صحيفة الليبراسيون
15 آذار 2013 بقلم خطار أبو دياب، الأستاذ في جامعة باريس الجنوبية
تحول
التمرد ضد نظام بشار الأسد بعد مرور سنتين إلى نزاع مُدمّر ذو عدة مظاهر. تتفتت
سورية في هذه المحنة القاسية دون أن يكون هناك حل في الأفق. إن الدروس المستقاة من
هذا الفشل الكبير للمجتمع الدولي تؤكد غياب الرؤيا والزعامة والنفوذ الغربي، على
الرغم من جميع المعطيات الداخلية المعقدة والتنافس الإقليمي الحاد. يظهر هذا
الغياب بشكل خاص لدى الولايات المتحدة في مواجهة المحاولة الروسية للعودة بقوة وتصاعد
دور القوى الإقليمية.
نعيش
اليوم ولادة نظام عربي جديد منذ ظهور الحالة التونسية في نهاية عام 2010، ويمكن أن
تستغرق هذه العملية عدة سنوات. يَعبُر "الربيع العربي" على طريق دمشق
منعطفاً هاماً في مواجهة التحالف غير المعلن بين القوى الإقليمية التي تخشى انبعاث
نظام جديد في المنطقة. من الناحية العملية، إن تغيير النظام السوري يشمل الوضع
الداخلي وسيتسع لكي يرسم ملامح مشهد إقليمي جديد على حساب الجمهورية الإسلامية
الإيرانية التي يسمح لها الجسر السوري إلى البحر المتوسط أن تكون على حدود إسرائيل
عن طريق حزب الله. إن سورية هي قوة من الحجم المتوسط على الصعيد الجيوسياسي،
والنزاع حولها يتعلق أيضاً بإسرائيل وتركيا ولبنان ودول الخليج العربية الخائفة من
الصعود الإيراني والعراق الذي يُمثل مهد النزاع السني ـ الشيعي المُلتهب منذ حرب
عام 2003.
بشكل
موازي لهذا الرهان الإقليمي ومرحلة التحولات العربية، يتأرجح النظام الدولي حالياً
بين نظام متعدد الأقطاب (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين
واليابان والهند والبرازيل) وبين "الفوضى الإستراتيجية" حسب تعبير
الباحث بيير هاسنر Pierre Hassner. لا يجب اعتبار "الثورات العربية" كأحداث عابرة، بل يجب
اعتبارها نتيجة لمختلف موازين القوى داخل كل بلد بين السلطة السياسية والجيش
والمجتمع المدني ومختلف الحركات السياسية، ولاسيما الإسلامية والعرقية.
فيما
يتعلق بالحالة السورية، إن طبيعة النظام عصيّة على أي تحليل كلاسيكي. إن الحزب
الوحيد، حزب البعث العربي الإشتراكي، ليس ضمن دائرة أصحاب القرار، وليس له أي دور
بالنسبة للزعيم الذي وَرِث سلطة قوية تُجسّد بشكل عملي الطائفة العلوية والنظام
والدولة. إن بشار الأسد ليس إلا الوجه الخارجي لطغيان الدولة القمعية التي ترتكز
على خليط من "رجل العناية الإلهية" و"العصبية" كما عبّر عنها
ابن خلدون ومجموعة الأجهزة الأمنية وعصابة المافيا المستفيدة من تبذير المال
العام. لهذا السبب، وبعكس المحاولات التي كانت تهدف في وقت من الأوقات إلى تقديمه
كرئيس ليبرالي ويمكن التعامل معه، ظهر الرئيس السوري قاسياً منذ اللحظات الأولى
للانتفاضة التي بدأها بعض الطلاب في درعا بتاريخ 18 آذار 2013. لا يمكنه أن يتقبل
أية حجة منطقية.
إن
المنطق الوحيد الذي يعرفه النظام السوري هو "منطق السلطة"، ويمكن اللجوء
إلى جميع الوسائل لتحقيق هذا الهدف، ومن ضمنها المجازر. بقي التمرد سلمياً منذ شهر
آذار إلى شهر تموز عام 2011، ثم أصبح مسلحاً كما أرادت السلطة. كان الأسد يريد أن
يجعل من سورية "حماة كبيرة" على غرار مجزرة حماة عام 1982 التي قام بها
والده وراء أبواب مغلقة. ولكن الزمن تغيّر في عام 2011، ولم يستسلم الشعب السوري
هذه المرة، وما زالت حرب الاستنزاف مستمرة بين سلطة بربرية تستخدم كل قوتها بدعم
من حليفيها الروسي والإيراني، وبين تمرد يفتقد الانسجام وعاجز عن تحقيق الانتصار
في الوقت الحالي بسبب عدم توازن القوى.
حتى
ولو لم يكن هناك أي شك بسقوط النظام على المدى المتوسط الأجل بعد فقدانه لقوته
ومصداقيته، فإن الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب السوري والبلد والدول المحيطة به
يُعزى إلى انقسام المجتمع الدولي بشكل يُذكّر بمنطق الحرب الباردة. لقد استخلصت
روسيا والصين العِبر من تدخل الأمم المتحدة في ليبيا، وانتقمتا في سورية عن طريق
منع مجلس الأمن من التحرك. في مواجهة موقف باراك أوباما المُتراجع، يتصرف فلاديمير
بوتين مثل "قيصر جديد" من أجل إعادة روسيا إلى الساحة الدولية. من
المشروع أن تُدافع الأطراف الإقليمية والدولية عن مصالحها، ولكن الأمر غير المشروع
هو التقصير الأخلاقي في عمل الدول العربية والمجتمع الدولي تجاه المحنة السورية.
إن
تداخل المسائل الإقليمية (الملف النووي الإيراني والموقع الإقليمي لطهران، القضية
الفلسطينية ومستقبل دولة إسرائيل تجاه الوضع العربي المُتقلب، تصاعد الحركات الإسلامية
السنية والنزاع السني ـ الشيعي) أدى إلى تعقيد معالجة المسألة السورية. ولكن من
الضروري الإسراع بإطلاق مبادرة دبلوماسية قوية لإنهاء هذا النزيف. كلما مضى الوقت،
كلما تفاقم الوضع الإنساني وازدادت قوة الجهاديين وازداد خطر تفاقم النزعات
الطائفية وتفتت الدولة بشكل يصبح فيه من الصعب انقاذ الوضع.
يجب
أن يبرهن المجتمع الدولي على قدرته في إيجاد حلول مُبتكرة لهذا النزاع. تستمر
الحرب المُدمّرة بانتظار الاتفاق بين واشنطن وموسكو لتطبيق اتفاق جنيف بتاريخ 30
حزيران 2012، وما زال الجيش السوري الحر
محروماً من الوسائل التي تسمح له بالدفاع عن نفسه، لأن القوى الكبرى مثل الولايات
المتحدة وألمانيا تخشى من أن يؤدي تزويد المعارضة بالأسلحة إلى انتشارها في
المنطقة. من أجل الخروج من هذا المأزق، يجب محاولة خيار الفرصة الدبلوماسية
الأخيرة، بشرط أن يكون هذا الخيار محدوداً زمنياً، مثل تعيين سلطة مؤقتة بقرار من
الأمم المتحدة بشكل يُطمئن جميع الأطراف السورية وروسيا. وبالمقابل، المطالبة
برحيل رأس النظام وعصابته المجرمة. ضمن هذا الإطار، يقع على عاتق باريس ولندن أن
تحض واشنطن على التحرك بشكل أكبر بالتشاور مع الدول العربية والإسلامية لابتكار
مخرج أو اللجوء إلى جميع الوسائل لإنهاء هذه المأساة. حان الوقت للتحرك!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق