الصفحات

الخميس، ٤ نيسان ٢٠١٣

(خدعة السلفيين الكبرى)


مجلة النوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية 28 آذار 2013 ـ مقابلة مع الباحث جيل كيبيل Gilles Kepel ـ أجرت المقابلة سارا دانييل Sara Daniel

     كرّس الباحث السياسي جيل كيبيل نفسه منذ أربعين عاماً لدراسة العالم العربي، ونشر يومياته في كتاب عن الثورات العربية، وتطرق إلى طموحه ورحلته الجديدة في الشرق ومحنة سورية والتهديدات الإيرانية والخليجية.
سؤال: كتاب "الآلام العربية" (Passion arabe) هو يومياتكم بين عامي 2011 و2013 من تونس إلى اليمن، ومن قطر إلى مصر، والبحرين إلى ليبيا. إنه كتاب وصفي أكثر من الكتب السابقة. كيف تُفسّرون ذلك؟
جيل كيبيل: قال مارك بلوش Marc Bloch أن التاريخ مثل الغول الأسطوري الذي يشتهي الجسد الإنساني. هذا الكتاب هو كتاب الجسد الإنساني. بدا لي أنه من الضروري مع هذا الانقلاب الكبير الحاصل في العالم العربي الغوص في قلب هذا الارتداد، مع احتمال الاصطدام مع يقينياته. من المبكر جداً استخلاص دروس هذه الثورات التي تتصف بالتناقض على أقل تقدير. في البداية، أشاد بعض "المؤرخين" المُتسرّعين بهذه الثورات باعتبارها مقدمة لديموقراطية مستوحاة من أجيال تويتر وفيسبوك، ثم تم اخترالها يأساً منها بالسلفية الجهادية. في الحالتين، هناك تمسك بمفاهيم غير دقيقة بدلاً من الذهاب إلى الأرض. من أجل فهم العملية الجارية، يجب معرفة التمزقات الداخلية لهذه المجتمعات التي تعيش على وتيرة المحطات التلفزيونية الفضائية مثل الجزيرة بفضل أموال النفط الخليجية، هذه الأموال الشيطانية التي دمّرت المجتمعات العربية وتقوم اليوم بإفساد التطلعات الأساسية للثورات.
سؤال: يمثل الكتاب أيضاً رحلة استشراقية مثل  بعض الكتّاب الفولتيريين...
جيل كيبيل: نعم، "الرحلة إلى الشرق" هو تقليد أردت استعادته لكي أقوم بتجديد نظرتي إلى هذه المجتمعات. ولكن هناك أيضاً التقاليد العربية في "الرحلة" مثل ابن بطوطة الذي مزج بين الأهداف السياسية والدينية والفضول. الحقيقة والخيال. أعرتُ اهتماماً كبيراً للقصص الخيالية لهذه الثورة التي تروي أن القذافي له أصول يهودية وكورسيكية مزدوجة من أجل نزع الصفة الإسلامية عن هذا الطاغية... أو الأسطورة المتناقضة التي تم بناؤها حول محمد بوعزيزي الذي حرق نفسه في سيدي بوزيد، وكان الشرارة التي أشعلت كل شيء. ولكن هذا الكتاب يمثل أيضاً رحلة داخل الثقافة الفرنسية التي تداخلت مع العالم العربي في أوقات كثيرة. على سبيل المثال، قمت بالعودة إلى خطى فلوبير في مدينة Esnah بتاريخ 13 آذار 1850، هذه المدينة المهملة التي أصبحت اليوم أهم مراكز التوتر بين الأقباط والمسلمين.
 بالتأكيد، لقد اختلطت اليوم الحدود كثيراً بين العربي وغير العربي، بين الشرق والمستشرق. أصبح جزء من المغرب العربي فرنسياً، كما أن جزء من فرنسا أصبح عربياً. ليس من قبيل الصدفة أن تبدأ الثورة في تونس بشعار ردّده المتظاهرون ضد بن علي باللغة الفرنسية: "Dégage !" (إرحل). إن الجيل الشاب الذي تربى على مزيج ثقافي فرنسي ـ عربي أو حتى بربري، هو الذي حمل الثورة وسمح بإشعال هذا الوقود الاجتماعي. إن عشرة أعضاء في الجمعية الدستورية التونسية هم أعضاء منتخبون أيضاً في دائرتين انتخابيتين فرنسيتين، وأن 8 % من سكان تونس يعيش في فرنسا...
سؤال: لماذا اخترتم عنوان "آلام العرب"؟
جيل كيبيل: إنه يحمل عدة معاني. إنه يستذكر تعلّقي كمُستعرب بهذا العالم الذي كرّست له أربعين عاماً من حياتي، ولكنه أيضاً خليط من الحماس والبؤس الذي يعيشه العالم العربي حالياً. إذاً، إنه عنوان يشبه عنوان آلام المسيح "Passion du Christ". بالإضافة إلى ذلك، تبدأ اليوميات في القدس بساحة Golgotha التي صُلِب فيها المسيح، وتنتهي في أحد جبال سورية المحررة التي جرت فيها معركة دامية أسميتها "جبل الجُلجلة" (mont Calvaire). أتذكر انبهاري عندما اكتشفت العالم العربي عام 1974. لقد دخلت إلى سورية عن طريق المركز الحدودي باب الهوى الواقع بين أنطاكية وحلب. من هنا بدأ قدري. عُدّت إلى هذا المركز الحدودي في الخريف الماضي بشكل سرّي. كان "باب الهوى" مُغلقاً. شاهدت من جديد قرى سنوات شبابي، التي تخلصت بالتأكيد من دكتاتورية عائلة الأسد الرهيبة، ولكنها تأثرت بالمجازر المتبادلة بين السنة والعلويين، هذه المجازر التي أدمت شوارع هذه القرى. إنه أمر رهيب.
سؤال: هل الثورات العربية مُصابة باللعنة؟
جيل كيبيل: إن الظل المأساوي الذي يُخيّم على ثورات اليوم هو ظل العداء مع إيران، وهو حالياً أكبر من المواجهة مع إسرائيل. لقد تم تحويل "الربيع العربي" عن أهدافه الديموقراطية الأساسية عبر العداء السني ـ الشيعي والعداء الإيراني ـ العربي، وأصبحت سورية الساحة الرئيسية لهذا العداء. تقوم إيران بتسليح النظام، ويقوم السلفيون في الخليج بتمويل تحويل الثورات ضد الدكتاتورية إلى إلى جهاد ضد الشيعة. من جهة أخرى، أظهر الإخوان المسلمون في السلطة بمصر وتونس عجزهم عن الحكم. لقد اعتقدوا أن نظامهم الأخلاقي سيعفيهم من تلبية التطلعات الثورية والاجتماعية. هذه هي "الخدعة" الكبرى لهذه الثورات، حتى ولو كان المكبوت الاجتماعي قد عاد اليوم عبر السلفيين. إن القطيعة الكاملة التي يدعوا إليها السلفيون مع النظام الاجتماعي الحالي تجد صداها لدى الذين تخلصوا من أوهامهم، وتُخدّرهم في طوباوية راديكالية بديلة. إنه تناقض صارخ، لأن هؤلاء السلفيين مخلصون بشكل كامل لرجال الدين المأجورين للسعودية التي تدافع عن نظام اجتماعي محافظ بشكل مطلق...
سؤال: ماذا كان دور الممالك النفطية في هذه الثورات؟
جيل كيبيل: كانت هذه الثورات تُمثل كابوساً للأمراء الذين يخشون من أن تعبُر الجماهير العربية الجائعة البحر الأحمر للاستيلاء على الموارد النفطية. تمت معالجة هذا الخطر بطريقتين: بالنسبة للسعودية التي تمر بأزمة خلافة خطيرة، كان موقفها ارتكاسياً. في آذار 2011، وضع الملك عبد الله 130 مليار دولار على الطاولة لتجنب أي تذمّر اجتماعي، ثم قام بدعم السلفيين باعتبارهم قوة تُعوّض عن الإخوان المسلمين الذين تكرههم الرياض لأنهم يُنافسوها على السيطرة على الإسلام السياسي. بالنسبة للقطريين، فقد دعموا الإخوان المسلمين، إنهم مموليهم وتلفزيون الجزيرة هو مديرهم الفني، لكي تجعل قطر منهم أدوات في سياستهم للهيمنة على العالم العربي السني. إن قطر والسعودية متفقتان على نقطة واحدة هي إيران. هذا هو العدو!
سؤال: كيف يمكن تفسير هذه الإرادة بالقضاء على إيران؟
جيل كيبيل: أصبحت تركيا وإيران متفوقتان منذ تلاشي الزعامة المصرية في العالم العربي، واقتصار دور هذا البلد على وظيفة حارس الحدود مع قطاع غزة لخدمة الولايات المتحدة. اعتبرت إيران أن الشرق العربي قاعدة متقدمة لحماية نفسها. إنها تملك جبهتين "ساخنتين" مع إسرائيل عبر حزب الله وحماس. اعتبر الزعماء السنة في المنطقة هذا الواقع بمثابة التهديد، لأن إيران لوحدها هي القادرة على توجيه ضربات جدّية إلى إسرائيل. هناك تهديد آخر: جعل الاحتلال الأمريكي من العراق ـ وهو تناقض مُذهل! ـ بلداً حليفاً لإيران منذ خروج الولايات المتحدة من العراق. بالنسبة للمالك النفطية السنية، إن سقوط نظام بشار الأسد في دمشق سيكون الخطوة الأولى لكي تستعيد هيمنتها الإقليمية في مواجهة طهران.
سؤال: هل ما زالتم متفائلين على الرغم من ذلك؟
جيل كيبيل: نعم، إن الذين قاموا بهذه الثورات هم الذين يدفعوني للحفاظ على الأمل. مع كافة التحفظات، يبدو لي أن ديالكتيكية الثورات كانت على الشكل التالي: الفترة الأولى هي سقوط الدكتاتوريات والاندفاعة الديموقراطية. الفترة الثانية هي استيلاء الإسلاميين على السلطة، وإغراء الممالك النفطية، ومحنة سورية. لدي انطباع بالوصول إلى الفترة الثالثة: عودة المجتمعات المدنية ولاسيما في مصر وتونس في مواجهة صعود السلفيين. إن انتقاد الإسلاميين والتجاذبات داخل أحزاب الإخوان وانهيار شعبيتهم، يُفسّر المظاهرات في بورسعيد ضد النظام الاستبدادي لمحمد مرسي، كما تُفسّر رقصة "Harlem Shake" التي تم تحويرها على الأنترنت لازدراء أصحاب اللحى. لم تقل الثورات العربية كلمتها الأخيرة... ولهذا السبب من المهم الإصغاء لها دوماً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق