صحيفة الليبراسيون 28 أيلول 2013 بقلم مراسلتها الخاصة في الرقة هالة قضماني
كان
رجال الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام على المدخل الشمالي لمدينة الرقة.
كانوا أربعة رجال مسلحين يرتدون لثاماً ولا نرى إلا عيونهم. توقف الميكروباص، وطلب
أحدهم الهويات الشخصية للركاب، أظهر الركاب الرجال هوياتهم، بينما بقيت النساء
الأربعة دون حراك. يتجاهل الجهاديون النساء لدرجة أنهم لا يرونهم أو حتى لا يطلبون
هوياتهم. يكفي ارتداء الحجاب على الرأس مثل جميع نساء المنطقة للإحساس بمتعة عدم
الوجود هذه.
من
الأفضل ألا يكتشف رجال هذه المجموعة المرتبطة بتنظيم القاعدة وجودي كصحفية أجنبية،
ولاسيما أن العالم بأسره تابع مسلسل الرعب لهذه المجموعة التي اختطفت رجل الدين
اليسوعي باولو دالوغليو قبل ثلاثة أشهر في معقلهم بالرقة. لقد اختفى عدة مراسلين
أوروبيين ومئات الناشطين السوريين في هذه المدينة. بدأت هذه المجموعة سيطرتها على
المدينة في شهر أيار بإعدام ثلاثة أشخاص في الساحة العامة.
استمر تفتيش الهويات أقل من ثلاث دقائق، ثم تابع
الميكروباص طريقه باتجاه مركز المدينة المزدحمة قبل ساعة الغذاء. كانت الشوارع
الرئيسية نظيفة نسبياً، وليس هناك إلا أشجار النخيل التي تلفت النظر في مدينة بدون
طابع مميز وبيوت لم ينته بناءها. إنها تشبه غزة، ولكن بدون البحر، أو بعلبك بدون
آثارها التاريخية. قالت (أم نبيل) النحيلة أثناء استقبالها لزوارها: "ترون
جيداً أنها ليست مثل قندهار كما يقولون في التلفزيون". إنها ابنة إحدى
العائلات الكبيرة في الرقة، وأم لثلاثة أطفال في سن المراهقة، ولا تتحمل رؤية
تشويه صورة مدينتها عبر روايات "مبالغ بها جداً"، برأيها، حول
سيطرة المجموعات المتطرفة وأعمال الترهيب التي تقوم بها. وأضافت: "إنهم لا
يتدخلون بشؤوننا، والحياة طبيعية هنا. ما زالت ابنتي البالغة من العمر 16 عاماً
تخرج كالمعتاد بدون حجاب، وأنا أخرج ببنطال جينز وقيمص". ما زالت أم نبيل
تنظر بإيجابية إلى "تحرير" المدينة مثل الكثيرين من سكان الرقة
المعارضين بشدة لنظام بشار الأسد منذ بداية الثورة في ربيع عام 2011.
كان
من الممكن أن تكون الرقة (200.000 نسمة) امتحاناً لنموذج سورية ما بعد الاسد. ولكن
بعد مرور ستة أشهر على سقوطها بأيدي التمرد، تتركز فيها جميع الأخطار والتناقضات
المتراكمة بسبب تفاقم الأزمة السورية. تواصل طائرات الجيش النظامي إلقاء قنابلها
يومياً بشكل عشوائي على أحد أحياء المدينة، في الوقت الذي تتنافس فيه المجموعات
المسلحة على السيطرة على المدينة وسكانها، ويزداد القلق منها أكثر فأكثر.
كانت
أم نبيل تتحدث بأسف وهي تدخن السيجارة بعد الأخرى عن تغيير نمط حياتها منذ إغلاق
محكمة المدينة التي كانت تعمل فيها، وذلك بعد يوم واحد من "التحرير"،
وقالت: "كنت أذهب إلى عملي الساعة الثامنة صباح كل يوم، ثم أعود الساعة
الثالثة ظهراً. ثم ينتهي اليوم مع إعداد الطعام وترتيب المنزل. اليوم، لم تعد هناك
ساعات محددة لأي شخص، ولا حتى بالنسبة لزوجي الموظف في الدولة، ولا لأطفالنا".
إنها تشعر بالقلق على ابنيها نبيل (20 عاماً) وجميل (24 عاماً) اللذين اضطرا إلى
قطع دراستهما: الأول في دمشق، وقد تعرض للاعتقال فيها لمدة شهر لأنه من مدينة
الرقة، والثاني في حلب. لقد رفضا حمل السلاح أو الانخراط في السياسة بشكل يُعرضهم
للمتطرفين في المدينة، ويسعيان إلى مغادرة البلد.
تخرج
العائلة للتجول في الرقة بعد غياب الشمس وانخفاض درجة الحرارة. هناك مقاهي
الأنترنت والمحلات التجارية للألبسة النسائية بألوانها الفاقعة. شاهدنا أيضاً
سيارة بيك آب وعليها الرشاش الروسي المعروف باسم "الدوشكا"، وكان
هناك عدة رجال ملثمين بالأسود يراقبون بعض الرجال وهم يخرجون من أحد المحلات
حاملين معهم صناديق كبيرة تحتوي بعض الأجهزة والشوفاجات. قالت أم نبيل: "مرحى
لهم! إنهم يقومون بسرقة هذا الرجل الفاسد الذي هرب إلى اللاذقية بعد سقوط الرقة
مباشرة" في إشارة إلى أحد كبار تجار المدينة المقربين من النظام، والذين
جنوا ثروة كبيرة خلال السنوات الماضية عن طريق المحسوبيات والفساد.
هرب
آلاف رجال الأعمال والسلطة وموظفي الدولة خوفاً من أعمال الترهيب سواء كانوا من
الطائفة العلوية أم غيرها، ولجؤوا مع عائلاتهم إلى المنطقة الساحلية بعد سقوط
مدينة الرقة بأيدي المتمردين. أظهرت عملية الكوماندوس للرجال الملثمين في مركز
المدينة رجال الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام كقضاة بنظر بعض السكان. قال
أحد الناشطين في حركة الشباب الديموقراطيين المدنيين الناشطة جداً ضد
"داعش"، التسمية الشائعة لدى السوريين لهذه الحركة الجهادية: "من
المحتمل أنهم حصلوا على عمولتهم من التاجر لإفراغ بضاعته". بالنسبة لسكان
الرقة، يتحدثون عنهم بقولهم "الدولة"، وهي تسمية تحمل غموضاً
مثيراً للاهتمام للإشارة إلى أولئك الذي يفرضون نفسهم اليوم عن طريق الرعب بشكل
أكبر مما كان يفعله رجال النظام سابقاً. أكد المهندس الشاب (عبود) الذي اعتقلته
داعش لمدة يومين بعد مشاركته في مظاهرة ضخمة ضد الإسلاميين الراديكاليين في شهر
تموز: "لا أستطيع التأكيد كما يقول الكثيرون هنا بأنهم حلفاء للنظام، ولكن
تلاقي المصالح واضح جداً. إنهم يحاربون الحريات والديموقراطية والمجتمع المدني،
ويستهدفون الناشطين العلمانيين بشكل أساسي".
تحرك
سكان الرقة بقوة ضد المتطرفين الذين يسعون إلى تطبيق تعاليم إماراتهم الإسلامية،
ويُعبّر المعارضون هنا دوماً عن قناعتهم بأن هؤلاء الناس يعملون من أجل ومع نظام
بشار الأسد، ويقولون: "نحن نرفض فرض نظام استبدادي بدلاً من نظام استبدادي
آخر". وتتطرق المحادثات دوماً إلى "البراهين" على هذا
التلاقي في المصالح: "لم تُطلق داعش رصاصة واحدة على القوات النظامية. ولم
تتعرض مواقعهم إطلاقاً لقصف الطائرات والمدافع، على الرغم من أنهم يسيطرون على
جميع مداخل المدينة".
يُسيطر مقاتلو أحرار الشام عن تجارة الخبز في
المدينة، وهي كتيبة سلفية مسلحة، ولكنها تظهر معتدلة في السياق الحالي. وصل هؤلاء
المقاتلين من منطقة إدلب في الأيام الأولى بعد سقوط الرقة في شهر آذار، وهم
يسيطرون على جميع الأموال التي كانت موجودة في المدينة. لقد هاجموا المصارف
والإدارات العامة، وجمعوا مبلغاً قدره حوالي 17 مليار ليرة سورية (حوالي ستة
مليارات يورو). كما قاموا بنهب المباني العامة ومخازن المواد الأساسية مثل السكر
والطحين، بالإضافة إلى تفكيك المعامل والأجهزة الثقيلة وحتى النوافذ من أجل بيعها.
بهذه الطريقة، استطاعوا شراء الأسلحة والنفوذ، وبالتالي السيطرة على قطاعات واسعة
وحيوية بالنسبة للسكان. إنهم يحتكرون تجارة الطحين الذي ينقلونه ويوزعونه إلى
الأفران، ويراقبون بيع الخبز، الأمر الذي سمح لهم بالحصول على شهادة حسن الإدارة.
كما صادروا سيارات البلدية، وتحملوا عبء الخدمات العامة الأساسية مثل جمع القمامة
وسيارات الإطفاء والإسعاف بشكل أرضى السكان، كما تقوم "شرطتهم
الإسلامية" بتنظيم السير والاهتمام بالجرائم اليومية.
لا
تسقط القنابل على الرقة من السماء فقط، أو خلال اليوم فقط. تسقط القذائف أيضاً في
المساء بمعدل قذيفتين أو ثلاثة وأحياناً أكثر. هناك أيضاً السرية 17 التابعة لجيش
النظام، وتقع على مسافة خمسة كيلومترات شمال الرقة. ما زالت هذه السرية تحتل
موقعاً محصناً، ولكنه محاصراً من قبل الكتائب المتمردة. هناك حوالي 200 جندي
يتحصنون في هذا الجيب، ويحصلون على الذخيرة والطعام يومياً عبر الطائرات المروحية
التي تقوم برمي بعض المظلات البيضاء. قال (نبيل) ساخراً: "يسقط نصف علب
المرتديلا والخبز بين أيدي الرجال الذي يحاصرون الموقع، وهم سعيدون بالحصول على
الطعام على نفقة بشار". إنها نقطة المواجهة الوحيدة بين المتمردين
والنظام، وغالباً ما تكون دامية.
أعربت العائلة عن سخطها واستغرابها بعد سماعها
نبأ الاتفاق بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف حول
الأسلحة الكيميائية، وقالت (نهى ـ 35 عاماً) الأخت الصغيرة لأم نبيل: "إن
ما نريده هو العكس تماماً: تسليم بشار والحفاظ على الأسلحة الكيميائية!".
ولكن أخبار هذا الاتفاق لم تعكر مزاج معلمة المدرسة التي حققت صباح هذا اليوم
انتصاراً أكثر أهمية. كان يوم 15 أيلول يوم العودة إلى المدرسة، وجاء حوالي مئة
تلميذ من أصل ألف تلميذ في المدرسة الابتدائية التي تعمل فيها. ولكن عشرات
العلائلات كانت تنتظر هذا اليوم لتعرف فيما إذا كانت سترسل أطفالها للمدرسة، وقالت
نهى مسرورة: "سيكون عددهم أكبر غداً. من أجل تشجيعنا، قام بعض التجار
بتسليمنا صناديق مليئة بالطباشير والدفاتر والأقلام". إنها فتاة عزباء
كبيرة في السن حسب الأعراف المحلية، وتكرس وقتها من أجل أطفال المدينة. بذل
المعلمون جهودهم خلال الأسبوع الماضي لإعداد الصفوف في المدرسة التي كانت مغلقة
منذ شهر آذار، وقالت نهى: "كان اللاجئون القادمون من دير الزور ما زالوا
يشغلون بعض الصفوف، وتم نقلهم إلى مدرسة أخرى مع بقية النازحين. فيما يتعلق بالكتب
المدرسية التي وعدت بها وزارة التربية، سوف تصل قريباً. قامت مجموعة من المعلمين
بالتفاوض مع النظام من أجل الحصول عليها".
تلقت
نهى بياناً باسم "المعلمين الأحرار" يدعو إلى "احترام
التقاليد الإسلامية، وفصل الذكور عن الإناث سواء بين التلاميذ أو المعلمين،
والإلتزام باللباس الإسلامي". لا شك أن هذه الحملة قامت بها إحدى الكتائب
الإسلامية. أكدت نهى قائلة: "لن يصغ إليهم أحد!"، ولاسيما أنها ستحصل
على رواتبها المتأخرة عن الأشهر الأربعة الماضية مثل جميع زملائها. ذهب أحد
زملائها إلى الجزء الحكومي من دير الزور مع وكالات من حوالي مئة معلم لقبض
رواتبهم. كما قامت أم نبيل بتوكيل أحد زملائها الموظفين لقبض رواتبها المتأخرة.
قام البعض بتحويل هذه المهمة إلى تجارة حقيقية عبر الحصول على نسبة مئوية من
الرواتب، وقالت أم نبيل: "إنه أمر يستحق العناء، نظراً للأخطار التي
يتحملونها على الطريق مع جميع حواجز التفتيش وقطاع الطرق".
خلال
نزهة على جسر المنصور، كانت هناك لافتتان تشيران إلى اسم الجسر، الأولى موقعة باسم
الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، والثانية باسم جبهة النصرة، وكلاهما
مرتبطتان بتنظيم القاعدة. كان عدد المارة قليلاً على الكورنيش الذي تحول إلى
شارعاً للسيارات وضجيجها. بعد عشرين دقيقة من المشي، توقفت أمامنا سيارة بيك آب
عليها رشاش دوشكا. كان يوجد فيها خمسة رجال مسلحون وملتحون، نظروا إلينا بإمعان.
قال لنا أكبرهم بالسن، في الأربعينيات، بأنه تلقى تحذيراً بأننا نلتقط صوراً
لموقعهم. ابتسمت أم نبيل وأجابتهم بأننا كنا نلعب مع بعض الأطفال. اعتذر هذا الرجل
عن أنه مجبر على تفتيش هويتها لكي يتجنب أي استطلاع للأهداف من أجل الطائرات. ألقى
الرجال التحية بأدب عند رحيلهم، بعد أن أكدوا أنهم ينتمون إلى جبهة النصرة.
قيل
لنا فيما بعد ما هو سبب هذا الحذر من النساء الذين ربما تم استخدامهن كجواسيس
للنظام من أجل وضع بعض المؤشرات لمساعدة طائرات النظام. هذه هي إحدى الشائعات
المتعلقة بالشابة (إيمان ـ 19 عاماً) التي قُتلت قبل عدة أيام عند خروجها من أحد
مقاهي الأنترنت برصاص شخصين ملثمين في سيارتهما. عاشت هذه الفتاة الجميلة عدة أشهر
في الرقة، وكانت تُقدم نفسها على أنها ناشطة كردية، وأحياناً أخرى ناشطة إعلامية،
أو حتى لاجئة فقدت عائلتها في حمص. كانت تتردد على مجموعات الشباب المعارضة
سياسياً ومختلف الكتائب المحلية التابعة للجيش السوري الحر، وربما قدمت بعض
خدماتها إلى عدد منها. لقد تعرضت العديد من المواقع التي زارتها إلى القصف بعد
خروجها منها. تتركز الأحاديث على قصة إيمان، وأصبح اغتيالها في وسط الشارع موضوعاً
لنقاشات حادة داخل العائلة. قال نبيل إلى والده المحامي: "مهما كانت
الانتقادات الموجهة إليها، كان يجب محاكمتها أو الكشف علناً عن الاتهامات الموجهة
إليها على الأقل". ولكن والده رد بعصبية بسبب "إعطاء هذه الفتاة
الكثير من الأهمية، لأن الجميع يعرف أخلاقها الفاجرة، وذلك في الوقت الذي يموت فيه
الأبرياء يومياً تحت القنابل". لا يمكن زعزعة تصميم أبو نبيل حول أولوية
المعركة ضد النظام، وقال: "ليست هناك أية فرصة أمام الإسلاميين لفرض
أنفسهم في الرقة. إن المجتمع بأكمله يرفضهم. كما أننا نذهب إلى الجامع أقل فأقل
منذ وصولهم إلى هنا. يجب عدم ارتكاب الخطأ بتحديد العدو. إذا سقط النظام، سيتم
القضاء عليهم خلال عدة أيام أو عدة أسابيع".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق