الصفحات

الثلاثاء، ١ تموز ٢٠١٤

(هل يمكن أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟)

صحيفة الفيغارو 30 حزيران 2014 بقلم مراسلها في لندن فلورانتان كولومب Florentin Collomp

     بدأ التوجه الجارف الذي قد يجر بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي. يتفق مؤيدو أوروبا والمشككون بها على الملاحظة التالية: إن كل أزمة بين حكومة دافيد كاميرون وبروكسل تدفع بالبلد خطوة إضافية نحو الهاوية. يُعبّر المؤيدون عن قلقهم من هذه الهاوية، ويُعبّر المشككون عن سرورهم منها.
     ما هي احتمالات سيناريو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (BREXIT اعتبر مدير مركز دراسات Open Europe ماتس بيرسون Mats Persson أن احتمال هذا السيناريو  هو: 15 %، ويمكن أن ترتفع هذه النسبة بعد انتهاء القمة الأوروبية يوم الجمعة 27 حزيران وتسمية جان كلود جونكر Jean-Claude Juncker رئيساً للمفوضية الأوروبية على الرغم من المعارضة الشديدة من قبل رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون. سيكون ذلك نتيجة سلسلة متوالية من الأحداث. يفترض ذلك أولاً أن تتم إعادة انتخاب دافيد كاميرون وحزب المحافظين في شهر أيار 2015. لقد وعد رئيس الوزراء البريطاني في حال فوزه بهذه الانتخابات بإجراء استفتاء شعبي حول بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي قبل نهاية عام 2017. حتى يحين موعد هذا الاستفتاء، يطمح دافيد كاميرون إلى "إعادة التفاوض" حول صيغ العلاقة بين لندن وبروكسل وإصلاح عمل الاتحاد الأوروبي في الاتجاه الذي يتوافق مع المصالح البريطانية، أي: ضوابط أقل وتدخل أقل في الشؤون الداخلية وتعاون أقل، وسيكون الوضع المثالي بالنسبة له أن يكون الاتحاد الأوروبي مجرد سوق مشتركة مع تعزيز قطاع الخدمات. كما ينوي دافيد كاميرون الحد من حرية تنقل مواطني الدول التي انضمت حديثاً إلى الاتحاد الأوروبي بانتظار أن تتمكن هذه الدول من الوصول إلى حد معقول لمستوى الدخل فيها. يعني ذلك أن برنامجه بعيد جداً عن برنامج الرئيس الجديد للمفوضية الأوروبية جان كلود جونكر وبقية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
     لهذا السبب تعتبر بريطانيا أنه كلما تضاءلت فرص تلبية المطالب البريطانية، كلما ازدادت احتمالات خروجها من الاتحاد الأوربي. اعتبر مدير مركز دراسات Center for European Reform تشارلز غرانت Charles Grant أن خطة كاميرون "يبدو أنه محكوم عليها بالفشل". كان رئيس الوزراء البريطاني يقول حتى فترة قريبة أنه يريد القيام بحملة انتخابية من أجل البقاء في أوروبا بعد إصلاحها، ولكنه لم يعد يستبعد احتمال العمل من أجل الخروج منها. إن ضغوط الحزب القومي البريطاني UKIP الذي فاز في الانتخابات الأوروبية مؤخراً، وضغوط حوالي ثلث النواب المحافظين المعارضين لأوروبا، بالإضافة إلى الانتقادات المستمرة في وسائل الإعلام التي تؤيد في أغلبيتها هذا التوجه، يجعل من الصعب جداً إسماع صوت الحجج الداعية إلى البقاء في الاتحاد الأوروبي. لا يتطرق حزب العمال البريطاني إلى هذه الموضوع قدر الإمكان توخياً للحذر. فيما يتعلق بالحزب الليبرالي ـ الديموقراطي (تيار الوسط) المؤيد لأوروبا، فقد تعرّض إلى هزيمة قاسية على الصعيد الانتخابي. إذاً، من المحتمل جداً أن يصوت الشعب البريطاني، غير المتحمس أصلاً لأوروبا، للخروج من الاتحاد الأوروبي بعد سلسلة من الخلافات مع بروكسل، وتترافق هذه الخلافات بانتقادات مستمرة ضد أوروبا.
     ماذا يمكن أن تكسب بريطانيا من خروجها؟ ستكون بريطانيا أول دولة تستخدم المادة 50 من اتفاقية لشبونة التي تسمح للدولة العضو باستخدام "بند" الخروج من الاتحاد الأوروبي بعد فترة انتقالية مدتها سنتين. إن الفائدة الأولى لبريطانيا بعد خروجها هي توفير مساهمتها المالية السنوية في الموازنة الأوروبية وقدرها ثمانية مليارات جنيه استرليني تقريباً (عشرة مليارات يورو)، أي ما يعادل 0.5 % من إجمالي الناتج المحلي البريطاني. كما سيؤدي خروجها من السياسة الزراعية الأوروبية (40 % من الموازنة) إلى تخفيض أسعار المنتجات الزراعية البريطانية، ولكنه يهدد بخطر إلحاق الضرر بالمزارعين في ويلز وشمال إيرلندا الذين يستفيدون من السياسة الزراعية الأوروبية بشكل كبير.
     بالإضافة إلى السبب المالي، إن السبب الأساسي لدى مؤيدي سيناريو الخروج من الاتحاد الأوروبي يكمن في إرادتهم بالتخلص من ترسانة الأنظمة والقوانين الأوروبية. يعتبر الباحثون السياسيون المؤيدون لهذا التوجه أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعني استعادة البرلمان البريطاني لسيادته التشريعية التي تراجعت بنسبة 70 % بسبب القوانين القادمة من بروكسل. تعتبر بريطانيا أن هذا الوضع يُعرقل نموها الاقتصادي وحرية التجارة فيها بسبب الأنظمة والقوانين التقنية والاجتماعية والبيئية والقوانين المتعلقة بالمنافسة، وتعتبر بريطانيا أن هذه الأنظمة والقوانين مُضرة وعديمة الفائدة.
     يريد المشككون بأوروبا أيضاً استعادة السيطرة على الحدود. يتركز الجدل حول حرية إقامة مواطني الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي مثل بولونيا سابقاً ورومانيا حالياً. فشل دافيد كاميرون في تحقيق هدفه المتمثل بتخفيض عدد المهاجرين إلى النصف، وعجز عن الوقوف في وجه المواطنين الأوروبيين الذين يمثلون أكثر من ثلث المهاجرين. بالمحصلة، يعمل مؤيدو سيناريو الخروج من الاتحاد الأوروبي للتخلص من قيود القارة الأوروبية العجوز ومن الركود المتغلغل في منطقة دول اليورو ومن أزمات دول الجنوب، وينشطون من أجل تعميق العلاقات مع الدول الصاعدة (الصين والهند والبرازيل...) والشركاء التقليديين في دول الكومنولث والولايات المتحدة. أشار تقرير حصل مؤخراً على الجائزة الرسمية جداً "Prix Brexit" لمعهد الشؤون الاقتصادية Institut of Economic Affairs إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بشكل منظم يمكن أن يؤدي إلى زيادة اجمالي الناتج المحلي البريطاني بنسبة 1.1 %. ولكن هذا التقرير اعتبر أن الربح الأكثر احتمالاً هو زيادة قدرها 0.1 % من اجمالي الناتج المحلي البريطاني. أما الخروج بشكل عشوائي من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يؤدي إلى تراجع النشاط الاقتصادي بنسبة 2.6 %.
     ماذا يمكن أن تخسر بريطانيا من خروجها؟ يكمن الخطر الأساسي للخروج من الاتحاد الأوروبي بمستقبل التجارة الخارجية والجاذبية الاقتصادية لبريطانيا. تصدر بريطانيا أكثر من نصف صادراتها إلى دول الاتحاد الأوروبي، أي حوالي 15 % من إجمالي الناتج المحلي البريطاني. ستخسر بريطانيا أوتوماتيكياً المنفذ إلى السوق الأوروبي، وأرباح الاتفاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والدول أو المناطق التجارية الأخرى. أشارت دراسة أجرتها مدرسة الاقتصاد في لندن London School of  Economics إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكلفها ما بين 1.1 % و3.1 % من إجمالي الناتج المحلي فيها. يمكن أن تصل هذه الخسارة إلى 9.5 % من إجمالي الناتج المحلي مع إضافة الخسائر الناجمة عن تراجع الانتاجية. يمكن تشبيه هذا السيناريو الأسود بآثار الأزمة المالية عام 2008. أشارت دراسة أجرتها وزارة الخزانة البريطانية إلى أن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيهدد 3.3 مليون فرصة عمل في بريطانيا بشكل مباشر.
     أكد مركز دراسات Center for European Reform في دراسة معمقة لنتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قائلاً: "إن الانضمام إلى أوروبا عزز التجارة والاستثمارات في بريطانيا التي كانت المستفيد الأول من الاستثمارات الخارجية المباشرة القادمة من خارج دول الاتحاد الأوروبي بحثاً عن قاعدة لها في السوق الأوروبية الموحدة. إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيجعلها مكاناً أقل جاذبية للشركات التي ترغب بالتجارة مع بقية الدول الأوروبية". أعلنت العديد من شركات صناعة السيارات مثل الشركة اليابانية نيسان وشركتي جاغوار ولاندروفر (اللتين تملكهما شركة Tata الهندية) أنها ستتردد في الاستثمار في بريطانيا في حال خروجها من الاتحاد الأوروبي.
     هل يمكن أن يبقى المركز المالي في لندن (La City) عاصمة للمراكز المالية الأوروبية؟ تجري 74 % من مبادلات العملات الأوروبية  و40 % من الصفقات التجارية باليورو في المركز المالي في لندن. أشار مركز The City UK إلى أن المركز المالي في لندن يحتوي على 85 % من أموال صناديق المضاربة ونصف إيداعات التأمين في القارة الأوروبية، واعتبر في تقرير صدر مؤخراً أن "سيناريوهات الخروج من الاتحاد الأوروبي تُهدد بإضعاف الخدمات المالية البريطانية بسبب التغيرات غير المتوقعة ومحدودية الدخول إلى الأسواق الأوروبية وتراجع نفوذ المركز المالي في لندن". يعارض 85 % من قادة القطاع المالي الذي يضم 250 مصرفاً أجنبياً خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لم يخف المصرف الأمريكي غولدمان ساكس Goldman Sachs قلقه من هذا الاحتمال، وحذر نائب رئيس المصرف مايكل شيروود Michael Sherwood قائلاً: "سيؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تشتيت نشاطنا". سيتأثر المركز المالي في لندن حتماً بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وسيتم نقل بعض خدماته إلى باريس أو فرانكفورت. يتصور المشككون بأوروبا أن مستقبل المركز المالي في لندن سيكون شبيهاً بالمركز المالي في سنغافورة الذي لا يخضع لعبء الأنظمة والقوانين الأوروبية، ولكن أغلبية المؤسسات المالية تعتبر أن حرية دخول رؤوس الأموال الأوروبية أكثر أهمية من القيود المفروضة من قبل بروكسل.
     ما هو الدور المستقبلي لبريطانيا في حال "استقلالها"؟ إن مصير بريطانيا في حال خروجها من الاتحاد الأوروبي سيعتمد على نوع العلاقة التي ستبنيها بريطانيا مع الاتحاد الأوربي. من الممكن أن تختار بريطانيا الانضمام إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية كما هو الحال بالنسبة للنرويج، أو التوقيع على مجموعة من الاتفاقات الثنائية مع الاتحاد الأوروبي كما هو الحال بالنسبة لسويسرا. يعتبر معارضو سيناريو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن مثل هذين الاحتمالين يعني تحمل جميع القيود الأوروبية دون أن تتمكن بريطانيا من التصويت على القرارات الأوروبية. من الممكن أيضاً أن تُفضّل لندن التوقيع على اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي كما هو الحال بالنسبة لتركيا، أو التوقيع على اتفاق تجاري مشترك. أخيراً، من الممكن أن تجد بريطانيا نفسها خاضعة لنظام منظمة التجارة العالمية، الأمر الذي سيفرض رسوماً جمركية على بضائعها بنسبة تتراوح بين 5 % و15 % بشكل يؤثر على تنافسيتها. إن جميع هذه الحلول لا تمثل حلاً مثالياً. يجب على بريطانيا أيضاً إعادة بناء علاقاتها التجارية مع جميع الدول التي تشملها الاتفاقات التجارية الأوروبية. يعتبر مؤيدو سيناريو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن هذه العقبات لن تمنع بريطانيا من استعادة مكانتها في التجارة الدولية كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة وكندا واستراليا.
     أخيراً، إن السؤال المطروح هو التأثير السياسي لبريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي. يحلم المشككون بأوروبا الذين يشعرون بالحنين إلى عظمة الامبراطورية البريطانية بازدهار جديد. يتمتع البعض بواقعية أكبر مثل زعيم المحافظين البريطانيين في البرلمان الأوروبي ساجاد كريم Sajjad Karim الذي يخشى من خطر إضعاف بريطانيا على الساحة الدولية. إذا أضفنا إلى ذلك مسألة الانفصاليين الإسكتلنديين، فإن التشكيك بانتمائها الأوروبي يمكن أن يؤدي إلى تسريع الانقسامات داخل مملكة تتراجع وحدتها شيئاً فشيئاً. ويمكن أن يؤدي ذلك على المدى الطويل إلى حرمانها من معقدها الدائم في مجلس الأمن بالأمم المتحدة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق