الصفحات

الأحد، ٢٠ تموز ٢٠١٤

(من الانسجام إلى التكبر، نقاط قوة وضعف العالم الغربي)

صحيفة اللوموند 18 تموز 2014 ـ مقابلة مع ريجيس دوبريه Régis Debray ـ أجرى المقابلة نيكولا ترونغ Nicolas Truong

     ريجيس دوبريه، روائي ومفكر وفيلسوف وكاتب فرنسي (74 عاماً)، وهو مدير المعهد الأوروبي للعلوم الدينية منذ عام 2005. كان ناشطاً ثورياً، وانضم إلى معركة فيدل كاسترو وتشي غيغارا، واعتقل في بوليفيا أربع سنوات بين عامي 1967 و1971. كان مستشاراً للرئيس فرانسوا ميتران بين عامي 1981 و1988. صدر آخر كتاب له بالتعاون مع الفيلسوف الصيني زهاو تينغيانغ Zhao Tingyang بعنوان: (من السماء إلى الأرض. الصين والغرب).
سؤال: ماذا تعني كلمة الغرب؟
ريجيس دوبريه: الغرب هو منطقة ومنظمة ومشروع في آن واحد. تغطي هذه المنطقة الفضاء الأوروبي ـ الأطلسي، أي ما كان يطلق عليه في الماضي "العالم الأول" مقابل "العالم الثاني" في الكتلة الشيوعية والعالم الثالث. إنه المنطقة المسيحية باستثناء العالم الأورثوذوكسي. الغرب هو منظمة سياسية ـ عسكرية أيضاً، أي حلف شمال الأطلسي وهو منظمة هجومية وتوسعية، وكما قال ديغول: "الحلف الأطلسي هو أداة الهيمنة الأمريكية". لم يعد هذا الحلف مرتبطاً بشمال الأطلسي فقط على الرغم من اسمه، باعتبار أنه يعمل في أفريقيا وآسيا الوسطى، أي ما كان يسمى "خارج المنطقة". أخيراً، الغرب هو مشروع وإرادة بتحديث العالم بأسره حسب المفهوم الذي يعطيه للحداثة، أي ذلك الخليط من السوق الحر والفردية في أقصى أشكالها ـ الفرد الملك بدون التقاليد والانتماء الذي يكبل المستهلك ـ والإدارة الرشيدة التي تعني فن الحكم بدون ممارسة السياسة، وبالتالي، إدارة الدول كما تُدار الشركات. الغرب ليس مؤامرة بل حلم طوباوي وجنون يقف وراء النزعة الغربية لحكامنا ووسائل إعلامنا، إذا كان بالإمكان التمييز بين الحكام ووسائل الإعلام اليوم.
سؤال: هل وُلد الغرب في العصور الوسطى مع قدوم المسيحية وولادة الجامعات وازدهار المدن كما يقول المؤرخ جاك لوغوف Jacques Le Goff؟
ريجيس دوبريه: نعم. المسيحية في العصور الوسطى هي الشكل الكامل للغرب، وحتى في حروبها الصليبية ضد  المسلمين. أعتقد أن الغرب وُلِد في اليوم الذي صعد فيه بيترارك Pétrarque (شاعر إيطالي عاش بين عامي 1304 م و1374 م) إلى جبل فونتو Ventoux (ارتفاعه 1911 متر في جبال الألب الفرنسية). لأن الغرب هو الفكرة التي تقول بأنه يجب الانتقال من التأمل إلى الهيمنة على العالم، وبالتالي لا يكتفي بمراقبة جبل أولمب كما كان يفعل اليونان، بل يتسلقه أيضاً. إن هذا المشروع بالتدخل هو الذي حوّل الزمان إلى تاريخ محدد، وحوّل المكان إلى تُخوم يجب غزوها، الأمر الذي ساهم في تطوير "الروح الفاوستية" (âme faustienne) التي لا توجد حدود لطموحاتها. يتمثل شعار الألعاب الأولمبية بالمقولة التالية: أكثر سرعة وأكثر ارتفاعاً وأكثر قوة. يجب أن تكون في المرتبة الأولى والبطل قبل الآخرين، ويجب قياس كل شيء.
سؤال: لماذا يجري الحديث حالياً عن انحطاط الغرب؟ إن فكرة انحسار القوة ليست جديدة منذ أفلاطون حتى أوزفالد سبينغلر Oswald Spengler (فيليسوف ألماني عاش بين عامي 1880 و1936)...
ريجيس دوبريه: إن فكرة أوزفالد سبينغلر هي أن الإرادة بغزو العالم تفترض أن نبيع روحنا إلى الشيطان، أي إلى الآلة. إن هذه النظرية هي فرضية عمل بالنسبة لنا: العلماء في العصور القديمة يتأملون العالم، والعلماء العرب يبحثون عن الوصفة السحرية التي ستسمح لهم بالحصول على الكنوز بدون أن يتحركوا كثيراً، والعلماء الغربيون أصبحوا مهندسين. اخترع الشرق البارود، واستخدمه من أجل الألعاب النارية. أما الغرب، فقد استفاد من البارود لصنع المدافع. ينطبق ذلك على البوصلة أيضاً، فقد اكتشف الغرب القارة الأمريكية. إن الغرب هو الذي يعرف الانتقال من المعرفة إلى التقنية. تنبأ أوزفالد سبينغلر بأن الطبيعة ستتمرد في النهاية، وظهر علم البيئة فيما بعد. ولكنه أخطأ في نقطة واحدة: لم يلاحظ أن الروح الفاوستية يمكن أن تصبح عالمية، وأن الهند والصين بإمكانهما الحصول على مهندسين وتقنيين وبراءات اختراع صناعية يوماً ما.
سؤال: متى استعادت كلمة الغرب مركزيتها مرة أخرى؟
ريجيس دوبريه: شهدنا في عام 2000 تقريباً انبعاث كلمة الغرب مرة أخرى بعد اختفائها منذ الحرب العالمية. كان يجري الحديث سابقاً عن أوروبا وتجمع الأمم، ثم جاء الغرق الديموغرافي وإغلاق المعامل وتلوث البيئة وانعدام الإيمان بهذا النموذج للنمو ليعلن عن قدوم ساعة الحنين إلى المجد المفقود.
سؤال: لماذا هذا الهاجس؟
ريجيس دوبريه: إن تخلي أوروبا عن تحديد شخصية خاصة بها وعن تحديد حدودها اضطرها إلى إيجاد وسيلة لتمثيل نفسها ولتقديم نفسها إلى الآخرين. أن تكون أوروبا سوقاً كبيرة فقط، ليس أمراً يدعو للفخر كثيراً. بالمقابل، يفرض الغرب هذا الفخر واعتاد عليه. تخلت الجمهورية الفرنسية عن نظام قيمها وعن استقلاليتها الدبلوماسية، وعادت مرة أخرى إلى قيادة منظمة حلف شمال الأطلسي. إنه قرار ثانوي، ولكنه يرمز للرئيس الديغولي ـ الجمهوري نيكولا ساركوزي، ثم صادق عليه شبيهه فرانسوا هولاند. وهكذا عدنا إلى "العائلة الغربية". إن هذا الموت التاريخي لجان جوريس Jean Jaurès (رجل سياسة فرنسي اغتيل في باريس عام 1914) وشارل ديغول أعطى لهذا الاستسلام معنى العودة إلى الوضع الطبيعي.
سؤال: لا يمكن فرض النفس إلا عبر المعارضة. ما الذي يعارضه الغرب؟
ريجيس دوبريه: إنه يعارض الشيطان. تغير اسم الشيطان خلال القرون الماضية: كان اسمه الملحد البيزنطي ثم المسلم في العصور الوسطى (Sarrasin) ثم العثماني ثم البرابرة ثم الشيوعية الستالينية وأخيراً الإسلاموية. إن الإشارة الغامضة قليلاً إلى الغرب تمنحه ميزة التناقض الضمني بدون سيئات الجدل المفتوح. إنه شكل للمعارضة بدون قول ماذا نعارض، ولكنه يقول كل شيء في الوقت نفسه.
سؤال: تبنت مجموعة يمينية متطرفة في فرنسا خلال سنوات الستينيات اسم الغرب من أجل الدفاع عن إيديولوجيتها. كتب الكاتب التشيكي ميلان كونديرا Milan Kundera مقالا هاماً عام 1983 حول الفكر المعارض بعنوان: (الغرب المخطوف). كيف يمكن تفسير الاستخدام المتعارض والمتناقض للكلمة نفسها؟
ريجيس دوبريه: إن قوة مفهوم الغرب تكمن في غموضه. هناك الغرب الذي يحمل القيم الإنسانية، ولنقل أنها قيم يسارية مثل: تحرير العقل والحقوق العالمية والمساواة بين الجميع. وهناك عنصرية حضارية (أي أنا الذي أقول ما هو القانون لأنني الأكثر قوة). ظهر بيان عام 1934 بعنوان: "من أجل الدفاع عن الغرب" لدعم  العدوان الإيطالي على إثيوبيا، وينادي بشرعية الدول الغربية في الاحتلال باسم التفوق الوجودي (Supériorité ontologique). ظهر بيان آخر للرد عليه بتوقيع فرانسوا مورياك Francois Mauriac (كاتب فرنسي عاش بين عامي 1885 و1970) وآخرين. إنه دليل على أنه يجب فصل ما هو مفيد عما هو ضار. على أي حال، إن قيام بعض الجهات التي يُفترض انها يسارية باستعادة موضوع الدفاع عن الغرب يمثل تغيراً مفاجئا وغريبأً للأشياء.
سؤال: ما هي نقاط قوة الغرب؟
ريجيس دوبريه: أولاً، تماسك غير مسبوق تحت قيادة واشنطن بموافقة الجميع. الغرب هو التجمع الوحيد أحادي القطب في عالم متعدد الأقطاب. لن يقبل أي صيني أبداً أن يُمثله أحد الهنود، والعكس صحيح. وكذلك الحال بين الأرجنتيني والبرازيلي أو بين النيجيري و جنوب الإفريقي. الغرب ليس لديه إلا رقم هاتف وحيد في حال الأزمة هو البيت الأبيض. ثانياً، احتكار ما هو عالمي: الغرب هو المكان الوحيد في العالم القادر على تمثيل مصالحه الخاصة كمصالح للإنسانية بشكل عام. إن التعبير الأكثر سمواً للضمير العالمي هو منظمة الأمم المتحدة الموجودة في نيويورك، أي في مركز القوة العظمى الوحيدة التي تملك قواعد عسكرية في القارات الخمسة. شخصياً، أنا أفضل أن يكون مقر منظمة الأمم المتحدة في مدينة القدس المقدسة باعتبارها تمثل الحدود بين الشرق والغرب.
ثالثاً، الغرب هو أيضاً مدرسة لكوادر العالم. ليس هناك مهاجرون أمريكيون في العالم، ولكن الولايات المتحدة تستقطب 42 مليون مهاجر، ولديها أطفال بالتبني في جميع أنحاء العالم، وحتى أبناء القادة الصينيين يرسلون أبناءهم لتعليمهم في شركاتها وجامعاتها. الولايات المتحدة هي متعددة الهويات من جميع أنحاء العالم، وهي حالة فريدة من نوعها. رابعاً، توحيد الوعي الإنساني بكل تنوعاته، وهذا ما يسمى أيضاً بـ "القوة الناعمة" (Soft power) التي تمثل نوعاً من تشكيل الأحلام الخيالية للعالم بأسره.
سؤال: إذاً، انتصر الغرب في معركة الهيمنة الثقافية على الرغم من زوال الاستعمار والعالم متعدد الأقطاب؟
ريجيس دوبريه: انتصر الغرب في الحرب الباردة عبر موسيقى الجاز وفرقة البيتلز والصدور العارية وعبر القوة المالية والعسكرية. اليوم، إن أول عشرة شركات عالمية للدعاية هي شركات غربية، كما تمثل جوائز نوبل للسلام وبراءات الاختراع تفوقاً هائلاً. لا يمكن اختزال موازين القوى بالقوة المادية والعددية. إن تحول الصين إلى القوة الاقتصادية الأولى في العالم في عام 2030، كما كان عليه الحال عام 1830، لا يعني أنها ستصبح القوة الأولى المهيمنة في العالم. الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى مؤسسات ثقافية في العالم. انهزم الجنود الأمريكيون في فييتنام، ولكن كوكا كولا هي التي انتصرت في الحرب. الهيمنة هي عندما تكون ليست فقط مقبولة بل ومرغوبة أيضاً من قبل المُهيمَن عليهم. كان نيكولا ساركوزي فخوراً بارتدائه قميصاً عليه أحرف شرطة نيويورك (NYPD)، وكان فرانسوا هولاند فخوراً عندما وضع أوباما يده على كتفه.
سؤال: ما هي نقاط ضعف الغرب؟
ريجيس دوبريه: أولاً، جنون العظمة. هناك جهل متعجرف بالعالم الخارجي: يُقال في الولايات المتحدة: "الغرب والبقية" (The West and the Rest). احتاج الغرب إلى ثماني سنوات لكي يفهم أن قواته كانت تحتل أفغانستان. ثانياً، ضياع المُقدس ونكران التضحية: قُتِلَ ستة وعشرون ألف جندي فرنسي يوم 26 آب 1914، ولم يخرج الرئيس الفرنسي آنذاك ريمون بوانكاريه Raymond Poincaré من مكتبه. كان ذلك طبيعياً. اليوم، يُقتل جندي في مالي، ويصبح ذلك مأساة. تغيرت علاقتنا مع الموت جذرياً، وهذا هو السبب في البحث عن حرب بدون قتلى وعن الطائرات بدون طيار. المُقدس هو الذي يفرض التضحية ويمنع تدنيس المقدسات. لا يوجد أوروبيون مستعدون للموت من أجل أوروبا. حافظ الشرق على معنى المُقدس، وبالتالي على التضحية، وهذه هي نقطة قوته.
سؤال: ولكن تسعة أمريكيين من أصل عشرة يؤمنون بالله، وحتى جلسات مجلس الشيوخ الأمريكي تُفتتح بالصلاة. أليست الولايات المتحدة هي مكان المُقدس الغربي؟
ريجيس دوبريه: نعم. إن ديانتها التوراتية ـ الوطنية جعلتها أمة ملتحمة ومُغلقة ومُهيمِنة ومبنية بشكل عمودي. إن المعادلة الوطنية فيها هي التحالف بين الدولار والله والحداثة العلمية والميتافيزيقيا البالية. ينطبق ذلك على الولايات المتحدة وإسرائيل التي ليست مستعمرة بل البلد الذي يرمز للولايات المتحدة بصفتها الأرض الموعودة.
سؤال: الغرب هو هيمنة الحاضر أيضاً؟
ريجيس دوبريه: هذه هي نقطة ضعفه الكبرى. يجري التفكير والحكم على وتيرة نشرة أخبار القناة الأولى TF1 التي تريد أخباراً خاطفة وآنية. يعيش "الأعداء" في زمن أطول. إن ذاكرة المُهانين أقوى من ذاكرة أسيادهم دوماً، لأننا نتذكر الصفعات التي تلقيناها أكثر من الصفعات التي نوجهها. إن كلمة المُهانين الأولى هي المقاومة. لننظر إلى العراق وأفغانستان وليبيا، لقد عُوقب الجنون بشكل كبير. وأكثر من ذلك، أدى تدمير الدول الوطنية إلى انتشار الحق المزعوم بالتدخل في الشؤون الداخلية من قبل الدول المُخلة بالنظام. على المدى القصير، نحن نتكبر. على المدى الطويل، سنرحل. يُطرح دوماً السؤال المتعلق بالفترة التالية، وليس لدينا جواب على ذلك. بافتراض أن إسرائيل قادرة على تدمير حماس، فإنها ستواجه منظمات أكثر راديكالية بكثير ولا يمكن الاتصال معها.
سؤال: ألا تنسون الخصوصية الغربية المتمثلة في الانتقاد والشك الدائم، الأمر الذي جعلها استثناءاً في الوقت الذي تعود فيه المذاهب التقليدية المتمسكة بصحة معتقداتها؟
ريجيس دوبريه: أنتم محقون، إن الابتعاد عن الذات والتمرد النقدي هما ميزتنا الأساسية. ولكن في كل مرة يُطلب فيها من الغرب أن يحاسب نفسه، فإنه يُلوح بقيمه. يختلف الوضع مع الإسلام: نتحدث عن تصرفات المتطرفين في الإسلام، ولكن لا نتحدث عن قيم الإسلام.
سؤال: ألا تتسرعون في إفراغ الثقافة الأوروبية من مضمونها، وهي ما زالت حية، ولم تتوقف عن مساءلة تقاليدها بشكل يُغذي الاحتجاج ضد هيمنتها؟
ريجيس دوبريه: أنا مستعد للقتال من أجل الغرب الذي يتمثل بفلاسفة عصر النهضة مثل ميشيل دو مونتين Michel de Montaigne والباحث الفرنسي بعلم الأجناس والأعراق كلود ليفي ستروس Claude Lévi-Strauss (1908 م ـ 2009 م) والمفكر والمؤرخ السياسي الإسرائيلي زيف ستيرنيل Zeev Sternhell (أستاذ في الجامعة العبرية بالقدس). يجب الدفاع عن الغرب المُتمثل بعلماء الأجناس والأعراق وبحب الاطلاع وبالشجاعة الحضارية، أي الغرب الذي يعترف بوجود الآخر. إنه هذه المساحة من العالم التي يُسمح فيها بالشك. نحن لدينا الميزة المتمثلة بالقدرة على امتصاص النقد السلبي. عندما يكون لدينا منشق، نقوم بإشراكه ودمجه. انظروا كيف جعلنا من دانييل كون بينديت Daniel Cohn-Bendit (رجل سياسي يساري فرنسي، كان عضواً في حزب الخضر وعضواً في البرلمان الأوروبي، واعتزل العمل السياسي بعد الانتخابات الأوروبية الأخيرة في شهر أيار عام 2014) أهم الشخصيات في أوروبا الليبرالية الجديدة!
سؤال: هل يمكن فصل هذا الغرب الثقافي عن الغرب السياسي؟
ريجيس دوبريه: يبدو لي أن الغرب الثقافي هو شاهد النفي للغرب السياسي. إنه شاهد النفي للإرادة بالهيمنة المنافقة والغبية. صحيح أن أوروبا السياسية هي أوروبا التشاور وليس أوروبا القرار. يوجد بالتأكيد نقاط اتصال بين الجامعات والحكومات، ولكن العامل الثقافي يتضاءل جداً للأسف.  انتصر المال في هذه الجولة.
سؤال: فيما يتعلق بمقولة الفيلسوف الألماني هيغل Hegel (1770 م ـ 1831 م) المشهورة حول نابليون عندما قال أنه شاهد مرور "روح العالم على الحصان"، أليس هناك أي أساس لهذه المقولة؟ ألا توجد قيم عالمية تفرض نفسها بالقوة أو حتى بالغزو؟
ريجيس دوبريه: لا. إن كل ما يفرض نفسه بالقوة يتسبب بظهور مقاومة واللجوء إلى القيم المضادة. هذا هو سبب انبعاث الإسلاموية إلى حد ما: إنه ردة فعل لتحصين الهوية. لا يمكن مهاجمة الإيمان وشهر رمضان والممنوعات الثقافية دون أن يكون هناك ردة فعل على ذلك.
سؤال: يبدو أن أعداء الغرب أصبحوا واضحين: الإسلام الراديكالي والجهادية. إنه صدام جديد بين الحضارات؟
ريجيس دوبريه: الغرب لديه مشروع عالمي منذ أن أصبح مسيحياً. قال القديس يوحنا: "إذهبوا وعلّموا جميع الأمم". جاء بعده دين آخر عالمي أيضاً مع إله واحد: الله. يملك الدين الأول الوسائل اللازمة لتحقيق أهدافه، أما الدين الثاني فلا يملكها. الجهاد العالمي هو تصور خيالي خادع (Fantasme). إن ما يبحث عنه الطالبان الأفغان هو مجرد عدم غزو وديانهم، ولا يريدون تغيير دين العالم بأسره. لقد جعلنا من الإسلام كلمة تتضمن العديد من المفاهيم المختلفة حسب الشخص الذي يستخدمها، ونجمع فيها القاتل والمقتول معاً. إن الانقسام بين الشيعة والسنة يُذكّر بالانقسام بين البروتستانت والكاثوليك في القرن السادس عشر، ولكن لم يعد له مقابل لدينا في القرن الواحد والعشرين. لا توجد أية عاصمة سنية أو شيعية تتبنى نظرية الجهاد العالمي. توجد نزعة "عالمية غربية"، ولا توجد نزعة "عالمية إسلامية".
سؤال: لم تتوقف الدول الغربية عن التنظير للتدخل العسكري أو الإنساني منذ الفيلسوف ورجل الدين توما الإكويني (1225 م ـ 1274 م). ألا توجد حرب عادلة؟
ريجيس دوبريه: إن كل بلد يشن حرباً يعلن أنها حرباً عادلة. لنقتدي بجان جوريس حول هذه النقطة: الحرب العادلة هي حرب الدفاع الوطني. إن أي شعب يبدأ المقاومة عندما يتعرض للاحتلال أو للاعتداء من قبل شعب آخر. ولكن الذهاب لاحتلال بلد بعيد لم يعلن الحرب عليك يعني الاستعمار الذي حظي دوماً بغطاء إنساني.
سؤال: هل نحن في طور مشاهدة تحول العالم إلى قبائل (Tribalisation) بدلاً من صدمة الحضارات؟
ريجيس دوبريه: اعتقدنا خلال فترة طويلة أننا سنخرج بشكل مُشرّف من عالم الدول القومية إلى عالم المنظمات العالمية، ولكننا نكتشف أننا نخرج بشكل مُهين إلى القبيلة. نرى اليوم عودة الأحزاب البالية المبنية على العرق والدين. حان الوقت لإعادة الأفكار القديمة والجميلة التي وُلِدت في الغرب مثل المواطنة، والدول القائمة على قانون للجميع وليس على أصل هذا الطرف أو ذلك، أو حتى على العلمانية التي تمثل مفهوماً يمكن تصديره نظرياً، وهي مفهوم ضروري للبقاء. على سبيل المثال، لن نسلك طريق العلمانية عندما نرى الصهيونية العلمانية للمؤسسين الأوائل تتحول إلى قومية دينية. ينطبق ذلك على فلسطين التي لم تعد أولويتها تتمثل في الكفاح السياسي لحركة فتح، وأصبحت تابعة لإسلاميي حماس. كما أصبحت الهند هندوسية مرة أخرى، وأصبح البعض الآخر مرة أخرى بوذيين يحملون السلاح. إذا كانت فرنسا ما زالت تملك القليل من استقلالية الفكر، فبإمكانها تذكير الغرب وأنصاره بمبادئها الثقافية الأساسية بدلاً من دفن الرأس في الرمل، ولاسيما في الشرق الأوسط.
سؤال: إذاً، لم يعد الغرب مكاناً لـ "خيبة أمل العالم"؟

 ريجيس دوبريه: اخترع هذا التعبير عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر Max Weber (1864 م ـ 1920 م) الذي راهن على عقلنة المجتمعات وإبعاد الأديان والمعتقدات. من المؤكد أنه هناك خيبة أمل في فرنسا أو بلجيكا، ولكن أوروبا الغربية أصبحت على الهامش وليس في مركز المصير الإنساني. يجب تصور فكرة أن التحديث هو انكفاء وأن العولمة هي بلقنة. كلما تماثل العالم مع بعضه البعض عبر التقنية والاقتصاد، كلما ازداد حاجته إلى البحث عن الهويات الضائعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق