الصفحات

الاثنين، ٢٧ كانون الثاني ٢٠١٤

(المأساة السورية الأخرى)

صحيفة اللوموند 25 كانون الثاني 2014 بقلم كريستوف عياد Christophe Ayad

     يجري المشهد في مدينة أطمة الواقعة بأقصى شمال سورية مساء أحد أيام شهر شباط عام 2013. بعد حلول الظلام وانقطاع الكهرباء، هناك رجلان يتبادلان الصور على الهاتفين الجوالين حول مدفأة في ظلام دامس. إنهما يتهامسان ويقطع أحدهما حديث الآخر لكي يسأل عن معنى إحدى الكلمات الانكليزية أو كيفية كتابتها. إنهم متمردون حسب الظروف، وينتمون إلى إحدى المجموعات المسلحة، ولكنهم يقاتلون عندما يستطيعون وعندما يكون لهم مصلحة في ذلك.  تخلصت أطمة من سيطرة النظام منذ وقت طويل، وتجري فيها عمليات تهريب الأسلحة والبنزين والمساعدة الإنسانية وكل ما يمكن بيعه وشراءه في بلد بحالة حرب. ولكن في هذا المساء الشتائي، لم يكن الأمر يتعلق بكل ذلك. استطاع الزائر الأجنبي أخيراً مشاهدة الصور الغامضة المرسلة عن طريق البلوتوث (Bluetooth) بعد تدخين العديد من السجائر وتبادل كلمات الترحيب الودية: إنها صور تمثالين صغيرين من الفخار يبلغ ارتفاعهما حوالي عشرة سنتيمترات بالإضافة إلى قطعة نقدية كبيرة يتآكلها الصدأ. يبحث أحمد وعبد الله عن مشتري: يقوم عبد الله بـ "التنقيب"، ويبحث أحمد عن الزبائن. يتنقل أحمد باستمرار بين تركيا وأطمة. ما هو مصدر هذه الآثار الفنية؟ كم يبلغ ثمنها؟ من يشتريها؟ لا يريدان قول المزيد.
     يعطي هذا المشهد في قلب الليل السوري لمحة مختصرة لأحد الأوجه المخفية للحرب الأهلية والتدمير والنهب على نطاق واسع للتراث السوري. هل يجب الاهتمام بالأحجار في حين يموت العشرات يومياً، وتسبب القمع بمقتل ما بين مئة ألف ومئة وخمسين ألف شخص على الأقل خلال ثلاث سنوات؟ نعم، لأن سورية ليست فقط على وشك إفراغها من سكانها الذين يختارون الهجرة أكثر فأكثر، بل يجري أيضاً نهب هوية هذا البلد الذي يعتبر إحدى أقدم الدول في العالم وأكثرها غنى من حيث عدد وتنوع آثاره التاريخية. قالت عالمة الآثار صوفي كلوزان Sophie Clusan التي تعمل في قسم الحفاظ على التراث في متحف اللوفر: "إن الأمر يتعلق بروح سورية".
ـ تحتوي سورية سبعة مواقع مصنفة ضمن التراث العالمي لليونيسكو على الأقل: المدن القديمة في دمشق وحلب وبصرى وتدمر، و"المدن الميتة" في الشمال، وقلعة الحصن وقلعة حمص وقلعة صلاح الدين. لم ينج أي موقع منها من القصف والمعارك والنهب، وحتى مركز دمشق الذي بقي بمنأى عن المعارك نسبياً أصابته بعض القذائف. إذاً، ماذا نقول عن قلعة الحصن، هذه المعجزة المعمارية من العهد  الصليبي، التي تتعرض لقصف منتظم بالمدافع والطائرات المروحية وحتى طائرات الميغ التي تحاول إبعاد المتمردين بدون جدوى؟ فيما يتعلق بحلب التي تضم أجمل أسواق الشرق الأوسط، خسر الجامع الأموي فيها مئذنته، وتعرضت العديد من الخانات للأضرار، ودمرت الحرائق 1200 متجراً في السوق القديم.
     إنها الملاحظة نفسها في كل مكان: هناك كارثة مذهلة حالياً شبيهة بالكارثة التي شهدها التراث العراقي خلال سنوات الحظر بين عامي 1991 و2003، ثم خلال الغزو الأمريكي والفوضى التي أعقبته. قام عالم الآثار السوري الشاب شيخموس علي بتأسيس جميعة لحماية الآثار السورية، ويعتبر أنه هناك ثلاثة أخطار رئيسية على التراث السوري: الأول هو "احتلال الأماكن الإستراتيجية ـ من قبل الجيش ـ المطلة على المدن القديمة ومراكز المدن"، هذا هو حال قلعة حلب وقلعة حمص وقلعة تدمر، هذا هو الوضع أيضاً في بعض المواقع الأثرية والمتاحف مثل الجامع الأموي في حلب الذي انسحب منه الجيش وقام بقصفه، ومتحف معرة النعمان ومتحف الفنون والتقاليد الشعبية في حمص. ثانياً، هناك "قصف الأحياء التاريخية" والمواقع الأثرية بعد المعارك: مثل حمص وحلب والعديد من المدن الأخرى. أخيراً، الأخطار الناجمة عن "نقص الإجراءات الأمنية في المتاحف والمواقع الأثرية" التي تعرضت لنهب مكثف في بعض الأحيان.
     يقوم شيخموس علي بإحصاء جميع الانتهاكات ضد الثراث بواسطة الوسائل المتاحه له ولبعض أصدقائه، وينشر ذلك على موقع إلكتروني. يقيم شيخموس علي حالياً في ستراسبورغ، ولديه شبكة واسعة من الأشخاص الذين ينقلون له المعلومات من سورية. قال شيخموس علي: "أنا أتمتع بحرية الحديث وإدانة ما يحصل بعكس الإدارة العامة للآثار القديمة والمتاحف"، وينتقدها بسبب محاباتها للسلطة وعدم طرحها للمشكلة الناجمة عن ممارسات الجيش عندما قام على سبيل المثال بقصف الأنقاض التي يستخدمها القناصون المتمردون في مدينة نوى بالقرب من درعا، أو قيامه بحفر خندق في موقع تدمر لكي يتمكن من التنقل بأمان. ودائماً في تدمر التي تمثل أروع المواقع اليونانية ـ الرومانية في العالم، تمركزت وحدة من قناصي النخبة على سطح المتحف من أجل استهداف المدينة بشكل أفضل. كما تم وضع منصة لإطلاق القذائف بجانب أبراج المقابر، وربما أدى إطلاق المدافع إلى تدمير عمودين مشهورين في معبد بعل. من جهة أخرى، قام الجنود باختراق كوة الرمي في متحف حمص. كما تعرضت قلعة معرة النعمان للقصف انطلاقاً من المتحف. الأمثلة لا تحصى، وقال شيخموس علي متأسفاً: "يقع على عاتق الدولة السورية حماية المواقع الواقعة تحت مسؤوليتها، ولا تتجرأ الإدارة العامة للآثار القديمة والمتاحف على تذكيرها بذلك".
     تحاول هذه المؤسسة المعروفة بجديتها البقاء قدر الإمكان بمعزل عن السياسة في بلد ممزق إلى نصفين وتحت سلطة نظام لا يتسامح مع أي انتقاد. هناك عقبة أخرى، لم تعد الإدارة العامة للآثار القديمة والمتاحف تتمتع بأية سلطة على نصف الأراضي السورية التي انتقلت السيطرة عليها إلى بعض الفصائل المتمردة التي لا تعترف بأية قيادة مركزية. يحاول شيخموس علي جمع أكبر قدر من المعلومات عن طريق سكايب واليوتوب، وبهذه الطريقة عرف مؤخراً أن بعض الرجال المسلحين قاموا بنهب ثلاثة صناديق تحوي 150 قطعة من متحف الرقة، واعتدوا على ثلاثة صناديق أخرى.
     في المنطقة المتمردة التي تسود فيها الفوضى، قام بعض المخربين بسرقة وتدمير متحف دورا أوروبوس بالقرب من ماري الواقعة شرق سورية. كما تمت سرقة حوالي ثلاثين قطعة أثرية صغيرة من السيراميك في متحف معرة النعمان. ولكن الوجود الحكومي لا يضمن المزيد من الأمن: تمت سرقة تمثال من البرونز المدهون بالذهب لأحد الآلهة الأراميين من متحف حماة دون وجود آثار كسر، وذلك خلال الأشهر الأولى للتمرد في نهاية ربيع عام 2011. كما حصلت عمليات تنقيب عشوائية تحت أنظار الجيش، الأمر الذي حول موقع أفاميا شمال حماة إلى شبكة من الثقوب. ربما اختفت حوالي ثلاثين قطعة موزاييك. قالت مديرة برنامج المجلس الدولي للمتاحف (ICOM) فرانس ديماريه France Desmarais، وهي منظمة غير حكومية موجودة في باريس: "يُظهر تحليل صور الأقمار الصناعية وجود 14600 حفرة بتاريخ 28 تشرين الثاني 2013، وهذا يعادل أكثر من 50 % من مساحة موقع أفاميا".
     يعتبر عالم الآثار الإسباني رودريغو مارتان غالان Rodrigo Martin Galan، الذي يعرف سورية بشكل جيد وذهب إليها بشكل منتظم بين عامي 1996 و2010، أن ما يحصل في سورية هو كارثة علمية حقيقية، وقال: "إن أي مقتنى أثري خارج سياقه يفقد 70 % من قيمته العلمية، وأن الأضرار التي لحقت بالطبقة الجيولوجية لا يمكن إصلاحها، إنها الصفحات التي يستخدمها عالم الآثار لقراءة الماضي". تكشف صور الأقمار الصناعية عن وجود رافعات تبعث على الشك بعمل عصابات السرقة المنظمة، وقال رودريغو مارتان غالان متنهداً: "على أي حال، يكفي القيام بالحفر للعثور على شيء ما. ولكنني سأكون آخر من يلوم السكان المحليين الذين يموتون من الجوع".
ـ لم يكن الوضع قبل الثورة رائعاً بشكل دائم. أكد شيخموس علي قائلاً: "لم تبدأ عمليات التنقيب العشوائية مع الثورة. تعمل عصابات التهريب دوماً بالاتفاق أو حتى بدعم أجهزة الاستخبارات". كان رفعت الأسد مشهوراً بتصدير القطع الأثرية عبر الحاويات من ميناء اللاذقية. تفتقد الإدارة العامة للآثار القديمة والمتاحف للإمكانيات، ولا يوجد في منطقة الحسكة التي تضم حوالي خمسة آلاف تل أثري (هضاب تشكلت عبر تراكم الأنقاض)، إلا حارس واحد من أجل خمسين موقع، وذلك حتى قبل الثورة. أما اليوم....
     يهدف برنامج المجلس الدولي للمتاحف (ICOM) إلى مكافحة تهريب المقتنيات الثقافية، ونشر "لائحة حمراء" سورية بتاريخ 25 أيلول عام 2013. قالت مديرة البرنامج فرانس دوماريه: "تضم هذه اللائحة تصنيفاً لحوالي أربعين مادة أثرية، ونعرف أن هذه المواد مطلوبة في سوق الفن غير الشرعي. تم إرسال هذه القائمة التحذيرية إلى الجمارك وإدارات الآثار القديمة وتجار الفن في جميع الدول التي يُحتمل وصول هذه المواد المسروقة إليها". يقع على عاتق هذه الجهات إظهار حذرها الآن. في الوقت الحالي، ما زال التهريب محدوداً بالدول المجاورة، ولاسيما في لبنان وتركيا حيث حصلت فيهما عدة عمليات لاستعادة هذه الآثار. في أوروبا، تم إحصاء حالة واحدة لتهريب الآثار في مدينة تورينو الإيطالية تتعلق بتمثال صدري من تدمر. فيما يتعلق بفرنسا، تعتبر فرانس دوماريه أن الآثار السورية ستبدأ بالظهور في السوق الدولي بعد عامين أو ثلاثة، وقالت: "تم العثور على ثلاث عشرة مادة أثرية عراقية عام 2013. فيما يتعلق بسورية، إن ما يصل إلى فرنسا حالياً هي أثار مزيفة بأغلبها".
     تواجه مسألة التراث السوري المشاكل نفسها التي تواجهها تسوية النزاع السوري، ولكن على نطاق أضيق وفي مجال مختلف. من جهة أولى، هناك النظام الذي يحاول الاستفادة من مسألة التراث للظهور بمظهر الضامن الوحيد للنظام والاستقرار. من جهة أخرى، هناك المعارضين المنقسمين. وبينهما، هناك بعض المنظمات الدولية المشلولة بسبب القواعد والأنظمة الأممية. كما انقسمت شبكة شيخموس علي وجمعيته لحماية التراث السوري التي تعتمد على المتطوعين، ولاسيما المواطنين ـ الصحفيين، إلى نصفين بسبب مسائل متعلقة بمكان وجودها وبالأشخاص: يقود الفرع الآخر الناشط علي عثمان الموجود على الفيسبوك تحت اسم التراث الأثري السوري في خطر.
     بالنسبة لليونيسكو المكلفة بحماية المواقع المسجلة ضمن التراث العالمي، فقد تأخرت قبل مواجهة خطورة الوضع. لقد انتظرت حتى تاريخ 20 حزيران 2013 من أجل إدراج المواقع السورية المسجلة ضمن التراث العالمي على لائحة التراث العالمي المهدد. انتقد العديد من علماء الآثار حيادية المنظمة الدولية وعدم قيامها بإدانة القصف المكثف للنظام واستخدام الجيش لبعض المواقع الأثرية كمواقع لإطلاق النيران أو كثكنات. بررت مسؤولة قسم الدول العربية في مركز التراث باليونيسكو ندى الحسن ذلك بقولها: "نحن خاضعون لمتطلبات منظمة دولية. نحن لسنا هنا من أجل إدانة هذا الطرف أو ذاك. إنه ليس دور المنظمة". ولكنها حرصت على التأكيد أن اليونيسكو حققت تقدماً منذ المؤتمر الذي دعت إليه المديرة العامة إيرينا بوكوفا بتاريخ 29 آب 2013 بحضور المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي، وقالت: "نحن نعمل على إقامة مرصد للتراث السوري لكي يقوم بتنسيق جميع المعلومات وإحصائها في قاعدة للمعلومات حسب المعايير العلمية الدولية المعترف بها. نحن نرحب بجميع الإمكانيات: الجمعيات والجامعات وعلماء الآثار والمتاحف... الخ". من جهة أخرى، تستعد اليونيسكو لإطلاق عدة حملات لإثارة الاهتمام التلفزيوني على الصعيدين الإقليمي والمحلي. وأضافت ندى الحسن قائلة: "سنتدخل أيضاً في مخيمات اللاجئين. كما ننوي تقديم مساعدة فنية عاجلة إلى أولئك الذين يعملون من أجل حماية التراث السوري مهما كانت هويتهم وأينما كانوا".
     تمثل سورية أيضاً مسرحاً لبعض المبادرات الفردية الرائعة، ولكن لا يجري الحديث عنها كثيراً. أشار شيخموس علي إلى أن إحدى كتائب الجيش السوري الحر بادرت إلى حماية موقع ماري على نهر الفرات. وفي حلب، قام المجلس الثوري بتأسيس قسم للآثار القديمة، ويعمل على قدم وساق من أجل حماية الآثار المهددة مثل مخطوطات الجامع الأموي، وبناء حائط لحماية بعض الآثار أو الأبنية الأكثر هشاشة وتعرضاً للخطر، أو من أجل إطفاء الحرائق. كما قام سكان مدينة مسكنة بالقرب من بحيرة الأسد بحماية مكتشفات بعثة التنقيب الألمانية التي لم تستطع العودة منذ خريف عام 2010.

     كتبت مديرة اليونيسكو إلى الأخضر الإبراهيمي عشية مؤتمر جنيف 2 لكي تطلب منه التأكيد على الأطراف المشاركة حول أهمية حماية التراث. لقد بدأ علماء الآثار بالتفكير بمرحلة ما بعد الحرب، حتى ولو كان ذلك خارجاً عن سيطرتهم في الوقت الحالي. حذرت صوفي كلوزان التي تعمل في متحف اللوفر قائلة: "يجب على المجتمع العلمي أن يكون مستعداً، لأن أصحاب المصالح الخاصة يعرفون ماذا يريدون بالضبط". بالإضافة إلى كل ذلك، إنها تخشى من عملية لإعادة البناء شبيهة بما حصل في لبنان بشكل تتحول فيه حلب إلى بيروت ثانية: قام رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري بإعادة تصميم مركز مدينة بيروت اعتباراً من بداية سنوات التسعينيات لكي يجعل منها مركزاً تجارياً ضخماً للسواح القادمين من الخليج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق