الصفحات

الخميس، ٣٠ أيار ٢٠١٣

(رأس التقدم المتمرد)

صحيفة اللوموند 29 أيار 2013 بقلم مراسليها الخاصين في جوبر جان فيليب ريمي Jean-Philippe Rémy ولوران فان دير ستوكت Laurent Van der Stockt اللذان دخلا إلى سورية وبقيا فيها لمدة شهرين مع المتمردين في دمشق والمناطق المحيطة بها (الحلقة الثانية)

     انحنى أبو محمد على صديقه الذي يتألم وينزف دمه. فجأة، دخل متمردون آخرون من كتيبة تحرير الشام إلى غرفة الاستقبال المهدمة، لكي يلجؤون إليها بالقرب من خط المواجهة في مدخل دمشق على مسافة حوالي عشرين متراً من الجنود النظاميين. كان الجو صاخباً وعصبياً ويُنذر بالشؤم، وبدأت بقعة الدم تتسع على الأرض بسرعة مُربكة. يجب إخراج هذا الصديق بأقصى سرعة من جوبر التي يُسيطر عليها متمردو الجيش السوري الحر منذ شهر شباط، وإرساله إلى أحد المستشفيات الواقعة تحت سيطرة المتمردين في منطقة الغوطة لتقديم الإسعافات الأولية. لا شك أنه سيعالج بشكل مؤلم جداً، ولكن نزيف دمه سيتوقف على الأقل.
     في صباح هذا اليوم، كان رجال كتيبة أبو محمد وقائدهم أبو جهاد المُلقب بـ "أركيلة" يُفكرون بشن هجوم ضد المنزل المُقابل الذي يُسيطر عليه جنود الحكومة. إنه هجوم روتيني في محاولة للتقدم عدة أمتار إضافية نحو ساحة العباسيين. تكبد المتمردون بعض الخسائر قبل أن يتقدموا متراً واحداً، ولم ينته الأمر عند هذا الحد. سقط مقاتل آخر على الأرض فاقداً الوعي على مسافة حوالي عشرين متراً منهم، ربما كان يحتضر، ولكنه سقط في مكان مُعرض لنيران الطرف الآخر. عندما يهدأ إطلاق النيران، يمكن سماع أجراس الكنائس في الحي المسيحي بالمدينة القديمة في دمشق على مسافة بضعة مئات من الأمتار. ما زالت العاصمة تعيش وتُصلي، إنها بعيدة وقريبة في آن معاً.
     كان أبو محمد بشوشاً في بداية هذا اليوم، وكان يضحك عندما أطلق اسم "مقاديشو" على جوبر. هناك غرف استقبال من أجل الحرب، وفجوات كبيرة في الجدران من  أجل التنقل، وشوارع لا يمشي فيها أحد. زالت ابتسامة أبو محمد مع وصول بعض الذخيرة داخل أكياس البلاستيك. استولى الرجال بسرعة على الذخيرة، وعادوا إلى إطلاق النار من وراء أكياس الرمل أو من الفتحات المثقوبة في الجدار الأكثر قرباً.
     استطاعت مجموعة من الرجال الوصول إلى الجريح، وبدؤوا طريق العودة الشاقة عبر متاهات المنازل المهدمة. من أجل البقاء على قيد الحياة أثناء طريق العودة، يجب سلوك متاهة الفجوات في الجدران بدون الخروج من المنازل بسبب القناصين الأعداء، والتخبط بوحل الأنفاق مثل الفئران الخائفة، والركض مُقرفصين داخل الخنادق. وصل الرجال مع الجريح الملفوف بغطاء وسخ إلى سيارة الإسعاف الأولى، وهي عبارة عن ميكروباص تلوثت مقاعده بشكل قبيح. انطلقت السيارة خارج جوبر باتجاه الغوطة، مُتعرضة لقذائف الدبابات التي تعمل على قطع مخرج الحي الوحيد الذي يُسيطر عليه التمرد في دمشق. إذا واتاه الحظ، سيتعافى الجريح، وسنراه قريباً في فوضى جوبر. لقد تشتت العائلات وتدمرت المدن، ولم يبق أمام المقاتلين المتمردين في سورية إلا كتائبهم كنقطة ارتكاز لهم.
     فشلت "معركة دمشق" الأولى في شهر تموز بسرعة، واستطاع جيش بشار الأسد شن هجوم معاكس في الأشهر اللاحقة لإبعاد المتمردين إلى المنطقة الزراعية في الغوطة. ثم استطاع المتمردون في بداية العام عكس التيار، وركّزوا قواتهم في جوبر. كان من المفترض أن يكون ذلك بداية المعركة النهائية عبر نقل الحرب إلى داخل العاصمة، وتوجيه الضربة القاضية للنظام السوري. لم تتحول العاصمة منذ ذلك الوقت إلى ساحة للقتال والانتصارات الحاسمة. استطاعت بعض العناصر المتقدمة من عدة وحدات تابعة للجيش السوري الحر (وأهمها كتيبة الإسلام) الوصول بسرعة إلى مقربة من ساحة العباسيين. لم تدفع القوات الحكومية بقوات النخبة إلى هذه المعركة، ولكنها غير مستعدة للتنازل عن شبر واحد من الأرض بسهولة. اعتبر الجنرال أبو محمد الكردي الذي انشق عن سلاح الطيران السوري وانضم إلى التمرد، أنه تم تحويل حوالي ستين بناء إلى أماكن محصنة مثل: الثكنات والأبنية الإدارية والعديد من أبنية المخابرات، بالإضافة إلى تجنيد أعداد كبيرة من عناصر الميليشيات من الشبيحة.
     تقوم المدفعية الحكومية بقصف جوبر بشكل كثيف انطلاقاً من جبل قاسيون. ولكن السلطة لم تبدأ هجوماً واسعاً في هذه المرحلة، بل تستنزف العدو عبر القذائف المدفعية وسلسلة من المعارك داخل كل منزل. لكي يتقدم متمردو كتيبة تحرير الشام نحو الأحياء المركزية في دمشق، يجب عليهم عبور عدة مجموعات من المنازل وعدة شوارع عريضة والهجوم على أبنية كبيرة في ساحة مكشوفة. إنها عقبات لا يمكن تجاوزها.
      لا يمكن المخاطرة بعبور الشوارع المُعبدة بسبب القناصين، وتستطيع الدبابات الحكومية المنتشرة في المحاور الرئيسية سحق أية محاولة للتوغل. لا يملك رجال كتيبة تحرير الشام إلا بعض الراجمات المضادة للدبابات من طراز M79، كرواتية الصنع، التي تمثل حصتهم المتواضعة من الأسلحة التي وصلت عبر بلد مجاور قبل عدة أسابيع. قال رئيس كتيبة تحرير الشام فراس بيطار: "هل تعتقدون أن الدول الغربية ستفهم أنه لكي تساعدنا على الانتصار بالحرب، فإننا بحاجة إلى أسلحة لتدمير الدبابات". كان ذلك في بداية شهر نيسان، وقد يأس المتمردون من الحصول على المساعدات الموعودة، في الوقت الذي تستعيد فيه السلطة السورية تقدمها العسكري.
     بالتأكيد، لا تستطيع مدرعات السلطة دخول الشوارع الضيقة في جوبر التي تتمركز بها قوات الجيش السوري الحر، إلا عن طريق تدمير كل شيء. إذاً، يضطر الطرفان إلى القتال مثل الكلاب عن طريق إظهار جميع أنواع التكتيك الدامية في حرب المدن داخل الأنقاض. تسقط القذائف الصاروخية على جوبر بشكل عنيف، وتهدم أسطحة المنازل، وتقتل المقاتلين بالصدفة.  في نهاية شهر نيسان، بدأت الهجمات الكيميائية الأولى على مواقع المتمردين في جوبر.
     قاتلت كتيبة تحرير الشام في مدن الغوطة فترة طويلة من أجل عبور المحلق الذي يدخل دمشق. فتحت كتيبة الإسلام الطريق في شهر شباط، ثم لحقتها بقية الكتائب لاختراق جوبر. انتشت الكتائب بهذا الانتصار ووصولهم إلى قرب ساحة العباسيين، وقام رجالها بتصوير انتصارهم، ونشروا صور انجازاتهم وتبجحهم على اليوتوب من أجل احتياجات القضية، وأيضاً من أجل إقناع مموليهم الأجانب، ولاسيما في الخليج، بإظهار كرمهم. كان ذلك فخاً. توقفت معركة جوبر في هذه المرحلة عند هذه الجدران التي تنهار شيئاً فشيئاً.
     سقط جريح ثاني صباح هذا اليوم، مما أثّر على معنويات رجال "الأركيلة". لم تستطع الكتيبة التقدم شبراً واحداً حتى الآن. هذا هو "أبو عرب" الحرامي السابق الفخور بعضلاته، لقد وجد الفائدة منها في معركة الكلاب هذه. لقد أصبح هو أيضاً شاحباً جداً بسبب الخوف والشجاعة والعنف. لقد قام للتو بوضع قنبلة في المنزل المعادي المقابل. ولكنه لم يشاهد الجنود الحكوميون على بعد عدة أمتار منه عندما الذين أطلقوا النار بكثافة.
     وقع انفجار آخر. حاول أبو جهاد الاستفادة منه لنجدة أحد المقاتلين المصابين، ولكن الجريح مات قبل الوصول إليه بقنبلة مزّقت جسده، ولكن لا أحد يعرف فيما إذا كانت قنبلة صديقة أم عدوة. قُتِل رجل آخر أيضاً قبل ساعة، كان يحمل أربيجي (RPG) في زاوية يعتقد أنها ملائمة للتسديد، ولكن لم يتسن الوقت له للضغط على الزناد، فقد اخترقت إحدى الرصاصات جبهته، ومات على الفور.
     فقدت الحرب في جوبر حيوية الأيام الأولى للتوغل. في الأيام الأولى للهجوم، لم يكن هناك صرخات  الحرب أو الانتصار في كل لحظة كما تفعل الوحدات المتمردة الحديثة العهد في الحرب، ولم يكن هناك هذه الشحنة الكبيرة من الإيمان كما هو الحال بالنسبة لعناصر جبهة النصرة. إن مقاتلي الكتائب مُتعبون. عندما يُظهرون صورهم التي إلتقطوها قبل عدة أشهر بواسطة هواتفهم، يظهر عليهم أنهم كبروا عشر سنوات بالسن بسبب لحاهم وشحوبهم وحزنهم واللائحة الطويلة للأصدقاء الذين سقطوا شهداء يوماً بعد يوم في هذه الحرب التي لم يتأكدوا تماماً بأنهم فهموها، ولكنهم لا يستطيعوا العودة عن هذا الطريق.
     يعرف الجميع أن الموت سيكون بأسوأ الأشكال. أطلق مقاتلو كتبية (لواء البحرة) النار من النوافذ. لقد وصل مقاتل من جبهة النصرة ليواصل حربه العالمية الطويلة مع ابنه البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، وغضب عندما اكتشف وجود صحفيين غربيين اثنين، وسأل: "هل هما مسلمان؟". تمت تهدئته بعد قليل في بناء مجاور، وتم سحب منفضة السجائر لكي لا يراها. تنظر الكتائب بعين الرضى للمساعدة من قبل مقاتلي جبهة النصرة، ولكنها ليست مستعدة للسماح لهم بإملاء سير الأمور في دمشق.
     كان هناك بين المتمردين مقاتل من حزب الله اللبناني قرر تغيير معسكره لأسباب غامضة. هناك أيضاً عضو من الطائفة العلوية. بقيت على الأرض بعض بقع الدماء بالقرب من المراحيض، أي في المكان الذي تم فيه القضاء على المقاتلين النظاميين أثناء الاستيلاء على البناء قبل عدة أيام. إلتقط المتمردون صور هويات شخصية أفغانية وعراقية وإيرانية، كما لو أن المرتزقة الدوليين جاؤوا للقيام بالجزء الأصعب من الحرب على الجبهات الحكومية التي يموتون فيها مثل الكلاب، من أجل الحفاظ على العناصر الأفضل والأكثر فعالية وإخلاصاً للمراحل القادمة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق