الصفحات

الاثنين، ٤ آذار ٢٠١٣

(الثورات العربية في مواجهة الواقع)


صحيفة الفيغارو 4 آذار 2013  بقلم وزير الخارجية الألماني السابق جوشكا فيشر Joschka Fischer

     بعد عامين من بداية حركات التمرد الشعبية في الشرق الأوسط، تضاءل جداً عدد أولئك الذين  ما زالوا يتحدثون عن "ربيع عربي". لقد اختفى الأمل الكبير بشرق أوسط جديد: هناك حرب أهلية دامية في سورية، وتصاعد لنفوذ القوى الإسلامية في الانتخابات الحرة، وأزمات اقتصادية وسياسية أكثر فأكثر خطورة في مصر وتونس، وعدم الاستقرار المتزايد في العراق، والغموض حول مستقبل الأردن ولبنان، وتهديدات الحرب التي تُخيم على البرنامج النووي الإيراني.
     تزداد هذه اللوحة ظلاماً إذا أضفنا منطقة الشرق والدول المحيطة بها (أفغانستان وشمال أفريقيا وجنوب السودان والصحراء الإفريقية "الساحل"). تتحول ليبيا أكثر فأكثر إلى دولة غير مستقرة، ويعمل تنظيم القاعدة بفعالية في الصحراء الإفريقية، ولا يستطيع أحد أن يتوقع ماذا سيحصل في أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها في الحلف الأطلسي عام 2014.
     لدينا نزعة مستمرة إلى تكرار الخطأ نفسه: نعتقد في بداية أية ثورة أن الحرية والعدالة انتصرتا على الدكتاتورية والعنف. ولكن التاريخ يُعلّمنا أن ما يحدث بعد الثورة لا يُبشّر عادة بمستقبل مُشرق. إن الثورة لا تُسقط فقط نظاماً قمعياً، بل وتُهدّم أيضاً النظام القديم للمجتمع، وتفتح الباب أمام صراع وحشي ودامي للوصول إلى السلطة من أجل إقامة نظام جديد للمجتمع ـ إنها عملية تنطبق أيضاً على السياسة الخارجية والداخلية.
     ليس هناك أية دولة مستعدة أو قادرة على إقامة نظام إقليمي جديد، أو حتى مجرد تصور نظام ما لمصلحة بعض أجزائه. إن الفوضى تهديد ثابت مع جميع الأخطار والتهديدات التي تأتي بعد الفوضى على السلام في العالم. إن حدود المنطقة غير مستقرة بالإضافة إلى الفقر والتخلف والقمع والتزايد السكاني الكبير والحقد الديني والعرقي والشعوب الموجودة بدون دولة مثل الأكراد والفلسطينيين. إن الكثير من هذه الحدود وضعتها القوى الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا) بعد الحرب العالمية الأولى، ويفتقد أغلبها للشرعية باستثناء إيران ومصر. تطمح بعض الدول مثل إيران والسعودية وحتى قطر الصغيرة ولكن الغنية جداً بأن تُصبح قوى إقليمية، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم الوضع المتوتر أصلاً.
     تنفجر جميع هذه التناقضات حالياً في سورية التي يعاني شعبها من كارثة إنسانية، وما زال العالم بأسره يقف مكتوف الأيدي ويتردد بالتدخل حتى الآن. سيكون التدخل حتمياً في حال نشر الأسلحة الكيميائية، حتى ولو أنه يجب أن يكون هذا التدخل محدوداً، ويبدو أن الجميع يتجنبه بسبب الرهانات الهائلة: ليس فقط حرباً أهلية مدمرة ومعاناة إنسانية كبيرة، بل أيضاً نظام جديد للشرق الأوسط بأسره.
     سيؤدي أي تدخل عسكري إلى مواجهة مع الجنود السوريين المدعومين من روسيا والصين وأيضاً من إيران الشيعية ووكيلها حزب الله في لبنان. بالإضافة إلى ذلك، لا أحد يستطيع ضمان ألا يؤدي هذا التدخل السريع إلى حرب جديدة مع إسرائيل. إن الأخطار كبيرة جداً سواء في حالة التدخل أم عدم التدخل.
     من المحتمل استمرار الكارثة الإنسانية في سورية حتى سقوط نظام بشار الأسد، وبعدها من المحتمل جداً انقسام البلد وفق المعايير العرقية والدينية. إن تفكك سورية ربما يؤدي أيضاً إلى بلقنة الشرق الأوسط واندلاع العنف من جديد. لن تتمكن الدول المجاورة لسورية مثل لبنان والعراق والأردن من البقاء بمنأى عن تفكك سورية. وماذا عن الأكراد في سورية والفلسطينيين أو عن المسيحيين والدروز والأقليات الإسلامية الصغيرة الحجم؟ وماذا نقول عن العلويين الذين قد يواجهون مصيراً مُرعباً بغض النظر عن احتمال انقسام سورية؟
     هناك الكثير من الأسئلة التي لا يوجد  جواب عليها. يجب ألا نفقد أملنا بالاتفاقات التي يتم التوصل إليها عبر الوسائل الدبلوماسية. ولكن إذا بقينا واقعيين، فإن الفرص تتضاءل يوماً بعد يوم. إن الشرق الأوسط بأسره في حالة مخاض، وأي نظام جديد ومستقر سيكون بحاجة إلى الكثير من الوقت لإرساء دعائمه. وحتى يحين ذلك الوقت، ستبقى المنطقة خطيرة جداً ليس فقط في الداخل بل أيضاً بالنسبة لجيرانها (ومن ضمنهم أوروبا) وللعالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق