صحيفة
اللوموند 31 أيار 2013 بقلم مراسليها الخاصين في جوبر جان فيليب ريمي Jean-Philippe Rémy ولوران فان دير ستوكت Laurent Van
der Stockt اللذان دخلا إلى
سورية وبقيا لمدة شهرين مع المتمردين في دمشق والمناطق المحيطة بها (الحلقة
الرابعة)
إذا كانت الحرب قد مرت من هنا، فيبدو أنها قررت
عدم البقاء طويلاً. إنه أمر يدعو للاستغراب في سورية. باستثناء بعض الكتابات على
الجدران، لا يوجد في يبرود مؤشرات خارجية تدل على الخراب الذي لحق بسورية منذ عام
2011. من الممكن أن نتوقف في أحد الشوارع الرئيسية في يبرود أمام دكان للحلويات،
والاختيار بين الكاتو بالشوكولا السوداء أو البيضاء، في الوقت الذي تمر فيه
بجانبنا سيارة بورش كايين بدون نمرة. ولكن يبرود شهدت ثورتها التي بدأت بعدة
مظاهرات، ثم اعتقلت الشرطة السرية بعض الأشخاص، ثم تشكلت الكتائب المتمردة في
القرى المحيطة بها بشكل خاص، واستطاعت هذه الكتائب في النهاية طرد الجيش الحكومي
على دفعات متتالية. ثم أصبحت يبرود تحت سيطرة الجيش السوري الحر في بداية عام
2012. تقوم طائرة ميغ حكومية من وقت لآخر بإلقاء قنبلة في الحقول، مما يهدد بتدمير
المداجن المزدهرة في المنطقة. يتدفق
النازحون من المدن الأخرى إلى يبرود، ويتكدسون في الأبنية العامة قدر المستطاع.
لقد ارتفعت الأسعار، وتم تقنين البنزين، ولكن الحرب غير موجودة.
تتحرك المجموعات المتمردة في يبرود بسرية كبيرة،
والأسلحة نادرة فيها. لقد تجولنا في المدينة بسيارة مرسيدس مكشوفة، وكان مرافقنا
ينسى بندقيته في كل مرة في المعقد الخلفي. إنه وضع غريب، في الوقت الذي تجري فيه
معارك عنيفة على مسافة ستين كيلومتراً في دمشق وضواحيها، ويُفترض أن تكون يبرود
القاعدة الخلفية للمجموعات المتمردة التي تعمل في منطقة الغوطة.
تؤكد
إمرأة تعرف المدينة جيداً قائلة: "إن الأمور الهامة في
يبرود مُخبأة دوماً". تُفضل هذه الإمرأة الشابة إخفاء
اسمها، ولا تضع الحجاب لتخفي شعرها الأشقر الطويل والجميل. إنها ترتدي ثياباً ضيقة
بشكل يُغري السوريين المحافظين. يُمثل مظهرها تكتيكاً خاصاً بها. إنها مُقرّبة من
الجيش السوري الحر، واستغلّت شكلها الأوروبي لكي تقوم بإيصال السلاح إلى داخل دمشق
في سيارتها الصغيرة، عبر إضحاك الجنود النظاميين الذين لا يمكنهم الاعتقاد بأن
فتاة جميلة بهذا التصنّع بإمكانها المخاطرة بحياتها من أجل إيصال خمس بنادق
كلاشينكوف إلى بعض الخلايا السرية للجيش السوري الحر استعداداً لمعركة دمشق. في
النهاية، اعترفت هذه الإمرأة الشابة ذات الطبع القاسي، أنه يوجد في مدينة يبرود
شيء لا تفهمه.
في
أحد الأقبية ذات الإنارة السيئة، يجري تعليم الفتيات مبادىء الخياطة أو الطب.
ستذهب بعضهن قريباً لتقديم المساعدة في المستشفيات التابعة للجيش السوري الحر، على
الرغم من خطر ارتكاب الأخطاء الطبية. كانت ليلى، إحدى الناطقات الرسميات باسم
جمعية يبرود الخيرية (Yabroud for Charity)، متواجدة هنا. إنها فخورة جداً
بابنتها (15 عاماً) المشهورة داخل المدينة بكتاباتها على الجدران، وقامت برسم أغلب
الرسوم الجدارية التي تُمجد بالثورة. تتساءل ليلى عن الاتجاه الذي أخذته الثورة
الجارية، وتشعر بالريبة من الدور المتزايد لرجال الدين المحافظين جداً الذين
يتزايد نفوذهم مع تفاقم الحرب. قالت ليلى: "أردنا
هذه الثورة من أجل التغيير، من أجل ألا
تعود الأمور كما كان الوضع سابقاً بعد عودة النساء إلى منازلهن. الآن، أصبح نفوذ
المجلس الإسلامي يتزايد أكثر فأكثر. إن ذلك لن يجعلنا نتقدم كثيراً. سيتوجب علينا
القيام بثورات أخرى بعد سقوط النظام".
كيف
يمكن تفسير الطمأنينة الغريبة في هذه المدينة؟ ليلى لديها فكرة حول هذا السؤال،
وقالت: "اتفق المسؤولون المتنفذون في المدينة مع النظام.
ظاهرياً، يبرود تحت سيطرة الجيش السوري الحر. ولكن في الحقيقة، هناك اتفاقات سرّية
بعدم الاعتداء. إن ذلك يُرضي الجميع". على ماذا
ترتكز هذه الاتفاقات؟ إن ليلى وصديقاتها متأكدات من ذلك، وقالت: "إنها
التسوية والمال!". إن يبرود والمناطق المحيطة بها تُمثل
أحد المراكز الصناعية في البلد، وتفتخر المدينة بأنها تنتج 25 % من الدجاج السوري
والبلاستيك والمواد الاستهلاكية اليومية، وحتى المتّة التي جلبها المهاجرون
السوريون من الأرجنتين في القرن الماضي. إن اتفاق عدم الاعتداء في يبرود يُحقق
مصالح الحكومة السورية من أجل الحفاظ على السلام في مدينة هامة بالقرب من العاصمة
وبالقرب من طريق حمص الذي يمر بالقرب من يبرود، وهو طريق هام بالنسبة للسلطة وتريد
الحفاظ عليه بأي ثمن. يُحقق هذا الاتفاق أيضاً أهدف التمرد، ويمنحه إمكانية تجنب
مواجهة شاملة، وربما يقوم أيضاً ببعض الصفقات المربحة.
إن
العديد من أصحاب الثروات في سورية أصلهم من هذه المدينة المزدهرة، وانتشر جزء منهم
في جميع أنحاء العالم. كان الرئيس الأرجنتيني السابق كارلوس منعم أحد أبناء يبرود.
تعمل العائلات الكبيرة في الطائفة المسيحية الهامة داخل المدينة على الحفاظ على
السلام. إلى متى؟ استدركت ليلى الحديث فجأة بقولها: "ماذا
نعرف عن ذلك؟ نحن لسنا خبراء. إن كل ذلك يتجاوز قدرتنا. إن الذين لا يستفيدون من
الاتفاقات داخل الجيش السوري الحر، ربما سيُغيّرون رأيهم. يمكن إلغاء العقد،
وعندها سيتم تدمير يبرود مثل بقية المدن في سورية".
قال
أحد المؤرخين الذين يكتبون كتاباً عن المدينة، ويُفضل عدم ذكر اسمه: "إنها
مرحلة معقدة. يبرود هي إحدى أقدم المدن في سورية، وبدأ الوجود الإنساني فيها منذ
عصر النياندرتال. لقد وقفت المدينة دوماً ضد الدكتاتورية".
في الحقيقة، كانت يبرود في البداية بمعزل عن جميع الاضطرابات في بدايات الثورة،
وجرت فيها بعض المظاهرات المؤيدة للسلطة، ثم ظهر الجيش السوري الحر. ولكن لا أحد
يريد أن يتذكر ذلك.
ظهرت
توازنات أخرى في هذه التسوية الحساسة. يوجد في يبرود نسبة هامة من المسيحيين، ربما
يُمثلون 40 % من سكانها، كما يؤكد بعض المسؤولين المحليين. بذلت السلطة السورية كل
جهدها لجمع الأقليات الدينية حولها، في محاولة لتوجيههم ضد الأغلبية السنية. حاول
المسيحيون مرات عديدة التخلص من هذا الفخ، وتبنوا رسمياً نوعاً من الحيادية. ولكن
يبرود تختلف عن المناطق الأخرى. هناك مجموعة من المسيحيين المؤيدين للثورة وللجيش
السوري الحر. ميشيل ويوسف من الكاثوليك السريان، وهما عضوان في اللجنة الأمنية
للمدينة. لم يغادرا للقتال، وقالا: "بصفتنا مسيحيين، نحن لا
نشجع على حمل السلاح، ولكن في هذا الوضع، لا يوجد أمامنا الكثير من الخيارات".
على الأقل، لقد تحليا بالشجاعة للتعبير عن رأيهما، وإن كان ذلك في إطار محلي ضيق وبدون
الإعلان عن أسمائهما الحقيقية. ثم أضافا قائلين: "إن عائلاتنا
خائفة من المستقبل، ولكنها ليست مسألة دينية. يستطيع المسلمون والمسيحيون
الاستمرار بالعيش معاً هنا. إنها سورية الجديدة التي تبني نفسها الآن. لا يجب
علينا الاعتماد إلا على أنفسنا. تقول الحكومتان الفرنسية والأمريكية أنهما قلقتان
على مصير الأقليات مثلنا، ماذا فعلوا من أجل حمايتنا؟ لا شيء على الإطلاق. هنا،
يقوم جيراننا المسلمون بحمايتنا".
جرى
احتفال موسيقي صغير في أحد البيوت المريحة في المدينة. كان هناك أستاذة وأطباء
وبورجوازيون مُنفتحون. الحديث في السياسة ممنوع، ولكن أستاذ اللغة الإنكليزية حرص
على إبداء ملاحظة عابرة بأن "المسيحيين والمسلمين مختلطون في
هذا المنزل". هل يمكن أن يستمر هذا التوازن في سورية الجديدة
مستقبلاً، كما يتمنى ميشيل؟ قال ميشيل: "الوقت
هو المشكلة. كلما مر الوقت، كلما ازداد عدد القتلى، وكلما ازداد الانتقام
والتوتر". وبعد لحظة من التفكير، حدد مخاوفه قائلاً: "عندما
سنحصل على ديموقراطيتنا، لن نترك السلفيون يقررون بدلاً عنا".
على مسافة أقل من مئتي متر، هناك دكان لبيع الكحول بشكل علني.
جرت
بعد عدة أيام مظاهرة في شوارع يبرود على مقربة من هذا الحي الذي تظهر فيه شعارات
تثير قلق المسيحيين. يُشارك في هذه المظاهرات العائلات القادمة من حمص بشكل خاص.
بدأت المظاهرة بالشتائم التقليدية ضد بشار لأسد، ثم تطرق الصراخ في الميكروفونات
إلى الفساد في المجلس المحلي في يبرود، بالإضافة إلى نداء من أجل أن تصل الحركة
الجهادية جبهة النصرة إلى السلطة. ما زالت هذه القناعات أقلية في يبرود، ولكنها
تُظهر الانحرافات الممكنة في سورية التي تستمر الحرب فيها منذ سنتين.
أعرب رئيس المجلس العسكري في يبرود أبو حسين عن
قلقه بوضوح حول الأحداث اللاحقة، وقال: "نحن
أمام جبهتين. من جهة، الجبل والحدود مع لبنان، مع تهديد بهجوم من قبل حزب الله. من
جهة أخرى، منطقة دمشق. إن موضوع قلقنا هو الطريق بين دمشق وحمص الذي تحميه عدة
قواعد عسكرية. لن نستطيع قطع هذا الطريق بسبب نقص الأسلحة".
أشار أبو حسين إلى المشكلة التي سيتطرق إليها الكثيرون في الأسابيع اللاحقة: كيف
يمكن جعل عمل الجيش السوري الحر أكثر فعالية، في حال تعزيز المنشآت العسكرية
المحيطة بدمشق بمئات الدبابات وبقوة نيران كبيرة؟ ما زال هذا السؤال قائماً. من
أجل مهاجمة هذه القواعد، يجب على الحصول على أسلحة، وأن يكون مداها كافياً لضرب
هذه الأهداف بدون التعرض للنيران. إن القيام بمواجهة مباشرة في ساحة مكشوفة سيكون
بمثابة الانتحار.
عندما تنام يبرود، تجري عمليات عسكرية أخرى في
المناطق المجاورة مثل النبك، وذلك عندما حاولت بعض الكتائب قطع طريق حمص. في مزرعة
منعزلة، يقوم أربعة مسؤولين في مجموعة من هذه المنطقة بالإعداد لهذه الليلة.
أخرجوا زجاجة كحول لأن سكان منطقة القلمون غير متشددين ويفعلون ما يحلوا لهم،
وجهزوا المتة وكاسات العرق الصغيرة وزجاجة نبيذ محلية، بالإضافة إلى الأركيلة.
وقعت البارحة بعض المشاجرات بسبب كلمة غير لائقة قالتها زوجة أبو جميل الجديدة.
أبو جميل هو زعيم هذا المكان، ويتمتع بشخصية قوية. إنه ابن عائلة غنية تعمل
بالتجارة ومقيمة بالخارج. لقد عاد إلى سورية لشن حرب شخصية ضد السلطة معتمداً على
أمواله الخاصة. إنه يعمل على عدة جبهات:أولاً، مع كتيبته، وقاد عدة عمليات عسكرية
ضد المواقع الحكومية. كما استطاع بفضل علاقاته تنظيم بعض عمليات تسليم الذخيرة
القادمة من لبنان. اشترى البارحة عدة آلاف
طلقة دوشكا Doushka (12.7 ملم)، وهو رشاش ثقيل يتم وضعه على سيارة بيك آب. ولكنه بدأ
مع زوجته الجديدة نشاطاً ثالثاً أكثر خطورة هو: الاستفادة من جمال زوجته الشابة
لجذب الضباط النظاميين إلى مواعيد غرامية، ثم اختطافهم، والمفاوضة على مبادلتم
ببعض السجناء لدى السلطة. جرت مؤخراً إحدى هذه العمليات بشكل سيء، وقُتِل على
إثرها أحد الضباط. قامت عائلة هذا الضابط الغنية والقوية بالمطالبة برأس أبو جميل
وشركائه. من الصعب معرفة الجهة التي يمكن أن نثق بها في منطقة يبرود. قبل عدة
أشهر، انفجرت سيارة أحد المسؤولين اللوجستيين للمتمردين الذي كان مكلفاً بإدخال
الرجال والمعدات إلى دمشق، عندما كان يستعد لفتح باب سيارته رباعية الدفع. فشلت
عملية التفجير، ولكنها تدل على أنه لا يمكن لأي شخص أن يعتبر نفسه محمياً: هناك
ثمن لكل رأس. عبّر أبو جميل عن فكرته حول المتمردين في المدينة قائلاً: "من
أصل 15 كتيبة، هناك 11 كتيبة "وسخة" وفاسدة ويمكن أن تلعب على الجانبين،
وهناك أربع كتائب نظيفة! تتعامل بعض الكتائب مع الحكومة، ويهتم بعضها الآخر بالمال
فقط. عندما ننتهي من بشار، ستكون هناك حرباً أخرى بيننا، وستكون حرباً أسوأ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق