صحيفة
اللوموند 30 أيار 2013 بقلم مراسليها الخاصين في جوبر جان فيليب ريمي Jean-Philippe Rémy ولوران فان دير ستوكت Laurent Van
der Stockt اللذان دخلا إلى
سورية وبقيا لمدة شهرين مع المتمردين في دمشق والمناطق المحيطة بها (الحلقة
الثالثة)
كانت
ليلة مملة لا تنتهي في منزل وسخ جداً في محيط دمشق المهدم. يعيش عبد الله أزمة
وجودية، إنه شاب متمرد في كتيبة تحرير الشام. كان عبد الله يحاول أن يُعبّر عن
فلسفة حياته ببضعة كلمات، وأن ينظمها كفلسفة للموت. بشكل أوضح: إنه استعداد شخصي للتضحية، قال عبد الله: "جئت
إلى دمشق مع أصدقائي للموت فيها. لقد فكّرنا قبل أن نتوصل إلى نتيجة أنه يجب
القتال في دمشق، وأننا لن نرى نهاية هذه الحرب. ولكننا على الأقل سنساهم بموتنا
هنا في نهاية نظام بشار. سنذهب كشهداء إلى الجنة مباشرة".
كان
عبد الله طالباً في كلية الطب، ووجد نفسه في الحرب. إنه من مدينة حمص، وقد أمضى
أقل من سنة في القتال، وكأنها قرناً. قال عبد الله: "لقد
تحطم كل شيء في مدينتي، المنزل والحياة والماضي والمستقبل...".
هل يمكن حقاً أن نرغب الموت عندما لا يتجاوز عمرنا عشرين عاماً، وأن تكون هناك
رغبات جامحة بحياة أفضل؟ قال عبد الله غاضباً: "أنا
أكره الحياة، وكل شيء يربطني بها، ويمكن أن يجعلني ضعيفاً مثل: الراحة والسعادة.
أنا أكره الجروح لأنها جلبت الخوف إلى داخلي على الجبهة. إذا كنت خائفاً، لا يمكن
أن أكون مستعداً للموت، وهذا غير مناسب أبداً. ولكن سأشفي نفسي من هذا الخوف"،
وكان يقول أيضاً أنه: "يحسد مقاتلي جبهة النصرة"
التي تدفع نحو هذا التوجه بالتخلي عن الحياة إلى أبعد حد، مع الاحتفاظ بملذات جنة
الشهيد.
هل
عبد الله من هذا النوع حقاً؟ لقد جُرِح في أحد الأيام على جبهة جوبر برصاص أحد
قناصي الحكومة، ولكن جرحه كان طفيفاً. ربما شعر بأنه سيموت. ولكن الأمر الأكثر
أهمية هو أنه شاهد في المستشفى الميداني الذي عولج فيه ممرضة شابة عمرها 15 عاماً،
وقرر حينها فوراً أن يجعلها زوجته. سمحت ليالي التحضير لزواج عبد الله بقتل
الليالي الطويلة المملة. شعر زملاؤه في الحرب فجأة بخيانة رغباتهم في التضحية، قال
أحد زملائه بنبرة فظة: "نحن نفهم عمّا يبحث عبد الله:
إنه يرغب بممارسة الحب. ولكن برأيي، إنه يستفيد أيضاً من أن الزواج أصبح رخيصاً
جداً بسبب الحرب". قام عبد الله بالتوقيع على عقد
الزواج أمام الشيخ بعد عدة أسابيع بين أصدقائه في الكتيبة، ولكنه لم يستطع إكمال
زواجه، لأنه لم يحصل على المهر المتواضع
من أجل تكوين عائلة صغيرة. خلال هذه الفترة، تركت مجموعته المقاتلة بكاملها منطقة
الغوطة للإقامة في جبال القلمون. لأن القوات الحكومية تُحاصر الغوطة التي قد تتحول
إلى فخ.
بدأ
الاحتجاج ضد السلطة بالغليان في منطقة الغوطة منذ ربيع 2011 قبل وصول التمرد
المسلح إليها. كانت الكتائب تتدرب في هذه المنطقة، وتُنظم نفسها، وتنطلق منها لشن
الهجمات على دمشق. سمح الهجوم الأخير في بداية عام 2013 بدخول المتمردين إلى
العاصمة، ثم توقف في حي جوبر. لقد بدأ الجيش بمحاصرة الكتائب في الغوطة، بدلاً من
شن هجوم بري واسع لن يكون قادراً على هزيمة الجيش السوري الحر المصمم على القتال
حتى آخر رجل داخل الأنقاض. ربما لم يدرك جميع المقاتلين والقادة حتى الآن مدى حجم
هذه المناورة. يبدو الوضع أكثر مدعاة لليأس عند الخروج من هذه المنطقة، ولاسيما في
مدينة الضمير التي يبدو كل شيء فيها هادئاً مع حلول الظلام. ولكن المعارك تجري
بالقرب منها بشكل شبه يومي في مدينة عدرا التي تعرضت المجموعات المتمردة فيها إلى
هجوم كيميائي من قبل السلطة. كما يوجد المطار العسكري على بعد خمسة كيلومترات من
الضمير. أشار مسؤولو المتمردين في الضمير إلى أن طائرات الشحن الإيرانية تصل إلى
هذا المطار حاملة الرجال والبضائع.
لماذا يُطلق الجنود النار على المدنيين؟ من أجل
منعهم من مغادرة مدينة يُسيطر عليها المتمردون، باعتبارها الحلقة الأخيرة في سلسلة
الحصار الذي تقوم به السلطة السورية من أجل إغلاق الغوطة. إن مدينة الضمير عادة هي
إحدى الطرق المؤدية إلى المنطقة، ويستخدمها المتمردون السوريون لإيصال تموينهم.
لقد انقطع كل شيء: السلاح والذخيرة والأدوية وتنقلات القوات. هناك رجل في هذه
المدينة بدأ يفقد صبره عند رؤية هذا الحصار. إنه أبو خليل رئيس إحدى الكتائب
الصغيرة المشهورة في المنطقة، وهي تابعة لكتيبة تحرير الشام بقيادة فراس بيطار. إن
أغلب مقاتلي هذه المجموعة من الغوطة والقلمون. كان أبو خليل المُحاصر في مدينة الضمير
يكتم غيظه، ويتساءل حول الخيارات الإستراتيجية التي اتخذها المتمردون السوريون
خلال الأشهر الأخيرة. لقد فشلت محاولة نقل الحرب إلى دمشق، ولكن لا أحد يريد تحمّل
المسؤولية. قال أبو خليل: "كان يجب التركيز على خارج الغوطة
والقضاء على جميع القواعد العسكرية واحدة تلو الأخرى، لأن هذه القواعد هي التي
تجعل هذا الحصار ممكناً. من الممكن دراسة معركة دمشق بعد فتح الطرقات".
للوصول إلى المدن الأولى في الغوطة التي يجري
فيها الجزء الأساسي من المعارك، يضطر الرجال إلى السير على الأقدام ليلة كاملة عبر
الطرق المتعرجة بين المواقع الحكومية. قبل
عدة ليالي، خرجت عدة كتائب من الغوطة باتجاه الضمير. ولكن تم اكتشافها أثناء
عبورها في قنوات الري. قام الجنود بإطلاق النار مستخدمين جميع أنواع الأسلحة. وقع
بعض القتلى، ونزفت دماء الجرحى طوال الطريق خلال عدة ساعات من السير الإجباري، مما أدى إلى موتهم أيضاً، وتم
دفنهم بسرعة في الحقول. تخلى الرجال عن الكثير من الأسلحة بسبب الرعب، على الرغم
من الثمن الباهظ لكل بندقية كلاشينكوف وقذيفة هاون. لو لم تسقط العتيبة، لما كان
ذلك ممكناً. العتيبة هي المدخل الرئيسي للغوطة، وقد سيطرت عليها القوات الحكومية
بتاريخ 24 نيسان بعد 37 يوماً من المعارك. أشار المتمردون إلى أنه انتشرت ما بين
أربعين إلى ستين دبابة في هذه المنطقة من أجل سحق قواتهم التي تنقصها الأسلحة
المضادة للدبابات.
استمرت الحرب منذ ذلك الوقت في المناطق المحيطة
بالعتيبة. قررت عدة كتائب توحيد قواتها لكي يحاولوا فتح هذه المدينة من الخارج.
كان رجال جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في خط القتال الأول في العتيبة، لأنهم
اعتادوا على القتال في الجبهات الأكثر صعوبة. كما شاركت مجموعات أخرى في القتال
مثل لواء الإسلام، من أجل فك الحصار عن الغوطة التي تمتد من المطار الدولي حتى
الضمير.
هل
يستطيع السكان والمتمردون مقاومة صدمة الحصار؟ لحقت الأضرار بالجميع في دوما، إحدى
المدن الكبرى في الغوطة (أكثر من مئة ألف نسمة قبل الحرب). أمام الجامع المركزي في
الحجامة، توجد الكتابات البذيئة التي كتبها الجنود على الجدران عندما استعادوا
المدينة. امتلأت الأبنية بالثقوب بسبب قنابل الميغ والهاون. على الساحة الرخامية
أمام المأذنة، كانت آثار قذائف الهاون كثيرة لدرجة يبدو أنها جزء من الديكور. في
محيط الجامع، كان جميع الرجال يتحدثون بعصبية في وقت واحد، لتحديد قوائم الشهداء
الطويلة المُلصقة على الجدران.
في
إحدى ورشات المدينة، تعمل الآلات بلا توقف من أجل صنع مدافع الهاون من جميع
العيارات ( من 60 ملم إلى 120 ملم) والذخيرة التي تتلاءم معها والقنابل البدائية
وحتى المدافع عديمة الارتداد (سعرها الأولي 2000 دولار) التي تلمع سبطانتها مثل
كروم سيارات الكاديلاك. كان هناك رجل يقوم بلحم الأجنحة الصغيرة لقذائف الهاون،
ويقوم شخص آخر بتعبئتها بالمتفجرات.
وصلنا إلى زملكا التي تحول جزء منها إلى حي
للأشباح. إنها أحد مداخل دمشق، جسر يحاذي الأوتستراد، وتمت السيطرة عليه بعد شهرين
من المعارك. يختبىء متمردو لواء الإسلام في أحد الأبنية الفارغة التي تحولت إلى
مركزاً للقيادة. يُرفرف العلم الأسود لكتيبتهم على مركز المراقبة القديم الذي تم
انتزاعه من النظام في شهر آذار. وعلى مقربة منه، هناك حطام إحدى الدبابات المدمرة
أثناء المعارك. لم يعد التقدم ممكناً إلى أبعد من هذه النقطة باتجاه الحي المجاور
في جوبر التي يتواجد فيها بعض العناصر المتقدمة من الجيش السوري الحر. إذا اتجهنا
إلى الجنوب قليلاً، هناك نقطة مراقبة أخرى تمت استعادتها من القوات الحكومية خلال
الأيام الأخيرة: إنها جسر ثاني فوق الأوتستراد، وتمثل مدخلاً آخراً لدمشق انطلاقاً
من حي عين ترما بالقرب من "الفرقة الأولى"
التابعة للضابط السابق في سلاح الجو الجنرال أبو محمد الكردي. تتوالى عدة مجموعات
صغيرة لحراسة الموقع في عين ترما في حال حصول هجوم مضاد من قبل مدرعات الحكومة
التي تتواجد على مسافة عدة مئات من الأمتار على مدخل دمشق. يتسلل المتمردون بين
فوضى الدمار لتجنب النيران، ويدخلون أحد ورشات تقطيع الرخام لحماية أنفسهم من نيران
العدو.
بدأت
المستشفيات تعاني من نقص في كل شيء. قال أحد الأطباء في مستشفى حمورية السري: "قبل
شهرين، كان هناك طريقان للحصول على التموين: الأول عبر العتيبة والثاني عبر دمشق.
يواجه البعض أخطاراً كبيرة يومياً من أجل إيصال كميات صغيرة من الأدوية عبر الحواجز.
إذا تم القبض عليهم، سيُقتلون على الفور. هناك رجل يأتي كل يوم من مركز العاصمة
بسيارته مع عدة كرتونات من الأدوية. لا أحد يعرف اسمه، ولا حتى أنا. إنه أحد
الأبطال المجهولين للثورة". كان الطبيب كئيباً، والأمور
سيئة جداً. كما هو الحال بالنسبة للكثيرين، لم يُكمل هذا الطبيب دراسته، وذهب إلى
مدن الغوطة لممارسة طب الحرب. تنبأ الطبيب قائلاً: "لن
يتركوا المدينة قبل تدميرها بشكل كامل. ثم سيُدمرون دمشق كما دمّروا حلب".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق