الصفحات

الخميس، ١١ تموز ٢٠١٣

(حركات التمرد المدنية: أردوغان بعد مرسي؟)

صحيفة الفيغارو 6 تموز 2013 بقلم ران هاليفي Ran Halevi، الأستاذ في مركز ريمون أرون للأبحاث السياسية والباحث في مركز الدراسات الوطني الفرنسي للأبحاث العملية (CNRS)

     اعتقدنا للوهلة الأولى أن حركة التمرد المدنية كانت مُقتصرة على الدكتاتوريات العربية في أرض الإسلام. عَبَرَت هذه الحركات جميع القارات وأصابت أنظمة متنوعة دون أن تقتصر على الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة مثل مبارك وبن علي أو حتى أنظمة الطغيان الأمنية مثل القذافي والأسد. لقد وصلت هذه الحركات إلى الولايات المتحدة والنظام الديموقراطي الإسرائيلي عام 2011، ووصلت اليوم إلى البرازيل وبلغاريا ومصر التي أقالت محمد مرسي، بالإضافة إلى تركيا التي ما زالت النيران كامدة فيها وراء المظاهر الوهمية للهدوء المؤقت.
     إن هذه الحركات المُفاجئة والصاعقة والكبيرة تفتح فصلاً غير مسبوق في تاريخ مجتمعاتنا السياسية. إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من الاختلافات بين بلد وأخر، فإن هناك قاسم مشترك فريد من نوعه بين هذه الحركات هو أنها تصنع نظاماً للرأي خارج نظام صنّاع الرأي العام. تُعبّر هذه الحركات عن غضب أكثر عمقاً وهيجاناً من تلك الحذلقات السياسية لبعض رجال السياسة في فرنسا مثل جان لوك ميلانشون Jean-Luc Mélanchon وجوزيه بوفيه José Bové. تؤثر هذه الحركات بشكل خاص على الطبقات الوسطى أو الشعبية، وبالشباب أكثر من الكبار في السن. لا تعترف هذه الحركات بوجود زعيم، ولا تتبنى أية عقيدة فلسفية.
     لا تعتمد قوة هذه الحركات على ما يُطلق عليه اسم "الرأي العام" الذي تتم صناعته عن طريق استطلاعات الرأي واللوبيات والأحزاب السياسية. تقوم هذه الحركات بحشد وسائل أخرى مُخيفة بشكل مختلف مثل الأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعية، وهي الآن في طور إحداث تغيير عميق في الممارسات السياسية في المجتمعات المعاصرة.
     تلقى الرئيس مرسي في مصر درساً قاسياً، عندما أراد  تغيير الدستور لمصلحته. استطاع ملايين المصريين الحصول في النهاية على إقالته، وقالوا له بقوة أنه ليست هناك مشروعية سياسية دائمة بدون "برنامج سياسي"، ولاسيما في المجتمعات التي ما زالت التجربة الديموقراطية فيها حديثة العهد أو غير مُكتملة. بسبب عدم إصغائه للشعب، تكفل الجيش بتنفيذ أوامر المتظاهرين.
     هذا هو الدرس الذي لا يريد سماعه رجب طيب أردوغان، الصديق الأهم للإخوان المسلمين في مصر و "الرجل الديموقراطي حسب الظروف". يجب عليه التأمل بهذا الدرس إذا كان يريد عدم التعرض إلى المصير نفسه يوماً ما. من الواضح أن رئيس الوزراء التركي يجهل هذه الصفة الأخرى المشتركة لجميع حركات التمرد المدنية خلال السنوات الأخيرة: إنها تكشف بشكل قاسي عن طبيعة الأنظمة التي تختبرها.
     هل الديموقراطية التركية لم تكتمل حتى الآن؟ قال المندوب التركي في الاتحاد الأوروبي: إنه افتراء، واعتبر أن تشبيه الأحداث الأخيرة في تركيا بالربيع العربي يُمثل إهانة للتاريخ الديموقراطي الطويل الذي حاول المتظاهرون القضاء عليه. إنه مُحق ومُخطىء في آن معاً: إن النظام التركي مختلف عن الأنظمة الدكتاتورية التي اجتاحها الربيع العربي، وحتى الوحشية المُرعبة التي تم استخدامها في ساحة تقسيم لا تكفي للبرهان على التناقض بين الديموقراطية والإسلام في كل مكان. ولكن يبقى أن تأكيد الطابع الديموقراطي لأي بلد يظهر عبر كلام وأفعال القادة الحاكمين. وهنا يبدو أن اللوحة غير مُشجعة إطلاقاً.
     بالتأكيد، يستطيع أردوغان أن يحتج قائلاً أنه حقق نتائج استثنائية على أكثر من صعيد: قام بتحجيم الجيش، ونجح بزيادة دخل ملايين الأتراك، وقام بإصلاح النظام الصحي، وشجع الصناعة والإعمار والصادرات، وأوصل الاقتصاد التركي إلى المرتبة السابعة عشر عالمياً. كما حاول تهدئة النزاع مع الأكراد والتقارب مع الاتحاد الأوروبي والإلتزام بتعهداته داخل الحلف الأطلسي. ونجح برفع مكانة تركيا ونفوذها على الصعيد الدولي، الأمر الذي أوحى له بطموحات واسعة. ولكن مثل هذا النجاح المدهش ليس بالضرورة دليلاً على صحة النظام الديموقراطي في دولة ما، وهذا ما يُظهره سلوك أردوغان بما فيه الكفاية. من المعروف أنه قام بتشبيه الديموقراطية بحافلة يمكن مغاردتها دوماً عند الوصول إلى الغاية المقصودة، وهذا ليس أمراً بسيطاً.
     يعود سبب الانحراف التسلطي لرئيس الوزراء التركي إلى نجاحاته الانتخابية التي اعتبرها شيكاً على بياض يسمح له بالسيطرة على جميع مراكز السلطة المضادة مثل: الجيش والعدالة والجامعة ووسائل الإعلام. حققت تركيا رقماً قياسياً مؤسفاً على صعيد عدد الصحفيين المعتقلين، إن عددهم أكبر من عدد الصحفيين المعتقلين في إيران والصين! كما أنه لم يتردد بالتدخل في الحياة الخاصة للناس عبر تحديد استهلاك الكحول وتحديد عدد الأطفال الواجب إنجابهم وممارسة الرقابة على البرامج التلفزيونية إذا احتاج الأمر.
     إن ردة فعله المباشرة على الاحتجاج السلمي هي أفضل تعبير عن طبيعة "الديموقراطية حسب الظروف" التي يُجسدها. إنها تُعبر عن الصفات الكلاسيكية للدكتاتور الذي يؤمن بالأوهام الخارجة من هذيانه: لا يُمثل المتظاهرون إلا حفنة من الكسالى واللصوص الذين يتم التلاعب بهم من الخارج عبر "قوى ظلامية" و"لوبيات معدلات الفائدة" واليهود بالتأكيد، ومن ورائهم تويتر وفيسبوك. فيما يتعلق بهذه القوى على الأقل، كان أردوغان على حق، ولكن دون أن ينتبه إلى أن سلطة الرأي العام الجديدة التي تنقلها شبكات التواصل الاجتماعية تُمثل أقوى السلطات المضادة، وأنه لم يعد بالإمكان الاستمرار بالحكم ضد الشعب إلى الأبد، وأن الشرعية السياسية لا تُختزل بنتائج صناديق الاقتراع، وأنه شخصياً لديه مفهوم مشوّه للقوانين الديموقراطية المألوفة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق