صحيفة
اللوموند 8 تموز 2013 بقلم ياسين الحاج صالح. قام بترجمة المقال من العربية
إلى الفرنسية ناديا عيساوي وزياد ماجد
ياسين الحاج صالح، طبيب وكاتب سوري، وسجين سياسي
سابق، أمضى 16 عاماً في سجون حافظ الأسد من عام 1980 إلى 1996 بسبب انتمائه إلى
إحدى الأحزاب اليسارية المعارضة للنظام. لم يستطع ممارسة مهنة الطب بعد إنهاء
دراسته في جامعة حلب عام 2000. يعيش مُتخفياً منذ شهر آذار 2011 داخل بلده، وينشر
بشكل منتظم مقالات تحليلية وشهادات في وسائل الإعلام العربية.
ذهبت
قبل ثلاثة أشهر باتجاه الغوطة الشرقية المحيطة بالعاصمة دمشق. يسكن الغوطة الشرقية
اليوم مليون نسمة، بينما كان عددهم مليوني نسمة قبل الثورة. أصبحت الغوطة محاصرة
بشكل كامل منذ عدة أشهر بعد أن كانت إحدى معاقلهم. إن سبب هذا التغير المفاجىء هو
الدعم العسكري الذي يحصل عليه النظام من روسيا وإيران والميليشيات اللبنانية
والعراقية الموالية لطهران. بالإضافة إلى ذلك، أنا شاهد على النقص الكبير بالأسلحة
والذخيرة والطعام لدى مقاتلي الثورة. إن مدن وقرى الغوطة التي زرتها خلال الأشهر
الثلاثة الماضية تتعرض لقصف أعمى بالطائرات والمدفعية. سكنت في مركز طبي للحماية
المدنية لمدة شهر، ورأيت جميع الذين ماتوا تحت القنابل. كان بعضهم ممزقاً، ومن
بينهم أطفال وجنين عمره ستة أشهر... ارتعبت والدته بسبب القذائف التي تسقط حول
منزلها، وأجهضت جنينها.
تعيش
الغوطة بأسرها بدون كهرباء منذ ثمانية أشهر. لم يعد بالإمكان الحفاظ على مكان
بارد، ولا يمكن حفظ الطعام بسبب الحر الشديد في الصيف. الاتصالات مقطوعة عبر
الهواتف الثابتة والجوالة، وأصبح الطحين نادراً في الأسابيع الأخيرة، ولم نحصل على
الخبز منذ أربعة عشر يوماً. نأكل الرز أو نشتري الوجبات أحياناً من بعض المطاعم
التي ما زالت مفتوحة. تمر الاتصالات عبر الأقمار الصناعية بمساعدة تجهيزات
الأنترنت التي تم إحضارها إلى المنطقة بصعوبة. سقطت قذيفة بالقرب من مكاننا قبل
عدة أيام، الأمر الذي أدى إلى انقطاع الأنترنت لبعض الوقت. كان من الممكن أن يكون
الوضع أسوأ بكثير لو سقطت القذيفة على سقفنا، لأنها كانت ستُحطم هذه المعدات التي
استغرق تركيبها شهرين. ولكن هذا الوضع السيء يُصيب عدداً متزايداً من السكان التي
قاموا بدفن أهاليهم بسرعة خوفاً من قصف جديد. ما زلت على قيد الحياة أنا وبعض
أصدقائي وصديقاتي. نواجه في دمشق خطر الاعتقال والتعذيب، سيكون الاعتقال مميتاً
بالتأكيد. نحن بعيدون هنا عن هذا الخطر، ولكننا لسنا بمنأى عن قذيفة.
لم
يعد مصيرنا بيدنا، وأسوأ الأمور ممكنة دوماً. في كل مرة أعود إلى هنا حيث أسكن
حالياً، أشعر بأنني نجوت من الموت مرة أخرى. سقطت ثلاثة قذائف بالقرب من مكاننا
اليوم 28 حزيران قبل فترة قصيرة من صلاة الجمعة. شعرت بالحيرة في بداية إقامتي هنا
لأن نداء الصلاة كان يبدأ الساعة التاسعة صباحاً، ويتكرر كل نصف ساعة من جامع إلى
آخر. قيل لي لاحقاً أنه كان يجب تجنب اجتماع عدد كبير من المصلين في مكان واحد.
لنتذكّر أن خمسة جوامع تعرضت للقصف والتدمير.
إن
أشد ما يؤلم هو عدم ذهاب أكثر من ثلثي الأطفال إلى المدرسة بسبب خوف آبائهم أو
لعدم وجود مدرسة قريبة. يرتجف الناس، ويرتعش جسدي من فكرة أن يحكمنا النظام مرة
أخرى. يُكافح الناس مدركين إمكانية قتلهم في حال استعاد بشار السيطرة على المنطقة.
إذاً، إن الخيار المتاح أمام الناس هو: إما الموت وهم يقاتلون نظاماً فاشياً
ومجرماً، أو الموت بين الأيدي البربرية لهذا النظام في حال توقفهم عن المقاومة.
مضى
عامان على بداية الثورة. سمحت السياسات المتساهلة جداً للقوى الدولية بقتل
السوريين، وسمحت للنظام أن يتحرك دون أي عقاب. يُذكّر ذلك بموقف الديموقراطيات
الغربية تجاه هتلر عشية الحرب العالمية الثانية. الوضع الحالي هو نتيجة لرفض هذه
الديموقراطيات تقديم الدعم للثوار السوريين، في الوقت الذي تستمر فيه قوى أخرى
بدعم النظام.
بعد
أن عرف العالم بأسره باستخدام السلاح الكيميائي من قبل بشار الأسد، قررت الدول
الغربية تسليح الثوار السوريين لكي يكون هناك توازن في موازين القوى على الأقل. إن
إعادة هذا التوازن سيؤدي في النهاية إلى هزيمة الطرفين. إن ما نطلبه هو ممارسة ضغط
قادر على إسقاط النظام أو على الأقل إجبار حلفائه على التوقف عن دعمه.
إن
الحد الأدنى من الدعم المقدم إلى الثوار يساهم في إطالة النزاع، وهو أمر غير
إنساني إطلاقاً. لا يوجد في سورية "شريران"
على قدم المساواة كما تُلمح للأسف الكثير من وسائل الإعلام، وبعكس ما تدعيه بعض
تقارير المنظمات الدولية. نحن أمام نظام فاشي قتل حوالي مئة ألف من مواطنيه. إن الذين يقاومون النظام ينتمون
إلى اتجاهات مختلفة. أدى استمرار النزاع وعنفه إلى راديكالية بعض المجموعات،
وارتفاع مكانة الراديكاليين. كلما استمر التخلي عن السوريين، كلما ازدادت الخشية
من المجموعات المتطرفة على حساب المنطق المعتدل والعقلاني لعدد كبير من السوريين.
أنا أعرف ذلك بالخبرة.
الشيء الوحيد المهم اليوم هو مساعدة السوريين في
القضاء على العائلة "الأسدية"
التي تعتبر البلد ملكية خاصة لها، وتعتبر سكانها عبيداً. بالتأكيد، سيكون كل شيء
صعباً في سورية ما بعد الأسد. ولكن التخلص من الدكتاتور سيسمح بطمأنة المجتمع
السوري ومواجهة الراديكاليين بشكل أفضل.
ليس
هناك أسوأ من السماح بتفاقم هذا النزاع، لأن كلفته الإنسانية والمادية باهظة. كيف
نستطيع النظر إلى السوريين وهم يقتلون بعضهم البعض بأسلحة روسية وبأيدي مجرمين
محليين ولبنانيين وإيرانيين وغيرهم؟ إن الأكثر سوءاً هو فرض تطبيع للعلاقات دون
معاقبة المجرمين ودون تقديم أي حل حقيقي. نسمع أحياناً بعض السياسيين الأمريكيين
والغربيين يقولون أن حل هذا النزاع لا يمكن أن يكون عسكرياً. ولكن أين هو الحل
السياسي؟ هل سبق أن أعلن بشار الأسد بعد ثمانية وعشرين شهراً استعداده للتفاوض مع
المعارضة وتقاسم السلطة؟ هل توقف عن القتل حتى ليوم واحد على الأقل؟ الحقيقة هي
أنه لن يكون هناك حل سياسي بدون إجبار الجزار ومجرمي النظام معه على مغادرة السلطة
فوراً. هذا ما طالبت به الثورة منذ بداياتها السلمية، وسيؤدي ذلك إلى تعزيز صفوف
المعتدلين وتهميش المتطرفين، والسماح بحل عادل يحتاجه السوريون قبل أي شيء آخر.
أصدقائي وصديقاتي الأعزاء، إننا مجبرون على
التوجه إليكم لأن القضية السورية هي الأكبر والأخطر خلال العقود الماضية. لقد أدت
إلى اقتلاع ثلث السكان داخل وخارج البلد. هناك مئات آلاف الجرحى والمعاقين
و250.000 معتقل يتعرضون للتعذيب. أشارت العديد من المنظمات غير الحكومية إلى أن
النساء والأطفال يتعرضون للاغتصاب دون معاقبة الفاعلين. أشارت تقارير الأمم
المتحدة إلى أن قوات الأسد ارتكبت المجازر. كل ذلك من أجل أن يبقى بشار الأسد
وريثاً لسلطة لا يستحقها.
نحن
نتوجه إليكم اليوم بصفتكم قادة الرأي العام في بلادكم لكي تمارسوا الضغوط على
حكوماتكم. يجب عليها اتخاذ موقف واضح ضد المجرم وطي صفحة العائلة الأسدية. هذا هو
الطريق الوحيد نحو التقدم والإنسانية. ليس هناك شيئاً أكثر تطرفاً وفاشية من دولة
تقتل شعبها، وتستقبل على أرضها مجرمي الدول والمنظمات الحليفة بشكل يؤدي إلى
افتعال حرب أهلية. إذا كان من السهل البدء بهذه الحرب، فإن إنهاءها ربما سيكون على
حساب مئات آلاف القتلى. نحن ننتظر دعمكم اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأنه ربما
سيكون متأخراً جداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق