "يعاني
الناس الذين يصلون من ضيق التنفس. يتقلص بؤبؤ عيونهم، وبعضهم يتقيأ، ولا يسمعون أي
شيء، ولا يتحدثون، وتجمدت عضلاتهم التنفسية. إذا لم نعالجهم بسرعة كبيرة،
سيموتون". يتطابق هذا الوصف مع جميع النقاط التي أشار إليها
بقية الأطباء الذين تم الإلتقاء بهم في محيط دمشق خلال عدة أسابيع، ولكن مع بعض
الاختلافات البسيطة. أكد المقاتلون الذين كانوا ضحايا الغازات أنها انبعثت من
قذائف بسيطة أو قذائف صاروخية أو حتى على شكل قنبلة يدوية.
وقع
الهجوم الخامس من هذا النوع على جبهة جوبر بتاريخ 18 نيسان. يقول مقاتلو الجيش
السوري الحر بقيادة عمر حيدر أنهم شاهدوا اسطوانة كبيرة مجهزة بآلية فتح تسقط بين
أقدامهم، ويبلغ طولها حوالي عشرين سنتيمتراً. هل كانت هذه الإسطوانة سلاحاً
كيميائياً، وفي هذه الحالة، ما هو نوع المواد المُنبعثة منها؟ للإجابة بدقة على
هذا السؤال، يجب إعداد بروتوكول للتحقيق، ولكن ظروف النزاع تجعل ذلك صعباً. يجب
أخذ عينات من المقاتلين الذين تعرضوا للغازات المنبعثة لدرجة موتهم أو اضطرارهم
للذهاب إلى المستشفى، ثم إرسالها إلى مخابر متخصصة في الخارج. تم إعداد بعض هذه
العينات، وتجري دراستها حالياً.
منذ
ذلك الوقت، تم توزيع كمامات الغاز في جوبر، بالإضافة إلى حقن الأتروفين (Atrophine)، وهي
مادة مضادة للعوارض الناجمة عن غازات الأعصاب مثل الساران. يشتبه أطباء الغوطة
باستخدام هذا الغاز الذي لا لون له ولا رائحة، وتتطابق آثاره مع الملاحظات
المشاهدة ميدانياً. أشار مصدر غربي مُطلع إلى أن ذلك لا يمنع السلطة السورية من
استخدام مزيج من العناصر، ولاسيما الغاز المسيل للدموع، من أجل التشويش على
الأعراض الناجمة.
إنه
رهان هام في حال إثبات استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل قوات بشار الأسد. ولذلك
لا بد من إخفائه. يتم استخدام الغازات على الجبهة بشكل متقطع، لتجنب انتشار المواد
الكيميائية بشكل واسع، الأمر الذي سيوفر بسهولة مجموعة من البراهين التي لا يمكن
دحضها. تكررت هذه الحادثة يوم الخميس 23 أيار، فقد أكد المتمردون وقوع هجوم
كيميائي جديد في عدرا الواقعة شمال شرق دمشق. في النصف الثاني من شهر نيسان، أصبحت
الهجمات بالغاز روتيناً غريباً في جوبر. اعتاد متمردو الجيش السوري الحر على وضع
كمامات الغاز إلى جانبهم. وتم تنظيم جلسات دورية لتنظيف العيون بحقن السيروم
الفيزيولوجية.
يبدو
أن الهدف من هذه الهجمات هو تكتيكي بشكل أساسي، في محاولة لزعزعة وحدات المتمردين
في الأحياء التي لم يستطع الجنود النظاميون دخولها، بالإضافة إلى كونها اختباراً.
إذا كانت القوات المسلحة السورية قد تجرأت على استخدام الأسلحة الكيميائية في
العاصمة بدون ظهور ردة فعل دولية جدّية، ألا يمثل ذلك دعوة لمتابعة استخدامها على
نطاق أوسع؟ ما زالت حالات استخدام الغاز معزولة. يعمل طبيب العيون الوحيد في
المنطقة في مستشفى سبها الصغير، ولا يريد كشف مكان هذا المستشفى بدقة. أحصى لوحده
150 شخصاً تعرضوا للغازات خلال أسبوعين. وقام بتنظيم حمامات في المناطق التي تعرضت
للغازات من أجل أن يستطيع المقاتلون المُعرّضون للمواد الكيميائية الاستحمام
وتغيير ثيابهم لتجنب انتقال العدوى إلى عناصر المراكز الصحية.
أكد
طبيب في مستشفى حمورية الإسلامي الموجود داخل مرآب سرّي أنه استقبل بتاريخ 14
نيسان أحد الجنود من جبهة جوبر وهو يعاني من ضيق تنفسي شديد، وأن قلبه كان "ينبض
بشكل مجنون"، وأنه أعطاه جرعات متتالية من الأتروفين
والهيدروكورتيزون، وهو علاج يستخدم للأحصنة في الحالات الميؤوسة. وقبل يوم واحد،
حاولت إحدى سيارات الإسعاف إخلاء الرجال المصابين بالغازات، ولكنها تعرضت لنيران
القناصة وجُرِح سائقها. في صباح التالي، استطاعت سيارات الإسعاف عبور الطريق بسرعة
قصوى تحت قصف إحدى الدبابات، ووصلت إلى منطقة الجبهة التي انتشرت فوقها سحابة من
المواد الكيميائية. قال أحد الممرضين في مستشفى كفر بطنا دون أن يذكر اسمه خوفاً
من الانتقام من عائلته الموجودة في المنطقة الحكومية: "عندما
وصلنا إلى المكان، كان الجميع مطروحين على الأرض".
عمّت
الفوضى في هذا المستشفى الموجود في قبو المرآب لتجنب قصف طائرات الميغ والمدافع
الحكومية. كان الجنود مستلقين إلى جانب
خمسة ممرضات انتقلت إليهم العدوى باللمس. تم إحصاء خمسة عشر جندياً مصاباً في ذلك
اليوم، ويركض الجميع في الغرف لتوزيع الأوكسجين وإعطاء الحقنات. كانت الطبيب حسن
مستلقياً في مكتبه الصغير مع كمامة للأوكسجين، وتم إعطاؤه حقنة أتروفين. كان يعمل
في قسم الإسعاف، ثم فقد وعيه وبدأ يسعل بشدة. يُكافح هذا الرجل منذ عدة أشهر
للحفاظ على عمل مركزه الصحي بمساعدة بعض المتطوعين، وذلك على الرغم من الحصار الذي تفرضه الحكومة
على هذه المنطقة. أدى هذا الحصار إلى جعل توفر الأدوية أمراً نادراً أكثر فأكثر.
هناك
نقص في أطباء التخدير، ويضطر الجراحون إلى استخدام المواد المخصصة لمعالجة
الحيوانات مثل الكيتامين، ولم يعد المورفين متوفراً. لن يكفي مخزون الأتروفين
لفترة طويلة. قام الطبيب بأخذ عينات، واستطاع إخراجها بصعوبة كبيرة من المنطقة
بفضل التهريب. يجب الانتظار عدة أسابيع مع معرفة نتائج تحليل هذه العينات.
ذهب مراسلا صحيفة اللوموند إلى ثمانية مراكز
صحية في القسم الشرقي من الغوطة، ولم يعلن إلا مركزين اثنين عن عدم استقبالهما
لمقاتلين أو مدنيين مصابين بالغاز. استقبل الأطباء في النشيبية حوالي ستين حالة في
يوم واحد من جبهة العتيبة بتاريخ 18 آذار. لا تتوفر الوسائل الكافية لمواجهة تدفق
هذا العدد من المصابين، ولاسيما الأوكسجين. مات خمسة أشخاص اختناقاً. وبعد عدة
أيام، أدرك الأطباء خطورة الوضع، وأخرجوا جثث هؤلاء الضحايا من قبورهم بحضور
السلطات المحلية والدينية، وقاموا بأخذ عينات، وحاولوا إرسالها إلى بلد مجاور. تم
إعطاء هذه العينات إلى مجموعة صغيرة من المقاتلين الذين حاولوا اختراق الحصار
الحكومي. في ذلك اليوم، قال الأطباء في النشيبية أنهم يجهلون فيما إذا كانت
العينات قد وصلت إلى الجهة المقصودة. على بعد عشرة كيلومترات في مستشفى دوما الذي
تُسيطر عليه كتيبة الإسلام، قال الأطباء أنهم استقبلوا 39 مريضاً بعد الهجوم
الكيميائي على مدينة عدرا بتاريخ 24 آذار، وتوفي رجلان في المستشفى.
قال
أحد الأطباء أنه بعد مضي يومين: "أصبح المرضى
كالمجانين". وأكد مروان، أحد المقاتلين الذين كانوا متواجدين
أثناء الهجوم على عدرا، أنه شاهد "قذائف صاروخية تسقط على
الجبهة وينبعث منها ضوء برتقالي"، وأنه أثناء
نقله إلى المستشفى شاهد "ثلاثة رجال يموتون في العربات
على الطريق". يموت المدنيون والعسكريون في منطقة الغوطة غالباً
قبل وصولهم إلى مركز طبي بسبب الفوضى
السائدة في هذه المنطقة.
أشارت المصادر المحلية في المنطقة إلى أن عدرا
والعتيبة وجوبر هم النقاط الثلاث التي استُخدمت فيها الغازات منذ شهر آذار. ولكن
هذه المواد تم استخدامها بشكل حذر في مناطق محددة في جوبر. أما في عدرا والعتيبة،
فإن الكميات المستخدمة كانت أكبر بالمقارنة مع عدد المصابين في المستشفيات.