الصفحات

الخميس، ٢٢ آب ٢٠١٣

(دمشق مُتهمة بهجوم كيميائي واسع)

صحيفة الليبراسيون 22 آب 2013 بقلم هالة قضماني

     حمل الأب جثتي طفلتيه وهزهما باكياً وصارخاً أمام الكاميرا. إنه أحد مشاهد الفيديو التي نشرتها المعارضة السورية على الأنترنت فجر البارحة 21 آب، متهمة النظام بارتكاب هجوم كيميائي واسع. أثار هذا المشهد الريبة في البداية، كيف يمكن استبعاد إمكانية التلاعب في هذا الفيلم أو إمكانية القيام بعمل استفزازي، في الوقت الذي انتهى فيه مفتشو الأمم المتحدة المكلفون بالتحقيق حول استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية من تناول طعام إفطارهم في فندق الفصول الأربعة في دمشق؟ ثم تدفقت الشهادات والصور طوال صباح ذلك اليوم لكي تزيل الشكوك شيئاً فشيئاً.
     كانت هناك عشرات الجثث الممددة على الأرض بجانب بعضها البعض دون وجود قطرة دم واحدة في المستشفيات الميدانية في الغوطة الشرقية بدمشق. ربما تعرّض بعض الأطفال والرجال والنساء، اللواتي لا يتم تصويرهم إلا نادراً، أثناء نومهم إلى قذائف تحمل غازات سامة، تم إطلاقها من جبل قاسيون. قال الطبيب (خالد) الذي يدير المركز الطبي في دوما القريبة جداً من المناطق المصابة: "سقطوا مثل الذباب. إنه أمر منطقي نظراً لاستخدام مادة سامة شديدة الفعالية". لم يستطع الطبيب أن يؤكد بشكل قاطع أنه غاز الساران، ولكنه لاحظ أن جميع الأعراض الملاحظة لدى الضحايا ناجمة بشكل عام عن هذا الغاز الممنوع، وقال: "تباطؤ نبضات القلب حتى توقفها بشكل كامل خلال عدة دقائق، واختناق وإقياء... إنها المرة السادسة التي أرى فيها مثل هذه الحالات هذا العام، ولكن ليس بمثل هذا الحجم".
     قال أحد الأطباء في حي جوبر بالقرب من دمشق في أحد أفلام الفيديو: "مات خمسون طفلاً بين أيدينا صباح اليوم. إن الأمر المزعج حقاً هو عدم الاستعداد لمثل هذه الكوارث". أشار أحد الأطباء الشباب إلى أن الوحدات الطبية تسابقت لإحضار قوارير الأوكسجين وحقن الأتروبين وبقية مضادات غاز الساران إلى الأماكن المحتاجة، ولكنها لم تكن كافية للحد من الأضرار، وأعرب عن أسفه لعدم إثارة وعي السكان إلى مثل هذا النوع من الهجمات قائلاً: "يفقد الغاز تأثيره بعد نصف ساعة، وكان بإمكان الناس اللجوء إلى الطوابق العليا مع القناعات". أظهر أحد افلام الفيديو الذي صوره المتمردون فتاة صغيرة راكدة بعد أن تم إنعاشها بالأوكسجين داخل أحد المراكز الطبية في المنطقة المضطربة، وقالت هذه الفتاة: "أنا على قيد الحياة... أنا على قيد الحياة".
     لا توجد مصادر مستقلة تسمح بالتأكد من صحة الأرقام المرعبة التي أعلنتها المعارضة السورية بشكل مفصل في كل مكان: 400 قتيل في زملكا، 300 في حمورية، 15 في كفربطنا، 75 في عين ترما... أشارت لجان التنسيق المحلية في الغوطة ظهر البارحة 21 آب إلى حصيلة إجمالية قدرها 1360 "شهيد بشكل موثق". ما زالت هذه الحصيلة مؤقتة، كما استمر القصف خلال اليوم على هذه الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان والخاضعة لسيطرة القوات المتمردة. أكد لنا أحد السكان في مركز دمشق عبر السكايب Skype أنه بالإضافة إلى احتمال استخدام الأسلحة الكيميائية، "لم ينم أحد خلال الليل"، وتحدث عن "وابل غير مسبوق من القذائف" في العاصمة التي اعتادت على ضجيح الانفجارات منذ أكثر من عام. اعتبر رئيس أركان الجيش السوري الحر سليم إدريس أن عجز قوات النظام عن "مقاومة ضغوط هجمات الجيش السوري الحر وعجزه عن استعادة هذه المنطقة" هو السبب في هذا التصعيد الجنوني. أكد الباحث توما بييريه Thomas Pierret، الأستاذ في جامعة إيدنبيرغ والمختص بسورية: "برأيي، يُعبّر هذا الهجوم عن ضرورة عسكرية. حقق المتمردون البارحة 21 آب تقدماً في جوبر والقدم بعد فشل الهجمات الأخيرة للقوات النظامية. إن هذا الأمر بحد ذاته ليس كارثة بالنسبة للنظام، ولكن يجب وضع ذلك ضمن السياق العام، أي الجهود العسكرية الهائلة التي بذلها النظام خلال الأشهر الأخيرة لخنق المتمردين في الغوطة. من الواضح اليوم أن ذلك لم ينجح، وهذا هو السبب في محاولة اللجوء إلى طريقة أخرى".
     نفى نظام بشار الاسد جميع "إدعاءات" المعارضة حول استخدام الأسلحة الكيميائية، وأكد عبر وسائل إعلامه الرسمية "على ضرورة هجماته ضد بؤر الإرهاب" شرق العاصمة. يبقى التوقيت غير المفهوم لمثل هذه العملية في الوقت الذي وصل فيه مفتشو الأمم المتحدة إلى سورية بناء على طلب الجامعة العربية وبريطانيا وفرنسا. اعتبر توما بييريه أنه سيكون من المستحيل ذهابهم إلى المكان والتأكد من هذه المعلومات، لأن "هذه المناطق التي تعرضت للأسلحة الكيميائية، ما زالت تتعرض بشكل موازي إلى قصف عنيف بالأسلحة التقليدية. لا أعرف كيف سيتمكن المفتشون من الذهاب إلى هناك. إنهم بحاجة إلى تفويض ووقف لإطلاق النار على الصعيد المحلي على الأقل. إذا حصلوا على ذلك، ستكون الآثار قد اختفت. يقول الخبراء أن آثار الأسلحة الكيميائية تختفي بسرعة". فيما يتعلق بحجج المدافعين عن النظام بأنهم "ليسو مجانين إلى هذه الدرجة للقيام بذلك"، فقد رد عليها الباحث قائلاً: "يجب أن نتذكر الاغتيالات السياسية في لبنان بين عام 2005 و2008 التي حصلت قبل الاجتماعات الهامة التي عقدتها الأمم المتحدة حول لبنان. نعم بالتأكيد، كانوا مجانين".

     هل سيكون هناك "ما قبل وما بعد مجزرة الغوطة" في النزاع السوري، كما يؤكد أحد ناشطي المعارضة في حلب غسان ياسين؟ يبدو أن أغلبية السوريين، ومن ضمنهم قادة المعارضة، استسلموا سلفاً أمام لا مبالاة المجتمع الدولي التي أصبحت مألوفة. كان رئيس المجلس الوطني السوري جورج صبرا يتوقع سلفاً الإدانات الدولية لأصدقاء الشعب السوري، وللنفي الصادر عن الحليفين الروسي والإيراني لنظام بشار الأسد. اعتبرت موسكو بعد ظهر البارحة 21 آب أن الشكوك باستخدام السلطات السورية للأسلحة الكيميائية كانت "استفزازاً مخططاً له سلفاً".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق