الصفحات

الخميس، ٢٠ شباط ٢٠١٤

(سورية المعذبة ستنبعث من مدينة حلب)

صحيفة اللوموند 20 شباط 2014 بقلم الأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس جان بيير فيليو Jean-Pierre Filiu

     تقصف قوات بشار الأسد مدينة حلب ببراميل المتفجرات يومياً. ولكنكم لن تشاهدوا أية صورة، لأنه لا يمكن التأكد من صحة أفلام الفيديو غير المهنية عن طريق مصدر "مستقل". كما لن تشاهدوا الجثث العظمية لأشخاص ماتوا من الجوع، ولا أعضاءها المحطمة تحت الأنقاض في كل مكان بسورية. أعطت حملة تصفية الصحافة الأجنبية في سورية ثمارها، وأعتقد أنني كنت أحد آخر الشهود الغربيين الذين أقاموا في حلب، على الرغم خطف الصديقين ديدييه فرانسوا Didier François ونيكولا هينان Nicolas Hénin المختطفين منذ شهر حزيران 2013، وزميليهما إدوار إلياس Edouard Elias وبيير توريز Pierre Torres.
     إذاً، لن تشاهدوا هذه الصور، ولكن المراهقين في مدينة تولوز أو مدينة أفينيون الفرنسيتين اضطربت أفكارهم عندما اكتشفوا هذه الصور على الشبكات الاجتماعية. تُغذي هذه الصور قناعتهم بوجود مؤامرة واسعة ضد المسلمين في سورية. لهذا السبب، ذهبوا إلى سورية وهم معرضون للتلاعب بهم، وسيتم التلاعب بهم خلال فترة قصيرة، لأن تنظيم القاعدة يترصدهم على الحدود التركية. إنه ليس تنظيم القاعدة الذي أسسه أسامة بن لادن عام 1988، بل تنظيم القاعدة في العراق الذي أسسه الأردني أبو مصعب الزرقاوي، وجعله عصابة مخيفة وشرسة ضد الشيعة في العراق. ثم تبنت هذه الحركة طموحه بعد واختفائه، وأصبحت "الدولة الإسلامية في العراق".
     إن الزعيم الحالي لهذه "الدولة" الجهادية هو العراقي أبو بكر البغدادي الذي أكد استقلاليته رافضاً الإعلان عن الولاء للمصري أيمن الظواهري، خليفة بن لادن. لقد  اعتمد لفترة طويلة على تواطؤ أجهزة بشار الأسد التي كانت ترى في التمرد الجهادي وسيلة للقضاء على الأهداف الأمريكية في العراق. لم يُعبّر البغدادي إلا عن الاحتقار والعداء تجاه العمليات الثورية التي أطاحت بالرئيسين بن علي ومبارك عام 2011. راهن الأسد الذي يواجه احتجاجاً غير مسبوق في بلده على التصعيد الدامي من أجل عسكرة ثم نزع المصداقية عن ثورة سلمية في البداية عن طريق تحويلها إلى "حركة جهادية". بهذه الطريقة، اختفى الناشطون السلميون في سجون النظام، وانتشرت الشبكات الجهادية خلال عام 2012.
     كانت المقاومة السلمية والعسكرية (الجيش السوري الحر) تحرص في ذلك الوقت على الحفاظ على مدينة الرقة كمدينة منفتحة، ولكن البغدادي شن هجوماً عليها في شهر آذار 2013 لكي يعلن إقامة دولته الإسلامية في العراق وبلاد الشام فيها. إن تصميم تنظيم القاعدة على إقامة "دولة جهادية" في العراق وسورية أدى إلى القطيعة مع جبهة النصرة التي ما زالت تعتبر سقوط بشار الأسد الأولوية المطلقة. بالمقابل، رضي البغدادي ببقاء الطاغية في دمشق، الذي رد له الجميل عن طريق تجنب قصف مواقع الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام خلال قصفه الجوي.
     تعددت الاشتباكات بين الثوار والجهاديين اعتباراً من ربيع 2013. انتفضت عدة مدن بأكملها في شمال سورية ضد الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام خلال صيف عام 2013. عرقل الجيش السوري الحر هجوماً جهادياً ضد الجبل العلوي، لأنه كان سيؤدي إلى تعميق الفجوة بين الطوائف. يلاحق جواسيس البغدادي الناشطين أنفسهم الذين نجوا من أجهزة الأسد. أطلق الائتلاف المعادي للأسد ثورته الثانية في شهر كانون الثاني، ولكن ضد تنظيم القاعدة هذه المرة. في النهاية، تم طرد الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام من حلب. بالمقابل، سمح القصف الحكومي بتقدم تنظيم القاعدة في الرقة ومنبج. لن نؤكد بما فيه الكفاية أبداً أن حملة براميل المتفجرات ضد حلب تقصف مدينة محررة من العقبة الجهادية.
     لم يمنع ذلك ممثلو الأسد من التلويح بالفزاعة الجهادية خلال المفاوضات الأخيرة في جنيف، ولم يزعج ذلك رجال البغدادي في إغرائهم لـ "المتطوعين" القادمين حتى الحدود التركية لمساعدة "إخوانهم" في الإسلام. تعتبر الأمم المتحدة اليوم أن عدد المقاتلين الأجانب في سورية يتجاوز سبعة آلاف، وأغلبهم من العرب (التونسيين والليبيين والسعوديين). لم ينخرط جميع هؤلاء "المتطوعين" مع الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، ولكن تنظيم القاعدة أعد سياسة منهجية لسرقة هذه الموارد البشرية.
     يخشى الأسد من أي يؤدي تفكيك ترسانته الكيميائية إلى حرمانه من ورقة أساسية لتحييد المجتمع الدولي، وسيبذل كل ما بوسعه لمساعدة البغدادي في تجذير الدولة الجهادية التي ستساعده على احتكار السلطة. أظهرت مفاوضات جنيف أنه لا جدوى من تدويل الأزمة السورية من الأعلى. لهذا السبب، من الضروري الإسراع بالعودة إلى عملية انتقالية من الأسفل، والاعداد لما بعد الأسد في سورية، وبالتحديد في حلب. حصل الروس من الأسد على عرض بوقف إطلاق النار في حلب كبادرة حسن نية قبل مؤتمر جنيف. فيما يتعلق بالدبلوماسية الأمريكية التي يختلط فيها التهور بالاستخفاف، لقد اعتبرت أنه من الأفضل الالتزام بهدف "يمكن إدارته" في حمص. وهكذا، استطاع عدة مئات من الأموات ـ الأحياء الخروج من الرعب في حمص، وبقي عدد مماثل لهم يموتون تحت براميل المتفجرات في حلب.
     ما زال يسكن في المدينة الثانية في سورية مليونا نسمة منقسمون حسب خط الجبهة المختلق بين القطاع الموالي في الغرب والقطاع المحرر في الشرق. يتعاون الوطنيون في الجانبين سراً من أجل تأمين احتياجات السكان الأساسية. يجب البدء بحلب من أجل إيقاف الانحدار نحو الجحيم في سورية، وإقامة وقف لإطلاق النار، وفتح المعابر بين القطاعين، أو حتى تشجيع عودة اللاجئين من تركيا. تملك العاصمة الاقتصادية لسورية إمكانيات كبيرة على الرغم من الدمار الذي أصابها. دفعت القوات الثورية ثمناً باهظاً للتخلص من تنظيم القاعدة. لا شك أن العسكريين السوريين لا يطلبون إلا إرسال مليشيات حزب الله التي يتزايد التوتر معها. يجب أيضاً أن يكون هناك إشراف دولي يسمح ببعض إجراءات الثقة أو حتى سلطة مختلطة على المدينة بأكملها.

     لا شك أن ظروف السكن ستكون أكثر صعوبة لمفوضي الأمم المتحدة في حلب بالمقارنة مع مثيلتها في جنيف. ولكن مستقبل سورية يوجد في حلب التي يمكن ويجب بناؤها بعد التخلص من الأسد وتنظيم القاعدة. إن البديل هو الدولة الجهادية، ولن يكون ممكناً احتواء العنف الإرهابي لهذا البديل في الشرق الأوسط إلى الأبد. يجب إنقاذ النساء والرجال في حلب. إذا لم نفعل ذلك من أجلهم، لنفعل ذلك من أجلنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق